cid:image007.png@01DA94D4.752A8770Publizieren – Why Open Access? تاريخ الاستلام: 4 سبتمبر 2025 | تاريخ القبول: 14 سبتمبر 2025

 

 

 

مراجعة كتاب

"مضاد للخداع: لماذا تصيب المعلومات المضللة أذهاننا وكيف نبني مناعة ضدها"، لساندر فان دير ليندن

مراجعة: محمد المرسي https://orcid.org/0009-0002-7471-5570

ماجستير علم النفس، العمل والتعليم/التنمية والقانون والصحة، جامعة يينا ألمانيا

mohamed.elmoursi@uni-jena.de

Book Review

Foolproof: Why Misinformation Infects Our Minds and How to Build Immunity, by Sander van der Linden

Review by: Mohamed Elmoursi

Master’s degree in Psychology - Work, Education/Development, Law, and Health, University of Jena – Germany

mohamed.elmoursi@uni-jena.de

 

Book Title: Foolproof: Why Misinformation Infects Our Minds and How to Build Immunity

Authored by: Sander van der Linden

Edition: English language

Publisher: W.W. Norton & Company

Year of Publishing: 2023

No. of pages: 368 pages

عنوان الكتاب: مضاد للخداع: لماذا تصيب المعلومات المضللة أذهاننا وكيف نبني مناعة ضدها

المؤلف: ساندر فان دير ليندن

الإصدار: باللغة الإنجليزية

الناشر: نورتون وكومباني

سنة النشر: 2023

عدد الصفحات: 368 صفحة

ISBN:                       978-0393881448 (Hardcover) / 978-0393881455 (eBook)

الترقيم الدولي (ردمك):

 

 

للاقتباس: المرسي، محمد. "مراجعة كتاب: مضاد للخداع: لماذا تصيب المعلومات المضللة أذهاننا وكيف نبني مناعة ضدها، لساندر فان دير ليندن "، مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، المجلد السابع، العدد 2 (2025): 00-00. https://doi.org/10.29117/tis.2025.0235

© 2025، المرسي، الجهة المرخص لها: مجلة تجسير، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وتنبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأي وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


 


مقدمة

يقدم ساندر فان دير ليندن (S. V. Linden) في كتابه إطارًا تفسيريًا بالاعتماد على استعارة طبية؛ إذ يقترح أن المعلومات المضللة ليست محصورة على ضعفٍ معرفيٍ، أو أخطاءٍ فرديةٍ؛ بل هي بمثابة فيروس ذهني يمكن أن يصيب المجتمعات وأن ينتشر بينها كالوباء. حينها لا يقتصر أثر ذلك الفيروس على تشويه المعلومات، أو الإدراك، وإنما يغيّر أنماط التفكير والسلوك لدى من يصيبه. ولذلك أصرّ ليندن على أهمية اكتساب مناعة معرفية، أو لقاح نفسي للتمكن من مقاومة التضليل قبل أن يترسخ في أذهان الأفراد ويصبح من الصعب معالجته. يتناول ليندن هذه المعلومات بلغة مبسطة، حيث إن الجمهور المعنى بهذا الكتاب هم العامة غير المتخصصين، وعلى الرغم من ذلك فإن المعرفة المتناولة فيه ذات قيمة علمية كبيرة للمتخصصين، سواء كمقدمة بحثية في علم التضليل، أو للتعرف على أحد فروع علم النفس الاجتماعي. وقد عزز ليندن أفكاره بأمثلة تاريخية وأبحاث نظرية وعملية، مما ساهم في وضع إطار علمي واضح لمحتوى الكتاب من جوانب متعددة.

يستند ليندن في كتابة إلى نظرية "التطعيم النفسى" التي طورها ويليام ماكغواير (William McGuire)، مبينا أوجه التشابه بينها وبين اللقاحات الطبية؛ فكما تُعرّض الأجهزة المناعية لجرعات ضعيفة من الفيروس لتوليد أجسام مضادة، يمكن أيضًا تعريض الأفراد لجرعات محدودة من الأخبار والأقاويل الكاذبة لتنشيط مناعة معرفية تعينهم على مقاومة المعلومات المضللة. وتُعد هذه النظرية إضافة نوعية ومميزة إلى أدبيات مكافحة التضليل، التي ركزت في الغالب على التحقق من الحقائق في المعلومات المتداولة.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء:

الجزء الأول: فيروسات العقل

يستهل ليندن الكتاب بمناقشة قابلية عقلية الإنسان للخداع، وقد أطلق على هذه المسببات لقب "فيروسات العقل". تتركز الفكرة هنا على أن المعلومات المضللة لا تعمل بمعزل عن إدراك الإنسان، بس تستغل نقاط الضعف المعرفية والانفعالية في العقل على نحو يشبه استغلال الفيروس البيولوجي لنقاط ضعف الجهاز المناعي. وقد أشار المؤلف إلى عدة انحيازيات معرفية التي تُعد ثغرات تستغلها هذه الفيروسات المعرفية. فعلى سبيل المثال، يؤدي انحياز التأكيد إلى دفع الأفراد نحو البحث عن المعلومات التي تدعم معتقداتهم السابقة وتجاهل ما يتناقض معها، بينما يجعل انحياز التوافر الناس أكثر ميلا لتصديق المعلومات التي يسهل عليهم استدعاؤها من الذاكرة، حتى إن كانت غير دقيقة، أو مضللة. وأكد ليندن خطورة هذه الانحيازيات في السياقات السياسية والأيديولوجية، إذ تتحول المعلومات المضللة إلى وسيلة لتعزيز الهوية والانتماء، مما يجعل الأفراد أكثر استعدادا لتصديقها حتى مع إدراك ضعفها. كما أن طبيعة التفكير السريع والحدسي تجعل العقل أكثر قابلية للانفعال بالمحتوى المثير والصادم مقارنة بالمعلومات المحايدة، أو المعقدة.

الجزء الثاني: وباء المعلومات: كيفية انتشار الفيروسات المعرفية

يعرض فان دير ليندن في هذا الجزء كيف أن المعلومات المضللة ليست ظاهرة جديدة؛ بل جرى توظيفها استراتيجيا في أحداث تاريخية محورية. من الأمثلة التي يناقشها: حرب العراق، حيث استخدمت مزاعم خاطئة حول أسلحة الدمار الشامل لتبرير التدخل العسكري، وفضيحة لقاح واكفيلد (Wakefield) التي أعانت حركة مناهضة اللقاحات، والهولوكوست الذي رافقته حملات دعائية مضللة. تكشف هذه الحالات أن التضليل لم يكن مجرد عرض جانبي؛ بل عاملا مؤثرا قاد إلى عواقب سياسية وصحية واجتماعية جسيمة. كما يوضح المؤلف أن وسائل التواصل الاجتماعي ضاعفت من خطورة الظاهرة عبر خلق "غرف صدى" وفقاعات ترشيح خوارزمية، حيث يتعرض الأفراد لمحتويات تؤكد توجهاتهم وتعزز انقساماتهم. هذه البنية التقنية سهلت الانتشار السريع والواسع للأخبار الكاذبة، وحولت التضليل من ظاهرة محدودة النطاق إلى تهديد عالمي متصاعد. كما أدت أيضًا إلى تطوير ما سماه بـ “سلاح الإقناع الجماهيرى الجديد" (The new weapon of mass persuasion) القادر على التنبؤ بسمات الأفراد النفسية من خلال "البصمات الرقمية" التي يتركونها على الإنترنت، واستغلالها في الاستهداف الدقيق.

وأشارت الأدلة التجريبية التي يعرضها المؤلف إلى أن الحملات السياسية قادرة – عبر تحليل بيانات مثل الإعجابات على فيسبوك – على تصميم رسائل دعائية مخصصة تلائم ميول الأفراد وسماتهم الشخصية. ورغم أن تأثير الخبر الكاذب الواحد قد يبدو محدودا، فإن استهداف الأفراد الأكثر قابلية للإقناع يمكّن هذه الحملات من تحقيق تأثيرات واسعة النطاق عبر آلاف الرسائل الموجّهة لملايين الأشخاص. وبذلك، تصبح قابلية الاستهداف النفسي أهم من الخبر نفسه؛ فهذا يمكّن الجهات السياسية والاقتصادية من تضخيم آثار الإقناع بشكل لم يكن ممكنا في العصور السابقة. وينهى الكاتب هذا الجزء بالتأكيد على أن المعرفة بهذه الإستراتيجيات وفهم كيفية تصميم الرسائل المضللة يمثلان خطوة أساسية في تطوير المناعة المعرفية اللازمة لمواجهة هذه الموجة الجديدة من الدعاية الرقمية.

الجزء الثالث: اللقاح النفسي ضد المعلومات المضللة

في الجزء الثالث، ينتقل بنا ليندن من تشخيص المشكلة إلى طرح الحل عبر تطوير نظرية التطعيم النفسي لمواجهة المعلومات المضللة. فبالتعلم من اللقاحات الطبية التي تعرّض الجسم لجرعات ضعيفة من الفيروس لبناء المناعة، يقترح المؤلف تعريض الأفراد مسبقا لنسخ مخفَفة من التضليل، مع تزويدهم بالأدوات اللازمة لتفكيكه. وتظهر نتائج التجارب التي أجراها مع فريقه البحثي أن المشاركين الذين تلقوا هذا النوع من "التحصين المعرفي" كانوا أكثر قدرة على الحفاظ على مواقفهم الصحيحة حتى بعد التعرض المباشر لحملات تضليل، مثل تلك التي أنكرت وجود إجماع علمي حول التغيّر المناخي.

يقدم المؤلف أيضًا إطارا تحليليا أطلق عليه "ديبكت" (DEPICT): وهي كلمة مركبة من:

-      التشويه (Discrediting)

-      الاستثارة العاطفية (Emotion)

-      الاستقطاب (Polarization)

-      الانتحال (Impersonation)

-      نظرية المؤامرة (Conspiracy)

-      التصيّد (Trolling)

يحدد من خلاله ستة أنماط للتلاعب في التضليل: التشويه، الاستثارة، العاطفية، الاستقطاب، الانتحال، نظريات المؤامرة، والتصيد. وقد جرى توظيف هذا الإطار عمليا في لعبة تعليمية تفاعلية بعنوان الأخبار السيئة، أثبتت فعاليتها في تدريب المشاركين على التعرف إلى أساليب التضليل وتقليل قابليتهم لتصديق الأخبار الكاذبة. غير أن ليندن يشدد على أن الهدف النهائي لا يقتصر على حماية الأفراد؛ بل يتعداه إلى الوصول إلى مستوى من المناعة الجماعية يشبه "مناعة القطيع" في علم الأوبئة. فليس من الواقعي افتراض أن كل شخص سيقبل بالتطعيم النفسي، ولكن إذا تلقى عدد كاف من الأفراد هذا النوع من التحصين، فإن أثره سيمتد لحماية المجتمع ككل ويقلل فرص انتشار المعلومات المضللة. ولتحقيق هذا الهدف، يؤكد المؤلف ضرورة أن تكون هذه اللقاحات النفسية قابلة للتوسع عالميا، وهو ما بدأ يتحقق بالفعل عبر شراكات مع حكومات ومنظمات دولية كبرى، مثل الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، إضافة إلى التعاون مع شركات تكنولوجيا مثل يوتيوب. وبرغم من أن التركيز الأولي كان مواجهة التضليل المرتبط بجائحة كوفيد-19، يرى المؤلف أن هذا النموذج قابل للتطبيق على قضايا اجتماعية وسياسية أوسع. ويبرز ليندن ميزة إضافية لهذه اللقاحات النفسية، وهي أنها افتراضية بالكامل، مما يمنحها قدرة غير محدودة على الوصول. فهي ليست مقيدة بلعبة، أو مقطع فيديو، أو رسالة بعينها؛ بل يمكن أن تتخذ أشكالا متعددة تتكيف مع السياقات الثقافية واللغوية المختلفة، ما يمنحها إمكانات واسعة لتحقيق الحماية المعرفية على نطاق عالمي.

الخاتمة: مستقبل الحقيقة

في الخاتمة، يؤكد ليندن أن المعلومات المضللة ستستمر في التطور لتصبح أكثر تعقيدا وعدوى، ما يفرض تحديا مستمرا على فعالية اللقاحات النفسية. ومن هنا تأتي الحاجة إلى تطوير لقاحات واسعة الطيف قابلة للتحديث المنتظم، على غرار لقاحات الإنفلونزا، لمواجهة سلالات جديدة من التضليل مثل تقنيات الديب فيك (Deepfake) والفيديوهات المفبركة.

يرى المؤلف أن التركيز على تقنيات التضليل –كالتشويه والاستقطاب، أو الانتحال – أكثر فاعلية على المدى الطويل من التركيز الحصري على الحقائق، نظرا لأن تعريف الحقيقة قد يتغير مع تراكم الأدلة، بينما تظل أساليب التلاعب الأساسية ثابتة نسبيا. كما يشير إلى أن المواجهة تتطلب مقاربة متعددة المستويات: بداية بالتحصين المعرفي الاستباقي كخط دفاع أول، فالتحصين العلاجي والتصحيح الفوري، ثم آليات دحض التضليل بعد انتشاره. ويؤكد أن العبء لا يقع على الأفراد وحدهم؛ بل يشمل أيضًا شركات التكنولوجيا التي تتحكم في تدفق المعلومات، والتي غالبا ما تفتقر إلى حوافز مؤسسية لتعزيز الدقة على حساب التفاعل والربح. ويختتم ليندن بالتأكيد على أن بناء مناعة معرفية جماعية وتغيير بيئة المعلومات الرقمية يمثلان الخطوة الأساسية للحد من مخاطر الانتقال إلى مجتمع ما بعد الحقيقة.

تحليل مضمون الكتاب وحدوده المعرفية

في ضوء التطورات التكنولوجية المتسارعة، أصبحت قضية المعلومات المضللة من الموضوعات الحرجة التي تؤثر على المجتمعات بشكل مباشر وعميق؛ إذ لم تعد المعلومات الخاطئة، أو المضللة مجرد أخطاء فردية، أو سوء فهم؛ بل تحولت إلى أداة منظمة يمكن توظيفها للتأثير على الرأي العام، وتقويض الثقة في المؤسسات، وحتى التأثير على الانتخابات وصنع السياسات على المستويين الوطني والدولي. وقد عززت تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة هذا التحدي، من خلال تمكين إنتاج محتوى كاذب، أو مفبرك بسرعة ودقة عاليتين، بما في ذلك النصوص والصور والفيديوهات المزيفة، ما يجعل من الصعب على الأفراد التمييز بين المعلومات الحقيقية والمضللة[1].

تزيد القدرة على الاستهداف الدقيق للمستخدمين عبر تحليل بياناتهم الرقمية وسلوكهم على الإنترنت من فعالية التضليل، وتحوّل وسائل التواصل الاجتماعي إلى بيئات مثالية لتسريع انتشار الأخبار الكاذبة بين جمهور واسع ومتعدد الشرائح. علاوة على ذلك، أصبح التضليل اليوم ظاهرة متعددة المستويات، تشمل الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية؛ إذ لا يقعون ضحية المعلومات المضللة بسبب ضعف معرفتهم فحسب؛ بل أيضًا نتيجة الانحيازات المعرفية التي وصفها علماء النفس مثل دانيال كانيمان (Daniel Kahneman)، والتي يستغلها منتجو المحتوى المضلل[2]. كما قد يدفع الانتماء الجماعي الأفراد إلى تبني رسائل مضللة، حتى وإن شككوا في دقتها، طالما أنها تعزز هويتهم السياسية، أو الاجتماعية.

من الناحية الاجتماعية والسياسية، أوضح كاس سنستين (2018Cass R. Sunstein, ) من خلال دراساته حول "غرف الصدى"[3] أن البنية المغلقة للتواصل الرقمي تعيد إنتاج المعلومات نفسها وتمنع الانفتاح على الآراء المختلفة، مما يؤدي إلى تعميق الاستقطاب. وتشير الدراسات الحثية الحديثة إلى أن التضليل أصبح جزءًا من استراتيجيات منظمة تهدف إلى تقويض الثقة في المؤسسات الديمقراطية والتأثير على السياسات العامة[4].

وبالنظر إلى هذا الوضع، يتضح أن الاستراتيجيات التقليدية للتحقق من الحقائق لم تعد كافية، وأن هناك حاجة إلى تطوير أدوات وأساليب أكثر شمولية. يشمل ذلك التحصين المعرفي للأفراد كما أوضح فان دير ليندن وزملاؤه (2017)[5]، وتعزيز مناعة المجتمع ضد الحملات المضللة، بالإضافة إلى دور رقابي وتنظيمي أكثر صرامة لشركات التكنولوجيا والمنصات الرقمية. ومن هذا المنطلق، يشكل الكتاب إسهامًا محوريًا في بلورة إطار يساعد الأفراد والمجتمعات على مواجهة موجات التضليل في عصر يعاد فيه تشكيل حدود الحقيقة بواسطة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

يمتاز هذا الكتاب إذن، بعدد من الخصائص التي تجعله إسهامًا فريدًا في فهم ظاهرة المعلومات المضللة من منظور متعدد التخصصات. أول ما يلفت النظر هو اعتماده على قاعدة علمية متينة؛ إذ يستند ليندن إلى نظرية "التطعيم النفسي" التي طورها ويليام ماكغواير في ستينيات القرن الماضي، ويطوّرها من خلال تجارب معاصرة تؤكد أن الأفراد يمكن تحصينهم معرفيًا ضد التضليل قبل أن يترسخ في أذهانهم. هذا البعد النفسي يرتبط بشكل مباشر بما طرحه دانيال كانيمان حول "لتفكير السريع والبطيء"، حيث يوضح أن قابلية الأفراد للانحيازات الذهنية والانفعالية تفتح الباب أمام التأثير المضلل.

لكن قوة الكتاب تكمن أيضًا في ربطه هذا البعد النفسي بالمستوى الاجتماعي والإعلامي. فقد أظهر كاس سنستين أن "غرف الصدى" في الفضاء الرقمي تعيد تدوير القناعات وتغلق الأفراد داخل دوائر فكرية ضيقة، ما يضاعف من أثر الانحيازات الفردية التي وصفها كانيمان. ومن هنا يأتي دور المقاربة السياسية، حيث يبرز كلير واردل (Claire Wardle) وحوسين درخشان (Hossein Derakhshan) أن هذه الديناميات الإعلامية لا تؤدي فقط إلى تضليل الأفراد؛ بل تهدد أيضًا البنية الديمقراطية من خلال تعميق الاستقطاب وفقدان الثقة بالمؤسسات.

ويتكامل هذا البعد مع المستوى التكنولوجي، حيث يشير روبرت تشيسني (Robert Chesney) ودانيال سيتـرون (Danielle Citron) إلى أن أدوات مثل التزييف العميق تمثل جيلًا جديدًا من التضليل الذي يتجاوز النصوص والصور إلى إنتاج واقع بصري يصعب التحقق منه. وهنا يتضح أن ماكغواير وليندن يقدمان استراتيجيات معرفية وقائية على مستوى الفرد، بينما تسلط تحليلات سنستين واردل ودرخشان وتشيسني وسيتـرون الضوء على الحاجة إلى حلول مؤسسية وتنظيمية لضبط بيئة المعلومات الرقمية.

بهذا، يصبح الكتاب مثالًا على التكامل بين علم النفس والإعلام والسياسة والتكنولوجيا. فهو لا يقتصر على تقديم إطار نظري، أو أدوات معرفية؛ بل يفتح الباب أمام مقاربة شاملة تجمع بين المستويات الفردية والجماعية والمؤسسية. إضافة إلى ذلك، فإن لغة المؤلف السهلة والقصص التي يوردها تجعل النص جاذبًا للقارئ العام دون أن يفقد عمقه الأكاديمي، مما يجعله مرجعًا علميًا ودليلًا عمليًا وفي الوقت نفسه لمواجهة التضليل في عالم متشابك الأبعاد.

وعلى الرغم من القيمة العلمية الكبيرة للكتاب وما يقدمه من طرح منهجي مبتكر، إلا أن هناك عددا من الملاحظات النقدية الجديرة بالذكر؛ يتمثل أولها في الاعتماد شبه الكامل على المنظور النفسي الاجتماعي لتفسير ظاهرة المعلومات المضللة، إذ ينطلق الكتاب من افتراض أن الأفراد لا يدعمون السياسيين، أو النخب إلا إذا صدقوا المعلومات التي تعرض عليهم. غير أن في عصرنا الحالي، يقوم بعض الأفراد بدعم بعض السياسيين حتى عندما يدركون أنهم يقدمون معلومات زائفة، بدافع الولاء الحزبي، أو الهوية الجماعية، هذا يثير تساؤلات حول مدى كفاية التطعيم النفسي كاستراتيجية لمواجهة التضليل، خاصة في البيئات السياسية المستقطبة، حيث تتقاطع العوامل النفسية التي أشار إليها كانيمان مع الأبعاد الاجتماعية والسياسية التي تناولها باحثون في مجال الإعلام مثل كلير واردل وحوسين درخشان.

كما يركز الكتاب بشكل مفرط على الحلول الفردية (مثل التطعيم النفسي والوعي النقدي) الذي طوره ويليام ماكغواير ثم طوره لاحقًا ليندن، بينما لا يمنح اهتمام كافيا للحلول المؤسسية والتنظيمية. فالمؤلف يسلط الضوء على دور شركات التكنولوجيا في تعزيز التضليل من خلال خوارزمياتها، لكنه لا يقدم مقترحات عملية واضحة لإعادة هيكلة الحوافز الاقتصادية لهذه المنصات، أو لتطوير آليات تنظيمية صارمة تفرض على هذه الشركات مسؤولية أكبر تجاه الدقة والموثوقية. وهنا تبرز إشكالية إضافية، إذ أن المعرفة التي يقدمها الكتاب قد تتحول إلى سلاح ذي حدين؛ فقد تستخدم الشركات الممول لهذه الأبحاث نتائجها لتعزيز قدراتها على تصميم رسائل أكثر إقناعًا وتلاعبًا، مستغلة فهمها للانحيازات المعرفية والانفعالية لتحقيق أهداف تجارية، أو سياسية غير معلنة، بدلًا من توظيفها فقط لحماية المجتمعات.

إضافة إلى ذلك، فإن الاعتماد الكبير على استعارة "الفيروس" رغم قوتها التوضيحية قد يؤدي أحيانا إلى تبسيط الظاهرة وإغفال أبعادها السياسية والاقتصادية العميقة، مثل دور المال السياسي، واللوبيات، والشبكات العابرة للحدود التي تعمل بشكل منظم لنشر التضليل. فعلى سبيل المثال، لا يتم التطرق إلى بعض البرامج الكبرى والمعقدة التي تمول وتدار على نطاق واسع لنشر التضليل، ومن أبرزها الحملات الرقمية الإسرائيلية المعروفة باسم "هاسابارا" (Hasbara). تقوم هذه الحملات على تنظيم شبكات واسعة من الحسابات الآلية والمتصيدين الإلكترونيين لنشر محتوى محدد يهدف إلى الدفاع عن السياسات الإسرائيلية وتشويه التقارير الحقوقية والإعلامية المتعلقة بالاحتلال. كما تشمل استراتيجياتها خلق سرديات معينة لتوجيه الرأي العام، وزرع الشكوك حول التقارير النقدية، أو المستقلة، ما يؤدي إلى نشر الشك والمعلومات الخاطئة. إلى جانب ذلك، تلعب اللوبيات الإسرائيلية في الولايات المتحدة دورا مركزيا في توجيه الخطاب السياسي والإعلامي، من خلال دعم سياسات معينة، أو التأثير على صياغة التشريعات، ما يعزز من قدرة "هاسابارا" على نشر رسائلها بشكل مؤثر، ليس فقط داخل المجتمع الأمريكي؛ بل أيضًا على الساحة الدولية، بما في ذلك التأثير غير المباشر على الانتخابات الأمريكية عبر تشكيل اتجاهات الرأي العام بشأن قضايا الشرق الأوسط والسياسة الخارجية.

أخيرا، يلاحظ أن العمل لا يمنح مساحة كافية لمناقشة التفاوتات الثقافية والجغرافية في التعامل مع المعلومات المضللة. فبينما يركز التحليل بشكل أساسي على السياق الغربي، خصوصا الولايات المتحدة وأوروبا، تبقى قضايا التضليل في الجنوب العالمي، أو في مناطق النزاع أقل حضورا، على الرغم من أن هذه السياقات غالبا ما تكون أكثر هشاشة أمام الحملات الممنهجة نتيجة ضعف البنية الإعلامية، محدودية الوصول إلى مصادر موثوقة، أو طبيعة النظم السياسية فيها. إن تجاهل هذه الفوارق يعكس محدودية الإطار التحليلي الذي يميل نحو مركزية غربية، ما قد يقلل من القدرة على فهم التنوع الكبير في الاستراتيجيات والأهداف المرتبطة بالمعلومات المضللة على المستوى العالمي.

في الختام، يمكن القول إن الكتاب يمثل إسهامًا مهمًا وواعدًا في فهم ظاهرة المعلومات المضللة وأساليب مواجهتها، إذ يقدم إطارا نظريا وتجريبيا متكاملا يجمع بين البساطة العلمية والعمق الأكاديمي. فهو يوضح بشكل فعال كيف يمكن للتضليل أن يعمل كفيروس ذهني يستغل الانحيازات المعرفية والانفعالية للأفراد، ويبرز أهمية تطوير مناعة معرفية جماعية لمواجهة هذه الظاهرة. وفي الوقت نفسه، تشير النقاط النقدية إلى أن التركيز على الحلول الفردية وعلى السياق الغربي بشكل أساسي، بالإضافة إلى محدودية التطرق للتأثيرات السياسية المعقدة، يشكل جوانب يمكن تطويرها، أو تجاوزها في الدراسات المستقبلية.

ورغم هذه الملاحظات، يظل الكتاب مرجعًا قيمًا لكل من الباحثين وصناع السياسات وعامة القراء، لما يوفره من أدوات معرفية وعملية لفهم التضليل ومواجهته في عصر تتسارع فيه التكنولوجيا وتزداد فيه خطورة المحتوى المضلل، خصوصا مع انتشار الذكاء الاصطناعي وتقنيات التلاعب بالمعلومات. ومن ثم، يمكن اعتباره نقطة انطلاق قوية لدراسات مستقبلية تسعى لتوسيع نطاق التحصين المعرفي ليشمل السياقات الثقافية والجغرافية المختلفة، وتعزيز استراتيجيات مواجهة التضليل على المستوى الفردي والجماعي والسياسي.

إضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون لهذا الكتاب دور تطبيقي مهم في المجال التعليمي، إذ يمكن الاستفادة من مفاهيم "التطعيم النفسي" في تطوير مناهج تعليمية تعزز التفكير النقدي لدى الطلبة، وتساعدهم على التمييز بين المصادر الموثوقة والمصادر المشبوهة. كما يمكن دمج هذه المعرفة في برامج تدريبية للمعلمين والإعلاميين، بما يسهم في بناء مناعة معرفية أوسع داخل المجتمع.

وعلى مستوى الفوائد العملية للدول الصاعدة، يمكن الاستفادة من هذه الرؤى في دعم استراتيجيات الأمن الرقمي والإعلامي، خصوصًا مع الاهتمام المتزايد بمواجهة الأخبار الزائفة وحماية الفضاء المعلوماتي. كما يمكن توظيف هذه المعرفة في تصميم مبادرات وطنية للتثقيف الإعلامي، وتطوير أدوات محلية تتناسب مع الخصوصية الثقافية والاجتماعية، بما يسهم في تعزيز الاستقرار المجتمعي وبناء بيئة معلوماتية أكثر أمانًا وموثوقية.

المراجع

References

Abbey, R. “Cass R. Sunstein. #Republic: Divided Democracy in the Age of Social Media. Princeton, NJ: Princeton University Press, 2017. xi + 310 pp. $29.95,” American Political Thought, Vol. 7, No. 2 (2018), pp. 370–373. https://doi.org/10.1086/696988

Citron, D. K. & Chesney, R. “Deep Fakes: A Looming Challenge for Privacy, Democracy, and National Security,” California Law Review, Vol. 107, (2019), pp.1753-1819. https://doi.org/10.2139/ssrn.3213954

Kahneman, D. Thinking, fast and slow, New York: Farrar, Straus and Giroux, 2011.

Van der Linden, S. et al., “Inoculating the Public against Misinformation about Climate Change,” Global Challenges, Vol. 1, No. 2 (2017), pp. 1-7. https://doi.org/10.1002/gch2.201600008

Wardle, Claire & Derakhshan, Hossein. Information Disorder: Toward an Interdisciplinary Framework for Research and Policy Making, Council of Europe, 2017.

 

 

 

 

 



[1] D. K. Citron & R. Chesney, “Deep Fakes: A Looming Challenge for Privacy, Democracy, and National Security,” California Law Review, Vol. 107 (2019), p.1753.

[2] Daniel Kahneman, Thinking, Fast and Slow (New York: Farrar, Straus and Giroux, 2011)

[3] R. Abbey, “Cass R. Sunstein. #Republic: Divided Democracy in the Age of Social Media. Princeton, NJ: Princeton University Press, 2017. xi + 310 pp. $29.95,” American Political Thought, Vol. 7, No. 2 (2018), pp. 370-373.

[4] Claire Wardle & Hossein Derakhshan, Information Disorder: Toward an Interdisciplinary Framework for Research and Policy Making (Council of Europe, 2017).

[5] S. van der Linden et al., “Inoculating the Public against Misinformation about Climate Change,” Global Challenges, Vol. 1, No. 2 (2017), pp. 1-7.