cid:image007.png@01DA94D4.752A8770Publizieren – Why Open Access? 

 

 

تاريخ الاستلام: 3 أكتوبر 2025 | تاريخ القبول: 7 أكتوبر 2025

تقـــــــــــرير

مؤتمر القرآن والمعرفة الإنسانية: نحو معرفة إنسانية راشدة

الدوحة: 01-02 أكتوبر/تشرين الأول 2025م

حسين محمد نعيم الحق https://orcid.org/0009-0004-1418-678X

باحث أول، مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة قطر

hhoque@qu.edu.qa

Report

Conference on "The Qur’an and Human Knowledge: Towards Rightly Guided Human Knowledge"

Doha, 01–02 October 2025

Hossain Mohammed Naimul Hoque https://orcid.org/0009-0004-1418-678X

Senior Researcher at Ibn Khaldon Center for Humanities and Social Sciences, Qatar University

hhoque@qu.edu.qa

 

نظَّم مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة قطر بالشراكة مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر المؤتمر الدوري السنوي الأول بعنوان: "القرآن والمعرفة الإنسانية: نحو معرفة إنسانية راشدة"؛ في 1-2 أكتوبر 2025م، الذي افتُتِحت فعالياته في فندق أنداز الدوحة (Andaz Doha)، وأقيمت أعماله بمدرج كلية القانون في جامعة قطر؛ حيث قدِّمت فيه 18 ورقة بحثية تناولت أربعة حقول معرفية.

يهدف المؤتمر استعادة مركزية القرآن الكريم في صناعة الخطاب المعرفي الإنساني والاجتماعي المعاصر؛ بما يجسّر العلاقة بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية والاجتماعية، ويربط الباحثين من مختلف التخصصات الاجتماعية والإنسانية بالقرآن الكريم؛ لاستثماره في ترشيد الظواهر الإنسانية والاجتماعية المختلفة، كما يهدف المؤتمر إلى تشجيع الباحثين من التخصصات الشرعية على التفاعل المنهجي مع العلوم الاجتماعية والإنسانية وتوطينها في ضوء الهداية القرآنية.

للاقتباس: نعيم الحق، حسين محمد. "تقرير عن مؤتمر: القرآن والمعرفة الإنسانية: نحو معرفة إنسانية راشدة"، مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، المجلد السابع، العدد 2 (2025): 00-00. https://doi.org/10.29117/tis.2025.0236

© 2025، نعيم الحق. الجهة المرخص لها: مجلة تجسير، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-Noncommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وتنبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأي وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


وقد اختصّ المؤتمر في دورته الحالية بالبحث في دور القرآن الكريم في ترشيد المعرفة الإنسانية عبر أربعة محاور تشمل: العلوم التربوية، والاجتماعية، والنفسية، والاقتصادية؛ من منطلق كون القرآن الكريم كتاب هداية للبشرية كافة، بما فيها العلوم والمعارف المختلفة، وقد سعت البحوث المقدّمة في المؤتمر، التي بلغت 18 بحثًا علميًا، إلى الاستفادة المنهجية العلمية من الهداية القرآنية في معالجة القضايا المتعلقة بالحقول المعرفية المذكورة.

افتُتِح المؤتمر بكلمة ترحيبية من سعادة رئيس جامعة قطر الدكتور عمر بن محمد الأنصاري، الذي رحَّب في بداية كلمته بالضيوف المشاركين في المؤتمر والحضور الكريم، على رأسهم سعادة وكيل وزارة الأوقاف، كما أشار في كلمته إلى أهمية هذا المؤتمر والسياق العلمي الذي يأتي فيه، ويرى أن أهمية هذا المؤتمر تكمن في "بناء الوعي المعرفي الإنساني في ضوء هداية القرآن الكريم؛ لكونه وحيًا إلهيًا ونبراسًا معرفيًا وقيميًا للإنسانية، يحمل في طيّاته الأوامر والنواهي والإرشادات والتوجيهات التي تشمل جميع مجالاتِ الحياة؛ حيث إن للقرآن هدايتَه التامة في التربية والنفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة والإدارة وسائر المجالات الإنسانية، لا سيما على مستوى ترشيدِ المعرفة الإنسانية وإصلاحِها وتوجيهِها وتنويرِ طريقها إلى ما فيه صلاح الإنسان والعمران والكون، باعتبار هذه الثلاثية مهمة في تحقيق تعميرِ الأرض وتحقيقِ مقاصد الشرع في الخلق؛ حيث يوطِّن المعارف الإنسانية بما يتناسب مع هويتنا الإسلامية والعربية".

كما تحدث في حفل الافتتاح الشيخ الدكتور أحمد بن محمد بن غانم آل ثاني، مدير إدارة البحوث والدراسات الإسلامية بوزارة الأوقاف؛ إذ رحب في بدايتها بالحضور، ومن ثمّ تحدث عن أهمية المناسبة، التي تجمع بين هذا المؤتمر، وما يصاحبه من ملتقى كُتّاب الأمة، مشيرًا إلى أن "المؤتمر" يأتي إسهامًا في الجهود التي تبذل لاستئناف الدور العظيم، الذي كانت تضطلع به المعرفة القرآنية في ترشيد علوم الإنسان ومناهجه وقضاياه، وربط الباحثين بها منهجًا وغاية وعملًا.

ونوّه سعادته بأهمية "الملتقى"، مؤكدًا أنه يأتي، في جانب منه، لتسليط الضوء على سلسلة "كتاب الأمة" التي أصبحت تشكل إرثًا ثقافيًا وفكريًا قطريًا عريقًا، وقد مضى على تأسيسها وانطلاق مسيرة عطائها أكثر من أربعة عقود، اهتمت خلالها بالعمل على تحقيق أهدافها المنشودة لإعادة بناء الشخصية المسلمة، وإحياء مفهوم فروض الكفاية وأهمية التخصص، والمساهمة في بناء النخبة الراشدة، وإشاعة الوعي بأهمية المنهج السنني، متخذة من معرفة الوحي، مرجعيةً ومصدرًا لذلك.

وأكد الدكتور بدران بن لحسن، مدير مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، في كلمته في الافتتاح، على أن المؤتمر يأتي ضمن إطارَيْ التجسير والتوطين، اللذين يسعى لتحقيقهما المركز؛ إذ يهدف التجسير إلى التشبيك المعرفي بين العلوم المختلفة لمعاجلة القضايا الإنسانية والاجتماعية بصورة متكاملة دقيقة، في حين يسعى إطار التوطين إلى إعادة النظر في العلوم والمعارف والنظريات المعاصرة بما يتلاءم مع هويتنا الدينية والثقافية وينسجم مع السياقات الاجتماعية والضرورات المنهجية والتطبيقية، بما يضمن إفادة المجتمع منها.

وبعد حفل الافتتاح تتابعت جلسات المؤتمر في مدرج كلية القانون بجامعة قطر؛ حيث خصِّصت الجلسات الثلاث المنعقدة في اليوم الأول لبحث العلاقة بين القرآن الكريم والمعرفة النفسية من مختلف الأبعاد والاتجاهات والزوايا، وقد تخللت هذه الجلسات أسئلة ومناقشات من المشاركين والحضور.

وقد ناقشت البحوث المقدمة في هذه الجلسات دور القرآن في تأصيل المعرفة النفسية وتطبيقها، والتلقي القرآني للمعرفة النفسية في ضوء علم النفس الإيجابي، والتأسيس القرآني لمفهوم الوعي اللا-إرادي مقابل اللاوعي الفرويدي في التحليل النفسي، ودور القرآن في معالجة سيكولوجية تضخم الأنا في الفرد والمجتمع، ونظرية العلاج بالمعنى النفسي من خلال قصة أصحاب الأخدود، ودور القرآن في معالجة الضغوط النفسية المعاصرة في ضوء سورة الضحى، والرؤية القرآنية للسلوك البشري، والإسعافات النفسية الأولية في القرآن الكريم، وتعليم الحكمة في القرآن الكريم في ضوء أصوله التربوية ومناهجه التطبيقية.

وقد خصِّصت الجلستان الأولى والثانية لليوم الثاني لمناقشة العلاقة بين القرآن الكريم والمعرفة الاجتماعية؛ حيث تناولت البحوث المقدمة فيها دور تفسير التسوير والبصائر (التفسير الكلي) لسورة النساء في التأسيس المجتمعي للبشرية، والتنوع الاجتماعي في القرآن الكريم، وهندسة العلاقات الأسرية في الرؤية القرآنية في ضوء النظرية البنيوية الوظيفية، والتصور القرآني في تعزيز التواصل لبناء المعرفة الاجتماعية، ومعالجة القرآن الكريم لمشكلة التنافر المعرفي في المعرفة الاجتماعية، والأسس النظرية لإصلاح المجتمعات من خلال القرآن الكريم.

في حين خصِّصت الجلسة الخامسة لمناقشة دور القرآن الكريم في ترشيد المعرفة الاقتصادية، وقد تناولت البحوث المقدمة فيها قضايا مهمة ذات صلة بالاقتصاد من المنظور القرآني، مثل الرؤية القرآنية للنظام النقدي العادل، ودور المعرفة القرآنية في بناء اقتصاد عادل ومستدام، وسنة التدافع والدفع اللطيف في القرآن الكريم وعلاقته بالاقتصاد السلوكي، والسلوك الاقتصادي الرشيد في المنظور القرآني: دراسة مقارنة مع النظرية الكلاسيكية للرشد الاقتصادي.

أما الأوراق البحثية التي قدِّمت في المؤتمر؛ فقد تناولت قضايا علمية من الحقول المعرفية المذكورة في ضوء الهدايات القرآنية الربانية، وفيما يلي ذكر أهم النتائج التي توصلت إليها هذه الأوراق:

-      يشكل القرآن الكريم مصدرًا رئيسًا للمعرفة النفسية التي تعزز العلو الإنساني، والارتقاء النفسي؛ بتقديمه نموذجًا متكاملًا للسمو النفسي في جميع آياته، ولا أدل على ذلك من توجيهاته العميقة التي تركز على تحقيق الطمأنينة، والتوازن، وإظهار قيمة المعنى في الحياة، ويبدو أن هذا النموذج يتقاطع مع أحدث الاتجاهات في علم النَّفسِ الإيجابي، لا سيما في مجالاتِ البحث عن المعنى، والصمود النفسي، والتفاؤل المكتسب، والامتنان، واليقظة الذهنية، من خلال دراسة مفاهيم قرآنية مؤسسة، مثل الصبر كأداة للظفر والتحول الإيجابي، وانتصار الذات، والتوكل كإستراتيجية للثقة النفسية، والتدبر كآلية للإدراك التام والتفكر التأملي، والشكر كوسيلة لتعزيز السعادة والاستقرار النفسي.

-      إن كل الحالات الإدراكية النفسية للإنسان هي حالات وعي إما إرادية وإما لاإرادية بحسب القرآن الكريم؛ فتكون أطروحة (الوعي اللاإرادي) بديلة عن أطروحة (اللاوعي) عند فرويد، ذلك أن هذا الأخير قد انطلق في تأسيسه لنظرية التحليل النفسي من تشبيه اللاوعي وسيطرته على الإنسان بحالة الفارس المنقاد لإرادة حصان جامح، ومن ثم يحتاج الإنسان إلى تحرير طاقة اللاوعي المغذية للنوازع الغريزية لديه (الهو) فقط، التي تم كبتها بفعل (الأنا) كما تبدو من خلال الأحلام. أما افتراض مفهوم الوعي اللاإرادي كشق متكامل مع الوعي الإرادي فإنه موصول بمدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وهو الله تعالى، والأمر الذي يجعل كل الفعاليات الإدراكية والشعورية والسلوكية هي حالات وعي ببصيرة الإنسان على نفسه، وتظهر القيمة المعرفية لمفهوم الوعي اللاإرادي تطبيقيًا في ميدان أنظمة الإدارة التحكمية السيبرانية.

-      إن القرآن الكريم يقدم معرفة نفسية متكاملة تستند إلى مفاهيم، مثل الطمأنينة، الصبر، والتوازن النفسي، ما يسهم في تحقيق السكينة الفردية والاجتماعية. ومن هنا كان الربط بين المبادئ القرآنية ومجالات علم النفس الحديث مهم جدًا؛ لتطوير برامج نفسية قائمة على القيم الإيمانية؛ ومن ثم لا بد من ضرورة إدماج المفاهيم النفسية القرآنية في المناهج الدراسية والبرامج العلاجية، مع تعزيز دور العلماء والمختصين في تقديم حلول نفسية متوافقة مع القيم القرآنية.

-      يُلاحَظ في خلال الدراسة الحفرية في القرآن الكريم أن هناك حضورًا مصطلحيًا قويًا في القرآن الكريم فيما يتعلق بسيكولوجية تضخم الأنا وانعكاساتها المرضية في الفرد والمجتمع؛ حيث إن القرآن الكريم عنى بأسباب المرض والصفات الأخلاقية للمريض، واكتشاف العلاجات الناجعة في التطبيب المتميزة بتظهير دور المعالج، واستصحاب الدين والأخلاق، والمزاوجة بين اللين والعنف في المعالجة. وهناك توافق بين القرآن وعلم النفس في الحكم بالتمريض، كما ظهر اعتماد القرآن على الدين وأخلاقه، وانعزال علم النفس عنهما، علمًا بأن المقارنة بينهما صعب وشاق لتعدد المدارس النفسية، واحتدام الخلاف بينها في أصح طريقة في العلاج.

-       يظهر من دراسة نظرية العلاج بالمعنى من خلال قصة أصحاب الأخدود في القرآن الكريم أن الإيمان بالله تعالى يعد المعنى الأسمى الذي أدركه أصحاب الأخدود؛ ومن ثم تحملوا في سبيله المعاناة والتضحيات، وقدموا حياتهم من أجله. ويمكن الإفادة من نظرية العلاج بالمعنى في ممارسة العلاج النفسي من منظور إسلامي، مع التأصيل الذي قدمه الباحث لهذه النظرية وفق التصور الإسلامي، ومقترح البرنامج الإرشادي للمختصين بالعلاج النفسي يقوم على سرد قصة أصحاب الأخدود للمسترشدين لاستخراج المعنى منها، باعتبار القصة إحدى فنيات العلاج بالمعنى.

-      إن القرآن الكريم تحدث عن خمسة سياقات عامة في سياق الحديث عن السلوك البشري؛ حيث يمكن أن تتشكل فيها أو بها السلوكيات البشرية، وتتمثل في التصنيف العضوي البيولوجي الذي يشمل الأعضاء التي قد يستخدمها الإنسان في إحداث الحركة أو الفعل؛ والتصنيف المَوضِعي – داخلي/خارجي – الذي يتمثل فيما يصدر من أفعال داخلية – باطنية – من أفكارٍ ومشاعرٍ، أو خارجية مثل الكلام، والبطش، وغيرها؛ والتصنيف النسقي الذي يقصد به ما هي الفئات أو الأنساق الاجتماعية التي يتعامل معها الإنسان؛ والتصنيف الجغرافي الذي يعني الفضاء الجغرافي الذي قد يقع فيه الفعل البشري؛ والتصنيف الزماني الذي يقصد به السياق الزماني الذي قد تقع فيه الحركة والفعل البشري. ومن ثم قدّم القرآن الكريم مقاربة تكاملية للتصنيف السلوكي الكلي.

-      إن القرآن الكريم يقدم إطارًا مرجعيًا متكاملًا لتطوير نموذج للإسعاف النفسي، يتسم بالشمولية والملاءمة؛ حيث إن القرآن الكريم يقدم معجمًا دلاليًا ثريًا يصف بدقة الحالات النفسية حال الإسعاف، كما يقدم نموذجًا لإدارة المشقة النفسية من خلال قصة الإفك وغيره، ويرى الباحث أنه يمكن تطوير دليل لمهارات الإسعافات النفسية الأولية بمضمون قرآني.

-      في ظل التحولات الفكرية والأخلاقية الراهنة، تزداد أهمية ترسيخ قيم الحكمة وتنميتها في نفوس الأجيال الناشئة؛ في عالم متسم بطغيان المادية، والتسارع التكنولوجي، وما رافقهما من تشتت ذهني وشعور بالتشبع المعرفي. وقد عملت هذه الورقة البحثية على الإسهام في تدارك النقص الذي تعانيه المنظومة التربوية المعاصرة في مجال الدراسات التي تهدف إلى مواجهة الآفات الفكرية والسلوكية التي يشهدها عالمنا اليوم؛ من خلال تقديم حلول لهذه التحديات من منظور إسلامي أصيل منبثق من منهج الحكمة القرآنية وتجلياتها العملية في السنة النبوية. ومن ثم عمدت الدراسة إلى استقراء آيات الذكر الحكيم، وما صح من سنة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، من أجل التوصل إلى الأصول التربوية للحكمة في الوحيين مقارنة بالنظريات الفلسفية والمناهج التربوية الحديثة؛ من أجل اقتراح مشروع تربوي لتعليم الحكمة في السياق المعاصر.

-      يمثِّل القرآن الكريم منهجًا متكاملًا في تأسيس المعرفة الإنسانية بكافة أبعادها، وتبرز سورة النساء باعتبارها أنموذجًا فريدًا في تقديم الرؤية القرآنية للمعرفة العليا بنشأة الإنسانية، وتنظيم حياتها؛ فتؤسِّس لبناء المجتمع الإنساني على أجمل الأسس القويمة، وتقدِّم حلولًا جذرية للمشكلات المتجددة بصورة مدهشة، وتبني نظامًا اجتماعيًّا متكاملًا يحقِّق السعادة والاستقرار للمجتمع الإنساني. وينفرد هذا البحث بالتدقيق في المعرفة الكلية التي تقدِّمها سورة النساء؛ إذ يفاجأ المستبصر المتدبر بالحجم الضخم للمعرفة التي تقدِّمها هذه السورة في تأسيس الجانب الاجتماعي، وتنظيمه للحياة الإنسانية، وتقديمها الحل الشامل للقضايا الإنسانية تاريخًا وواقعًا وتنظيمًا، ونجد فيها تصحيحًا للنظريات التي بَحَثتْ في النشوء الاجتماعي للإنسانية رجمًا بالغيب.

-      يُعد التنوع الاجتماعي سمة أساسية للمجتمعات البشرية ومصدر قوة، ويتناول القرآن الكريم هذا التنوع بوصفه جزءًا من النظام الإلهي الذي يهدف إلى تحقيق التكافل والتوازن بين البشر؛ إذ أبرز البحث التنوع في القدرات والإمكانات، والتنوع الثقافي والديني، وغيرها من المظاهر، وركّز على القيم القرآنية التي تعالج هذا التنوع؛ حيث إن التنوع الاجتماعي في القرآن يحقق التوازن والتكامل في المجتمع إذا قام على القيم القرآنية كالعدل والتكافل الاجتماعي والاحترام.

-      إن القرآن الكريم اهتم بالعلاقات الأسرية المتنوعة، وبيّن القيم الموجّهة لها، التي تمتن شبكتها في المجتمع، وحذّر من الأمور التي تفكك تلك الشبكة، وهذه الهدايات الربانية تلتقي في بعض نقاطها مع نظرية البنيوية الوظيفية حول العلاقات الأسرية، ألا أن المعالجة القرآنية تتسم بالشمول والإحاطة؛ في حين أن المعالجة البنيوية تتصف بالأحادية والنقص والتحيز.

-      إن انتشار الإسلام في زمن قصير، وبناء منظومة معرفية مؤثرة اجتماعيًا ذات صبغة عالمية حضارية، تجعلنا نقف أمام نموذج فريد، ومنهج دقيق في التواصل المعرفي الاجتماعي، الذي وضع أسسه القرآن، ومارسه النبي ، وتفاعلت معه العقول البشرية المبدعة على اختلاف لغاتها، وهذا النمط من التواصل يمثل نشاطًا منظمًا يستند إلى أصول مدروسة للتأثير المعرفي في المجتمع، ويراعي دور النخب والرأي العام في التفاعل المعرفي.

-      إن القرآن الكريم أسهم إسهامًا كبيرًا في معالجة مشكلة التنافر المعرفي؛ بتقليل الأساليب العلمية العقلية المتنوعة، وإزالتها، وتوجيه أصحابها إلى الاعتدال الفطري والاطمئنان النفسي للحقائق والمعتقدات الصحيحة، كما أسهم في معالجة المشكلات الاجتماعية المعقدة، والحد من انتشارها وتطورها، وتقديم الحلول الآنية، والمتدرجة، ومنع وسائلها ودوافعها.

-      إن القرآن الكريم أعطى منهجًا عامًا في الإصلاح من منطلق التصرفات النبوية يقضي بإناطة الأولويات الإصلاحية بتقدير المصالح والمفاسد، وأنه ضَمِن استمرار فاعلية النبوة في الإصلاح وأمانَه من الآثار السلبية للاختلاف بأساسَيْن نظريين؛ يرجع الأول منهما إلى المرجعية المتمثلة في مرجعية القيادة الملزمة، ثم مرجعية الاجتهاد التخصصي الملزِم؛ في حين يرجع الثاني إلى الهيكلة المتمثلة في نظام الدولة والمؤسسات، ثم في تأطير القوانين والتشريعات.

-      إن النقود في الإسلام ينبغي أن تستند إلى قيمة جوهرية تضمن الاستقرار والعدالة، والتحول من النقود الذاتية إلى الورقية شكّل انقلابًا على المفهوم الشرعي للنقد، كما أثبتت التجربة التاريخية تفوّق الذهب في حفظ القوة الشرائية؛ إذ أكدت الدراسة أن استعادة نظام نقدي عادل ليس أمرًا مستحيلًا؛ بل ممكنٌ بشرط وجود قرار سيادي وإطار فقهي وتقني متكامل، يدمج الغطاء الذهبي بالتقنيات الرقمية لتحقيق العدالة والاستقرار في المعاملات المالية في ضوء الرؤية القرآنية المتكاملة.

-      إن المعرفة القرآنية تقدم بديلًا حضاريًا قادرًا على إصلاح النظام الاقتصادي العالمي؛ من خلال ترسيخ العدالة الاجتماعية، وتعزيز الاستدامة، وتكامل البعدين المادي والروحي، والإنتاج العادل القائم على استغلال الموارد بعدالة، وتجنب الاحتكار والإسراف. من خلال التوزيع العادل المبني على الزكاة والوقف والضمان الاجتماعي، وإدارة الأزمات الاقتصادية بالتخطيط واستشراف الأزمات، وتنفيذ سياسات اقتصادية رشيدة قائمة على الترشيد والتوزيع العادل؛ كما نجده في قصة يوسف –عليه السلام –. ويوصي الباحث بضرورة إدماج المبادئ القرآنية في السياسات الاقتصادية المعاصرة لضمان اقتصاد إنساني عادل ومستدام.

-      يقدم القرآن الكريم، كنص إلهي خالد، إطارًا شموليًا تمتزج فيه الحكمة الروحية بالتوجيه العملي لمعالجة التحديات الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة؛ إذ نلاحظ من خلال تحليل "سنّة التدافع" القرآنية مقارنة بنظرية "الدفع اللطيف" في الاقتصاد السلوكي، أن سنّة التدافع القرآنية تتسم بالشمولية والتكاملية؛ في حين أن "نظرية الدفع اللطيف" تتسم بدقتها الفردية وقابليتها للقياس. ومن ثم اقترح البحث دمج الرؤيتين لتصميم سياسات اقتصادية تحترم القيم الإسلامية، وتعزز الشفافية، والرقابة الذاتية؛ من خلال تقديم "الدفع اللطيف الإسلامي" كمفهوم نظري وعملي يجمع بين الحوافز الروحية والأدوات السلوكية، موفرًا إسهامًا علميًا يضيف بُعدًا أخلاقيًا للاقتصاد السلوكي؛ إذ تتجلى قيمة هذا المقترح في دعوته لاستلهام القرآن الكريم في تطوير سياسات مستدامة؛ مما يعزز الثقة في الأسواق والمجتمعات المسلمة، ويفتح آفاقًا للتعاون متعدد التخصصات.

-      تبين من خلال المقارنة بين النظرية الاقتصادية الإسلامية المنبثقة من السياق القرآني والنظرية الاقتصادية الكلاسيكية السائدة في العصر الحديث، في مصطلح الرشد الاقتصادي، أن المفهوم القرآني للرشد الاقتصادي يتميز بخصائص فريدة غير موجودة في النظرية الاقتصادية الكلاسيكية؛ إذ قدم القرآن الكريم مفهومًا دلاليًا للرشد الاقتصادي مختلفًا تمامًا عن مفهومه في الاقتصاد الكلاسيكي، تتمثل أهم معالمه في كونه مكتسبًا قائمًا على حسن التصرف، وحسن الديانة اللذين يضبطان السلوك الإنساني بموجهات قيمية؛ حيث يشمل مفهوم الرشد القرآني العقل والروح والجسد، كما يوسع البعد الزماني للانتفاع إلى ما يشمل الآخرة؛ مما يكسب مفهوم الأنانية معنًى غيريًا.