تاريخ الاستلام: 18 فبراير 2025 | تاريخ القبول: 11 مارس 2025
مراجعة كتاب
فلسفة البينية: دراسات في العلم والمجتمع والاستدامة، لجون كورنيليوس شميت
مراجعة: عمر حجام
طالب دكتوراه، برنامج فلسفة العلم، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس–المغرب
Face.hajjam@gmail.com
https://orcid.org/0009-0008-1606-8313
Book Review
Philosophy of Interdisciplinarity: Studies in Science, Society and Sustainability, by Jan Cornelius Schmidt
Reviewed by: Omar Hajjam
PhD Candidate, Philosophy of Science, Faculty of humanities sciences, Mohammed V University–Morocco
https://orcid.org/0009-0008-1606-8313
Book Title: Philosophy of Interdisciplinarity: Studies in Science, Society and Sustainability Authored by: Jan Cornelius Schmidt Edition language: English Publisher: Routledge Year of publishing: 2022 No. of pages: 217 |
عنوان الكتاب: فلسفة البينية: دراسات في العلم والمجتمع والاستدامة المؤلف: جون كورنيليوس شميت لغة الإصدار: الإنجليزية الناشر: روتليدج سنة النشر: 2022 عدد الصفحات: 217 |
||
ISBN: 978-1-138-2307-1 (hbk) |
978-1-032-11846-8 (pbk) |
رقم الإصدار: 978-1-315-38710-9 (ebk) |
|
للاقتباس: حجام، عمر. "مراجعة كتاب: فلسفة البينية: دراسات في العلم والمجتمع والاستدامة، لجون كورنيليوس شميت". مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، المجلد السابع، العدد 1 (2025): 237-245. https://doi.org/10.29117/tis.2025.0216
© 2025، حجام. الجهة المرخص لها: مجلة تجسير، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-Noncommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وتنبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأي وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0
تُعد الدراسات البينية مطلبًا ملحًا فرض نفسه اليوم على الساحة العلمية والفكرية في ظل التحولات العميقة التي شهدتها مجالات المعرفة والمجتمع والبيئة. وقد طرحت هذه التحولات إشكالات باتت من غير الممكن مقاربتها بالاعتماد على النماذج المعرفية والمنهجية[1] التقليدية التي سادت سابقًا. وفي هذا السياق، تمثل الدراسات البينية ثورة على النظرة الاختزالية للواقع، التي كرستها العقلانية الديكارتية والتجريبية البيكونية في مجال العلم والمعرفة، كما أنها ثورة على الأحادية المنهجية، وانفتاح على التعدد والتداخل بين التخصصات.
يستعرض جون شميت[2] في هذا الكتاب الذي نحن بصدد قراءته موقفًا نقديًا يستند إلى منظور إبستمولوجي إزاء إنتاج المعرفة في ميادين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، وانعكاساته على البيئة في ظل التحديات الكبرى التي يفرضها التغير العالمي والتطور التكنولوجي[3]. يبرز المؤلف كيف أن التوظيف التقني للعلم والمعرفة قد أضحى وسيلة للسيطرة على الطبيعة والإنسان، مما أدى إلى انحسار الأسئلة الفلسفية والميتافيزيقية المرتبطة بالمعرفة لصالح توجه متزايد نحو التطبيقات التكنولوجية. من جهة أخرى، يقدم شميت نقدًا للتوظيف التقني للدراسات البينية، مشيرًا إلى أن الفكرة كانت في الأصل مصحوبة بنقد جذري للطرق التقليدية لإنتاج المعرفة، إلا أن مفهوم البينية فقد زخمه النقدي وأصبح مجرد أداة تستخدم لتعزيز البحث التطبيقي والابتكار في ظل الهيمنة النيو ليبرالية والرأسمالية. فيما تسعى الخطوة القابلة إلى تقديم مراجعة تحليلية لمضامين هذا الكتاب الذي يطمح إلى إضفاء عمق فلسفي إبستمولوجي على مفهوم البينية، بما يتماشى مع التحولات التي شهدتها العلوم.
يتوزع هذا الكتاب إلى ثمانية فصول أساسية، يتناول الفصل الأول العلاقة بين النقد والفعل في تشكيل فلسفة نقدية للبينية، بينما يناقش الفصل الثاني دور الفلسفة في تعزيز مقاربة متعددة الأبعاد. أما الفصل الثالث فيستعرض تأثيرات البينية على دراسة القضايا الاجتماعية، في حين يركز الفصل الرابع على علاقة العلوم الطبيعية بالبينية. أما الفصل الخامس فيتناول البعد الأخلاقي والبيئي في إطار الدراسات البينية، يليه الفصل السادس الذي يحلل انعكاسات التكنولوجيا على البحث العلمي. وفي الفصل السابع يناقش شميت السياسات المعرفية المتعلقة بالدراسات البينية وبرامج البحث، ويختتم في الفصل الثامن بنقد البينية، من حيث مراجعة مفهوم البينية وتطوراته المعرفية.
ويعد هذا الكتاب مرجعًا مهمًّا لكل باحث مهتم بفلسفة العلوم، والتنمية المستدامة، والسياسات البحثية، إذ يوفر إطارًا نظريًا متينا لفهم البينية بوصفها قضية فلسفية ومعرفية بالدرجة الأولى، وليست كأداة وظيفية؛ فهو بمثابة دعوة إلى إعادة النظر في الأسس المعرفية الأكاديمية، والسعي نحو نموذج أكثر نقدية وشمولية لفهم العالم.
بناءً على ذلك، يدعو شميت إلى استعادة البعد النقدي لمفهوم البينية، معتبرًا أن بإمكانه أن يكون أداة للتحرر الفكري وإعادة تشكيل علاقتنا بالمعرفة والطبيعة والمجتمع، بدلًا من أن تظل مجرد وسيلة إدارية لدعم البحث التطبيقي. ويطرح في المقابل رؤية بديلة لتطوير فلسفة البينية، تركز على التأمل والنقد، في مقابل النهج الأداتي المهيمن على السياسات الأكاديمية والبحثية، والتي تسعى إلى توجيه البحث العلمي نحو أهداف اقتصادية وتقنية. كما يبرز كيف أن العلوم الإنسانية – كعلم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا – تُوظّف بشكل متزايد كأدوات لخدمة أغراض سياسية واقتصادية، بدلًا من أن تستخدم لتشخيص المشكلات وإيجاد حلول تخدم الحياة الأخلاقية للإنسان. في هذا الإطار، يمكن إبراز نقد شميت للمقاربة البينية من خلال الفصول الثمانية المتضمنة في الكتاب كالآتي:
يتبنى شميت في هذا الفصل مقاربة نقدية للطريقة التي يتم بها توظيف الدراسات البينية في الأكاديميات الحديثة؛ ففي حين نشأ هذا المفهوم بوصفه مقاربة نقدية تسعى إلى تجاوز الحدود الصارمة للمعرفة، فقد أصبح اليوم جزءًا من السياسات البحثية النيو ليبرالية التي تركز على الكفاءة والابتكار دون مساءلة الأبعاد الأيديولوجية التي تحكم إنتاج المعرفة. ويتتبع شميت التطور التاريخي للبينية، مشيرًا إلى ارتباطها في البداية بحركات التغيير الاجتماعي والبيئي خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، قبل أن يتم احتواؤها من قبل المؤسسات البحثية وتحويلها إلى أداة وظيفية بحتة.
في هذا السياق، يميز شميت بين نموذجين من التداخل البيني:
- التداخل الأداتي (Instrumental Interdisciplinarity)، يتم فيه التوظيف لدعم السياسات البحثية والاقتصادية دون مراجعة نقدية للأسس الفلسفية التي تقوم عليها المعرفة.
- التداخل النقدي–التأملي (Critical-Reflective Interdisciplinarity)، وهو النموذج الذي يدعو إليه شميت؛ حيث يرى فيه أداة لإعادة النظر في أسس المعرفة العلمية وعلاقتها بالمجتمع والطبيعة والبيئة.
لا يقتصر الطرح النقدي للبينية على الجانب النظري، بل يؤكد شميت هذا النهج في الممارسة الأكاديمية والاجتماعية، بحيث تصبح البينية أداة للتغيير الفكري والعلمي، لا مجرد إطار إداري يدعم البحث التطبيقي، ويمكن تحقيق ذلك من خلال:
- إعادة هيكلة البحث العلمي الأكاديمي: من خلال تطوير برامج دراسية بينية تدمج بين الفلسفة والعلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية والإنسانية، مما يعزز التكامل المعرفي ويسهم في بناء فهم أكثر شمولًا للواقع.
- معالجة المشكلات العالمية بشكل تكاملي: إذ تتيح الدراسات البينية تحليلًا أكثر عمقًا لقضايا معقدة مثل التغير المناخي، والعدالة الاجتماعية، والتطور التكنولوجي، مما يسمح بإيجاد حلول تتجاوز حدود التخصصات التقليدية.
- تحقيق الاستدامة الفكرية والعلمية: من خلال تجاوز الرؤية الاختزالية للعالم، وتطوير أطر جديدة لفهم العلاقة بين الإنسان والطبيعة والتكنولوجيا، بما يسهم في بناء نموذج معرفي أكثر نقدية وشمولية.
بهذا الطرح، يدعو شميت إلى استعادة البعد النقدي للمقاربة البينية، معتبرًا أنها يجب أن تكون أداة للتحرر الفكري وإعادة تشكيل علاقتنا بالمعرفة، بدلًا من أن توظف كأداة إدارية لخدمة الأجندات البحثية النيو ليبرالية. ومن هذا المنظور يقترح شميت تطوير فلسفة بينية قائمة على التأمل النقدي، تعيد النظر في السياسات الأكاديمية السائدة وتطرح بدائل معرفية أكثر وعيًا بالتحولات الفكرية والعلمية الراهنة.
تميزت المدارس الفلسفية القديمة بالتفكير النسقي؛ حيث اعتمدت على اعتبار أن المعرفة لا يمكن اختزالها في بعد واحد، بل هي تركيب معقد يستدعي مقاربة شمولية لفهم الواقع وإشكالاته[4]. وقد سلكت الدراسات البينية هذا النهج الكلاسيكي في تعاملها مع الظواهر العلمية والإنسانية، وإن كانت تختلف عنه من حيث العمق والدقة النظرية والمنهجية. وقد ساهم النقد الإبستِمولوجي في إحداث تحولات جوهرية داخل التخصصات العلمية، مما مكن الدراسات البينية من تعزيز الترابط بين مفاهيمها ونظرياتها ومناهجها، مستفيدة من تكامل حقول المعرفة وتداخلها.
يرى شميت أن الفلسفة، باعتبارها المجال الذي يعنى بالمبادئ الأولى للمعرفة الإنسانية، تشكل ركيزة أساسية في تطوير الدراسات البينية، ويحدد في هذا السياق ثلاثة مباحث فلسفية رئيسية يجب أخذها بعين الاعتبار[5]:
- المبحث الأنطولوجي: يُعنى بدراسة الوجود والأشياء والموضوعات، وهو في إطار الدراسات البينية يشير إلى مفهوم الموضوع المشترك الذي يجمع بين التخصصات المختلفة، مما يسهم في بناء مقاربة تكاملية لفهم كينونة الأشياء.
- المبحث الإبستمولوجي: يمثل النقد الفلسفي للمعرفة العلمية؛ حيث يتناول نظريات العلم ومناهجه ونتائجه بروح علمية نقدية، ويعنى في الدراسات البينية بالتداخل المعرفي والمنهجي، وتبادل التقنيات البحثية بين التخصصات، مما يسمح بتلاقح المفاهيم والنماذج النظرية بين مجالات متعددة.
- مبحث القيم: يتناول البعد القيمي في المعرفة، من خلال دراسة القيم الاجتماعية والظواهر التي ينتجها المجتمع. ويكتسب هذا المبحث أهمية خاصة في الدراسات البينية، إذ يسهم في تطبيق المعرفة لمواجهة تحديات معقدة ناتجة عن التفاعل الإنساني مع المجتمع والبيئة.
توضح الدراسات البينية كيف يمكن للفلسفة أن تتفاعل مع أسئلة العصر الحديث، من خلال إعادة تشكيل الحدود التقليدية بين الوجود، والمعرفة، والقيم. ويتيح هذا النهج تجاوز ضيق التخصصات الأكاديمية، مما يفتح المجال أمام فهم أعمق للعالم وموقع الإنسان فيه.
يعد التداخل بين التخصصات أداة أساسية لفهم المشكلات الاجتماعية المعقدة وحلها؛ حيث يتيح الجمع بين مختلف التخصصات العلمية لدراسة الظواهر الاجتماعية من زوايا متعددة، وتتجلى هذه العلاقة في عدة أبعاد، أبرزها:
- تحليل الظواهر الاجتماعية: لا يمكن تفسير الظواهر الاجتماعية مثل الفقر والبطالة وغيرهما من خلال علم الاجتماع فقط، بل يتطلب ذلك إشراك مجموعة من التخصصات الأخرى مثل الاقتصاد، والسياسة، والفلسفة، والأنثروبولوجيا، وذلك لتقديم تفسير شامل ومعمق للأسباب والآثار المترتبة عليها.
- السياسات العامة: تساهم البينية في تصميم سياسات أكثر شمولية وفعالية من خلال دمج العلوم السياسة مع الاقتصاد، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم البيئية، مما يساعد على معالجة قضايا معقدة مثل التغير المناخي والتحديات البيئية والاجتماعية الأخرى.
- التعليم والممارسات الأكاديمية: تعمل البينية على تشجيع المؤسسات الأكاديمية على تبني مناهج متعددة التخصصات، مما يسهم في تأهيل الطلاب للتعامل مع التحديات الاجتماعية المعقدة التي تتطلب حلولًا متكاملة ومتعددة الأبعاد.
تُعد البينية نهجًا ضروريًا لفهم المشكلات الاجتماعية المعاصرة؛ حيث تمكّن من تحليلها بطرق أكثر تكاملا وشمولية. كما يتيح هذا النهج التعاون بين مختلف الحقول المعرفية، مما يسهم في ابتكار حلول أكثر فاعلية وواقعية للمشكلات التي يواجهها المجتمع.
تؤدي الدراسات البينية دورا حاسما في إعادة النظر في العلاقة بين الطبيعة والعلوم، من خلال تجاوز الحدود التقليدية بين التخصصات العلمية والفلسفية، وكذا تجاوز النظرة الاختزالية للطبيعة ككائن خارجي ليتم النظر إليها على أنها شبكة معقدة من التفاعلات تشمل الإنسان ذاته، ويقدم شميت تصورا نقديا لعلاقة العلوم بالطبيعة من خلال النقاط الآتية:
- التصور الحداثي للطبيعة، يتم التعامل مع الطبيعة ككيان مادي مستقل، يمكن تحليله وفهمه عبر تقسيمه إلى مكوناته الأساسية.
- الهيمنة والسيطرة: وفقا لهذا التصور، يفترض أن العلم يهدف إلى السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لخدمة الإنسان، وهو منظور مستوحى من الفلسفة الديكارتية وفلسفة فرانسيس بيكون.
- التقنية كامتداد لهذا التصور: تُعتبر التكنولوجيا الحديثة امتدادًا لهذا الفهم؛ حيث يتم استخدام العلوم الطبيعية والهندسة في تطوير أدوات تساهم في استغلال الطبيعة لصالح الإنسان.
يؤكد شميت أن فهم الطبيعة لا ينبغي أن يقتصر على العلوم الطبيعية وحدها مثل الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا فقط، بل يحتاج إلى أن يتكامل مع العلوم الاجتماعية، والفلسفة، والأخلاقيات البيئية. حيث يحب أن يشمل فهم الطبيعة الأبعاد الثقافية والاجتماعية والأخلاقية، بحيث تُفهم الطبيعة، ليس فقط كمادة، بل كنظام ديناميكي يشمل تفاعل الإنسان معها.
من هنا، يدعو شميت إلى إعادة توجيه البحث العلمي، وتبني رؤية بينية للطبيعة، من خلال إعادة هيكلة البحث العلمي، بحيث يشمل تخصصات متعددة تتكامل لفهم تعقيدات النظام البيئي، وتبني منظور بيني للطبيعة يمكن أن يؤدي إلى سياسات بيئية أكثر استدامة؛ حيث يتم التعامل مع القضايا البيئية، ليس فقط من منظور تقني، بل أيضًا من منظور اجتماعي وثقافي. كما أن العلاقة التي يجب أن تكون بين العلوم والتكنولوجيا والمجتمع يجب أن تكون علاقة تكاملية وليست علاقة سيطرة؛ مما يعني أنه لا ينبغي للعلم أن يستخدم فقط لحل المشكلات البيئية، بل يجب أن يكون أداة لإعادة التفكير في علاقتنا بالطبيعة.
باختصار، يركز المنظور البيني في علاقة العلوم بالطبيعة على ما يلي:
- يحتاج فهم الطبيعة إلى نهج بيني يشمل الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وليس فقط العلوم الطبيعية.
- يجب تجاوز الرؤية الاختزالية الديكارتية التي تنظر إلى الطبيعة كشيء تمكن السيطرة عليه واستغلاله.
- يجب أن تتكامل العلوم البيئية والتكنولوجية في إطار رؤية بينية لتحقيق استدامة حقيقية.
- يجب أن تُبنى السياسات البيئية على فهم شامل للطبيعة ككيان متكامل، وليس على الحلول التقنية فحسب.
ومن هذا المنطلق، تمكننا إعادة التفكير في علاقتنا بالطبيعة بطريقة أكثر استدامة وأكثر إنسانية، بعيدًا عن الفهم التقليدي القائم على الاستغلال التقني للطبيعة.
يعتبر شميت أن الأزمة البيئية ليست مجرد مشكلة تقنية أو اقتصادية، بل هي أزمة أخلاقية وثقافية ناتجة عن طريقة تفكيرنا ونظرتنا إلى العالم الطبيعي. حيث تعتمد الحداثة الغربية على رؤية ديكارتية–بيكونية ترى الطبيعة كمورد مادي تجب السيطرة عليه، مما أدى إلى استغلال البيئة بطرق غير مستدامة. وفي هذا السياق، يطرح شميت تساؤلاتٍ حول مسؤولية العلماء والتقنيين عن تفاقم الأزمة البيئية، مشيرًا إلى أن التطور العلمي لا يمكن فصله عن الجوانب الأخلاقية. يوضح شميت دور الدراسات البينية في معالجة القضايا البيئية من خلال دعوته إلى:
- استخدام منهج بيني يجمع العلوم الطبيعية، الفلسفة، والعلوم الاجتماعية لفهم المشكلات البيئية بشكل أكثر شمولًا.
- تعزيز الأخلاق البيئية لتؤدي دورًا محوريًا في توجيه البحث العلمي نحو سياسات بيئية أكثر استدامة.
- المقارنة بين الرؤية العلمية التي تعتمد على البيانات والتوقعات الإحصائية، وبين الرؤية الفلسفية التي تدمج القيم والمعايير الأخلاقية في صياغة الحلول.
- التخصصات البينية ضرورية لتجاوز الفجوة بين العلوم والأخلاق، ولتطوير سياسات بيئية أكثر عدالة واستدامة.
- التأكيد على أن القضايا البيئية لا يمكن حلها بالعلم وحده، بل تحتاج إلى نهج بيني يدمج الأخلاق والفلسفة والسياسات العامة.
بناءً على ما سبق، يتبين أن القضايا البيئية ليست مجرد مشكلات تقنية، بل هي في جوهرها قضايا أخلاقية وفلسفية. لذلك، فإن النهج البيني الذي يجمع بين العلم والفلسفة والسياسات العامة يُعدّ المفتاح لإيجاد حلول مستدامة وعادلة، كما ينبغي أن تصبح الأخلاقيات البيئية جزءًا أساسيًا من البحث العلمي والتخطيط البيئي، بحيث يمكن أن تلعب البينية دورًا حاسمًا في تحقيق هذا الهدف.
في الفصل الثامن من الكتاب الذي يحمل عنوان "التقنية والمستقبل: تعزيز التقييم الاستشرافي للتكنولوجيا"[8]، يناقش جون شميت كيف يمكن للدراسات البينية (interdisciplinarity) أن تؤدي دورًا أساسيًا في تحليل التكنولوجيا واستشراف المستقبل بطريقة نقدية وشاملة. ويستند هذا التحليل إلى التركيز على العلاقة بين التكنولوجيا والفلسفة والمجتمع، بحيث يجب أن يكون تقييم التكنولوجيا متعدد التخصصات. وبالتالي، لا يقتصر على منظور علمي أو اقتصادي فقط، بل يشمل مختلف الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية والبيئية.
يؤكد شميت أن التكنولوجيا ليست مستقلة عن القيم الثقافية والسياسية، بل هي جزء من منظومة اجتماعية تعكس توجهات معينة. وإذا نظرنا إلى التكنولوجيا في العصر الحديث، نلاحظ أنها غالبًا ما تُستخدم لدعم مصالح اقتصادية وسياسية محددة، مما يجعلها أداة للسلطة بدلًا من كونها مجرد أداة للابتكار.
يقترح شميت إطارًا بينيًا لتحليل التكنولوجيا، يعتمد على عدة محاور رئيسية تشمل:
- تحليل التأثيرات الاجتماعية؛ دراسة كيف تؤثر التكنولوجيا على الهياكل الاجتماعية والعلاقات الإنسانية.
- التقييم الأخلاقي؛ فحص القيم والمعايير التي تحكم تطوير التكنولوجيا واستخدامها.
- التأثيرات البيئية؛ تحليل كيف تؤثر التكنولوجيا على الاستدامة البيئية وعلى التوازن البيئي.
- التأثيرات الاقتصادية والسياسية؛ دراسة المستفيدين من التكنولوجيا وتحديد من يتحمل تكاليفها.
تبعًا لذلك، يرى شميت أن مستقبل التكنولوجيا يجب ألا يُترك للعلماء والتقنيين فقط، بل يجب أن يكون موضوعًا للنقاش بين الفلاسفة وعلماء الاجتماع والاقتصاديين. فمن خلال نهج بيني في تقييم التكنولوجيا يمكننا تجنب المخاطر المحتملة لتعزيز الاستدامة، وضمان أن التطورات التكنولوجية تخدم مصالح المجتمع ككل وليس مصالح الشركات الكبرى أو الحكومات فقط.
أصبحت البينية في العقود الأخيرة محورًا رئيسيًا في البحث العلمي؛ حيث تُستخدم كأداة لتعزيز التعاون بين التخصصات لمواجهة التحديات المعقدة. إلا أن هذه المقاربة لم تعد مقتصرة على الأهداف العلمية البحثية فحسب، بل أصبحت جزءًا من السياسات البحثية التي تحدد اتجاهات التمويل والأولويات الأكاديمية. وتهدف هذه النقطة إلى تحليل السياسة المعرفية للدراسات البينية، من خلال استكشاف كيفية توظيفها في برامج البحث والسياسات الحكومية، وتقييم التأثيرات الإيجابية والسلبية لهذا التوظيف على استقلالية البحث العلمي وجودته.
تشير الدراسات إلى أن السياسات البحثية تشكل أحد العوامل الأساسية التي تحدد اتجاهات الدراسات البينية؛ حيث تُستخدم لدعم التطور التكنولوجي والاقتصادي، ولكن، قد تؤدي هذه السياسات أيضًا إلى تهميش الأبحاث النقدية والأساسية، التي غالبًا ما تكون أقل توافقًا مع الأهداف السياسية والاقتصادية. لذلك، من الضروري إعادة التفكير في كيفية إدارة وتمويل البحث البيني، لضمان الحفاظ على طبيعته النقدية وعدم تحويله إلى أداة لتلبية المتطلبات الاقتصادية والسياسية. فمن خلال سياسات أكثر استقلالية وانفتاحًا، يمكن للدراسات البينية أن تحقق أهدافها الكاملة كمجال يعيد تشكيل المعرفة ويسهم في حل التحديات الكبرى التي يواجهها المجتمع المعاصر.
تعد الدراسات البينية أحد المفاهيم الأساسية في البحث العلمي والسياسات المعرفية؛ حيث تهدف إلى تجاوز الحدود الصارمة بين التخصصات وتعزيز التعاون لمعالجة المشكلات المعقدة. ومع ذلك، لم يكن هذا التحول خاليًا من التحديات والانتقادات، إذ يرى بعض الباحثين أن البينية قد تحولت إلى أداة تخدم أجندات سياسية واقتصادية، بدلًا من أن تكون ممارسة نقدية تعيد النظر في بنية المعرفة ذاتها. وفي هذا الإطار، يدعو شميت إلى تطوير فلسفة نقدية للمقاربة البينية، تتجاوز التصورات الأداتية، وتعيد التأكيد على دور البينية كوسيلة فلسفية لمساءلة وإعادة تشكيل إنتاج المعرفة[10].
تهدف الفلسفة النقدية للبينية إلى إعادة التفكير في دور الدراسات البينية، بحيث لا تقتصر على كونها مجرد وسيلة لحل المشكلات، بل تمتد إلى تحليل بنية المعرفة نفسها. ويشمل ذلك تفكيك التخصصات التقليدية، ودراسة السياسات البحثية، وتطوير منهجيات بينية ذات طابع نقدي، وإعادة بناء المعرفة على أسس أكثر ديمقراطية واستقلالية. كما ينبغي ان يكون الهدف النهائي هو إنشاء نموذج جديد للبحث البيني يدمج بين العلم والفلسفة والمجتمع، مما يعيد التأكيد على دور الدراسات البينية بوصفها أداة للتحليل النقدي والتغيير الفكري والمعرفي.
بناءً على ما سبق، يمكن القول إن شميت قدّم تحليلًا فلسفيًا نقديًا لمفهوم البينية، موضحًا كيف انتقل هذا المفهوم من كونه أداة نقدية تهدف إلى تفكيك الحدود النظرية وإعادة النظر في بنية المعرفة، إلى مجرد وسيلة لتعزيز الابتكار الاقتصادي في ظل النيو ليبرالية. لقد أدى هذا التوظيف إلى هيمنة الأجندة الاقتصادية والتكنولوجية على البحث البيني، مما أسفر عن تهميش أبعاده الفلسفية والاجتماعية.
يشدد شميت على أهمية استعادة البينية بوصفها أداة تحليلية ونقدية تُسائل البنية المعرفية والعلاقة بين التخصصات، بدلا من اقتصارها على توجيه الأبحاث نحو الأهداف التطبيقية البحتة، كما يؤكد ضرورة دمج الأبحاث الأخلاقية، والبيئية، والسياسية في البحث البيني، خصوصًا في القضايا الراهنة مثل التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والاستدامة البيئية، وذلك لتجاوز الرؤية الاختزالية التي تهيمين على الإنتاج المعرفي المعاصر.
على هذا الأساس يدعو شميت إلى ضرورة تطوير فلسفة نقدية للدراسات البينية تستعيد دورها في تحليل السلطة المعرفية وإعادة توجيه السياسات البحثية نحو تحقيق العدالة والتنمية المستدامة، بدلًا من تركها خاضعة لمنطق السوق وقوة المصالح، ويقترح نموذجًا جديدًا للبحث البيني يقوم على التكامل الحقيقي بين الفلسفة، والعلوم، والسياسات العامة، بما يضمن استقلالية البحث العلمي وقدرته على مواجهة التحديات الكبرى بعيدًا عن التحيزات الأيديولوجية أو المصالح الاقتصادية الضيقة.
References
Schmidt, Jan Cornelius. Philosophy of Interdisciplinarity: Studies in Science, Society, and Sustainability. London and New York: Routledge, 2022.
[1] Schmidt Jan Cornelius, philosophy of interdisciplinarity, studies in science, society, and sustainability (London and New York: Routledge, 2022), p. 19.
[2] فيلسوف وفيزيائي أمريكي معاصر (1969)، اهتم بفلسفة العلوم والتكنولوجيا، ومن أبرز المؤلفين المهتمين بنقد الدراسات البينية وتطبيقاتها في ظل النيو ليبرالية الرأسمالية.
[3] Ibid., pp. 61-62.
[4] Ibid., p. 16
[5] Ibid.
[6] Ibid., p. 87.
[7] Ibid., p. 104.
[8] Ibid., p. 157.
[9] Ibid., p. 41.
[10]. يشدد شميت على أن البينية ليست مجرد تقنية لجمع التخصصات، بل يجب أن تكون أداة فلسفية لإعادة التفكير في بنية المعرفة وإنتاج العلم في خدمة المجتمع والبيئة، وليس فقط الاقتصاد والتكنولوجيا.