cid:image007.png@01DA94D4.752A8770Publizieren – Why Open Access? 

 

 

تاريخ الاستلام: 7 سبتمبر 2025 | تاريخ القبول: 15 سبتمبر 2025

مراجعة كتاب

السوسيولوجيا القانونية: بحث في السياقية الثقافية، لكيليانج وانغ

مراجعة: أميمة الصلاة https://orcid.org/0009-0004-4456-0816

ماجستير في القانون المدني والأعمال، جامعة عبد المالك السعدي – المغرب

oumaima.assallah@gmail.com

Book Review

Sociology of Law: A Study of Cultural Contextualism by Qiliang Wang

Reviewed by: Oumaima Assalah https://orcid.org/0009-0004-4456-0816

Master’s Degree in Civil and Business Law, Abdelmalek Essaâdi University – Morocco

oumaima.assallah@gmail.com

 

Book Title: Sociology of Law: A Study of Cultural Contextualism

Authored by: Qiliang Wang

Edition: English language

Publisher: Springer Singapore

Year of Publishing: 2022

No. of pages: 151 pages

عنوان الكتاب: السوسيولوجيا القانونية: بحث في السياقية الثقافية

المؤلف: كيليانج وانغ

الإصدار: باللغة الإنجليزية

الناشر: سبرينغر سنغافورة

سنة النشر: 2022

عدد الصفحات: 151 صفحة

ISBN: 978-981-16-5508-1 (Hardcover) / 978-981-16-5509-8 (eBook)

https://doi.org/10.1007/978-981-16-5509-8

الترقيم الدولي (ردمك):

 

 

للاقتباس: الصلاة، أميمة. "مراجعة كتاب: السوسيولوجيا القانونية: بحث في السياقية الثقافية، لكيليانج وانغ"، مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، المجلد السابع، العدد 2 (2025): 00-00. https://doi.org/10.29117/tis.2025.0234

© 2025، الصلاة، الجهة المرخص لها: مجلة تجسير، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وتنبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأي وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


 


مقدمة

يمثل كتاب (السوسيولوجيا القانونية: بحث في السياقية الثقافية) لكيليانج وانغ إسهامًا بارزًا في نقد وفهم التفاعلات المعقدة بين القانون والبنية الاجتماعية في الصين المعاصرة، ويأتي هذا العمل في مرحلة تاريخية تشهد فيها البلاد تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة تشمل التحضر السريع وتعاظم تأثير العولمة وارتفاع مستويات الاستهلاك إلى جانب تعزيز حقوق الأفراد، وهو ما يجعل دراسة التفاعل بين القانون والمجتمع أكثر إلحاحًا وتعقيدًا. يقدم وانغ إطارًا نقديًا جديدًا لدراسة القانون ضمن سياقه الاجتماعي والثقافي مؤكدًا على أن فهم القانون لا ينبغي أن يقتصر على كونه نصوصًا مكتوبة، أو إجراءات قضائية؛ بل يجب النظر إليه كظاهرة اجتماعية وثقافية متشابكة تتأثر بالسياقات المحلية والتاريخية والدينية والسياسية، وهو ما يسميه بـ (السياقية الثقافية) (Cultural Contextualism). وفي هذا الإطار يعتمد المؤلف على مقاربة بينية تجسر المعارف بين تخصصات متعددة منها علم الاجتماع والانثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي والدراسات القانونية، بما يمكنه من تحليل الظواهر القانونية في إطارها الواقعي مع التأكيد على أهمية ربط التحليل القانوني بالسياق الاجتماعي والثقافي المحلي.

ولا يكتفي وانغ بهذا التجسير المعرفي؛ بل يسائله أيضًا حين يكون موجها بأهداف، أو مرجعيات أيديولوجية خارجية، أو عندما تستورد نماذج غربية دون تكييفها مع الواقع المحلي، ما يثير تساؤلات أساسية حول ما إذا كان هذا التداخل بين العلوم القانونية والاجتماعية ينبع من حاجة بحثية حقيقية أم أنه يستخدم أحيانًا كأداة لإعادة إنتاج أنماط فكرية لا تنسجم والبنية الثقافية والاجتماعية للصين. وتكمن أهمية الكتاب في تقديم قراءة مقارنة تتجاوز النزعة المركزية الغربية السائدة في الدراسات القانونية والاجتماعية من خلال إبراز التجربة الصينية وما تنطوي عليه من خصوصيات فريدة والسعي للإجابة عن سؤال محوري: كيف يمكن للقانون أن يفهم ويطبق في سياق اجتماعي معقد ومتعدد الأبعاد؟

ينطلق وانغ في تحليله من فرضية أساسية مفادها أن النظام الاجتماعي والقانوني لا يقوم على القانون وحده ولا على الثقافة وحدها؛ بل على التفاعل الجدلي بينهما، وهو ما يمنح الكتاب قيمته كجسر يربط بين الدراسات النظرية والبحث الميداني وبين المقاربة القانونية الرسمية من جهة والرؤية الأنثروبولوجية المرنة من جهة أخرى. وهكذا تتضح مساعي هذا الكتاب: أولًا دراسة القانون في سياقه الواقعي وتحليل تطبيقاته العملية، ثانيًا إبراز أهمية التعددية القانونية ودور الضوابط الاجتماعية غير الرسمية بما في ذلك الاعراف والتقاليد والدين في تشكيل النظام الاجتماعي، وثالثًا نقد استيراد النماذج الغربية وتحليل العلاقة بين القانون الرسمي وآليات الضبط الاجتماعي غير الرسمي مع تقديم قراءة معمقة للعلاقة بين القانون والثقافة في الصين المعاصرة.

أولًا: هندسة الكتاب ومضامينه الرئيسة

ينقسم الكتاب إلى جزأين متكاملين وثمانية فصول؛ حيث يركز الجزء الأول على موضوع (الأفعال والثقافة والنظام). ويتناول هذا القسم تحليل الأفعال الفردية والجماعية في سياقاتها الاجتماعية والثقافية، مؤكدًا أن فهم القانون لا يتحقق بالاكتفاء بالنصوص الرسمية وحدها؛ بل يستلزم الانطلاق من واقع الحياة اليومية للناس. حيث يبرز كيفية تشكل السلوك البشري من تفاعل مستمر بين البنية الاجتماعية من جهة، والقيم والثقافة من جهة أخرى، في حين يظل القانون الرسمي إطارًا تنظيميًا موجهًا لهذا التفاعل دون أن يحيط به كليا. أما الجزء الثاني فيتناول موضوع (التعددية القانونية والضبط الاجتماعي والنظام الاجتماعي)؛ حيث يركز على تعدد الأنظمة القانونية وآليات الضبط التي تتجاوز القانون الرسمي للدولة. ويعرض المؤلف من خلال دراسة الحالة كيفية تفاعل القوانين الرسمية مع الأعراف المحلية والدين، مبينا الدور الذي يلعبه هذا التفاعل في تشكيل النظام الاجتماعي وفي توجيه السلوك الإنساني. ويؤكد أن القانون لا يفهم فقط كنصوص تشريعية؛ بل أيضًا كنظام تصنيفي وثقافي يسهم في إنتاج المعايير الاجتماعية، وبذلك يتكامل الجزآن في معالجة ظواهر اجتماعية وقانونية محددة، مدعومة بأمثلة واقعية مستمدة من القرى والمجتمعات الصينية.

في الفصل الأول يسلط المؤلف الضوء على ظاهرة (العدالة الأهلية العنيفة)[1] بوصفها تجسيدًا لفشل المؤسسات الرسمية في حماية الحقوق، وانحراف القضاء، وضعف التنسيق بين الوساطة المحلية والقانون، ما يخلق فراغا معياريا يدفع الأفراد أحيانًا للاستعاضة عن الدولة بجماعات محلية مسلحة، أو أساليب انتقامية مباشرة. ويؤكد وانغ أن السبب لا يكمن في طبائع الناس، أو نزعاتهم الفردية نحو الانتقام؛ بل في عطب النظام القانوني الرسمي الذي يحرم المتضررين من الوصول إلى سبل الإنصاف في الزمن المناسب وبالكلفة المعقولة، فتتحول العدالة الأهلية إلى منطق واقعي عند تعطل العدالة المؤسسية. ويستشهد المؤلف بأمثلة متعددة مثل قتل لص معتاد في قرية قوشان (The GuoshanVillage)، ومواجهة عنيفة بسبب التلوث في بلدة هواشوي (The Huashui town)، وهجوم بالقنابل على قاض في يونغشينغ (Yongxing)، وأخذ ماشية الخصوم بالقوة في شياشويكاو ( Xiashuicao)، ليؤكد أن هذه الظواهر ليست مجرد نزعة فردية للانتقام؛ بل انعكاس لخلل بنيوي في النظام القانوني. ويشير إلى أن التدخل الحكومي الفعال والإصلاح البنيوي للنظام القانوني يمكن أن يحد من العنف ويعيد الثقة بالقانون.

أما الفصل الثاني؛ فيقدم مادة إثنوغرافية حول الانتحار العاطفي عند شعب الناخي (Nakhi) في ليجيانغ (Lijiang)، موضحًا أنها ليست حالات فردية شاذة؛ بل مؤسسة اجتماعية غير رسمية نشأت تاريخيا لمقاومة الزواج القسري الذي فرضته الدولة عبر النظام الكونفوشي. ويبرز أن فرض الزواج المدبر أدى إلى صدام بين القيم التقليدية والقوانين الرسمية، فاختار بعض العشاق الانتحار معًا كوسيلة للتعبير عن رفض القيود الاجتماعية، مستندين إلى معتقداتهم الدينية بالحياة الآخرة. ويبرهن هذا الفصل على أطروحة وانغ المركزية بأن الثقافة ليست مجرد زخرفة سطحية للقانون؛ بل الإطار الدلالي العميق الذي تتشكل داخله المعاني والدوافع، ومن ثم فإن إغفال السياق الثقافي يجعل تفسير العديد من الظواهر القانونية والاجتماعية صعبًا، أو مضللًا.

في الفصل الثالث، يسلط المؤلف الضوء على الدور المحوري للدين في النزاعات المدنية، موضحًا أنه ليس فقط مصدرًا للخلاف؛ بل أداة فعالة لتسويته وضبط السلوك الاجتماعي. ويبين أن النزاعات غالبًا ما تنشأ نتيجة تعارض المعتقدات، أو اصطدام التعاليم الدينية بسياسات الدولة، مثل قضايا تنظيم الأسرة، أو الطقوس الجنائزية، مؤكدًا أن جوهر النزاع يتعلق بالقيم والمعاني وليس بالمصالح المادية فحسب. ويربط وانغ هذا التحليل بأن لقوة الوازع الديني والمجالس العشائرية والمحاكم الشرعية دورا مهمًا في فض النزاعات وضبط السلوك الاجتماعي، مستمدة فعاليتها من قدرتها على توليد الثقة وقوة الالتزام. ويبرز أن الدين يشكل جزءًا من شبكة قانونية - اجتماعية موازية، أو مكملة للقانون الرسمي، وأحيانًا منافسة له، مع أربعة عناصر رئيسة لضبط المجتمع: المعايير التي تحدد الصواب والخطأ، والتنظيم عبر المؤسسات، أو القادة الدينيين، والسلطة التي تمنح قراراتهم قوة الإلزام، والثقة التي يوفرها الانتماء المشترك[2]؛ مما يعكس قدرة الدين على منع تفاقم النزاعات. ويخلص الفصل إلى ضرورة وجود قوانين محايدة تراعي التنوع الديني والثقافي، مع التركيز على أن معالجة النزاعات تتطلب الاهتمام بالمعاني والقيم التي تشكل أساس السلوك الاجتماعي.

يتناول الفصل الرابع الفساد باعتباره نتاجا للبنية السياسية والاجتماعية المعقدة وليس مجرد سلوك فردي. ويبرز أن المشهد السياسي في الصين يقوم على شبكة مغلقة من المسؤولين تحكمها قواعد غير مكتوبة أهم من القانون الرسمي؛ حيث تصبح الولاءات الشخصية والمصالح المشتركة معيارًا أساسيًا للترقي والنفوذ. فهذه القواعد، بما تحمله من رموز وطقوس يومية، تعيد إنتاج السلطة في تفاصيل الحياة العادية، من ترتيب المكاتب إلى طقوس الاجتماعات والولائم، لتذكر الجميع بمواقعهم في هرم القوة. يتحول الفساد في هذا السياق إلى ممارسة طبيعية؛ حيث يستخدم النفوذ لتحسين الحياة الخاصة، وتبرر الممارسات غير الأخلاقية باعتبارها ضرورات واقعية. وهكذا ينفصل الفساد تدريجيا عن المعايير الأخلاقية، ليصبح جزءًا من الثقافة السياسية السائدة. وهناك أمثلة كثيرة تظهر كيف يعاقب من يرفض هذه القواعد بالتهميش، فيما يكافأ الملتزم بها بالمزايا والترقيات، حتى ينتهي الأفراد إلى التخلي عن مبادئهم والانخراط في اللعبة السياسية.

وتتجلى نتائج هذا المشهد في انتشار البيروقراطية، وتغليب الحسابات السياسية على المصلحة العامة، وبناء تحالفات قائمة على القرابة، أو الولاء، إضافة إلى استغلال السلطة في تحقيق مكاسب اقتصادية. وهو ما يجعل الفساد أكثر رسوخًا وأصعب في المكافحة؛ إذ لا يتعلق بأفعال معزولة؛ بل بمنظومة متكاملة تعيد إنتاج ذاتها. ويخلص المؤلف إلى أن الحل لا يكمن في معاقبة الأفراد بعد وقوع الفساد فقط؛ بل في إصلاح المؤسسات نفسها ومراقبة ممارسة السلطة في تفاصيلها اليومية. وأن وحدها سيادة القانون، إذا طبقت بفعالية وعدالة، قادرة على كسر هذه الشبكة وإعادة التوازن بين المجالين العام والخاص.

يمثل الجزء الثاني من الكتاب لحظة تجسير واضحة بين القانون والعلوم الاجتماعية. فالمؤلف لا يكتفي بتحليل النصوص القانونية، أو رصد مظاهر الفساد المؤسسي؛ بل ينتقل إلى دراسة الكيفية التي يتفاعل بها القانون مع أنماط الضبط الاجتماعي والتعددية المعيارية داخل المجتمع. ويظهر من خلال هذا المنظور أن القانون لا يعمل في فراغ؛ وإنما يتقاطع مع الأعراف المحلية والقيم الثقافية والسلطات الرمزية، ليشكل في النهاية نظامًا اجتماعيًا متكاملًا يوجه السلوك الفردي والجماعي. بهذا ينتقل البحث من مقاربة قانونية خالصة إلى مقاربة بينية تجمع بين التحليل القانوني والتحليل السوسيولوجي، بما يسمح بفهم أعمق للآليات المنتجة للنظام الاجتماعي.

ينطلق المؤلف في الفصل الخامس من رؤية أنثروبولوجية ترى في القانون نظاما للتصنيف يحدد الأشياء والأفعال والقيم داخل كل ثقافة. فالقانون ليس مجرد قواعد تقنية؛ بل معرفة محلية متجسدة في الأعراف والتوقعات واللغة اليومية. ومن هنا يفسر الصدام المتكرر بين القانون الرسمي والمعايير المحلية بوصفه نتيجة لاختلاف أنظمة التصنيف. وفي السياق العربي والإسلامي، تبدو الصورة مشابهة حين تتقاطع التشريعات الحديثة مع الفقه الإسلامي والأعراف العشائرية وشبكات الوساطة، بحيث يصبح نجاح التشريع رهينًا بمدى مراعاته لهذه التصنيفات المتعددة[3].

أما في الفصل السادس، فيعرض الكاتب تجربة قرية مانكون (Mancun Village)؛ حيث يتضح أن الدين ليس مجرد ممارسة تعبدية؛ بل يمثل أداة فعالة للضبط الاجتماعي وتنظيم الحياة اليومية. فالمعتقدات الدينية، والمزيج من البوذية التيرافادية (Theravada Buddhism) والدين الشعبي لشعب الداي (The Dai)، تحدد القواعد والسلوكيات في مختلف شؤون القرية. ويضطلع أشخاص محليون بدور (وكلاء الضبط الاجتماعي)(Social control agents)[4] عبر فرض الغرامات، أو القسم أمام الآلهة، بما يعكس قدرة الدين على حفظ النظام بالتكامل مع القانون والعرف. ويتصل الفصل السابع مباشرة بهذه المسألة؛ إذ يوضح وانغ كيف تسهم أطراف متعددة مثل اللجنة القروية والشخصيات الدينية والعشائر في بناء نظام متوازن قائم على التوافق. فنجاح القرارات - كما في تنظيم الزواج، أو مكافحة المخدرات - يرتبط بوجود هذا التوافق؛ بينما يقود غيابه إلى فشل المشروعات العامة. وهكذا يظهر أن الدين والعرف والقانون الرسمي يشكلون معا شبكة ضبط اجتماعي متعددة المستويات، تتيح فهما أدق لكيفية إدارة المجتمعات المحلية للنزاعات وتحقيق الاستقرار. هذه الصورة يمكن مقارنتها بسياقات عربية وإسلامية حيث تتقاطع القوانين الرسمية مع الشريعة والعرف المحلي.

أما الفصل الثامن، فيقدم صورة مغايرة عبر دراسة تجربة قرية بينغتسون (Pingcun Village). فقد اعتمدت هذه القرية طويلًا على الأعراف التقليدية المستندة إلى سلطة الشيوخ والعشائر والطقوس الدينية، غير أن التحولات السياسية بعد عام 1949 أضعفت تلك البنى من دون أن تنجح الدولة في إيجاد بدائل مؤسسية راسخة. وبالنتيجة برز (فراغ معياري)[5] انعكس في تفشي العدالة الذاتية، وتآكل الثقة بالمؤسسات، وتزايد مظاهر العنف والفوضى. إضافة إلى ذلك، يقدم المؤلف هنا تحليلا يتجاوز ثنائية (التقليد) و(التحديث)؛ فهو لا يتبنى حنينًا مثاليًا إلى البنى التقليدية ولا ينظر إلى التحديث باعتباره شرًا محضًا؛ بل يدعو إلى انتقال تدريجي يحافظ على العناصر الفاعلة من الأعراف المحلية بالتوازي مع بناء بدائل مؤسسية وثقافية متجذرة.

ويكتسب هذا التحليل راهنيته حين نقارنه بالسياقات العربية؛ حيث شهدت مجتمعات عديدة إصلاحات وتشريعات متسارعة غالبا تحت ضغط خارجي، أو استلهام نماذج أجنبية من دون مراعاة للأعراف المحلية وخريطة القيم. وقد أسفر ذلك عن فجوات متزايدة في الثقة بالمؤسسات وظهور أنماط موازية من العدالة، مثل الصلح العشائري غير المنضبط، أو التحاكم إلى الزعامات المحلية، أو حتى إلى (قوانين السوق). في هذا المعنى، يبرز الكتاب درسا أساسيا: الخطر لا يكمن في تعددية القانون بحد ذاتها؛ بل في سوء إدارة هذه التعددية وفرض نصوص غير متجذرة في المعاني والبنى الرمزية والثقافية للمجتمع، وهو ما يفضي إلى إضعاف الشرعية القانونية ويفتح المجال أمام أنماط موازية من الضبط الاجتماعي.

ثانيًا: قراءة تحليلية في خلفية الكتاب

لا يقتصر الكتاب، الذي بين أيدينا، على الوصف الإثنوغرافي، أو التوثيق الميداني للحالات المدروسة في قريتي مانكون وبينغتسون؛ بل يتجاوز ذلك إلى مقاربة تحليلية نقدية تكشف عن التفاعلات البنيوية بين القانون الرسمي والضوابط الاجتماعية غير الرسمية، وبين التحولات الحداثية والأعراف التقليدية. وتقوم الخلفية النظرية للعمل على مقاربة التعددية القانونية (Legal Pluralism)، التي تنظر إلى القانون بوصفه شبكة متداخلة من القيم والمعايير والممارسات، تشترك فيها منظومات متجاورة تشمل الدين والعرف والزعامات المحلية وآليات التسوية غير الرسمية، إلى جانب القانون الرسمي. هذا التداخل بين الحقول المعرفية - القانون والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع - يجعل الكتاب نموذجًا بارزًا للدراسات البينية؛ إذ يوظف أدوات متعددة، كتحليل النصوص القانونية، ورصد الإجراءات الرسمية، والملاحظة الإثنوغرافية للحياة اليومية، ودراسة البنى الاجتماعية ومعايير الضبط. وبذلك، يبرهن على أن القانون ليس مجرد منظومة تقنية للتنظيم؛ بل هو نتاج صراع وتفاعل بين نظم معرفية وثقافية متعددة تتقاطع في السياق المحلي.

على مستوى البناء الداخلي، وفق الكتاب في تقديم تنظيم متماسك ومتدرج للفصول؛ إذ ينتقل من التأصيل النظري الذي يناقش مفاهيم العنف والنظام والثقافة والتصنيف، إلى التحليل الميداني الذي يكشف عن تجسد التعددية القانونية في الواقع الاجتماعي. وهذا البناء هو ما منح العمل وحدة عضوية واضحة وحال دون تشتت مكوناته، فيما جاءت عناوين الفصول معبرة بدقة عن مضامينها، جامعة بين الطابع الأكاديمي والبعد التحليلي. ومع ذلك، يظل اعتماد المؤلف على حالتين إثنوغرافيتين فقط قيدًا على إمكانات التعميم، ويجعل نتائجه أقرب إلى دراسة حالة منها إلى بناء نظرية شاملة؛ إذ لا يمكن الجزم بأن هاتين الحالتين تمثلان بالضرورة نمطًا كليًا للتعددية القانونية في الصين. كما يبرز تفاوت في عمق الفصول؛ حيث جاءت الفصول المتعلقة بقرية مانكون غنية بالمعطيات الإثنوغرافية؛ بينما بدت فصول أخرى - مثل الفصل الخامس - أقل تفصيلًا. يضاف إلى ذلك أن المؤلف برع في تحليل ديناميات الدين والتقليد والعرف المحلي؛ لكنه كان أقل توفيقًا في بلورة توصيات عملية، أو سياسات مؤسسية لتطوير القانون الرسمي؛ الأمر الذي جعل مساهمته أقرب إلى التحليل النقدي منها إلى تقديم حلول تطبيقية، كما أن المقارنات التي عقدها مع السياقات العربية والإسلامية، رغم أهميتها، جاءت سطحية ولم تعزز بأمثلة ميدانية؛ مما حد من البعد المقارن للكتاب.

إجمالًا، يعكس الطابع النقدي للكتاب التفاعل بين القانون الرسمي والأعراف والدين باعتبارها آليات متشابكة لضبط المجتمع، ويجمع بين الصرامة الأكاديمية والغنى الإثنوغرافي، مع تنظيم منهجي محكم. غير أن هذه المساهمة - على أهميتها - تبقى محدودة من حيث تعميم الاستنتاجات، وإمكانات التطبيق العملي، وعمق المقارنات العابرة للثقافات. وهنا تكمن قيمته: ليس بوصفه دليلًا جاهزًا، أو حلًا ناجزًا؛ بل بوصفه نموذجًا نقديًا يفتح آفاق التفكير في إعادة موضعة القانون ضمن سياقاته الاجتماعية والثقافية؛ مما يؤهله لأن يكون مرجعًا للباحثين الراغبين في فهم التعددية القانونية وديناميات الضبط الاجتماعي، سواء في السياق الصيني، أو مدخل لقراءة سياقات أخرى، بما فيها السياقات العربية والإسلامية.

من منظور آخر، يقدم الكتاب درسًا مهمًا في ضرورة ربط التحليل القانوني بالواقع الاجتماعي، وتفادي النزعة التجريدية التي قد تحول القانون إلى نصوص جامدة، غير قادرة على ضبط المجتمع بفعالية. كما يؤكد أن الفاعلية القانونية تتطلب توازنًا دقيقًا بين الشرعية الشكلية والشرعية الاجتماعية، وهو ما يجعل إسهام وانغ جديرًا بالاهتمام والقراءة.

في الختام، وبناءً على ما تضمنه كتاب وانغ (السوسيولوجيا القانونية: بحث في السياقية الثقافية) من أفكار مهمة في راهننا، يمكن استخلاص عدد من التوصيات المركزية التي تعكس الطابع النقدي والتحليلي للعمل. أولًا، يبرز الكتاب أهمية توظيف البحث الميداني في القرى والأسواق والمحاكم لفهم القانون في سياقه الواقعي، وربما لاكتشاف منظور جديد يسهم في تطوير القانون الرسمي. ثانيًا، يشدد على الجمع بين التحليل النظري والأدوات الإثنوغرافية والأنثروبولوجية لإبراز التعددية القانونية، وفهم التفاعل بين القانون الرسمي والأعراف والتقاليد والدين. ثالثًا، ينتقد الاعتماد غير النقدي للنماذج الغربية، مع التأكيد على ضرورة تكييفها وفق خصوصية السياق المحلي، ورابعًا، يدعو إلى بناء نظريات قانونية منطلقة من الواقع المحلي؛ عبر دورة تفاعلية تعكس ديناميات المجتمع. وأخيرًا، يوضح الكتاب أن التقاليد والحداثة ليسا نقيضين بالضرورة؛ بل يمكن أن يشكلا إطارًا تكامليًا لضبط المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية.

وعليه؛ فلا يمكن استيراد أي بند قانوني دون أن يخضع للتقييم والتمحيص، من خلال عرضه للنقاش في المجال العمومي، واختبار مدى نجاعته في تدبير شؤون الناس، وتطوير الشق القانوني بما يتماشى وانشغالات السكان المحليين، سواء من الباحثين المتخصصين، أو من العامة. مؤكدًا بذلك على أن الشرعية القانونية لا تُبنى بالنصوص وحدها؛ بل بتجذرها في لغة الناس وقيمهم؛ مما يجعل هذا الكتاب مرجعًا مهمًا لكل من يسعى إلى فهمٍ أعمقَ لعلاقة القانون بالمجتمع، وإعادة صياغتها على أسس أكثر واقعية وعدلًا.

المراجع

References

Wang, Qiliang. Sociology of Law: A Study of Cultural Contextualism. Singapore: SSAP & Springer, 2022.



[1] Qiliang Wang, Sociology of Law: A Study of Cultural Contextualism (Singapore: SSAP & Springer, 2022), p. 3.

[2] Ibid., p. 32.

[3] Ibid., p. 76.

[4] Ibid., p. 80.

[5] Ibid., p. 126.