![]()
تاريخ الاستلام: 9 فبراير 2025 | تاريخ التحكيم: 25 مايو 2025 | تاريخ القبول: 23 يوليو 2025
مقالة بحثية
أحمد علي سالم https://orcid.org/0000-0002-3487-8247
أستاذ العلاقات الدولية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة زايد –الإمارات العربية المتحدة
أستاذ زائر وباحث أول، قسم الدراسات السياسية والدولية، جامعة رودس – جنوب أفريقيا
حللت الدراسة الانشقاقات والمراجعات الكبرى في المدارس النظرية في حقل العلاقات الدولية خلال القرن الأول من عمر هذا الحقل، وأبرزت إمكانية التجسير بينها من جهة، وبينها وبين الاتجاهات المختلفة داخل كل منها من جهة أخرى. فالإسهام الجديد الذي تقدمه هذه الدراسة لمشروع التجسير هو إثبات إمكانيته ليس فقط بين المعارف والتخصصات المختلفة؛ بل بين النظريات والمدارس المختلفة. وتنطلق الدراسة من مبدأ التقريب بين هذه المدراس النظرية، وتدعو إلى استفادتها من بعضها لحل معضلاتها النظرية، مع التسليم بتمايز أسسها الفلسفية. وبذلك رفضت الدراسة مقولات كل من دعاة احفاظ النظريات بتمايزها الذين ينفون إمكانية التقارب بين المدارس، ودعاة الحفاظ على تعدد المدارس الذين يرفضون دمجها. وتركز الدراسة على المدرستين الواقعية والبنائية الاجتماعية، باعتبارهما تمثلان المدارس السائدة والمدارس النقدية على التوالي. فانشقاق المدرسة الواقعية الجديدة عن المدرسة الواقعية التقليدية - لتحقيق درجة أعلى من الموضوعية وفق الفلسفة الوضعية بعد عجز المدرسة الواقعية التقليدية عن تحقيق هذا الهدف - سمح بإعادة النظر في علاقة المدارس النظرية ببعضها. فظهرت نظرية توازن التهديد لتصحيح مثالب نظرية توازن القوى في المدرسة الواقعية الجديدة، وقدمت أطروحات تشابهت مع تلك التي قدمها التيار المحافظ في المدرسة البنائية الاجتماعية فيما بعد. ومع زيادة التباين بين التيارين النقدي والمحافظ في المدرسة البنائية الاجتماعية، والتزام التيار المحافظ بالمناهج الوضعية، برزت إمكانية استفادته من الصرامة المنهجية في المدرسة الواقعية، وكذلك استفادة المدرسة الواقعية من الأطروحات البنائية الاجتماعية المحافظة في إعادة بناء مفاهيم العلاقات الدولية. فالفلسفة الوضعية هي أحد المداخل الثلاثة التي اقترحتها الدراسة لتعزيز التقارب بين المدارس النظرية في حقل العلاقات الدولية، إلى جانب مدخلي علم النفس الإدراكي، وعلم اجتماع المعرفة.
الكلمات المفتاحية: نظريات العلاقات الدولية، المدرسة الواقعية، المدرسة البنائية الاجتماعية، التجسير بين مدارس العلاقات الدولية
للاقتباس: سالم، أحمد علي. "التجسير بين المدارس النظرية في العلاقات الدولية: المراجعات الكبرى والانشقاقات في المدرستين الواقعية والبنائية الاجتماعية"، مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، المجلد السابع، العدد 2 (2025): 00-00. https://doi.org/10.29117/tis.2025.0229
© 2025، سالم، الجهة المرخص لها: مجلة تجسير، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وتنبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال،، أو بأي وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0
Tajseer
Interdisciplinary Studies
in
Humanities and Social Science
Submitted: 9 February 2025 | Reviewed: 25 May 2025 | Accepted: 23 July 2025
Research Article
Ahmed Ali Salem https://orcid.org/0000-0002-3487-8247
Professor and Associate Dean, College of Humanities and Social Sciences, Zayed University – UAE
Visiting Professor and Senior Research Associate, Department of Political and International Studies, Rhodes University – South Africa
Abstract
This study seeks to examine the major theoretical splits, divergences, and revisions within the schools of International Relations during its inaugural century. Based on a convergence-of-theories perspective, it calls upon the theoretical schools to mutually enrich one another to address their theoretical challenges, while preserving their distinct philosophical assumptions. In doing so, the study rejects the arguments of both theoretical purity, which denies the possibility of rapprochement between schools, and theoretical plurality, which rejects the integration of schools. in particular, the study highlights the possibility of bridging between the Realism and Social Constructivism paradigms, which represent the discipline’s mainstream and critical schools, respectively, on the one hand, and between the different trends within each, on the other hand. The split of Neorealism from Classical Realism to achieve a higher degree of objectivity according to positivism, and its subsequent inability to achieve that goal, has allowed for a reconsideration of the relationship between theoretical schools. Thus, the balance-of-threat theory emerged to correct the shortcomings of the Neorealist balance-of-power theory and presented theses that were similar to those presented later by the conservative sub-school of Social Constructivism. With the increasing divergence between the critical and conservative sub-schools of Social Constructivism, and the conservative sub-school’s commitment to positivism, it was clear that the conservative Social Constructivist sub-school could benefit from Realism’s methodological rigor, and that Realism could benefit from the conservative Social Constructivist theses in reconstructing international relations concepts. Indeed, positivism is one of three approaches, besides cognitive psychology and the sociology of knowledge, that the study proposes to enhance the convergence between the international relations paradigms.
Keywords: International Relations Theories; Realism; Social Constructivism; Convergence of Theories
Cite this article as: Salem, Ahmed Ali. “Major Splits and Revisions within the Realist and Social Constructivist Schools in International Relations and the Potential for Their Convergence” Tajseer Journal for Interdisciplinary Studies in Humanities and Social Science, Vol. 7, Issue 2 (2025). https://doi.org/10.29117/tis.2025.0229
© 2025, Salem, licensee, Tajseer & QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0
يتميز حقل العلاقات الدولية بحيوية فكرية يشهد عليها الجدل النظري بين علمائه منذ نشأته قبل أكثر من قرن من الزمان. وفي كل دورة من دورات هذا الجدل تبرز مدارس نظرية جديدة وتتراجع أخرى، أو تطور مقولاتها تطويرًا جوهريًا. فخلال الجدل النظري الأول في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين صعدت المدرسة الواقعية على حساب المدرسة المثالية. ثم تغلبت مناهج البحث السلوكية على المناهج التقليدية خلال الجدل النظري الثاني في الخمسينيات والستينيات. وأدى الصدام بين المدارس الواقعية والليبرالية والماركسية في الجدل النظري الثالث في السبعينيات والثمانينيات إلى ظهور اتجاهات جديدة في كل منها. وخلال الجدل النظري الرابع الذي بدأ في الثمانينيات ظهرت مدارس نظرية جديدة أطلق عليها منظرو المدرستين السائدتين آنذاك؛ أي الواقعية والليبرالية، وصف المدارس النقدية، وأهمها البنائية الاجتماعية والنسوية والبيئية وما بعد البنيوية وما بعد الاستعمار. ولم تحظ أي من هذه المدارس، ومن قبلها المدرسة الماركسية، بمكانة المدرستين الواقعية والليبرالية في حقل العلاقات الدولية، فظلت كلها تحمل الصفة النقدية في المراجع الإنجليزية الأساسية لتدريس العلاقات الدولية[1].
لكن استمرار إطلاق صفة النقد على هذه المدارس لعدة عقود أمر مضلل ومغرض إلى حد كبير، لا لضعف نقدها للمدرستين السائدتين في حقل العلاقات الدولية، وإنما، أولًا؛ لأن جميع مدارس العلاقات الدولية، ومنها المدرستان الواقعية والليبرالية، نشأت نقديةً قبل أن يستقر بعضها وتزول عنها صفة النقد. وثانيًا، الاستمرار في إطلاق صفة النقد على المدارس النظرية التي عارضت المدرستين الواقعية والليبرالية في ثمانينيات القرن الماضي يكرس هيمنتهما على حقل العلاقات الدولية باعتبارهما الأساس وغيرهما النشاز، ويعطي انطباعًا خاطئًا بانتصارهما على غيرهما في الجدل النظري الرابع رغم الاختلاف حول نهايته. فبينما رأى ثلاثة من محرري المجلة الأوروبية للعلاقات الدولية أن هذا الجدل انتهى بسلام نظري نتيجة تراجع عدد الأبحاث النظرية البحتة المقدمة للنشر، بما فيها تلك التي تخوض في الجدل بين النظريات، وزيادة عدد الأبحاث التي تسعى لاختبار النظريات في الواقع[2]، اعتبر بعض الباحثين غير الغربيين أن الجدل النظري الرابع لم ينته حتى الآن؛ بل فتح بابًا لإسهامات نظرية غير غربية متواصلة في حقل العلاقات الدولية[3]. وثالثًا، استمرار تقسيم مدارس العلاقات الدولية إلى مدارس سائدة وأخرى نقدية فيه تجاهل للاختلافات الكبيرة بين المدارس النقدية؛ بل وداخل كل منها أيضًا كما سيتبين في هذه الدراسة، وكذلك التحولات التي شهدتها جميع المدارس مما قرب بين بعضها نسبيًا وفتح المجال للتجسير بينها.
ويمكن التمييز بين ثلاثة مواقف من مبدأ تجسير الفجوات بين المدارس النظرية الكبرى، أو حتى دمجها. فمن جهة، يرفض دعاة النقاء النظري محاولات التجسير لاستحالة تجاوز الخلافات الفلسفية الوجودية والمعرفية والمنهجية بين هذه المدارس. ومن جهة ثانية، يعترض دعاة التعددية النظرية على هذه المحاولات حتى إن كانت ممكنة، لأنها ستقضي على التعددية في حقل العلاقات الدولية، وقد تقود إلى هيمنة إحدى مدارسه على مؤسساته المهنية. ومن جهة ثالثة، يرى دعاة التقريب بين النظريات أن الأطروحات التي تجمع بين مدارس نظرية مختلفة ليست فقط ممكنة؛ بل ضرورية أيضًا لفهم العلاقات الدولية بشكل متكامل، وينادون بانتقاء مفاهيم وأدوات تحليل من كل مدرسة لمعالجة مشكلات العلاقات الدولية بما يناسب كل منها. فهذه الدعوة تستند إلى رؤية ذرائعية تفضل دراسة مشكلات العلاقات الدولية على دراسة نظرياتها[4]. وتتفق هذه الدراسة مع مبدأ التقريب بين النظريات الذي لا يساعد فقط على تجسير الفجوات بين المدارس، ولكن أيضًا داخل كل منها، خاصة في ظل الانشقاقات الكبيرة التي تعرضت لها جميع المدارس النظرية الكبرى والتي تسعى الدراسة لتحليل جانب منها. كما يشجع مبدأ التقريب بين النظريات على الحوار بين المدارس النظرية في العلاقات الدولية سعيًا لحل معضلاتها.
وتركز الدراسة على التقارب بين المدرستين الواقعية والبنائية الاجتماعية، إذ تمثل الأولى مدارس الحقل السائدة، وتمثل الثانية مدارسه النقدية. كما تركز الدراسة على الفلسفة الوضعية كمدخل يسهم في التقريب بين هاتين المدرستين. وتعتمد الدراسة أساسًا على المصادر الأولية؛ أي أعمال أصحاب النظريات، مع بعض المصادر الثانوية الأجنبية التي تفاعلت مع هذه الأعمال بالنقد، أو التطوير في إطار الجدل النظري في حقل العلاقات الدولية. وبذلك تخرج المصادر العربية عن نطاق هذه الدراسة. كذلك تخرج عن هذا النطاق الرؤى والأفكار غير الغربية التي بدأت مؤخرًا في الإسهام في حقل العلاقات الدولية لأن معظمها لم يتبلور بعد في صورة مدرسة، أو مدارس نظرية. وهذه الإسهامات متنوعة، وبعضها متميز وواعد، لكن أصحابها يختلفون اختلافًا بيّنًا. فبينما يسعى بعضهم لإصلاح المدارس الغربية بالاستفادة من خبرات تاريخية، أو معاصرة في المجتمعات غير غربية، كدعاة عولمة حقل العلاقات الدولية أمثال أميتاف أشاريا (Amitav Acharya)، يشكك آخرون في جدوى هذه الطريق، ويسعون بدلًا من ذلك لتقديم أطروحات جديدة تعكس معارف وخبرات غير غربية بعيدًا عن حقل العلاقات الدولية ومدارسه التي يرونها غير قابلة للإصلاح[5].
يمكن الاستفادة من ثلاثة مداخل لتعزيز التقارب بين المدارس النظرية في حقل العلاقات الدولية، وهي مداخل تقوم على علم النفس الإدراكي وعلم اجتماع المعرفة والفلسفة الوضعية. فمن جهة، يفسر علماء النفس ظهور المعرفة العلمية الجديدة بعمليات إدراكية في عقول العلماء تؤدي إلى تغير رؤيتهم لمعارفهم القديمة. فالعقل البشري يجري عمليات – تشبه عمليات الحاسوب – على ما فيه من تراكيب ذهنية تمثيلية لإنتاج تراكيب ذهنية تمثيلية جديدة. وتشمل هذه التراكيب القناعات المصاغة كجمل، أو صور مرئية، وأنواع مختلفة من المفاهيم والتصورات. وتتأثر العمليات الذهنية بمؤثرات غير عقلانية، كالاستدلال الغائي الذي يقود الباحث إلى النتائج التي يرغب في الوصول إليها لارتباطها بأهدافه، أو قيمه الشخصية. ويستطيع هذا المدخل تفسير اكتشاف العلماء مفاهيم جديدة، وطرح افتراضات غير مسبوقة، والإصرار على متابعة برامجهم البحثية حتى إن خالفتهم جماعتهم العلمية؛ أي محاولة القيام بما سمّاه توماس كون ثورة علمية؛ أي الخروج عن النسق القياسي السائد للعلم وتغيير النموذج الإرشادي في الجماعة العلمية. فبعكس أتباع الفلسفة الوضعية، يرى علماء النفس الإدراكي أن تحولات العلم الكبرى ظواهر نفسية لا تنبني على تراكم معرفي وفق النموذج الإرشادي السائد في الجماعة العلمية؛ بل على قدرة العالم على إقناع زملائه بنظريته الجديدة. وهذا يقتضي منه طرحها بطريقة مختصرة غير مخلة، وإظهار قوة موقفه منها، وتحييد أية تحيزات إدراكية لدى زملائه العلماء، كزعم بعضهم مثلًا أن العلاقة التي تطرحها نظريته الجديدة هي علاقة ارتباطية وليست سببية[6]. ومن ثم يمكن النظر لمحاولات التقريب بين المدارس النظرية في حقل العلاقات الدولية وتلك التي تختلف معها وجوديًا ومعرفيًا باعتبارها ترويجًا لاكتشاف جديد يتطلب من العالم المبدع إقناع زملائه به.
ومن جهة ثانية، يبرز علماء الاجتماع دور الجمعيات العلمية ومصالح العلماء في إنتاج المعرفة العلمية الجديدة، فيبحثون في مصالح العلماء المتعددة لتفسير تغير قناعاتهم، آخذين في الاعتبار الشبكات الاجتماعية التي تتحكم في نشر العلم، وعلاقات القوة التي تمكن بعض العلماء من التأثير في تحديد ماهية العلم[7]. فكما أن كبار العلماء في أي حقل علمي يسعون لنشر أبحاثهم في مجلاته الكبرى والحصول على تمويل من مؤسساته، فإن مؤسسات الحقل العلمي ومجلاته الكبرى تهتم بدورها بدعم أبحاث كبار العلماء ونشرها. فليس مستغربًا أن تتفاوت فرص الباحثين في تمويل أبحاثهم ونشرها في مجلات يقرأها عدد كبير من المتخصصين. فيصعب القول بأن المجلات العلمية الكبرى لا تنشر إلا الأبحاث الأشد التزامًا بالمنهج العلمي والأجرأ في طرح الأفكار الجديدة. فرغم أهمية هذين المعيارين في الحكم على صلاحية البحث للنشر، فإن بعض الدراسات المنشورة في تلك المجلات لا تتصف بجودة التصميم، أو أدوات البحث. فبعضها مثلًا لا يستند إلى معرفة علمية سابقة؛ بل مجرد فرضيات، أو تخمينات. كما أن افتراضات بعضها غامضة من حيث الصياغة، أو التوقعات، ومفاهيمها غير مبنية جيدًا،، أو منقولة من سياقات علمية، أو ثقافية مختلفة دون تعديلها لتناسب التخصص، أو الواقع الذي تختبر فيه،، أو لم تتحول إلى مؤشرات قابلة للملاحظة والقياس قبل خضوعها للاختبار. كما أن اختباراتها الكمية، أو الكيفية غير دقيقة،، أو تقود لنتائج معلومة حدسًا، أو تتماهى مع توقعات الجماعة العلمية[8]. ووفقًا لعلماء اجتماع المعرفة، لا يمكن تفسير نشر هذه الدراسات في مجلات علمية كبرى إلا من خلال علاقات القوة والسلطة داخل الحقل العلمي. ومن يمكن النظر إلى التقارب بين المدارس النظرية في حقل العلاقات الدولية كنتيجة لتلك العلاقات.
ومن جهة ثالثة، يرى أتباع الفلسفة الوضعية أن المعرفة العلمية الجديدة لا تتولد إلا بطريقة منطقية من معرفة علمية قديمة. ومن ثم لا بد من ربط الأطروحات النظرية المنقولة من مدرسة ما بأطروحات المدرسة المنقول إليها لتبدو النظريات الجديدة مستنبطة من معارف سابقة في هذه المدرسة. وتقوم الفلسفة الوضعية على إمكانية معرفة الواقع معرفة موضوعية بعيدًا عن قناعات الباحث باعتبار الظواهر مستقلة عنه، وتدعو إلى بناء نظريات عامة تشبه قوانين الطبيعة لتفسير الأحداث والعلاقات السببية بين الظواهر[9]، وتستند أية نظرية وضعية على فرضيات مستنبطة من مقدمات منطقية ليست واقعية بالضرورة؛ بل تُستخدم فقط كأداة لبناء النظرية. وتتوقف جودة النظرية عند الوضعيين على مدى تماسكها المنطقي وبساطتها ووضوحها وقدرتها على التفسير والتنبؤ[10]. ولتأكيد صحة النظرية تُختبر افتراضاتها استنادًا إلى ملاحظات وأدلة مستمدة من الواقع. ويتجنب الوضعيون كل ما لا يمكن ملاحظته موضوعيًا، مثل العقائد والقيم والنوايا، ويركزون بدلًا من ذلك على السلوك، لذلك وصفت مناهجهم في العلوم الاجتماعية بالمناهج السلوكية[11]. ومن المناهج السلوكية التي تبناها الباحثون في العلاقات الدولية منهج تحليل بيانات الأحداث[12].
ويحاول الوضعيون تبسيط الواقع الاجتماعي المعقد في صورة نماذج رياضية، أو تمثيلية يسهل فهمها والقياس عليها. ومن أبرز هذه النماذج في حقل العلاقات الدولية نموذج الميزان في نظريات توازن القوى في المدرسة الواقعية، ونموذج بيت العنكبوت في النظريات الليبرالية عن العولمة الاقتصادية وشبكة المؤسسات الدولية، ونموذج الأخطبوط في التحليل الماركسي لهيمنة الرأسمالية على الاقتصاد العالمي، ونموذج الاختيار الفردي الرشيد في نظريات اتخاذ القرار، ونموذجا طاولة البلياردو ورقعة الشطرنج في نظرية المباريات التي خرجت من نموذج الاختيار الرشيد ثم أخذت بعدًا تطوريًا يعكس التفاعلات بين الفاعلين (أو اللاعبين، بلغة هذه النظرية) بطريقة أكثر واقعية. وكثير من هذه النماذج مستعار من علم الاقتصاد الرأسمالي. فنموذج الاختيار الرشيد مثلًا تأسس على نظرية عالم الاقتصاد هربرت سيمون عن رشد الإنسان التي أكسبته جائزة نوبل للاقتصاد عام 1978. إذ اعتبر سيمون سلوك الإنسان بسيطًا في حد ذاته، لكنه يبدو معقدًا نظرًا لتعقد بيئته الخارجية. ووفقًا لنموذج الاختيار الرشيد، يسعى الإنسان دائمًا لتعظيم منافعه ولا يخضع بسهولة لأية مؤثرات تدفعه للتصرف بطريقة غير عقلانية. وتستخدم هذه الفرضية كمقدمة منطقية لتوقع سلوك الفرد دون الانشغال بمراقبة سلوكه الفعلي في المواقف المختلفة[13].
ولا تدعو الفلسفة الوضعية إلى التقريب بين المدارس العلمية، لكنهم يتوقعونه كنتيجة تلقائية إذا التزم الباحثون بخطوات المنهج العلمي التزامًا صارمًا؛ لأن هذا المنهج – عند الوضعيين – كفيل بالكشف عن معرفة الحقائق الموضوعية وتحقيق التقدم العلمي. واتساقًا مع هذه الفلسفة، يجب صياغة الأطروحات النظرية المنقولة من إحدى مدارس العلاقات الدولية إلى أخرى في شكل افتراضات واختبارها بإجراء تجارب، أو تسجيل مشاهدات وملاحظات ومن ثم استخدام النتائج لإثبات إمكانية التجسير بينهما، أو دحض هذا الافتراض. ورغم أن الوضعيين لا يرفضون التحليل الكيفي فإنهم يفضّلون تكميم الملاحظات والبيانات؛ أي تحويلها إلى أرقام، لضمان أعلى درجة من الموضوعية. فبعد الثورة السلوكية في ستينيات القرن العشرين زاد استخدام التحليل الإحصائي كأداة للتحقق من صحة النظريات المصاغة في صورة افتراضات يمكن اختبارها في الواقع[14]، ومن ثم الوصول لتعميمات تشبه القوانين الطبيعية. ومن هنا هيمنت أدوات البحث الكمي في تطبيق المناهج السلوكية، وتراجع التحليل الكيفي، كما يتضح عند مراجعة الدوريات العلمية الأمريكية الرئيسة منذ عقد السبعينيات[15].
ويرى فيلسوف العلم بول ثاجارد (Paul Thagard) أن هذه المداخل الثلاثة (أي علم النفس الإدراكي وعلم اجتماع المعرفة والفلسفة الوضعية) غير متناقضة، أو متنافسة، ويقدم رؤية تجمع بينها لتفسير ظاهرة الاكتشاف العلمي، وتبني جماعة علمية منظومة قناعات محددة، وتغير مفاهيم العلماء وقناعاتهم[16]. ويفترض ثاجارد أن لدى العلماء مجموعة من التراكيب الذهنية تشمل منظومة من القناعات السابقة ومجموعة من المصالح وشبكات اجتماعية وعلاقات سلطوية. ويتبنى العلماء قناعات جديدة بربط العمليات الإدراكية والتراكيب الذهنية بهذه الشبكات وتلك العلاقات. وقد حاول ثاجارد تطبيق نظريته في مجال الطب البشري، لكن إمكانية تطبيقها في العلوم الاجتماعية أمر فيه شك. فمن جهة، قد لا تقود المداخل الثلاثة إلى نفس النتيجة، إذ يمكن تصور كثير من الاحتمالات لتعارضها. فمثلًا قد يلتزم الباحث بالمنهج العلمي عند اختبار إحدى النظريات التزامًا صارمًا دون أن يجد بحثه فرصة للنشر في مكان مرموق لعجز الباحث عن إقناع جماعته العلمية به. وقد يفشل الباحث في إقناع تلك الجماعة باكتشاف علمي نتيجة تمسكها الشديد بنسقها القياسي ونموذجها الإرشادي. ومن جهة أخرى، قد تمنع مراكز القوة والسلطة في مجتمع ما نشر بعض نتائج الأبحاث في العلوم الاجتماعية، وإن التزمت بالمنهج العلمي التزامًا صارمًا وحظيت بقبول الجماعة العلمية، تجنبًا لنتائج سياسية سلبية متوقعة. فالاعتبارات الاجتماعية والسياسية تلعب دورًا أكبر في العلوم الاجتماعية مقارنة بالعلوم الطبيعية.
كذلك يجب انتقاء المدخل الأنسب للمدارس محل التجسير، إذ قد لا يصلح أحد المداخل للتجسير بين مدرستين بعينيهما. فالتيار النقدي في المدرسة البنائية الاجتماعية مثلًا يرفض الفلسفة الوضعية تمامًا كما سيتبين في هذه الدراسة، ومن ثم لا يصح استخدام هذه الفلسفة للتجسير بينه وبين أي من المدارس، أو التيارات التي تتمسك بالمنهج العلمي الوضعي. أما التيار المحافظ في ذات المدرسة البنائية الاجتماعية فيقبل هذه الفلسفة، ومن ثم يمكن استخدامها للتجسير بينه وبين المدارس والتيارات التي تتمسك بهذه الفلسفة، كالمدرستين الواقعية والليبرالية. لذلك ستركز الدراسة على الفلسفة الوضعية فقط كمدخل للتقريب بين المدرسة الواقعية من جهة، والاتجاه المحافظ في المدرسة البنائية من جهة أخرى.
خلال الجدل النظري الأول في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي عارضت المدرسة الواقعية فكرة توافق مصالح الدول لأنها من وجهة نظر الواقعيين قادت الدول الكبرى لتبني سياسات خارجية فشلت في الحفاظ على ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى مما أدى لاندلاع الحرب العالمية الثانية. فكان الخلاف بين المدرستين الواقعية والمثالية آنذاك يدور أساسًا حول ماهية الأسس التي يجب أن تقوم عليها السياسة الخارجية لأية دولة؛ أي هل يجب تقديم تحقيق المصالح الوطنية على حفظ السلم الدولي، أم يمكن تحقيق الهدفين في آن واحد؟
وعبر إدوارد كارّ (Edward Carr) عن جوهر الرؤية الواقعية في كتابه (أزمة العشرين سنة 1919-1939)؛ حيث اعتبر الدولة الفاعل الرئيس في العلاقات الدولية لأنها مستودع القوة الأساسي على حد قوله[17]. وعرّف كارّ القوة باعتبارها مجموع قدرات الدولة العسكرية والاقتصادية والإعلامية؛ أي قدرتها على السيطرة على الرأي العام[18]، وهو تعريف يشمل عناصر القوة المادية وغير المادية. ودعا كارّ الدول لبناء سياساتها الخارجية وفق اعتبارات القوة – وليس القيم والمبادئ – لتحقيق التوازن بين القوى، وهي ذات السياسات التي مارستها تلك الدول قبل الحرب العالمية الأولى انطلاقًا من الفكر المعروف آنذاك بالسياسة الواقعية (Realpolitik)[19]، متجاهلًا أثر هذه السياسات في اندلاع تلك الحرب.
ومع ذلك، لم يزعم كارّ أن القيم والأخلاق لا تؤثر في العلاقات الدولية؛ بل دعا فقط للفصل بين القوة والقيم لمنع الدول الكبرى من التلاعب بالقيم والمبادئ وتوظيفها لتحقيق مصالحها[20]؛ حيث زعمت الدول الكبرى آنذاك أنها أنشأت عصبة الأمم لتحقيق المصالح المشتركة بين الدول، بينما كان الهدف من إنشاء تلك المنظمة الدولية تكريس هيمنة الدول الكبرى على النظام الدولي. كما رأى كارّ أن السياسات غير الواقعية للدول الكبرى ستقود حتمًا لحرب عالمية ثانية. فموقف كار من فصل القيم والأخلاق عن السياسة الخارجية ينطلق من مبدأ درء المفاسد مقدم على جلب المنافع؛ حيث اعتبر أن تجنيب العالم ويلات حرب عالمية جديدة من خلال توازن القوى أهم من تحصيل منافع التعاون الدولي المزعوم.
ولأن كار لم يقلل من أهمية القيم والأخلاق في العلاقات الدولية، فإن نظريته الواقعية جاءت لتصحيح الفكر المثالي السائد آنذاك وليس بديلًا عنه. ويتضح ذلك من دعوته للجمع بين الواقعية والمثالية في التحليل السياسي، معتبرًا الواقعية القائمة على حسابات القوة غير قادرة وحدها على تفسير ظواهر دولية بارزة، مثل نضال الشعوب المستضعفة لتغيير الوضع القائم في ظل ظروف غير مواتية[21]. وقد ذهب وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر، وهو أحد أبرز الواقعيين الذين تبوأوا مناصب سياسية عليا في الولايات المتحدة، إلى أبعد من ذلك في بيان حاجة المنظور الواقعي للقيم حين اعتبره غير كاف لرسم السياسة الاستراتيجية الأمريكية بعد الحرب الباردة، وحذر من قيام هذه السياسة على حسابات المصلحة فقط[22].
وبعد الحرب العالمية الثانية، جمعت الدول الكبرى بين الأفكار الواقعية والمثالية في الممارسة السياسية، فأنشأت منظمات للتعاون الدولي كالأمم المتحدة من جهة، وأسست أحلافًا عسكرية وخاضت سباقات تسلح محمومة من جهة أخرى. أما على المستوى النظري، فقد أدى الانتصار الحاسم الذي حققته المدرسة الواقعية على الفكر المثالي في العلاقات الدولية إلى تراجع الأخير وانحساره في زاوية الفكر السياسي. وسعى هانز مورجانثو (Hans J. Morgenthau) – رائد المدرسة الواقعية بعد الحرب – لبناء نظرية واقعية علمية وقوانين موضوعية عن توازن القوى في العلاقات الدولية. وكان مفهوم العلم لديه يعني تنظيم المعرفة بطريقة منهجية صارمة تتجنب المشاعر والتحيزات البشرية إلى أقصى حد ممكن. وقد أقام مورجانثو نظريته على فرضيات أصبحت فيما بعد مسلمات عند الواقعيين. فافترض أن الدولة هي الفاعل الرئيس الوحيد في العلاقات الدولية وأن سياستها الخارجية منفصلة عن سياستها الداخلية، وأن هدفها تحقيق المصالح الوطنية، وأهمها البقاء، من خلال حساب المكاسب والخسائر للبدائل المتاحة حسابًا عقلانيًا، وأن استخدام القوة هو الوسيلة الأساسية لتحقيق تلك المصالح. واتفق مورجانثو مع كارّ في شمولية مفهوم القوة باعتبارها مجموع العناصر المادية والمعنوية التي تجعل الدولة تتحكم في وسائل الإكراه بفاعلية، وتدفع غيرها للقيام بفعل ما كان ليقوم به دون إكراه. ولفت مورجانثو النظر لتغير معنى القوة لدى الفاعلين وفق سياقاتهم الزمانية والمكانية والثقافية[23]، وهو ما يتفق مع الأطروحات التي قدمتها المدرسة البنائية الاجتماعية لاحقًا.
ورأى مورجانثو حتمية الصراع بين الدول لعدة أسباب، أولها التنافس على مصادر القوة المادية المحدودة بطبيعتها، وثانيها صعوبة حساب الدولة لقوتها وقوة أعدائها بدقة، وثالثها شك كل دولة في نوايا أعدائها مما يخلق معضلة الأمن بينها (أي أن زيادة تسلح الدولة لحماية أمنها تعتبره الدول الأخرى تهديدًا لأمنها). وفتح التنبيه إلى هذا الجانب الإدراكي بابًا للاستفادة من نتائج أبحاث علم النفس في حقل العلاقات الدولية، وكان من أبرز الواقعيين الذين نجحوا في ذلك روبرت جيرفز (Robert Jervis) الذي أكد أن صناع القرار في السياسة الخارجية لا يفكرون دائمًا بمنطق رجال الاقتصاد الذين يحسبون المنافع المتوقعة بشكل عقلاني؛ بل هم بشر يسيئون إدراك المواقف أحيانًا، ومن ثم يتوصلون إلى نتائج خاطئة،، أو يتخذون قراراتهم بناء على تفسير خاطئ للمعلومات[24]. لذا دعا مورجانثو صناع السياسة الخارجية للحذر من أجل الحفاظ على توازن القوى، ومن ثم تجنيب دولهم الانزلاق إلى الحرب. أي أن تجنب وقوع حرب عالمية يتوقف على قبول جميع الدول للوضع القائم في النظام الدولي، وتبنيها سياسة خارجية قائمة على توازن القوى، وهي ذات الدعوة التي أطلقها كارّ من قبل، وتبناها تيار الواقعية الدفاعية من بعد، إذ دعا الدول لتعظيم أمنها بالاكتفاء بموازنة قوة خصومها، وليس السعي لزيادة قوتها دائمًا لتحقيق الهيمنة العالمية، وهو الهدف الذي يدعو تيار الواقعية الهجومية الدول الكبرى لدوام السعي إلى تحقيقه[25].
ورغم جاذبية نظرية مورجانثو بين دارسي العلاقات الدولية؛ إلا أنها تعرضت لانتقادات حادة خلال الجدل النظري الثاني الذي دار حول مناهج دراسة العلاقات الدولية في الستينيات، وانتهى بغلبة المناهج السلوكية وتهميش المناهج الأخرى التي باتت توصف بالتقليدية. فقد دعا السلوكيون للتخلي عن المناهج الوصفية والقانونية والتاريخية، واستخدام مناهج بديلة مبنية على الفلسفة الوضعية، كما هو حال العلوم الطبيعية. ولا تتعارض المناهج السلوكية بالضرورة مع الأطروحات الواقعية؛ بل استخدمها بعض الواقعيين لاختبار نظرياتهم السببية، مثل العلاقة بين اندلاع الحروب، أو تصعيدها من جهة، ونزاع دولتين على إقليم أرضي،، أو مسطح مائي،، أو عداوتهما المزمنة،، أو تبنيهما سياسة الردع،، أو انخراطهما في أحلاف مضادة، أو سباق للتسلح من جهة أخرى[26]؛ لكن السلوكيين تشبثوا بمفهوم العلم الوضعي الذي لا يفرق بين الظواهر الاجتماعية والطبيعية ويقوم على فكرة وحدة العلوم وإمكانية التوصل إلى الحقيقة الموضوعية وتفسير انتظام الظواهر باستخدام عدد محدود من قوانين الطبيعة، وربط التخصصات العلمية المختلفة من خلال مجموعة من الحقائق والنظريات القائمة على هذه القوانين[27]. أما مورجانثو فلم يسع أبدًا لإعادة بناء العلوم الاجتماعية كي تشبه العلوم الطبيعية؛ بل اجتهد في معارضة الفلسفة الوضعية ونزعتها العلمية التي لا ترى حدًا للمعرفة البشرية، وتؤمن بمبدأ التقدم العلمي الذي سيكشف مع الزمن كل ما هو غير معلوم الآن. ورأى مورجانثو أن الفلسفة الوضعية أدخلت العلم في أزمة أخلاقية لأنها أفقدته قيمه المتجاوزة للواقع، فلم يعد القائمين على البحث العلمي مدركين الحاجة لهذه القيم. واعتبر الفصل بين القيم والعلم محاولة من جانب العلماء للإفلات من مسؤوليتهم الأخلاقية، وتحويل العلم إلى مجرد أداة لاكتساب القوة وممارستها، فأصبح العلم أيديولوجية تسعى لتوظيف ما هو مُجدٍ سياسيًا، وليس صوابًا معرفيًا، وذلك باستخدام النموذج العقلاني على حساب التحليل التاريخي الذي يقف في وجه السببية الصارمة في العلاقات الدولية[28].
رغم مكانة مورجانثو في حقل العلاقات الدولية عامة والمدرسة الواقعية خاصة؛ إلا أن معارضته للنزعة العلمية لم تحل دون اجتياحها هذا الحقل وتلك المدرسة، فظهرت في السبعينيات مدرسة واقعية جديدة سعت لمواجهة المدرستين الليبرالية والماركسية خلال الجدل النظري الثالث عن طريق إعادة بناء المدرسة الواقعية على أساس فلسفي وضعي. فأدخل رواد الواقعية الجديدة تغييرات جوهرية في مقولات مدرستهم، رغم التزامهم بفرضياتها النظرية. ومن أبرز هؤلاء كينيث والتز (Kenneth Waltz) الذي طرح نظرية سببية لتفسير مخرجات النظام السياسي الدولي، مثل الحرب والسلم، من خلال تحليل أوضاع الدول في بنية النظام. وانتقد والتز النظريات التي تحاول تفسير مخرجات النظام بتحليل خصائص وحداته، أو تفاعلاتها، ومن بينها النظريات الواقعية التقليدية؛ لأن بنية النظام في رأيه هي العنصر الحاسم في تحديد مخرجاته[29].
والتزامًا بالفكر الواقعي، أكد والتز على محورية القوة في العلاقات الدولية، فاعتبر أن مكانة الدولة في بنية أي نظام دولي تتحدد بحجم قوتها. وميّز بين ثلاثة أنواع من النظم الدولية من حيث توزيع القوة بين الدول الكبرى، وهي نظام القطب الواحد حيث تتركز معظم عناصر القوة في دولة واحدة مهيمنة، ونظام القطبية الثنائية حيث تتوزع معظم عناصر القوة بين دولتين متنافستين، ونظام تعدد الأقطاب حيث تتوزع معظم عناصر القوة بين أكثر من دولتين. وخالف والتز مورجانثو في تعريف القوة، فاقتصر على عناصرها المادية واستبعد عناصرها غير المادية ليسهل قياسها في نظريته عن توازن القوى التي أرادها نظرية آلية تشبه نظرية نيوتن الطبيعية.
ووفقًا لنظرية والتز، تتنافس الدول على موارد القوة المحدودة نسبيًا في ظل غياب حكومة عالمية تنظم تنافسها، ومن ثم تعتمد كل دولة على ذاتها لتحقيق أهدافها، وأهمها البقاء. ويتحقق استقرار النظام تلقائيًا من خلال سعي دوله الكبرى لتحصيل المزيد من عناصر القوة المادية، أو التحالف مع غيرها لموازنة قوة الدولة، أو الحلف الأقوى في النظام الدولي[30]. وهكذا تدفع بنية النظام الدولي وحداته (أي دوله) نحو توازن القوى آليًا، دون أن تسعى إليه أي من الدول، أو تتبناه كسياسة خارجية. فالحفاظ على استقرار النظام الدولي والوضع القائم عند قمته ليس هدفًا للدول وإنما نتيجة غير مباشرة لسعيها لتحقيق أهدافها. وبذلك استبعد والتز القيم والأخلاق والسياسة الخارجية من تحليل السياسة الدولية، ونزع الفاعلية عن الإنسان وأعطاها للنظام الدولي الذي اعتبره قادرًا على تنظيم نفسه بنفسه والتعلم والتكيف دون حاجة لتدخل بشري. ويتضح بذلك مدى تأثر والتز بنظريات النظم العامة والتحكم والتوجيه (أو السيبرنطيقيا) التي انتقلت إلى حقل العلاقات الدولية من تخصصات الرياضيات والفيزياء والاقتصاد، رغم عدم اهتمام والتز كثيرًا بأدبيات المنطق الرياضي[31]، بقدر تأثره بقواعد التحليل الجزئي في اقتصاد السوق[32].
ورغم احتفاء دارسي العلاقات الدولية الشديد بتميز نظرية والتز من حيث البساطة والوضوح والتماسك؛ إلا أنها عانت أيضًا من عيوب كبيرة. فهي محدودة النطاق لتعلقها أساسًا بالدول الكبرى في قمة النظام الدولي، واستبعادها معظم دول العالم لضعف قوتها ومن ثم مكانتها وتأثيرها في ذلك النظام. كما ثبت ضعف قدرة النظرية على التنبؤ، إذ قادت والتز للاعتقاد بأن نظام القطبية الثنائية هو أكثر النظم الدولية استقرارًا، فتنبأ بطول بقائه قبل عشر سنين فقط من سقوطه. كذلك احتوت النظرية على عدة تناقضات خطيرة. فمن جهة، انتقد والتز القائلين بأن التغير في بنية النظام الدولي (أي تحوله مثلًا من تعدد الأقطاب إلى القطبية الثنائية كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية) يعود لعوامل داخلية في دوله كتغير نظام الحكم فيها[33]، لكنه من جهة أخرى أرجع تغير بنية النظام الدولي بشكل غير مباشر للعوامل الداخلية التي تؤدي إلى زيادة قوة بعض دوله الكبرى وتراجع قوة بعضها نسبيًا، ومن ثم تغير توزيع القوة في النظام. أي أن والتز قبل ضمنيًا مسؤولية العوامل الداخلية عن تغير بنية النظام الدولي. ومثال آخر على تناقضات النظرية جمعها بين عمل النظام الدولي آليًا لتحقيق التوازن والقول بأن دوله تتعلم من بعضها لتتكيف مع التغير في النظام كي تتجنب الفناء. فلا يستقيم الجمع بين هذين الزعمين؛ لأن وحدات النظم التي تعمل آليًا، كأجهزة الحاسوب، لا تستطيع أن تتعلم، أو أن تفر من مصيرها المحتوم إلا بعد محاولات كثيرة وفقًا لنظريات الذكاء الاصطناعي. ولا تتوفر فرص كثيرة للتجربة والتعلم الذاتي في النظام الدولي، ومن ثم لا تستطيع الدول الهرب من مصيرها المحتوم وفق منطق عمل الآلات.
كذلك تسلم النظرية بالمساواة بين الدول في السيادة، لكنها تؤكد في نفس الوقت على أن القوة هي العنصر الوحيد الذي يحدد وضع الدولة في النظام الدولي؛ أي أن النظرية تقلل من أهمية الأعراف والقيم في العلاقات الدولية رغم أن مبدأ المساواة في السيادة بين الدول هو أحد هذه الأعراف والقيم التي تنبع – وفقًا لوالتز – من غياب حكومة عالمية تهيمن على كل الدول؛ لكن احترام الدول القوية لسيادة الدول الضعيفة لمجرد كونها دولًا يؤكد أهمية الأعراف والقيم في العلاقات الدولية بما لا يقل عن أهمية القوة المادية. وهذا الاعتراف بأهمية الأعراف والقيم يعني التسليم بصحة النظريات البنائية الاجتماعية التي لا يقبلها معظم الواقعيين. أما الإصرار على محورية دور القوة في النظام الدولي، وأهمية عناصرها المادية دون غيرها من العناصر، فيؤدي إلى عجز الواقعيين عن تفسير ظواهر دولية بارزة، مثل امتناع الدولة العظمى في نظام القطب الواحد عن التصرف كحكومة عالمية، أو التعدي على أعدائها الضعاف. فلولا الأعراف والمبادئ الدولية لما احترمت الولايات المتحدة سيادة كوبا مثلًا بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي[34].
وقد شجعت عيوب نظرية والتز الواقعيين على تطوير أطروحات مدرستهم؛ لا سيما بالجمع بين عوامل القوة المادية وغير المادية. ومثال ذلك دراسة أحد تلاميذ والتز المقربين، وهو ستيفن والت، عن العلاقات العربية البينية في الخمسينيات والستينيات؛ حيث لاحظ أن القدرة التفسيرية لنظرية توازن القوى تزداد إذا أعيد تعريف القوة بحيث تشمل عناصر غير مادية، كالالتزام بالأعراف وقواعد السلوك المشتركة. وتوصل والت إلى أن الدول تتحالف ليس لموازنة قوة الدولة، أو الحلف الأقوى في النظام الدولي كما ذهب والتز؛ بل لمواجهة مصدر التهديد الرئيس في إقليمها. وليست القوة المادية إلا سببًا واحدًا لما قد تمثله دولة ما من تهديد لجيرانها، فهناك مصدران آخران غير ماديين للتهديد، هما هوية الدولة ونواياها العدوانية. ومن ثم توصل والت إلى أن الدول قد تتحالف على أساس هويتها المشتركة، أو لمواجهة دول أخرى تعتبرها دولًا معادية، أو عدوانية[35]. وأدت هذه النتائج إلى عودة اهتمام الواقعيين بهويات الدول ودوافع سياساتها الخارجية وإعادة الاعتبار لدور الإدراك البشري في العلاقات الدولية. أي أن نظرية والت عن توازن التهديد، وليس القوى، أعادت الاعتبار للعناصر غير البنيوية في النظام الدولي بعد أن كان والتز قد استبعدها وقصر التحليل على توزيع القوة فيه. وتعديلات والت على نظرية والتز جوهرية، وكان حريًا بها أن تعيد توجيه المدرسة الواقعية نحو الأطروحات التي قدمتها المدرسة البنائية الاجتماعية فيما بعد، كما سيتبين لاحقًا، لكن والت وغيره من الواقعيين، ومنهم والتز نفسه، اعتبروا هذه النظرية إضافة قيمة لا تتعارض مع مقولات مدرستهم الواقعية الجديدة[36].
ورغم هيمنة النظريات الواقعية البنيوية على المدرسة الواقعية خلال الثمانينيات؛ إلا أن بعض الواقعيين رجعوا عنها لاحقًا إلى الأطروحات الواقعية القديمة التي تركز على تحليل السياسة الخارجية، ومنهم من حاول الجمع بين العوامل الداخلية والخارجية في تحليل العلاقات الدولية. ومثال ذلك نظرية بول هوث التي اعتبرها صاحبها واقعية معدلة، رغم أنها تخالف بعض فرضيات المدرسة الواقعية، إذ تعتبر العوامل الداخلية كالعوامل الخارجية من حيث التأثير في سياسة الدول الخارجية تجاه النزاعات الإقليمية[37]. أما منتقدو هذه المدرسة فوظفوا مثالب نظرية والتز وتناقضاتها لنقد المدرسة برمتها وتقديم رؤى بديلة، كما فعل روبرت كوهين أحد رواد المدرسة الليبرالية المؤسسية الجديدة، إذ أكد أن غياب حكومة عالمية، أو قوة مهيمنة على النظام الدولي لا يمنع التعاون بين الدول، بدليل الزيادة المطردة في الاعتماد المتبادل بينها وأنشطتها العابرة للحدود في ظل العولمة الاقتصادية، وزيادة حالات الاندماج، أو التكامل الإقليمي في إطار منظمات، أو ترتيبات دولية. فوفقًا لكوهين، تقبل الدول المستفيدة من التعاون الاشتراك في دفع تكاليفه بعد تراجع رغبة الدولة المهيمنة في تحمل تلك التكاليف وحدها،، أو قدرتها على ذلك. ويضرب كوهين أمثلة بالمنظمات الدولية الكثيرة التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية بمبادرة، أو دعم قوي من الولايات المتحدة، واستمرت حتى بعد تراجع الدعم الأمريكي لها، بما فيها منظمة الأمم المتحدة[38].
ورغم انتقادات الليبراليين للواقعيين، أعاد الفريقان تعريف خلافاتهما خلال الجدل النظري الرابع في الثمانينيات، بحيث انحصرت في مسألة رئيسة واحدة تتعلق بالتعاون الدولي. فرأى الليبراليون أن الدولة لا تتردد في التعاون مع غيرها حين تتوقع فائدةً مطلقة منه، بينما أكد الواقعيون صعوبة التعاون الدولي نتيجة حرص كل دولة على زيادة مكاسبها النسبية منه؛ أي مقارنةً بمكاسب الدول الأخرى[39]. وكان الهدف من حصر الخلاف بين المدرستين مواجهة تحدي المدارس الناقدة للفلسفة الوضعية التي يقومان عليها، فحاول الفريقان التقليل من شأن البدائل المعرفية والمنهجية التي تقدمها هذه المدارس، وتجاهلا اختلافاتها، فأطلقوا عليها جميعًا اسم المدارس النقدية.
نشأت المدرسة البنائية الاجتماعية خلال الجدل النظري الرابع في ثمانينيات القرن الماضي، وزادت شعبيتها حتى اتهمت بمحاولة الهيمنة على النظريات النقدية الأخرى، إذ بات اسمها يطلق على كثير من النظريات النقدية في العلاقات الدولية[40]. ولهذه المدرسة عدة روافد، أهمها علم الاجتماع وعلم النفس والدراسات الثقافية وعلم اللسانيات والنقد الأدبي. ويتضح هذا التنوع في كتابات رواد المدرسة في حقل العلاقات الدولية، فبينما ركز بعضهم – مثل ستيف سميث (Smith, Steve) ونيك أونوف (Nicholas Onuf) – على دور اللغة في بناء ما نراه واقعًا[41]، تأثر آخرون – مثل مارثا فينمور (Martha Finnemore) وألكسندر وينت (Alexander Wendt) – بعلماء الاجتماع. فمن جهة، أسس ويندت نظريته على الأطروحات البنيوية في علم الاجتماع ونظريات التفاعل الرمزي عن التأثير المتبادل بين بنية أي نظام اجتماعي وتفاعلات وحداته (أو القوى الفاعلة فيه)[42]. ومن جهة أخرى، أقامت فينمور نظريتها عن المنظمات الدولية على علم اجتماع المؤسسات، خاصة أطروحات جون ماير عن الأثر البارز للثقافة الغربية في النظام العالمي؛ لا سيما مفهوم العقلانية عند ماكس فيبر. إذ صورت هذه الثقافة الدول باعتبارها وحدات فرعية في نظام دولي حديث، وقدمت لها أهدافًا عقلانية كي تسعى لتحقيقها، كالتحديث والتقدم، وحددت لها المؤسسات القادرة على تحقيق هذه الأهداف، كالسوق والأجهزة الإدارية. وأصبحت مكانة هذه الثقافة في النظام الدولي تعلو على مكانة الفاعلين فيه، سواء كانوا أفرادًا، أو دولًا، أو منظماتٍ دولية. كما استندت فينمور وبارنت (Samuel Barkin) على علم اجتماع المؤسسات في تفسير دعم الدول للمنظمات الدولية بالنظر لما تمثله تلك المنظمات من رموز وما تجسده من قيم، وليس بالضرورة ما تقوم به من أنشطة[43].
ويتفق البنائيون على أن معاني الأشياء من صنع البشر وليست معطيات خارجة عنهم، وأن معاني العلاقات الدولية والقيم في حالة إعادة تشكُّل دائم تحت تأثير العوامل الاجتماعية والمادية معًا، وليس العوامل المادية فقط كما يزعم الماديون من الواقعيين والليبراليين والماركسيين. ويرى البنائيون أن جميع مفاهيم العلاقات الدولية ومحدداتها، مثل القوة والهوية والمصلحة والأعراف وقواعد السلوك، مكونات اجتماعية ليست لها معان موضوعية ثابتة عبر الزمان والمكان، وإنما تتحدد معانيها لدى كل فاعل دولي وفقًا لتفاعلاته مع الفاعلين الآخرين. فهي معان غير ذاتية تمامًا ولا موضوعية تمامًا، وإنما نتاج تفاعل ذوات مختلفة[44].
لكن أصحاب المدرسة اختلفوا فيما بينهم بعد فترة وجيزة من ظهورها، وانقسموا إلى تيارين تمسك كل منهما باسم المدرسة الأم؛ أي البنائية الاجتماعية. وبينما ظل أحدهما يحمل صفة النقد ويؤكد على الأساس اللغوي والاجتماعي للعلاقات الدولية ويستند إلى فلسفة ما بعد الحداثة ومناهج ما بعد الوضعية، نزع التيار الآخر إلى المحافظة، وتمسك أنصاره بالحداثة والفلسفة الوضعية السائدتين في حقل العلاقات الدولية. وتفاقم الخلاف بين هذين التيارين حتى بدت الشقة بينهما أكبر من تلك التي تفصل أحدهما؛ أي التيار المحافظ، عن المدرستين الواقعية والليبرالية السائدتين في حقل العلاقات الدولية.
فالبنائيون الاجتماعيون الذين تمسكوا بنقد الحداثة رفضوا كل سردياتها الكبرى في العلاقات الدولية، كالسردية الواقعية عن حتمية الصراع بين الدول، والسردية الماركسية عن حتمية الصراع بين الطبقات. كما رفضوا الفلسفة الوضعية التي تقوم عليها المدرستان الواقعية والليبرالية، وتعريفها لماهية النظرية باعتبارها تعميم يشبه القانون الطبيعي ويقربنا من الحقيقة. ورفضوا أيضًا النظريات الوضعية لكشف الحقائق الموضوعية والعلاقات السببية، إذ نفى النقديون إمكانية تفسير الظواهر الاجتماعية تفسيرًا سببيًا، أو معرفة الواقع معرفة موضوعية لاستحالة الفصل بين الباحث وموضوع دراسته. بل ذهب بعض النقديين لأبعد من ذلك فنفوا وجود أية حقيقة موضوعية لأن ما يتصوره الباحث عالَمًا خارجيًا هو شيء في ذهنه[45]. فالعالم بالنسبة لهم تصور ذهني وليس حقيقةً خارجنا، وسبب الظن أنه حقيقة موضوعية هو تكرار الحديث عنه، وممارساتنا الفعلية المبنية على تصور وجوده[46]. وهكذا فإن الخلاف بين النقديين والوضعيين خلاف وجودي ومعرفي لا يستقيم معه قبول أحدهما بالآخر، أو التعايش معه.
ورفض النقديون تمييز الوضعيين بين ثلاثة أنواع من النظريات، هي النظريات التفسيرية والمعيارية والسياسية؛ لأن نظريات الوضعيين التفسيرية معيارية وسياسية من وجهة نظر النقديين؛ أي أنها تحدد أسسًا أخلاقية للفعل، وترسم طريقًا لتغيير الواقع، أو تثبيته، وتوجه صناع القرار نحو تبني سياسات خارجية معينة. فيرى النقديون أن جميع النظريات لها أسس قيمية وتسعى لتحقيق أهداف سياسية وإن لم تكشف عنها، وأن العلاقات الاجتماعية، ومنها العلاقات الدولية، تجسد علاقات القوة بين أطرافها. وبعكس الواقعيين والماركسيين الذين يركزون على الجانب المادي للقوة، يرى النقديون أن القوة مكون اجتماعي ومادي يتحدد معناه عند الفاعلين بحسب تفاعلاتهم البينية. ويبرز النقديون مدى تماثل البناء الهرمي في النظامين الدولي والمعرفي، وعلاقات السيطرة والتبعية بين الفاعلين الدوليين، وكذلك بين الباحثين، وخطابات الهيمنة التي يفرض من خلالها الفاعلون الدوليون والباحثون الأقوياء ما يظنونه الحقيقة على غيرهم من الفاعلين والباحثين. لذلك يركز النقديون على كشف تحيز الفاعلين الدوليين، وكذلك الباحثين، ضد الفئات المستضعفة لأسباب عرقية،، أو نوعية، أو طبقية، أو دينية، أو غيرها، وإسماع أصوات هذه الفئات لغيرهم[47].
والنظرية عند النقديين هي تأملات منهجية في ظاهرة ما بغرض ربطها بظواهر أخرى بطريقة ذكية وهادفة، بدل النظر إلى الظواهر كذرات متناثرة عشوائيًا في عالم غير مترابط. ويدعو النقديون لاستخدام مناهج تأويلية وتأملية لاكتشاف أدوار الفاعلين الدوليين والباحثين على حد سواء في تكريس المفاهيم السائدة في الواقع الاجتماعي، سواء بقصد، أو بدونه[48]. وبينما تهدف المناهج التأويلية إلى تحليل معاني الأحداث والظواهر عند الفاعلين، تكشف المناهج التأملية هذه المعاني عند الباحثين أنفسهم. فهذه المناهج لا تبحث عن الحقيقة الموضوعية - التي يؤكد النقديون استحالة الوصول إليها لو كانت موجودة أصلًا - وإنما تبحث في أثر العوامل الذاتية في تشكيل أفهام الفاعلين والباحثين لحدث ما، أو ظاهرة ما.
رغم اتفاق التيار المحافظ في المدرسة البنائية الاجتماعية مع تيارها النقدي على رفض التعميمات الشاملة التي تشبه قوانين الطبيعة، فإنه يتمسك بأن العالم حقيقة خارجة عن أذهان الباحثين، ويمكن دراسته بالمنهج العلمي الوضعي للتوصل إلى تعميمات جزئية ومشروطة تتعلق بظروف تاريخية محددة. ويدعو هذا التيار للتركيز على مجتمعات الفاعلين الذين أثمرت تفاعلاتهم البينية فهمًا مشتركًا للسياسة الدولية ومحدداتها الأساسية، كالهوية والأعراف وقواعد السلوك. أي أن البنائيين المحافظين يستخدمون ذات المنهج الوضعي الذي يستخدمه الواقعيون والليبراليون، ويعارضون استخدام مناهج التأويل والتأمل كبديل عنه؛ لأن استخدام المناهج الوضعية يساعدهم على الرد على أطروحات الواقعيين والليبراليين بلغتهم[49].
ويعارض البنائيون المحافظون اعتبار القوة جوهر العلاقات الدولية، إذ ينفون وجود أي جوهر ثابت لها؛ لأن جوهر تلك العلاقات ومعانيها ومفاهيمها متغيرة وتتوقف على التفاعلات بين أطرافها. فهذا التيار محايد وجوديًا، ويركز نظرياته على عمليات تشكّل معاني العلاقات الدولية لدى الفاعلين دون تحديد جوهرٍ لها. فمثلًا يرفض المحافظون اعتبار الدولة الفاعل الرئيس في العلاقات الدولية، باستثناء ألكسندر وينت الذي وافق الواقعيين في ذلك، لا لأن الدولة هي مستودع القوة الرئيس كما ذكر كارّ؛ بل لأنها لا تزال المجال الذي تمر من خلاله تأثيرات جميع الفاعلين في النظام العالمي[50]؛ لكن وينت ومعه التيار المحافظ يختلفون مع الواقعيين في ثبات معنى الفوضى في النظام الدولي وتبعاتها. فالفوضى في هذا النظام عند الواقعيين هي نتيجة لغياب حكومة عالمية، مما يؤدي حتمًا إلى اعتماد كل دولة على ذاتها في منافسة غيرها على موارد القوة المحدودة، ومن ثم معاناتها من معضلة الأمن؛ أي أن زيادة تسلح الدولة للدفاع عن نفسها يدفع أعداءها لزيادة تسلحهم نتيجة خوفهم من نواياها، ومن ثم يتراجع شعورها بالأمن. أما البنائيون المحافظون فينفون ثبات معنى الفوضى في النظام الدولي لأن الفاعلين الدوليين يعيدون تفسير الفوضى حسب السياق وحسب فهمهم المتغير للأعراف وقواعد السلوك وهوياتهم وهويات الفاعلين الآخرين. لذلك يختلف أثر فوضى النظام الدولي على العلاقة بين الأصدقاء عن أثرها على العلاقة بين الأعداء[51].
وبالمثل ينفي البنائيون المحافظون ثبات معنى المصلحة؛ لأن الفاعل الدولي دائمًا ما يعيد تعريف مصالحه وهويته حسب السياق. ومن ثم يختلف البنائيون المحافظون مع الواقعيين الذين يصرون على سمو رغبة الدولة في البقاء دائمًا على غيرها من المصالح، كالاستقلال والرفاه والتقدير، ولا يشذ عن هذا الموقف من البنائيين المحافظين إلا وينت، إذ يحدد عدة مصالح ثابتة للدولة[52]. كذلك ينفي البنائيون المحافظون ثبات معنى القوة، رغم اتفاقهم على شمولها لعناصر مادية ومعنوية. فاطراد الممارسات الاجتماعية سواء كانت أقوالًا، أو أفعالًا هو الذي يكرس معاني العلاقات الدولية لدى الفاعلين، بما في ذلك معنى القوة، بينما يؤدي تكرار الممارسات المخالفة للمعاني السائدة إلى تغييرها تدريجيًا. ومن ثم فإن تغيير السياسة الدولية ممكن في نظر البنائيين المحافظين، لكنه صعب نتيجة غلبة معانيها الراسخة على المعاني المتحدية لتلك المعاني الراسخة[53]. فسلوك الفاعلين الدوليين يرسخ بنية المعاني والتوقعات في النظام الدولي، وهذا النظام بدوره يقيّد سلوكهم وأدوارهم نتيجة التزامهم، غالبًا، بقيم النظام ومعاييره وما يحدده لهم من أفعال مناسبة في المواقف المختلفة. ويتبين ذلك بوضوح في أوقات الأزمات، إذ يبحث الفاعل الدولي عن الفعل المناسب الذي تمليه عليه هويته، أو الأعراف الدولية وقواعد السلوك المقبولة فيه، فيتساءل عن ماهية السلوك الذي يتوقعه الآخرون منه في هذا الموقف، وهو سلوك يتعلمه خلال تفاعلاته مع غيره من الفاعلين، وليس بالحساب العقلاني المادي الرشيد كما يرى الواقعيون والليبراليون. فوفقًا للبنائيين المحافظين، يلتزم الفاعل الدولي بالفعل المناسب اجتماعيًا، ولا يتبع بالضرورة منطق المنفعة الذرائعية (البراجماتية)[54].
لكن البنائيين المحافظين يؤكدون أيضًا قدرة الفاعلين على تغيير بنية النظام الدولي حين يتكرر تحديهم للتوقعات الراسخة في العلاقات الدولية. فالفاعلون الدوليون ليسوا وكلاء للنظام الدولي يعملون وفق توجيهاته، كما يزعم الواقعيون الجدد؛ بل إنهم قادرون على تغيير بنية النظام بتكرار سلوكهم المتحدي للمعاني الراسخة فيه. وقد ينتج سلوكهم الجديد من تغير إدراكهم لواقعهم،، أو المستقبل الذي ينشدونه، وكيفية الوصول إليه. ويحدث هذا التغيير الإدراكي نتيجة تفاعلاتهم البينية. وهكذا يفسر البنائيون المحافظون مثلًا تطور قواعد السلوك المقبول في الحروب، ونشأة بعض المنظمات الدولية؛ كاللجنة الدولية للصليب الأحمر[55].
يشجع دعاة التقريب بين النظريات والمدارس الكبرى في العلاقات الدولية على الحوار بينها واستفادة كل منها من أطروحات غيرها. فشجعوا الواقعيين والليبراليين على التقارب لمواجهة المدارس النقدية خلال الجدل الرابع، ثم دعوهم للاستفادة من هذه المدارس؛ لا سيما دراسة العوامل غير المادية في العلاقات الدولية، مثل الهوية وقواعد السلوك عند التيار المحافظ في المدرسة البنائية الاجتماعية. فالرؤى التي قدمها هذا التيار قدمت تفسيرات مقنعة لبعض معضلات هاتين المدرستين، مثل معضلة الأمن عند الواقعيين، والسلام بين النظم غير الديمقراطية عند الليبراليين. فبينما يتمسك الليبراليون بنظرية السلام الديمقراطي؛ أي بين الدول ذات النظم الديمقراطية، فإنهم يتجاهلون السلام بين الدول ذات النظم غير الديمقراطية. أما التيار البنائي المحافظ فيفسر حالة السلم بين الدول بتقارب أفهام صانعي السياسة الخارجية فيها للعلاقات الدولية، نتيجة تفاعلاتهم البينية، بغض النظر عن أيديولوجيات أنظمتهم السياسية. فبينما يرى الليبراليون التشابه الأيديولوجي والثقافي بين النظم الديمقراطية سببًا لهذا الفهم المشترك، تفسر الرؤية البنائية الاجتماعية المحافظة السلام بين الدول بالتفاعلات بين صانعي السياسة الخارجية التي قد تؤدي لاشتراكهم في هدف الحفاظ على الوضع الدولي القائم، ومن ثم سيادة السلام بين دولهم، بغض النظر عن أنظمتها وأيديولوجياتها السياسية[56].
كذلك يمكن تفسير نظرية والت الواقعية عن توازن التهديد بأطروحات بنائية اجتماعية عن مفهوم القوة. فتأكيد والت على أهمية العوامل غير المادية في تعريف القوة لا يتفق فقط مع مفهوم القوة في المدرسة الواقعية التقليدية عند كارّ ومورجانثو؛ بل يتفق أيضًا مع تعريف القوة عند البنائيين الاجتماعيين. فمثلًا أضاف بارنت ودوفال لمفهوم القوة بعدين آخرين غير البعدين الإكراهي والبنيوي الذين يركز عليهما الواقعيون، وهما البعدان المؤسسي والتأسيسي (أو القاعدي). وهذا الأخير يشير إلى لامركزية إنتاج جماعة ما لذاتها من خلال أنظمة المعنى والدلالة، وأثر ذلك في علاقات القوة بين أفراد الجماعة[57]. ورغم أن والت لم يضع إطارًا نظريًا لاختلاف مفهوم القوة عنده عن مفهوم القوة عند والتز وغيره من الواقعيين الجدد؛ إلا أنه أكد على البعدين الاجتماعي والاتصالي لمعنى القوة في دراسته عن السياسة العربية البينية خلال فترة الحرب الباردة حتى نهاية عقد السبعينيات. ويتضح اقتراب مفهوم القوة عنده من مفهوم القوة عند البنائيين الاجتماعيين في الاقتباس التالي:
"كان أهم مصدر للقوة في العالم العربي هو قدرة الفرد على التلاعب بصورته وصور خصومه في أذهان النخب العربية الأخرى. فكانت نظم الحكم تكتسب قوة ومشروعية إذا اعتُبرت مخلصةً للأهداف العربية المتفق عليه، وكانت تفقد القوة والمشروعية إذا بدت خارجةً عن الإجماع العربي. ومن ثم كانت إحدى الوسائل الفعالة لمواجهة الخصوم زيادة عدد الحلفاء إلى أقصى حد ممكن من أجل تصوير الذات كرائدة لقيم التضامن العربي (أو متوافقة معها على الأقل). فالتوازن بين الدول العربية كان يعني فعليًا إضافة مزيد من الأصوات، وليس الجيوش. لذا كانت التحالفات غير المهمة عسكريًا بين الدول العربية المختلفة ذات تأثير سياسي عميق"[58].
وبالإضافة إلى إثراء مفهوم القوة عند والت بالأطروحات البنائية الاجتماعية، يمكن لهذه الأطروحات تصحيح بعض النتائج التي توصل إليها والت. إذ فشل والت في إثبات فرضية دور الأيديولوجية في بناء تحالفات بين نظم الحكم ذات الخصائص الداخلية المتشابهة، وخلص لاعتبار حديث الساسة عن التضامن الأيديولوجي تبريرًا لتحالفات دولهم أكثر منه سببًا حقيقيًا لإقامتها[59]؛ لكن هذا الفشل قد يعود إلى اختزال والت الخصائص الداخلية لنظم الحكم في البعد الأيديولوجي دون التطرق لمسائل الهوية، ومبالغته في الاعتماد على تصريحات الساسة للكشف عن نواياهم تجاه الدول الأخرى وإثبات، أو نفي التضامن الأيديولوجي بين دولهم. أما البنائيون الاجتماعيون، مثل بارنت، فأكدوا دور هويات نظم الحكم، وليس فقط أيديولوجيتها، في تعريف المصلحة الوطنية، وتعريف السياسة الخارجية المقبولة دوليًا، وصناعة هذه السياسة، وتبني سياسة معينة في قضايا محددة. فأبرز بارنت كيف تحدد الجماعة مصادر التهديد الذي تتعرض له وماهية حلفائها المحتملين في مواجهة هذا التهديد بناء على تعريفها لهويتها. "فغالبًا ما تقدم سياسة الهوية – وليس منطق الفوضى – تفسيرًا أفضل لنظرة دولةٍ ما لدولة أخرى كمصدر حقيقي،، أو محتمل لتهديد أمنها"[60].
وفي مقابل دعوة الليبراليين والواقعيين للاستفادة من التيار البنائي الاجتماعي المحافظ، استمر البنائيين المحافظين الذين نشأوا في المدرسة الليبرالية في تركيز أبحاثهم على دراسة الديمقراطية وحقوق الإنسان وقضايا التعاون الدولي التزامًا بالقيم الليبرالية[61]. كما شجع دعاة التقريب بين النظريات التيار البنائي الاجتماعي المحافظ على زيادة صرامة مناهجه الوضعية ودقة الوصف بالاستفادة من مناهج البحث وأدواتها عند الواقعيين والليبراليين، والاستفادة من الأطروحات الواقعية في الإجابة عن أحد أصعب الأسئلة التي تواجهه، وهو كيفية تحديد الفعل المناسب في موقف ما بالنسبة لفاعل دولي يفاضل بين هويّات وأعراف وقواعد سلوك مختلفة. فمنطق الفعل المناسب الذي يراه التيار البنائي الاجتماعي المحافظ أساسًا لاختيار الفاعل الدولي لتصرفاته غير كاف للإجابة على هذا السؤال لأن هويّات الفاعل المختلفة، والأعراف وقواعد السلوك الدولية المتباينة، قد تدفعه للقيام بأفعال مختلفة. ومثال ذلك اختلاف مواقف الدول العربية عند غزو العراق للكويت عام 1990 وما أعقبه من حشد غربي لإخراج القوات العراقية منها. فبينما صوتت أغلبية بسيطة في القمة العربية لصالح تفعيل معاهدة الدفاع المشترك ضد العراق نظرًا لانتهاكه مبدأ راسخ في العلاقات العربية البينية، هو احترام سيادة الدول واستقلالها ووحدة أراضيها، صوتت أقلية كبيرة ضد تفعيل المعاهدة لأنه يوفر غطاءً لانتهاك مبدأ لا يقل رسوخًا عن المبدأ السابق، وهو منع التدخل الأجنبي في نزاعات العرب البينية[62]. فالعوامل التي يركز عليها البنائيون، كالهوية والأعراف، غير كافية لتفسير قرار القمة العربية تفعيل معاهدة الدفاع المشترك ضد العراق. ومن العوامل الأخرى التي يمكن توظيفها لتفسير قرارات الفاعلين في مثل هذه المواقف إدراك الفاعل للموقف، واقتناعه بسردية معينة للأحداث، وحسابه العقلاني لتعظيم مكاسبه وتقليل خسائره، وكذلك عامل القوة الذي يؤكد عليه الواقعيون. فقوة أحد الفاعلين قد تمكنه من فرض سرديته للأحداث على الفاعلين الأخرين، وإعادة تعريفهم لمصالحهم، ومحاولة التوفيق بين معاييرهم الاجتماعية ومنافعهم المادية في ذلك الموقف[63].
وذهب بعض دعاة التقريب بين النظريات إلى الدعوة لدمج التيارين الواقعي التقليدي والبنائي الاجتماعي المحافظ في مدرسة جديدة باسم البنائية الواقعية،، أو الواقعية البنائية[64]. فالتوافق بين التيارين كبير حقًا، رغم صعوبة تبينه عند ظهور المدرسة البنائية الاجتماعية نتيجة خلط الواقعيين، المتعمد أحيانًا، بين رافديها النقدي والمحافظ، واقتناعهم بتفوق القوة المادية والمصلحة الوطنية على العوامل غير المادية في العلاقات الدولية في تفسير ظواهرها، ومن ثم امتناعهم لفترة طويلة عن دراسة العوامل غير المادية إلا عند فشل عوامل القوة والمصلحة الوطنية في تفسير تلك الظواهر[65].
الإسهام الجديد الذي قدمته هذه الدراسة لمشروع التجسير هو إثبات إمكانيته ليس فقط بين المعارف والتخصصات المختلفة؛ بل بين النظريات والمدارس المختلفة في التخصص الواحد، وربما داخل المدرسة الواحدة. وهذا الإسهام يفتح آفاقًا جديدة لدراسة التجسير بين المدراس النظرية في مختلف تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية. ومنهج البحث في شرح مسار التجسير في المثال الذي استغرق الدراسة بأكملها، وهو التجسير بين المدرستين الواقعية والتيار المحافظ، يعتمد على رواية تطور كل مدرسة على حدة، وصولًا إلى نقطة الوصل بينهما جمعت استخدام المنهج العلمي الوضعي بالاهتمام بالعوامل غير المادية في العلاقات الدولية.
فقد تعددت الانشقاقات والمراجعات في المدارس النظرية في حقل العلاقات الدولية خلال نصف القرن الأخير؛ لا سيما في المدرستين الواقعية والبنائية الاجتماعية، اللتين تمثلان المدارس السائدة والنقدية على التوالي؛ لكن تجسير هذه الانشقاقات والتقريب بين المدارس ليسا ممكنين فقط؛ بل ضروريان أيضًا لحل معضلاتها، مع الحفاظ على تمايز الأسس الفلسفية لكل مدرسة. وهذه الرؤية التجسيرية تخالف مواقف دعاة النقاء النظري الذين ينفون إمكانية التقارب بين المدارس النظرية، ودعاة الحفاظ على تعدد المدارس الذين يرفضون دمجها.
وقد مثلت الفلسفة الوضعية ومنهجها العلمي مدخلًا للتجسير بين المدرسة الواقعية والتيار المحافظ في المدرسة البنائية الاجتماعية، وإن تباعدت مواقفهما الوجودية والمعرفية، ويدل على ذلك تطور هاتين المدرستين. فالمدرسة الواقعية جاءت لتصحح الفكر المثالي الذي ساد بين الحربين العالميتين وليس لمحوه كليًا، إذ دعا مفكروها للجمع بين القوة المادية والقيم في تحليل السياسة الخارجية والنظر في الأبعاد المعيارية للعلاقات الدولية. ثم قدم الواقعيون الجدد نظرية سببية عن بنية النظام الدولي ودور القوة المادية فيه استنادًا إلى الفلسفة الوضعية ونظريات النظم العامة والاقتصاد الجزئي؛ لكن النظرية الجديدة احتوت ثغرات كبيرة دفعت بعض الواقعيين للعودة إلى الجمع بين العوامل الداخلية والخارجية، وبين عناصر القوة المادية وغير المادية، في تحليل بنية النظام الدولي والسياسة الخارجية. وفي هذا الإطار ظهرت نظرية توازن التهديد التي تشابهت أطروحاتها مع أطروحات المدرسة البنائية الاجتماعية فيما بعد.
وخلال الجدل النظري الرابع في حقل العلاقات الدولية، تقاربت المدرستان الواقعية والليبرالية لمواجهة المدارس التي انتقدتهما معًا؛ لكن مع ظهور التباين بين التيارين النقدي والمحافظ في المدرسة البنائية الاجتماعية، والتزام التيار المحافظ بالمناهج الوضعية، برزت إمكانية استفادته من الصرامة المنهجية في المدرستين الواقعية والليبرالية من جانب، واستفادتهما من تحليل التيار البنائي الاجتماعي المحافظ لمفاهيم العلاقات الدولية من جانب آخر. وبلغ التقارب بين المدرسة الواقعية والتيار المحافظ في المدرسة البنائية الاجتماعية حد الدعوة إلى الدمج بينهما في مدرسة واحدة.
وليست استفادة المدارس النظرية من بعضها إلا علامة على شدة تعقد الظواهر الدولية بحيث تعجز أي مدرسة بمفردها عن تفسيرها، أو تأويلها كلها بدرجة عالية من الكفاءة؛ بل تحتاج كل مدرسة إلى الأخرى للاستفادة منها، ومعرفة نقائصها، وسد ثغراتها، وإحكام بنائها، والإسهام في حل مشاكل العلاقات الدولية. ولعل دعاة التقارب بين المدارس النظرية، وداخل كل منها، يستفيدون من أطروحات الفلسفة الوضعية، وكذلك علم النفس الإدراكي، وعلم اجتماع المعرفة، لتحقيق هذا الهدف.
الرويح، مشاري حمد. "الفاعل المكلف في السياسة الدولية: استنقاذ الفاعلية الإنسانية من الانحدار لما بعد الإنسانوية". مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، مج6، ع2 (2024). https://doi.org/10.29117/tis.2024.0186
سالم، أحمد علي. "إسهامات غير غربية لتخليص حقل العلاقات الدولية من الهيمنة المعرفية الغربية: إصلاح أم ثورة؟". مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، مج4، ع1 (2022): 10–32.https://doi.org/10.29117/tis.2022.0082
–––. "تطور علم السياسة في الولايات المتحدة: من بناء التقاليد المهنية إلى محاولات إعادة تماسك الجماعة العلمية". مجلة النهضة، جامعة القاهرة، مج11، ع1 (2010).
–––. "الكم والكيف في مناهج البحث في العلوم الاجتماعية عامة والسياسية خاصة: قراءة في الجدل بين دارسي المتغيرات والحالات وما غاب عنه من مشكلات بناء المفاهيم". المجلة العربية للعلوم السياسية، ع24 (2009).
الليثي، مدحت ماهر. حوار المعارف والثقافات وبناء العلوم الاجتماعية: من الخبرة الحضارية إلى تجاوز الأزمة المعاصرة. الدوحة: البحث الثاني الفائز بجائزة قطر العالمية لحوار الحضارات، الدورة الرابعة، 2024.
Reference:
Al Ruwaih, Meshari. “Taklif based model of Islamic Agency in International Relations: Saving Human Agency from Posthumanism” (in Arabic). Tajseer Journal for Interdisciplinary Studies in Humanities and Social Science, Vol. 6, No. 2 (2024), pp. 97-129. https://doi.org/10.29117/tis.2024.0186
Al Laithi, Midhat Māhir. Hiwār al-Ma‘ārif wa al-Thaqāfāt wa binā’ al-‘Ulūm al-Ijtimā’īyah: min al-Khibrah al-Hadhārīyah Ila Tajawuz al-Azmah al-Mu‘āsirah (in Arabic). Doha: The Second Winning Research in Qatar International Award for Dialogue among Civilizations, 4th Edition, 2024.
Bain, William. “Deconfusing Morgenthau: Moral Inquiry and Classical Realism Reconsidered,” Review of International Studies, Vol. 26 (2000).
Barkin, J. Samuel. Realist Constructivism: Rethinking International Relations Theory. Cambridge: Cambridge University Press, 2010.
Barnett, Michael. “Identity and Alliance in the Middle East,” ed. Peter Katzenstein, The Culture of National Security: Norms and Identity in World Politics. New York: Columbia University Press, 1996.
Barnett, Michael and Raymond Duvall. “Power in International Politics,” International Organization, Vol. 59, No. 1 (2005).
Carr, Edward. The Twenty Years’ Crisis, 1919-1939: An Introduction to the Study of International Relations. New York: Harper Torchbook, 1964.
Ceaser, James. Liberal Democracy and Political Science. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1992.
Diesing, Paul. How Does Social Science Work? Pittsburgh: University of Pittsburgh Press, 1991
Dougherty, James and Robert Pfaltzgraff. Contending Theories of International Relations: A Comprehensive Survey. New York: Longman, 1996.
Dunne, Tim, Lene Hansen and Colin Wight. “The end of International Relations theory?” European Journal of International Relations, Vol. 19, No. 3 (2013).
Finnemore, Martha. National Interests in International Society. Ithaca: Cornell University Press, 1996.
Grieco, Joseph. “Understanding the Problem of International Cooperation: the limits of neoliberal institutionalism and the future of realist theory,” eds. David Baldwin, Neorealism and Neoliberalism: the contemporary debate. New York: Columbia University Press, 1993.
Hempel, Carl. “Studies in the Logic of Explanation,” eds. E.D. Klemke, R. Hollinger, and D.W. Rudge, Introductory Readings in the Philosophy of Science. Amherst, NY: Prometheus Books, 1998.
Heywood, Andrew. Global Politics. Palgrave Macmillan, 2011.
Hopf, Ted. “The Promise of Constructivism in International Relations Theory,” International Security, Vol. 23, No. 1 (1998).
Hume, David. An Enquiry Concerning Human Understanding. Scotts Valley, CA: CreateSpace, 2017.
Huth, Paul. Standing Your Ground: Territorial Disputes and International Conflict. Ann Arbor: The University of Michigan Press, 1996.
Jervis, Robert. Perception and Misperception in International Politics. Princeton: Princeton University Press, 1976.
Keohane, Robert. After Hegemony: Cooperation and Discord in the World Political Economy. Princeton: Princeton University Press, 1984.
Kunda, Ziva. Social Cognition: Making Sense of People. Cambridge, MA: The MIT Press, 1999.
Marriam, Charles. New Aspects of Politics. Chicago: The University of Chicago Press, 1970.
Mill, John Stuart. The Basic Writings of John Stuart Mill. New York: Modern Library, 2002.
Morgenthau, Hans J. Politics Among Nations: The Struggle for Power and Peace. New York: Alfred Knopf, 3rd ed., 1960.
Murphy, Michael PA. “Rediscovering the ‘Meaning of Science’? Hans Morgenthau and the ethics debate in quantum IR,” International Relations (2024).
Popper, Karl. “Science: Conjectures and Refutations,” eds. E.D. Klemke, R. Hollinger, and D.W. Rudge, Introductory Readings in the Philosophy of Science. Amherst, NY: Prometheus Books, 1998.
Ross, Dorthy. “The Development of the Social Sciences”, eds. James Farr and Raymond Seidelman, Discipline and History: Political Science in the United States. Ann Arbor: The University of Michigan Press, 1993) pp. 81-106.
Ruggie, John. “What Makes the World Hang Together? Neo-utilitarianism and the Social Constructivist Challenge,” International Organization, Vol. 52, No. 4 (1998).
Salem, Ahmed Ali. “A Critique of Failing International Relations Theories in African Tests, with emphasis on North African Responses,” eds. Paul-Henri Bischoff, Kwesi Aning, and Amitav Acharya, Africa in Global International Relations: Emerging Approaches to Theory and Practice. London: Routledge, 2016.
–––. “al-Kam wa al-Kayf fi Manāhij al-Bahth fi al-‘Ulūm al-Ijtimā‘īyah ‘āmmah wa al-Siyāsīyah khāssah: Qirā’ah fi al-Jadal bayna Dārisī al-Mutaghaīrāt wa al-Halāt wa ma ghāb ‘anhum min Mushkilāt binā’ al-Mafāhīm” (in Arabic). al-Majallah al-‘Arabīyah li-al-‘Ulūm al-Siyāsīyah, No. 24 (2009).
–––. International Relations Theories and Organizations: Realism, Constructivism and Collective Security in the League of Arab States. Saarbruecken, Germany: Verlag Dr. Muller, 2008.
–––. “Non-Western Contributions to Rid the International Relations Discipline from Western Epistemological Hegemony: Reform or Revolution?” (in Arabic). Tajseer Journal for Interdisciplinary Studies in Humanities and Social Science, Vol. 4, No. 1 (2022), pp. 10-32. https://doi.org/10.29117/tis.2022.0082
–––. “Tatawwur ‘Ilm al-Siyāsah fi al-Wilāyāt al-Muttaḥidah: min Binā’ al-Taqālīd al-Mihanīyah Ila Muhāwalāt I‘ādat Tamāsuk al-Jamā‘ah al-‘Ilmīya” (in Arabic). Majallat al-Nahḍah, Jāmiʻat al-Qāhirah, Vol. 11, No. 1 (2010).
–––. What Is Constructivist About Realism? Constructivist Critiquing of the Realist Paradigm in International Relations. Saarbruecken, Germany: Lambert Academic Publishing, 2012.
Simon, Herbert. Models of Man. New York: Wiley, 1957.
–––. The Sciences of the Artificial. Cambridge, MA: The MIT Press, 1996 [1969].
Somit, Albert and Joseph Tanenhause. The Development of Political Science: From Burgess to Behavioralism. Boston: Allyn and Bacon, 1967.
Steve, Smith. “Foreign Policy Is What States Make of It: Social Construction and International Relations Theory,” eds. Vendulka kubalkova, Foreign Policy in a Constructed World. London: M.E.Sharpe, 2001.
Thagard, Paul. How Scientists Explain Disease. Princeton: Princeton University Press, 2000.
Thakur, Vineet. “Africa and the Theoretical Peace in IR,” International Political Sociology, vol. 9 (2015).
Wæver, Ole. “Figures of international thought: introducing persons instead of Paradigms,” eds. Iver B. Neumann and Ole Wæver, The Future of International Relations: Masters in the Making?. London: Routledge, 2005.
Walt, Stephen. The Origins of Alliances. Ithaca and London: Cornell University Press, 1990.
Waltz, Kenneth. “Structural Realism after the Cold War,” International Security, Vol. 25, No. 1 (2000).
–––. Theory of International Politics. New York: Random House, 1979.
Wendt, Alexander. “Anarchy is what states make of it: the social construction of power politics,” International Organization, Vol. 46, No. 2 (1992).
Wendt, Alexander. Social Theory of International Politics. New York: Cambridge University Press, 1999.
Wilson, Edward O. Consilience. New York: Vintage, 1999.
[1] For example, see: Andrew Heywood, Global Politics (Palgrave Macmillan, 2011), pp. 71-80.
[2] Tim Dunne, Lene Hansen and Colin Wight, “The end of International Relations theory?" European Journal of International Relations, Vol. 19, No. 3 (2013), p. 406.
[3] Vineet Thakur, “Africa and the Theoretical Peace in IR," International Political Sociology, Vol. 9 (2015), pp. 213-229.
[4] Ibid., pp. 412-415; John Ruggie, “What Makes the World Hang Together? Neo-utilitarianism and the Social Constructivist Challenge," International Organization, Vol. 52, No. 4 (Autumn 1998), pp. 882-885; Ahmed Ali Salem, International Relations Theories and Organizations: Realism, Constructivism and Collective Security in the League of Arab States (Saarbruecken, Germany: Verlag Dr. Muller, 2008), pp. 268-270.
[5] أحمد علي سالم، "إسهامات غير غربية لتخليص حقل العلاقات الدولية من الهيمنة المعرفية الغربية: إصلاح أم ثورة؟"، مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، مج4، ع1، )2022(، ص16-24. https://doi.org/10.29117/tis.2022.0082
[6] Ziva Kunda, Social Cognition: Making Sense of People (Cambridge & MA: The MIT Press, 1999); Paul Diesing, How Does Social Science Work? (Pittsburgh: University of Pittsburgh Press, 1991), pp. 55-74.
[7] Bruno Latour, Science in Action: How to Follow Scientists and Engineers Through Society (Cambridge & MA: Harvard University Press, 1988).
[8] لمزيد من التفصيل حول مشاكل بناء المفاهيم، راجع:
Ronald Rogowski, Commerce and Coalitions: How Trade Affects Domestic Political Alignments (Princeton: Princeton University Press, 1989); Bruce Russett, Grasping the Democratic Peace (Princeton: Princeton University Press, 1993); Paul Huth, Standing Your Ground: Territorial Disputes and International Conflict (Ann Arbor: The University of Michigan Press, 1996); Ahmed Ali Salem, “A Critique of Failing International Relations Theories in African Tests, with emphasis on North African Responses," eds. Paul-Henri Bischoff, Kwesi Aning, and Amitav Acharya, Africa in Global International Relations: Emerging Approaches to Theory and Practice (London: Routledge, 2016), pp. 27-30.
وانظر أيضًا:
أحمد علي سالم، "الكم والكيف في مناهج البحث في العلوم الاجتماعية عامة والسياسية خاصة: قراءة في الجدل بين دارسي المتغيرات والحالات وما غاب عنه من مشكلات بناء المفاهيم"، المجلة العربية للعلوم السياسية، ع24 (2009)، ص113-134؛
-
[9] Dunne, Lene Hansen and Wight, Op. Cit., pp .407-412; Ole Wæver, “Figures of international thought: introducing persons instead of Paradigms," In: Iver B. Neumann and Ole Wæver (eds.), The Future of International Relations: Masters in the Making? (London: Routledge, 2005), pp. 15-26.
وقد تراجع الجدل حول وجود علاقات سببية بين الظواهر بعد دفاع جون ستيورات ميل عنها في مواجهة منكري السببية، وعلى رأسهم ديفيد هيوم الذي أكد استحالة التحقق من أية علاقة سببية لعجزنا عن رؤية الآلية، أو العملية التي من خلالها يؤدي السبب المزعوم إلى النتيجة المفترضة. فكل ما في الأمر أننا نعتاد على رؤية تعاقب الظواهر فنظن أن الأولى سبب والتالية نتيجة. ورد ميل على هذا الزعم بثلاث طرق للتحقق من العلاقات السببية. ورغم العيوب المنهجية في هذه الطرق، استقر منطق ميل كأساس للعلم الوضعي، وانحصر الخلاف بين الوضعيين في كيفية التحقق من العلاقة السببية فقط. انظر:
David Hume, An Enquiry Concerning Human Understanding (Scotts Valley, CA: CreateSpace, 2017); John Stuart Mill, The Basic Writings of John Stuart Mill (New York: Modern Library, 2002).
[10] Heywood, Op. Cit., pp. 520-523.
[11] للمزيد حول الفلسفة الوضعية وتطور تطبيقاتها في العلوم،الاجتماعية، انظر: مدحت ماهر الليثي، حوار المعارف والثقافات وبناء العلوم الاجتماعية: من الخبرة الحضارية إلى تجاوز الأزمة المعاصرة (الدوحة: البحث الثاني الفائز بجائزة قطر العالمية لحوار الحضارات، الدورة الرابعة، 2024) ص. 207-253؛
Diesing, Op. Cit., pp. 3-28; Carl Hempel, “Studies in the Logic of Explanation," eds. E.D. Klemke, R. Hollinger, and D.W. Rudge, Introductory Readings in the Philosophy of Science (Amherst, NY: Prometheus Books, 1998), pp. 206-224; Karl Popper, “Science: Conjectures and Refutations," Op. Cit., pp. 38-47.
[12] Charles Marriam, New Aspects of Politics (Chicago: The University of Chicago Press, 1970), pp. 33-40; Dorthy Ross, “The Development of the Social Sciences", In: James Farr and Raymond Seidelman (eds.), Discipline and History: Political Science in the United States (Ann Arbor, MI: University of Michigan Press, 1993), pp. 81-106.
[13] Herbert Simon, Models of Man (New York: Wiley, 1957); The Sciences of the Artificial (Cambridge, MA: The MIT Press, 1996 [1969]), p. 25; James Ceaser, Liberal Democracy and Political Science (Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press, 1992).
[14] Albert Somit and Joseph Tanenhaus, The Development of Political Science: From Burgess to Behavioralism (Boston: Allyn and Bacon, 1967).
[15] أحمد علي سالم، "تطور علم السياسة في الولايات المتحدة: من بناء التقاليد المهنية إلى محاولات إعادة تماسك الجماعة العلمية"، النهضة، مج11، ع1 (يناير 2010)، ص15-34.
[16] Paul Thagard, How Scientists Explain Disease (Princeton: Princeton University Press, 2000).
[17] Edward Carr, The Twenty Years’ Crisis, 1919-1939: An Introduction to the Study of International Relations (New York: Harper Torchbook, 1964), p. 105.
[18] Ibid., pp. 108; 132.
[19] Wæver, Op. Cit., pp. 10-11.
[20] Carr, Op. Cit., p. 166.
[21] Ahmed Ali Salem, What Is Constructivist About Realism? Constructivist Critiquing of the Realist Paradigm in International Relations (Saarbruecken, Germany: Lambert Academic Publishing, 2012), pp. 29-38.
[22] Ruggie, Op. Cit., p. 878.
[23] Hans J. Morgenthau, Politics Among Nations: The Struggle for Power and Peace (New York: Alfred Knopf, 3rd ed., 1960), pp. 9, 153.
[24] انظر كتابه الرائد في هذا المجال:
Robert Jervis, Perception and Misperception in International Politics (Princeton: Princeton University Press, 1976).
[25] Salem, What Is Constructivist About Realism, Op. Cit., pp. 38-50.
[26] انظر على سبيل المثال قاعدة البيانات التالية:
Correlates of War datasets of Materialist National Capabilities (COW-MNC), www.correlatesofwar.org.
[27] For example, see: Edward O. Wilson, Consilience (New York: Vintage, 1999).
[28] William Bain, “Deconfusing Morgenthau: Moral Inquiry and Classical Realism Reconsidered," Review of International Studies, Vol. 26 (2000), pp. 451-453; Michael PA Murphy, “Rediscovering the ‘Meaning of Science’? Hans Morgenthau and the ethics debate in quantum IR," International Relations (2024), pp. 3-8.
[29] Kenneth Waltz, Theory of International Politics (New York: Random House, 1979), p. 50; Wæver Op. Cit., p. 17.
[30] Kenneth Waltz, “Structural Realism after the Cold War," International Security, Vol. 25, No. 1 (2000), pp. 5-41.
[31] مشاري حمد الرويح، "الفاعل المكلف في السياسة الدولية: استنقاذ الفاعلية الإنسانية من الانحدار لما بعد الإنسانوية"، مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، مج6، ع2 (2024)، ص105-106. https://doi.org/10.29117/tis.2024.0186
[32] Alexander Wendt, Social Theory of International Politics (New York: Cambridge University Press, 1999), p. 19.
[33] Waltz, Theory of International Politics, Op. Cit., p. 60.
[34] Salem, What Is Constructivist About Realism, Op. Cit., pp. 66-80.
[35] Stephen Walt, The Origins of Alliances (Ithaca and London: Cornell University Press, 1990).
[36] Salem, What Is Constructivist About Realism, Op. Cit., pp. 92-103.
[37] Paul Huth, Standing Your Ground: Territorial Disputes and International Conflict (Ann Arbor: The University of Michigan Press, 1996).
[38] Robert Keohane, After Hegemony: Cooperation and Discord in the World Political Economy (Princeton: Princeton University Press, 1984).
[39] Joseph Grieco, “Understanding the Problem of International Cooperation: the limits of neoliberal institutionalism and the future of realist theory," In: David Baldwin (ed.), Neorealism and Neoliberalism: the contemporary debate (New York: Columbia University Press, 1993), pp. 301-338; Wæver, Op. Cit., pp. 17-22.
[40] J. Samuel Barkin, Realist Constructivism: Rethinking International Relations Theory (Cambridge University Press, 2010), pp. 143-147.
[41] Smith, Steve, “Foreign Policy Is What States Make of It: Social Construction and International Relations Theory," In: Vendulka Kubalkova (ed.), Foreign Policy in a Constructed World (London: M.E. Sharpe, 2001), p. 39.
[42] Wendt, Op. Cit., p. 1; James Dougherty and Robert Pfaltzgraff, Contending Theories of International Relations: A Comprehensive Survey (New York: Longman, 1996), p. 101.
[43] Martha Finnemore, National Interests in International Society (Ithaca: Cornell University Press, 1996), pp. 3, 15; Salem, International Relations Theories and Organizations, Op. Cit., pp. 47-50.
[45] Heywood, Op. Cit., pp. 525-527.
[46] Ted Hopf, “The Promise of Constructivism in International Relations Theory," International Security, Vol. 23, No. 1 (Summer 1998), pp. 181-185; Ruggie, Op. Cit., pp. 880-882.
[47] Hopf, Op. Cit., pp. 181-185.
[48] Dunne, Lene Hansen and Colin Wight, Op. Cit., pp. 407-412.
[49] Hopf, Op. Cit., pp. 181-185; Ruggie, Op. Cit., pp. 880-882.
[50] Wendt, Op. Cit., p. 9.
[51] Alexander Wendt, “Anarchy is what states make of it: the social construction of power politics," International Organization, Vol. 46, No. 2 (Spring 1992), pp. 393-394; Hopf, Op. Cit., p. 174.
[52] Ruggie, Op. Cit., pp. 862-864; Hopf, Op. Cit., pp. 174-177.
[53] Michael Barnett and Raymond Duvall, “Power in International Politics," International Organization, Vol. 59, No. 1 (Winter 2005), pp. 39-75; Hopf, Op. Cit., pp. 177-181; Ruggie, Op. Cit., pp. 874-876.
[54] Salem, What Is Constructivist About Realism Op. Cit., pp. 109-110.
[56] Ahmed Ali Salem, “A Critique of Failing International Relations Theories in African Tests, with Emphasis on North African Responses,", In: Paul-Henri Bischoff, Kwesi Aning, and Amitav Acharya (eds.), Africa in Global International Relations: Emerging Approaches to Theory and Practice (London: Routledge, 2016), pp. 27-29.
[57] Barnett and Duvall, Op. Cit., pp. 39-75.
[58] Walt, Op. Cit., p. 149.
[59] Ibid, p. 214.
[60] Michael Barnett, “Identity and Alliance in the Middle East," In: Peter Katzenstein (ed.), The Culture of National Security: Norms and Identity in World Politics (New York: Columbia University Press, 1996), p. 401
[61] Barkin, Op. Cit., pp. 139-143.
[62] Salem, International Relations Theories and Organizations, Op. Cit., pp. 220-228.
[63] Salem, What Is Constructivist About Realism, Op. Cit., pp. 104-114.
[64] Barkin, Op. Cit., pp. 154-173.
[65] Salem, What Is Constructivist About Realism, Op. Cit., pp. 15-22.