cid:image007.png@01DA94D4.752A8770Publizieren – Why Open Access?

 

تاريخ الاستلام: 15 مارس 2023 | تاريخ التحكيم: 02 يونيو 2023 | تاريخ القبول: 16 سبتمبر 2023

مقالة بحثية

علم النفس والعلوم الطبيعية: قراءة إبستيمولوجية في مساهمة العلوم الطبيعية في تطوير علم النفس موضوعًا، منهجًا، إطارًا نظريًّا*

هشام الدمناتي

أستاذ علم النفس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض–المغرب

He.ddamnati@gmail.com

https://orcid.org/0009-0009-8603-4554

ملخص

يهدف هذا المقال العلمي إلى طرح تحليل أبستمولوجيا لفهم كرنولوجيا مساهمة العلوم الطبيعية في تطوير علم النفس وجعل مكانة خاصة له بين باقي العلوم الإنسانية والاجتماعية، وقد انطلقنا من فرضية مفادها أن العلوم الحقة لها دور كبير فيما وصل إليه علم النفس اليوم، وذلك على ثلاثة مستويات، وهي: الموضوع والمنهج، بالإضافة إلى الإطار النظري. فبالنسبة لموضوع علم النفس، فقد حدده منذ البداية عالم الفيزيولوجيا وليام جيمس في موضوع الشعور، وقد حاول طرح مقاربة الفيزياء لدراسة مكونات الشعور وفهم العلاقة بين هذه المكونات، ثم تطور هذا الموضوع إلى دراسة السلوك، وذلك بالمساهمات التي قدمها عالم الفيزيولوجيا إيفان بافلوف فيما يسمى بالإشراط الكلاسيكي، وهي أول التجارب التي اعتمدت على المختبر في علم النفس، لتستمر هذه المساهمة بتحديد الموضوع الذي يشتغل عليه علم النفس اليوم وهو السلوك والسيرورات الذهنية، و قد برزت مساهمة العلوم الطبيعية من خلال الاكتشافات التي تمت في مجال الفيزيولوجيا، كاكتشاف الباحات المسؤولة عن اللغة، ودراسة الجهاز الحسي، ودراسة الذهن... ، وقد أدّت هذه الاكتشافات المهمة إلى تطور علم النفس على مستوى المناهج التي أصبح يعتمد عليها، فانتقل مع علم النفس المعرفي و العصبي إلى الاعتماد على تقنيات جديدة كتصوير الدماغ و بعض المناهج المستخدمة في العلوم الحقة من أجل أن يواصل علم النفس مكانته المتميزة بين باقي الحقول المعرفية.

الكلمات المفتاحية: علم النفس، العلوم الطبيعية، المنهج التجريبي، السيرورات الذهنية، بيولوجيا السلوك، العلوم العصبية، تقنيات تصوير الدماغ

للاقتباس: الدمناتي، هشام. " علم النفس والعلوم الطبيعية: قراءة أبستيمولوجية في مساهمة العلوم الطبيعية في تطوير علم النفس موضوعًا، منهجًا، إطارًا نظريًّامجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، المجلد السابع، العدد 1 (2025): 87-99. https://doi.org/10.29117/tis.2025.0208

© 2025، الدمناتي، الجهة المرخص لها: مجلة تجسير، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-Noncommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وتنبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأي وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


 

 Publizieren – Why Open Access?

Received: 15 March 2023 | Peer-reviewed: 02 June 2023| Accepted: 16 September 2023

Research Article

Psychology and Natural Sciences: An Epistemological Reading of the Contribution of Natural Sciences to the Development of Psychology Subject, Methodology, Theoretical Framework*

Hicham Eddamnati

Professor of Psychology, Faculty of letters and human sciences, Cadi Ayyad University–Morocco

He.ddamnati@gmail.com

https://orcid.org/0009-0009-8603-4554

Abstract

This scientific article aims to present an epistemological analysis to understand the chronology of the contribution of the natural sciences to the development of psychology. We have started from the hypothesis that the true sciences have a major role in what psychology has reached today, and that is based on three principles: subject and method, in addition to the theoretical framework. As for the subject of psychology, it was defined from the beginning by the physiologist and Liam James on the subject of feeling. He tried to present a physics approach to study the components of feeling and understand the relationship between these components. Then this subject developed to study behavior with the contributions made by the physiologist Ivan Pavlov in what is called with classical conditioning, which were the first laboratory-based experiments in psychology, this contribution continues to define the topic that psychology works on today, which is behavior and mental processes. The contribution of the natural sciences has emerged through the discoveries that have been made in the field of physiology, such as the discovery of the areas responsible for About language, the study of the sensory system, and the study of the mind... These important discoveries led to the development of psychology at the level of the curriculum on which it became dependent. It moved with cognitive and neurological psychology to rely on new techniques such as brain imaging and some of the methods used.

Keywords: Psychology; Natural Sciences; Experimental Method; Fatty Processes; Behavioral Biology; Neuroscience; Brain Imaging Techniques

Cite this article as: Eddamnati, Hicham. “Psychology and Natural Sciences: An Epistemological Reading of the Contribution of Natural Sciences to the Development of Psychology Subject, Methodology, Theoretical Framework,” Tajseer Journal for Interdisciplinary Studies in Humanities and Social Science, Vol. 7, Issue 1 (2025): pp. 87-99. https://doi.org/10.29117/tis.2025.0208

© 2025, Eddamnati, licensee, Tajseer & QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


 

مقدمة

يعدّ علم النفس من العلوم الحديثة التي وجدت لها مكانة متميزة بين نسق العلوم الانسانية والاجتماعية، وبالرغم من الاختلاف حول البدايات الفعلية لهذا العلم (له موضوع ومنهج)، بين من يرى ضرورة ربطه بالفلسفة كتخصص وبين من يعدّه علمًا مستقلًا، يؤكد روكلان موريس (Rochlan Morris) في هذا السياق أن علم النفس لو ظلّ ذلك الفرع من الفلسفة لكان له تاريخ يبتدئ مع أوائل الفكر الإنساني، غير أنه لم يمض بعد أكثر من مئة سنة على اكتشاف إمكانية وجود علم نفس علمي[1]. وعندما نتأمل جيدًا ما حدده روكلان يمكننا أن نؤكد أن شرعية علم النفس كعلم لم تكن إلا في منتصف القرن التاسع عشر، باعتبار التغيرات البنيوية والوظيفية التي عرفها، ليس من ناحية أهدافه أو موضوعه أو حتى منهجه، بل على مستوى تحديد علم النفس ذاته[2].

وبالعودة قليلًا إلى المستوى الأبستمولوجي لكرنولوجيا تحديد الموضوع والمنهج بالنسبة لعلم النفس، فإننا نستنتج أن هذا التخصص عرف مجموعة من المحطات التي كانت بارزة والتي ساهمت في إعطاء الشرعية لعلم النفس من خلال تحديد أهداف واضحة له (الوصف، التفسير، التنبؤ والضبط)، وتحديد موضوع قابل للاشتغال والقياس (الانتقال من دراسة الشعور إلى دراسة السلوك في بداية الأمر ثم السلوك والسيرورات الذهنية فيما بعد)، ثم تحديد منهج يمكن من علمية العلم (الانتقال من منهج الاستبطان إلى المنهج التجريبي)[3]

ووفق هذه المنطلقات الأبستيمولوجية التي اعتمدنا عليها وارتباطًا بهدف هذا المقال (توضيح كيف ساهمت العلوم الطبيعية في تطوير علم النفس) فإننا نؤكد ثلاث نقاط أساسية قبل الدخول في صلب الموضوع، وهي كالآتي:

أولًا: أن علم النفس تربطه علاقة وثيقة بكل الحقول المعرفية الإنسانية، وبالأخص الطبيعية منها، وهي وضعية خاصة ومتميزة، والذي برر هذا التمييز هو أن دراسة السلوك كموضوع لعلم النفس لا يتأتى إلا بدارسة الأسس البيولوجية المحددة لهذا السلوك (عن طريق العلوم الطبيعية)، ودراسة العوامل الاجتماعية والثقافية التي تؤدي إلى هذا السلوك (عن طريق العلوم الإنسانية والاجتماعية)، بالإضافة إلى دراسة السيرورات المعرفية المحددة لهذا السلوك (عن طريق العلوم المعرفية).

ثانيًا: أن أهداف علم النفس التي حددها (الوصف، التفسير، التنبؤ والضبط) لا يمكن أن تتحقق باستخدام البراديغم المعرفي الخاص بالعلوم الانسانية والاجتماعية، بل يجب أن يُعتمد من أجل تحقيق هذه الأهداف على العلوم الطبيعية بشكل مباشر مثل: علم الأعصاب المعرفي (خصوصًا فيما يخص دراسة السيرورات المعرفية) والبيولوجية وهو ما سنبرزه بشكل واضح في تفاصيل تحليلنا لهذا الموضوع في النقاط القادمة.

ثالثًا: علم النفس باعتباره علمًا تتجاذبه في الوقت الراهن العلوم الطبيعية والعلوم المعرفية، فإنه من أهم التخصصات التي التزمت بمنهج التجريب وتم تطبيقها وفق ما هو موجود في العلوم الطبيعية، بالرغم من أن موضوع الدراسة هو الإنسان والمشتغِل بهذا العلم هو أيضًا الإنسان، بحيث يبرز لنا بشكل ملموس فصل الذات المدروسة عن الذات الدارسِة[4].

وبناء على هذا التقديم الإشكالي العام، فإن هذا المقال سيأخذ طابعًا أبستمولوجيا من خلال التركيز على مساهمة العلوم الطبيعية في تطوير علم النفس، ومن أجل ذلك وضعنا ثلاث فرضيات انطلقنا منها لنخوص في تحليل تفاصيل هذه المساهمة وهي الاتية:

1-     أن العلوم الطبيعية ساهمت بشكل كبير في تحديد موضوع علم النفس من بداياته الأولى فالعلوم الطبيعية ساهمت في دراسة الشعور، وهي نفسها التي ساهمت في دراسة السلوك، واليوم تساهم في دراسة السيرورات الذهنية.

2-     علم النفس في تحديده لمنهجه الخاص اعتمد على العلوم الطبيعية وهذه الاخيرة طورت مناهج علم النفس بالانتقال من منطلق التجربة الكلاسيكية إلى استعمال التقنيات الحديثة لدراسة الكفاءات المبكرة (بدل السيرورات الذهنية) لدى الطفل.

3-     جميع النظريات في جميع فروع علم النفس تعتمد على البيولوجيا في فهم السلوك، حيث أصبح متجاوزًا الاهتمام بالسلوك والعوامل الخارجية (السياق الاجتماعي) التي تؤدي إلى هذا السلوك، بل أصبحت ضروريًا معرفة الأبعاد البيولوجية للسلوك لفهمه في معناه العام والكلي.

أولًا: مساهمة العلوم الطبيعية في تحديد موضوع علم النفس

1-     مساهمة العلوم الطبيعية في دراسة الشعور كموضوع أول لعلم النفس

لقد ارتبط استقلال علم النفس كتخصص علمي بإنشاء أول مختبر لعلم النفس التجريبي من طرف ويلهم فوندت (Wilhelm Wundt) بجامعة ليبزغ بألمانيا سنة 1879، وهي السنة التي سيحدد فيها موضوع علم النفس في دراسة الحياة العقلية كما أشار إلى ذلك جيمس (William James)، حيث يكون الاهتمام بشكل دقيق بدراسة عمليات الإحساس والإدراك ودراسة الملكات والانتباه...، وذلك وفق منطلق سيكوفيزيولوجي[5]. ولم يحدد هذا الموضوع ودراسته في علم النفس باعتباره تخصصًا ينتمي للعلوم الإنسانية والاجتماعية، بل كانت دراسته وفق منطلق العلوم الطبيعية؛ حيث إن دراسة هذه العناصر المكونة للشعور، وهي عناصر غير ظاهرة ولا تتم ملاحظتها إلا بالاعتماد على أسسها الفيزيولوجية.

في هذا الإطار أشار فوندت إلى أن علم النفس يجب أن يدرس كل الظواهر البسيطة والظواهر الواعية المعقدة[6]. وهو المبدأ الذي تعتمد عليه بشكل مباشر العلوم الطبيعية، مثل: الفيزياء والكيمياء التي تقوم بتجزئة الظواهر المعقدة إلى عناصر بسيطة من أجل تحديد خصائصها والعلاقات التي تربطها، وقد عُمل بالمبدأ نفسه من خلال تقسيم محتوى الشعور إلى عناصر بسيطة، ومحاولة فهم العلاقة بين هذه العناصر، وضبط علاقات التداخل والتتابع فيما بينها من أجل فهم القوانين المفسرة والمتحكمة في هذه الارتباطات.

إن التأمل جيدًا في المنطلق الذي انطلق منه علم النفس في بداياته يجعلنا نؤكد أن العلوم الطبيعية هي التي أسهمت في تحديد الموضوع الأول لعلم النفس، فأعمال فوندت – و هو عالم فيزيولوجي – أدّت إلى اعتماد مبادئ الفيزيولوجيا في تحديد مكونات الشعور و فهم العلاقة بينها، و هو الشيء نفسه بالنسبة لوليام جيمس – الذي يعتبر كذلك عالما فيزيولوجيًا – والذي يعدّ علم النفس من حقل العلوم الطبيعية، فقد قام بدراسة النشاط الذهني أو العقلي باعتباره وظيفة للنشاط العصبي (الفيزيولوجي)، فحسب جيمس، الشعور ليس مجرد مكونات متفاوتة التركيب و التعقيد، بل عبارة عن تيار دائم التدفق و الجريان، وبشكل عام فجيمس 1890 يؤكد على أن دراسة الحياة العقلية لا يمكن أن تتم إلى من خلال البيولوجيا[7]. وهو الطرح نفسه الذي أكد عليه جيمس أنجيل (James Angell) 1909؛ إذ يرى أنه لا دراسة لوظيفة الشعور بدون اللجوء إلى البيولوجيا، فقد طرح في هذا السياق فرضية مفادها أن علم النفس بدراسته لكيف ولماذا تشتغل العمليات العقلية، قد اعتمد بشكل ضمني على العلوم الطبيعية؛ لأنّ دراسة النشاط الذهني لا يمكن أن تكون وفق ما نلاحظه فحسب، بل يجب الاعتماد على تخصصات يمكن أن تساهم في دراسته[8].

إن تحليل ما توصل إليه المؤسسون الأوائل لعلم النفس كتخصص مستقل يمكننا من وضع استنتاجين رئيسين؛ الأول: أن من أسس لعلم النفس ووضع اللبنة الأولى له كتخصص هم علماء بالأساس ينتمون إلى العلوم الطبيعية، وبالتالي حاولوا اعتماء مبادئ المجالات التي ينتمون إليها في علم النفس، أما الاستنتاج الثاني: فهو أن دراسة النشاطات العقلية، وبالأخص التي تتجلى في الشعور، لا يتأتى أن تكون سواء على مستوى البنية (المدرسة البنيوية) أو على مستوى الوظيفة (المدرسة الوظيفية)، إلا بالاعتماد على الأسس البيولوجية، وبالتالي الاعتماد على العلوم الطبيعية وهو ما يجعلنا نُقرّ أن هذه الأخيرة ساهمت في استقلال علم النفس وفي تحديد موضوعه الأول ودراسته وفق مبادئها وقوانينها لنطرح سؤالا: إذا كانت العلوم الحقة ساهمت في تحديد موضوع علم النفس الأول وهو دراسة الشعور، فكيف ستساهم في دراسة السلوك.

2-     مساهمة العلوم الطبيعية في دراسة السلوك

بعد أن كان الموضوع الأول الذي حدده علم النفس هو الشعور والحياة العقلية وبالأخص من طرف المدرستين البنيوية والوظيفية، فسيعرف هذا الموضوع تطورًا، وذلك لأسباب ارتبطت بدواعي صعوبة القياس والضبط بالنسبة لهذا الموضوع. وقد أدّت هذه الأسباب إلى بلورة مرحلة جديدة من تطور علم النفس، فانتقل إلى دراسة السلوك كموضوع رئيسي[9]، وكما أشرنا إلى ذلك في مقالنا فإن العلوم الطبيعية كان لها دور كبير في تحديد هذا الموضوع ودراسته دراسة علمية، كيف ذلك؟

لقد كانت أول الأعمال التي حددت موضوع علم النفس وجعلته يرتبط بالسلوك هي أعمال في مجال الفيزيولوجيا من خلال دراسات العالم الروسي إيفان بافلوف (Ivan Pavlov) حول الإشراط التي نال من خلالها جائزة نوبل في الطب والفيزيولوجيا. ففي إطار أبحاث تجريبية كان يقوم بها حول الأسس والأسباب الفيزيولوجية للإفرازات اللعابية عند الكلب، لاحظ بافلوف أن لعاب الكلب بدأ يسيل قبل وصول الطعام وذلك بمجرد سماع خطوات الشخص الذي يقدم له الطعام، وهي الملاحظة التي أثارت انتباه بافلوف وجعلته يفكر في العوامل التي من الممكن أن تفسر هذه الظاهرة، وهنا طرح تجربته الشهيرة الإشراط الكلاسيكي[10]. إن هذه التجربة التي تمت في مجال العلوم الطبيعية ستمكن علم النفس من تغيير موضوعه بشكل تام ليكون موضوعه هو السلوك، وستساهم كذلك بشكل مباشر في وضع القوانين التي تنظم السلوك (قانون الزمن، التعزيز، الانطفاء، التعميم)

ووفق هذه القوانين التي حددت في مجال الفيزيولوجيا كانت البداية بدراسة السلوك الإنساني، وهو ما قام به جون واطسون (John Watson) الذي استمد جميع القوانين والإجراءات التي قام بها بافلوف وطبقها حرفيًّا في تجربته مع الطفل ألبرت حول تعلم انفعال الخوف[11]، هذه التجربة جعلته يعلن بشكل رسمي أن علم النفس هو علم دراسة السلوك وفق قاعدة أو معادلة مثير استجابة، وهو نفس النهج الذي ذهب إليه باقي رواد السلوكية من سكينر (Skinner) وثورندايك (Thorndike).

إن الاستنتاج الذي نخلص إليه من خلال هذه التجارب والنتائج التي تم التوصل إليها تجعلنا نقر بأن العلوم الطبيعية هي التي كانت السبب في تطور موضوع علم النفس؛ لأن التجارب التي أجراها بافلوف في مجال الفيزيولوجيا أدّت إلى وضع إطار واضح لدراسة السلوك كموضوع قابل للملاحظة والقياس، لكن مع تطور العلوم المعرفية وظهور الحاسوب بدأ التفكير في تطوير موضوع هذا العلم ليتجاوز موضوع السلوك إلى السيرورات الذهنية، وهو كذلك ما ستساهم فيه العلوم الطبيعية مساهمة كبيرة فكيف ذلك؟

3-     مساهمة العلوم الطبيعية في دراسة السيرورات الذهنية

بعد المساهمة الكبيرة لعلم النفس في دراسة السلوك من خلال فهم أسسه البيولوجية، والتي أدت إلى نظريات في بيولوجيا السلوك سنتطرق لها في النقطة الثانية من هذا المقال. عرفت دراسة موضوع السلوك انتقادات كثيرة للطريقة التي تتم بها دراسة هذا الأخير من طرف المدرسة السلوكية، وقد كانت مجمل الانتقادات تنطلق من كون دراسة السلوك كانت وفق منطق ميكانيكي يحول الإنسان إلى مجرد آلة، بالإضافة إلى أن دراسة هذا السلوك بالاعتماد على تجارب على الحيوانات كان محلّ تحفظ معظم المؤسسين لعلم النفس كبياجيه ((Piaget وجورج ميلر (Miller).

وبالتزامن مع ظهور الحاسوب والثورة المعرفية سيتطور موضوع علم النفس من دراسة السلوك إلى دراسة السيرورات الذهنية للفرد، وذلك لكون هذه السيرورات الذهنية تنتظم وفق أنساق وتكون لها وظائف محددة، وسيكون هذا التحول الكبير بإسهام من الأعمال المنجزة من طرف مدرسة الجشطلت وعلم النفس المعرفي[12] وهو ما يجعلنا نطرح كذلك سؤال: كيف ساهمت العلوم الطبيعية في دراسة السيرورات الذهنية؟

لقد ساهمت العلوم الطبيعية (وبالأخص علوم الاعصاب) مساهمة كبيرة في دراسة السيرورات الذهنية؛ حيث يمكن أن نعدّها العامل الأساس الذي أدى إلى الفهم بشكل أدق للوظيفة الأساسية لهذه السيرورات، فمساهمة العلوم الطبيعية في تطور علم النفس تظهر بشكل جلي في ثنائية (الدماغ والذهن). ففهم نشاطات الذهن – كموضوع لعلم النفس –  في علم النفس المعرفي لا يمكن إلا من خلال فهم النشاط الدماغي خصوصًا التواصل بين العصبونات في الدماغ (وهو موضوع علوم الاعصاب الذي ينتمي إلى علوم الحياة)[13]. وفي هذا السياق يوضح تيبرغيان Tibergien)) هذه العلاقة مع علم النفس في كون ظهور الحاسوب والثورة المعرفية مكّنا علم النفس من دراسة التمثلات الذهنية، بينما التصوير الدماغي مكن من فهم طبيعة التواصل بين السيالات العصبية وكيف تؤدي إلى هذه التمثلات الذهنية[14].

إن مساهمة العلوم الطبيعية في تطور موضوع علم النفس تبقى مهمة و أساسية لدرجة لا يمكن الاستغناء عنها، فلدراسة الاستجابات التي نقوم بها اتجاه مثيرات العالم الخارجي، لا يمكن الاكتفاء بما يتم تسجيله من سلوكيات تجري ملاحظتها، بل يعتمد على الاشتغال المعمق للذهن، بحيث وضحت الدراسات الحديثة في هذا المجال أن الدماغ له دور كبير في الأنشطة المعرفية التي يقوم بها الفرد، فبالرغم من أنه لا يمثل إلا نسبة 2 % من كتلة الجسم، لكنه يستهلك 20 % من طاقته، وأن بين 60% و 80% من إجمالي هذه الطاقة تستعمل بشكل مباشر من أجل التواصل بين السيالات العصبية، ويستعمل الباقي للتواصل مع المحيط الذي ينتمي إليه الفرد[15].

وتظهر كذلك أهمية العلوم الطبيعية في تطوير علم النفس في أنها مكنتنا من فهم النشاط الدماغي الأكثر تعقيدًا لدى الفرد خصوصا في وظائفه لحل المشكلات و التفكير واتخاد القرار و العناصر المرتبطة بالعاطفة، وكذلك السلوكيات داخل السياق الاجتماعي[16] ، ويبرز هذا النشاط بشكل جلي للباحثين في تحديد المناطق المسؤولة عن السلوك والحركة (المخيخ)، وفهم كيفية تكون الذكاء المجرد و اشتغاله (القشرة الدماغية)، ثم في تفسير الجانب العاطفي الوجداني الذي يكون لدى الأفراد وتحديد منطقته على مستوى الدماغ الحصين (Hippocampe)[17]. وبفضل هذه التخصصات التي تنتمي إلى العلوم الطبيعية تم فهم كيف يدرك الفرد الأشياء وكيف يفكر فيها، وكيف يشعر بها كذلك. هي وظائف لن تُفهم بملاحظة استجابات وردات فعل خارجية فحسب[18].

إن البراديغم الذي سيصبح مسيطرًا في علم النفس هو البراديغم المعرفي الذي سيهتم بشكل أساسي بدراسة السلوك والسيرورات الذهنية وهو براديغم سيمكن من إرساء نوع من المصداقية في تناول هذا الموضوع[19]، لكن بشرط التأكيد على أن هذه السيرورات مبنية بشكل مباشر على النشاط العصبي الذي يحدث في الدماغ. فبفضل العلوم الطبيعية تمكنا من استنتاج أن النشاط العصبي بين السيالات العصبية سبب يؤدي إلى سيرورات المعرفة (التي تعدّ وسيطة)، وتؤدي إلى سلوك كنتيجة[20].

ثانيًا: مساهمة العلوم الطبيعية في تطوير مناهج علم النفس

لم تقتصر مساهمة العلوم الطبيعة على تحديد موضوع علم النفس فقط كما رأينا، بل إن مساهمتها أيضًا شملت مناهج علم النفس؛ حيث إنه بعد تحديد الموضوع كان لابد من طرح منهج مناسب لدراسته فكانت البداية بمنهج الاستبطان الذي يكون عبارة عن عملية مطالعة ذاتية لفهم الحالة النفسية و العقلية للأفراد، و هذا المنهج لم يمكن علم النفس من الموضوعية التي تسمح له بدراسة الظواهر فانتقل بموجبه إلى تبني المنج التجريبي وفق ما هو معمول به في العلوم الحقة، وقد كان الاستعمال الأول لهذا المنهج من طرف ويلهام فوندت (Wilhelm Wundt) في إطار علم النفس التجريبي، فكانت التجارب الأولى على الحيوانات ليمتد فيما بعد تعميمها حتى على الإنسان من أجل استخلاص قوانين تأطر السلوك المدروس[21].

وقد اعتمد هذا الأخير على خطوات التجريب التي اعتمدها بشكل دقيق رغم خصوصية الظاهرة الإنسانية، فيبدأ أولًا بملاحظة الظاهرة المدروسة من أجل طرح مشكلة أو إشكالية محددة من خلال هذه الملاحظة تؤدي إلى طرح فرضيات للبحث، ووضع البرتوكول التجريبي من خلال تحديد العينة وضبط المتغيرات الدخيلة التي قد تؤثر في مسار البحث، ثم إجراء التجربة وإعادتها من أجل الوصول إلى نتائج يمكن تعميمها[22] ، ويستعمل هذا البرتوكول من أجل تحقيق الموضوعية والصرامة العلمية التي ظل يهدف إليها علم النفس منذ البداية.

لقد كانت هذه المراحل هي المعتمدة في العلوم الحقة مع اختلاف مواضيع الدراسة وهو ما استفاد منه علم النفس بشكل جلي وسيطور من خلاله مناهجه بتطور مناهج العلوم الطبيعية. انتقل هذا التطور لإحداث مناهج لها القدرة على وصف الاستعدادات والقدرات الأساسية للذهن – باعتبارها الموضوع الحالي لعلم النفس – وشرحها وجعلها قابلة للقياس[23]، فقد استعمل علم النفس المعرفي المنهج التجريبي بمعناه الواسع؛ إذ استعمل تقنيات حديثة تستعمل فقط في العلوم العصبية كالواقع الافتراضي، والتقييسات الرياضية والمعلوماتية وتصوير الدماغ الوظيفي[24].

فدراسة السيرورات الذهنية أو الوظائف المعرفية، وهي عناصر غير قابلة للملاحظة المباشرة أو حتى إمكانية الاستدلال عليها، شيء صعب بدون اللجوء إلى العلوم الطبيعية، رغم أن هذه السيرورات تتوسطها سلوكيات وأفعال يقوم بها هؤلاء الأفراد. لكن من خلال تقنيات تصوير الدماغ التي مكنت من رؤية الدماغ وهو يقوم بوظائفه في الزمن الفعلي[25]، والتي استفاد منها علم النفس؛ إذ تمكن من معرفة السيرورات الذهنية من خلال الفعل والقول ومعاينة نشاط الدماغ[26].

يظهر جليًّا الدور الكبير الذي أدّته العلوم الطبيعية في تطوير علم النفس من ناحية المنهج المستخدم من خلال تطوير مناهج دقيقة للملاحظة، مثل البروتوكولات الفردية التي توظف بالخصوص في نماذج الذكاء الاصطناعي، والتأكد من الفرضيات حول الميكانيزمات باستعمال مناهج إحصائية ومناهج التقييس[27].

ومن أجل توضيح هذه المساهمة أكثر، لابد من تقديم أمثلة لدراسات تبين بشكل ملموس أهمية الاعتماد على العلوم العصبية لدراسة السيرورات الذهنية والكفاءات المبكرة، فمع بداية الستينات ظهرت مساهمة فانز (Fantz ([28] في إدخال براديغم التفضيل البصري في المسار التجريبي لدراسة الكفاءات عند الرضيع. وبناء على هذه المساهمة، تبلورت طريقة تجريبية مكنت الباحثين في هذا المجال من دراسة الإدراك البصري للرضع، بحيث صمم فانز غرفة للبحث (looking chamber)، مجهزة بشاشتين للعرض وزر لقياس تثبيت النظر على كل شاشة، فمكنت هذه الاجراءات من فهم معمق لتثبيت النظر عند الرضيع.

سيسير أغلب الباحثين في علم النفس على نفس المنوال وسيستعملون أيضًا جهاز EEG[29] لرصد النشاط الدماغي أثناء القيام بنشاط أو التعرض لمثيرات معينة، ليستخلصوا منه خرائط طبوغرافية تبين الكيفية التي يقوم من خلالها بتوزيع الجهد أثناء هذه الاستجابات، وقد بينت الدراسات التي قام بها بيرجي Berger)) وفق هذا المنطلق أن التحليل الطيفي لنشاط الدماغ لدى فئة محددة من الرضع ينشط بشكل سلبي في حالة تقديم استجابات خاطئة أو غير ملائمة للمثيرات المقدمة لهم، حيث أوضحت دراستهم أن المنطقة المسؤولة عن الخطأ تنشط خلال هذه الاستجابات الخاطئة، وهي نفسها النتائج التي تم التوصل إليها تقريبًا مع دراسة المناطق التي تنشط في الدماغ عند الراشدين[30] ، وقد بُررت هذه النتائج خصوصًا المتعلقة بالرضع بكون المناطق الدماغية التي تتدخل لرصد الأخطاء تقوم بوظيفتها بشكل ملموس قبل اكتمال السنة الأولى من عمر الرضيع[31] .

ومنه نخلص إلى أن إسهامات العلوم الطبيعية في شكل العلوم العصبية كان كبيرًا، ويمكن أن نقول إن لها الفضل في الثورة التي يعرفها علم النفس، فبفضلها تمكن علم النفس من فهم واكتشاف الظواهر المعرفية، ووصفها وتحليلها وتقسيمها إلى وحدات والتأكيد على أسسها العصبية[32].

ثالثًا: مساهمة العلوم الطبيعية في تطوير النظريات في علم النفس

لم تقتصر مساهمة العلوم الطبيعية على تطوير علم النفس فحسب على مستوى الموضوع والمنهج كما رأينا في تحليلنا السابق، بل امتدت هذه المساهمة إلى تطوير نوعين من النظريات في علم النفس.

الأولى؛ تسمى بنظريات بيولوجيا السلوك، وتهدف إلى التخلي عن النمط التقليدي لدراسة السلوك الملاحظ والظاهر من خلال تقديم تفسيرات فيزيولوجية وبيولوجية للسلوك، وذلك بدراستها للأجهزة العصبية سواء المركزي منها أو المحيطي. وكان هدفها توضيح طريقة اشتغال الجهاز العصبي المحيطي الذي يقوم بنقل المعلومة من وإلى الدماغ بالاعتماد على المستقبلات الحسية وتحويلها إلى الجهاز المركزي (الدماغ والنخاع الشوكي) الذي يقوم بتقديم المعالجة المناسبة لها والاستجابة التي سياتي القيام بها.

أما النظريات الثانية؛ فتهتم بالوظائف المعرفية التي يقوم بها الفرد، بحيث تُكمن العلوم الطبيعية من تنظير وتقديم فهم مفصل للاشتغال الذهني وهو ما سنبرزه من خلال فهم نظريات الانتباه؛ الذاكرة والتمثلات الذهنية

ولكي يكون مقالنا هذا مقالًا يناقش و يحلل وفق آخر ما أُنتج في علم النفس الذي يوضح أهمية العلوم الحقة في تطوير علم هذا الحقل المعرفي، فإننا سنعتمد على نظريات طورت بفضل العلوم الطبيعية، ففهم طريقة اشتغال الذهن والكيفية التي يؤدي بها وظائفه، وهي عمليات تصعب معرفتها وفهمها بالاعتماد على النظريات التقليدية باعتبارها تعتمد على مفاهيم مجردة، كان للعلوم العصبية و تقنياتها دور كبير في فهم الكيفية التي تعمل بها هذه السيرورات، وسنبرز في هذا الإطار نظرية معالجة المعلومات، وهي النموذج الفعلي لمساهمة العلوم الطبيعة في تطوير علم النفس.

فالاشتغال الذهني بالنسبة لهذه النظريات لا يحصل كوحدة متكاملة، بل ترى هذه الأخيرة أن الذهن هو عبارة عن وحدات مستقلة تشتغل بشكل تعاقبي متسلسل، وبفضل هذا التقسيم يُسهل الدراسة العلمية للسيرورات المعرفية حسب فودر [33](Fodor)فهذا الأخير في نظريته يرى أن الذهن يتكون من ثلاث طبقات؛ الأولى محيطية ثم طبقة وسطى بالإضافة إلى طبقة مركزية. ويفسر في بداية نظريته الجهاز المحيطي باعتباره مجموعة من الأجهزة المتخصصة والمرتبطة ببنيات دماغية محددة، تعالج المعلومات الصادرة عن العالم الخارجي، ويتميز هذا الجهاز بثلاثة مميزات وهي سرعة معالجة المعلومات، والتقسيم الذي يقصد به أن كل وحدة تستقبل المعلومات التي تدخل في مجال تخصصها، وعدم القابلية للاختراق بمعنى أن المعلومات التي تعالج لا تخترق من طرف أحد الأجهزة العلوية، ويوضح Fodor أن مهمة هذا الجهاز المحيطي تكمن في معالجة العمليات الإدراكية المتعلقة بالحواس (السمع، البصر، اللغة...)[34].

أما بالنسبة للجهاز المركزي فهو جهاز واع يشتغل تحت مراقبة الانتباه، وهو عكس الجهاز المحيطي، فهو غير منقسم، ويقوم بمعالجة المعلومة بشكل بطيء، وليست له منطقة دماغية خاصة به، ودوره الأساسي يتجلى في معالجة المعلومات الصادرة عن الجهاز المحيطي بشكل شمولي؛ حيث يستقبل المعلومات الإدراكية من طرف إحدى الوحدات الخاصة التي تشتغل في الجهاز المحيطي. وقد كان هذا هو النموذج الأول الذي اشتغل به [35]Fodor قبل أن يطوره ويصبح الجهاز المركزي منقسما عنده إلى شقين جهاز مركزي غير منقسم، وجهاز مركزي منقسم. وتعدّ نظرية Fodor من أهم النظريات التي استندت على العلوم الطبيعية لفهم طبيعة اشتغال الذهن فهو تمثيل افتراضيّ لمعالجة المعلومة منذ استقبالها من طرف الوحدة المختصة في الجهاز المحيطي إلى مرورها ومعالجتها بشكل واع، من خلال شبكة المعالجة داخل الجهاز المركزي المنقسم، إلى حين وصولها إلى الجهاز المركزي غير المنقسم، حيث تتم معالجتها بشكل شمولي واع بناء على المعارف والتمثلات المخزنة والاستدلالات[36].

لقد كان هذا النموذج النظري من ضمن نماذج نظرية كثيرة استفادت من العلوم الطبيعية بشكل واضح لفهم السيرورات الذهنية، بل إن تطور التقنيات في العلوم الطبيعية سيساعد على دراسة هذه الوظائف حتى في بعدها الدقيق، وكنموذج على ذلك تبقى نظرية (Baddeley)[37] في تفسيرها للانتباه من أهم الأمثلة الملموسة التي تعكس ما تطرقنا إليه، فهذا النموذج سيقدم شرحا مفصلا من خلال الاعتماد على تقنيات تصوير الدماغ من أجل إبراز كيفية الاشتغال الوظيفي المعرفي للمسير المركزي في ذاكرة العمل[38]؛حيث يرى أن هذا الجهاز المركزي يمتاز بإمكانية الجمع بين معالجة مكونين أو مهمتين في وقت واحد دون أن يحدث أي تراجع على مستوى المهمتين إذا كانتا لا تستنفدان انتباه الخزان لتقسيم الانتباه بالتوازي بينهما، وهو نموذج من بين نماذج عديدة حاولت الفهم المعمق لآليات اشتغال الوظائف المعرفية وبالاعتماد أساسًا على ما طُوِّر في العلوم العصبية التي تشتغل على رؤية الدماغ مشتغلا في الزمن الفعلي[39].

خاتمة

إن التأمل جيدًا في هذا التحليل المعمق الذي قمنا به، والذي كان هدفه الأساسي تبيان أن علم النفس باعتباره الآن من العلوم التي تحتل مكانة متميزة بين باقي التخصصات ارتبط بشكل أو بآخر بانفتاحه على باقي التخصصات، وبالأخص العلوم الطبيعية. فهذه الاخيرة هي التي أعطت شرعية علم النفس، ومكنته من مواكبة تطور الظاهرة الإنسانية، ودراستها دراسة دقيقة وفق معايير تحترم الصرامة العلمية.

لقد قامت في البداية بالمساهمة في بلورة موضوع علم النفس وإخراجه من نطاق فلسفي إلى نطاق يتميز بالضبط والقياس من خلال دراسة السلوك، قبل أن تنتقل بعلم النفس إلى دراسة موضوع آخر وهو السيرورات الذهنية، وفهم الوظائف المعرفية التي يقوم بها الفرد أثناء تفاعله مع محيطيه المادي أو محيطه الاجتماعي. ثم انتقلت العلوم الطبيعية بموضوع علم النفس ليتجاوز الموضوعات الملموسة إلى دراسة موضوعات كانت في الوقت القريب ينظر إليها على أنها صعبة إذا لم نقل مستحيلة. ولازالت تساهم في تطور موضوعه. إن الدراسة الحالية أصبحت ترتكز على دراسة الكفاءات لدى الطفل الرضيع، وكيف تتكون هذه الكفاءات بغض النظر عن العوامل التي تؤثر فيها سواء كانت اجتماعية أو ثقافية.

أما على مستوى المنهج، فلا أحد في علم النفس ينكر المساهمة الكبيرة للعلوم الطبيعية في تطوير مناهجه، فقد ساهمت في وضع الأسس التجريبية للمنهج التجريبي المستخدم في علم النفس، على الرغم من الخصوصية التي تعرفها الظاهرة الإنسانية من خلال استخدام التجريب لدراستها. فأصبحنا في علم النفس نتحدث عن مفاهيم جديدة، مثل: المجموعة الضابطة، والمجموعة التجريبية، والبرتوكول التجريبي، وتعميم النتائج، وهي في الأساس مفاهيم تنتمي إلى العلوم الطبيعية، وقد استمر تطوير هذه المناهج إلى أن أصبح علم النفس يعتمد على تقنيات تصوير الدماغ والتخطيط الكهربائي لدراسة نشاط الدماغ، وهي تقنيات ومناهج ستمكن من الإلمام بشكل واضح بطبيعة الاشتغال الذهني وضبطه، ومعرفة المناطق التي تشتغل في الدماغ والسيرورات سسالمعرفية المستخدمة أثناء معالجة المثيرات التي يتلقاها من المحيط.

اختتمنا هذا التحليل المركز بإبراز أهمية العلوم الطبيعية في تطوير نظريات علم النفس، ذلك أن جميع النظريات اليوم الموجودة في علم النفس المعاصر نجد أن أسسها المعرفية مستمدة من العلوم الطبيعية (معالجة المعلومة، نظرية التمثلات الذهنية...)، أو أن من أسس لهذه النظريات ينتمي هو نفسه إلى العلوم الطبيعية لكن يشتغل بعلم النفس.

وبالتالي فالعلاقة التي تربط علم النفس بالعلوم الطبيعية هي علاقة اتصال بدأت من التأسيس الفعلي لعلم النفس ورافقت تطوره، ولا زالت تساهم في جعله علمًا خاصًا رغم انتمائه لحقل العلوم الإنسانية والاجتماعية.

 

 


 

المراجع

أولًا: العربية

الـبـرنـوصـي، حـسـيـبـة الـطـايـفـي وزغـبـوش، بـنـعـيـسـى وبوعناني، مصطفى. "الذاكرة: بين إسهامات التطور التقني ومتغيرات معالجة اللغة "، ضمن اللغة والذاكرة والكفاءات، تنسيق وتقديم بنعيسى زغبوش وإسماعيل علوي، فاس: منشورات مختبر العلوم المعرفية، 2015.

بلحاج، عبد الكريم. "علم النفس بين المنظور العلمي والتمثلات الاجتماعية"، مجلة رباط الكتب الإلكترونية، 26 يونيو 2014، استرجع في 23/01/2023، على الرابط: https://ribatalkoutoub.com/?p=1772

–––. "السيكولوجيا بين المشروع العلمي والمشروعية المجتمعية"، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ع25 (2005)، ص61-76، على الرابط: https://search.emarefa.net/detail/BIM-1322728

–––. "علم النفس: من علوم الإنسان إلى العلوم المعرفية" أنفاس نت، 18/3/2016، استرجع في 12/1/2022، على الرابط: https://anfasse.org/2010-12-27-01-33-59/2010-12-05-18-30-05/6666

تيبرغيان، غي وآخرون، قاموس العلوم المعرفية (فرنسي – عربي)، ترجمة جمال شحيد، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2013.

روكلان، موريس. تاريخ علم النفس، ترجمة علي زيعور وعلي مقلد. بيروت: منشورات عويدات. 1977.

زغبوش، بنعيسى. "التجريب بين علم النفس وعلوم الأعصاب: اشتراك في البراديغم، واختلاف في التقنيات، وتشابه في النتائج"، مجلة عمران، مج29، ع8 (2019)، ص 7-31.

عامود، بدر الدين. علم النفس في القرن العشرين، دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001.

المحمودي، محمد سرحان علي، مناهج البحث العلمي، صنعاء: دار الكتب، 2015.

ثانيًا: الأجنبية                                                                                                                                                                                       References

Albrnwṣy, ḥsybh alṭāyfy wzghbwsh, bnʻysá wbwʻnāny, Muṣṭafá. “al-dhākirah: bayna Isʹhāmāt al-taṭawwur al-tiqanī wa-mutaghayyirāt Muʻālajat al-lughah” (in Arabic), In: Bin-ʻĪsá zghbwsh wa-Ismāʻīl ʻAlawī (eds.), al-lughah wa-al-dhākirah wa-al-kafāʼāt, Fez: Manshūrāt Mukhtabar al-ʻUlūm al-maʻrifīyah, 2015.

al-Maḥmūdī, Muḥammad Sarḥān Ali. Research Methodology (in Arabic), Sanaa: Dār al-Kutub, 2015.

ʻĀmūd, Badr al-Dīn. ʻilm al-nafs fī al-qarn al-ʻishrīn (in Arabic), Damascus: Ittiḥād al-Kitāb al-ʻArab, 2001.

Andler, Daniel. Cognitives (Sciences), Encyclopaedia Universalis, Vol. 6, Paris: Nouv. Ed, 1989.

Angell, J.R. Psychology: An Introductory Study of the Structure and Function of Human Consciousness. New York: H. Holt. 1904.

Berger, Andrea., Tzur, Gabriel & Posner, Michael I. “Infant Brains Detect Arithmetic Errors,” PNAS, Vol. 103, No. 33 (August 2006), pp. 12649-12653. https://doi.org/10.1073/pnas.060535010.

Bertrand, A & Garnier, P. Psychologie cognitive, France: Studyrama, 2005(

Bilḥājj, ʻAbd al-Karīm. “ʻilm al-nafs bayna al-manẓūr al-ʻIlmī wa-al-tamaththulāt al-ijtimāʻīyah” (in Arabic), Majallat Rabāṭ al-Kutub al-iliktrūnīyah, 26 June 2014, accessed on 23/01/2023, at : https://ribatalkoutoub.com/?p=1772

–––. “alsykwlwjyā bayna al-mashrūʻ al-ʻIlmī wa-al-mashrūʻīyah al-mujtamaʻīyah” (in Arabic), Majallat Kullīyat al-Ādāb wa-al-ʻUlūm al-Insānīyah, No. 25 (2005), pp. 61-76. https://search.emarefa.net/detail/BIM-1322728

–––. “ʻilm al-nafs: min ʻulūm al-insān ilá al-ʻUlūm al-maʻrifīyah” (in Arabic), Anfās Net, 18/3 /2016, accessed on 12/1 /2022, at: https://anfasse.org/2010-12-27-01-33-59/2010-12-05-18-30-05/6666

Bruner, Jérôme. Y a–t–il une fin aux Révolutions Cognitives? Revue Française de Pédagogie, No. 111 (1995), pp. 73-84.

Dennett, Daniel C. Théorie Evolutionniste de la Liberté, trad. Christian Cler, Paris: Odile Jacob, 2004.

Etien, Sandrine. Le Sens des Nombres, Les dossiers de la recherche, No. 34 (February 2009).

Eustache, F., Lechevalier, F. & Viader, B. Traité de neuropsychologie clinique: neurosciences cognitives et clinique de l’adulte, France: De Boeck, 2008.

Fantz, Robert L. “The Origin of Form Perception,” Scientific American, Vol. 204 (May 1961) pp. 66–72. https://doi.org/10.1038/scientificamerican0561-66

Gardner, H. Histoire de la révolution cognitive, Paris: Payot.1993.

Gardner, Howard. The Mind’s New Science: A History of the Cognitive Revolution, New York: Basic Books, 1985.

Ghiglione, R. & Richard, J-F. Cours de psychologie: 1. origines et bases, Paris: Dunod, 1992.

James, W. The Principles of Psychology, Cambridge: Harvard University Press, 1981.

Jeannerod, Marc. Psychologie et Neurosciences: Une Autre Conception de la Nature Humaine, Sciences Humaines (Hors–série spécial), No. 7 (September–October 2008).

Mengal, P. Pour une histoire de la psychologie”, Revue de synthèse, Vol. 109, No. 3/4 (1988), pp. 485–497. https://doi.org/10.1007/BF03189143.

Pavlov, I. P. Conditioned reflexes, London: Routledge and Kegan Paul, 1927.

Raichle, Marcus. “Que Fait le Cerveau Inactif? La Recherche, No. 410 (July–August 2007).

Ricard, J.F. Traité de psychologie cognitive, Tome 3, Paris: Dunod, 1990.

Rousseau, Fortier et. Psychologie cognitive, Canada: Presses de université́ du Québec, 1989.

Rucklin, Maurice. Histoire de la psychologie (in Arabic), trans. Alī Zayʻūr wa-ʻAlī Muqallid. Beirut: Manshūrāt ʻUwaydāt, 1977.

Schmidgen, Henning. Wundt et l’unité de la psychologie, Bulletin de Psychologie, Vol. 52, No. 440 (1999), pp. 237-246.

Searle, John. Mind: A Brief Introduction, New York: Oxford University Press, 2004.

Tiberghien, Guy & et al. Dictionnaire des sciences cognitives (Faransī – ʻArabī) (in Arabic), trans. Jamāl Shuḥayyid, Beirut: Arab Organizations for Translation, 2013.

Watson, J. B. “Psychology as the behaviorist views it,” Psychological Review, Vol. 20, No. 2 (1913), pp. 158-177. https://psycnet.apa.org/doi/10.1037/h0074428

Zarhbouch, Benaissa. “Experimentation between Psychology and Neuroscience: One Paradigm, Various Techniques, and Similar Results” (in Arabic), Omran, Vol.29, No.8 (2019), pp. 7-31.



* قُدم في: مؤتمر مركز ابن خلدون السنوي للتجسير (30 سبتمبر-1 أكتوبر 2023).

* Submitted for: The Annual Conference of Ibn Khaldon Center on Interdisciplinary Research (September 30th-October 1st, 2023).

[1] موريس روكلان، تاريخ علم النفس، ترجمة علي زيعور وعلي مقلد (بيروت: منشورات عويدات، 1977)، ص6.

[2] P. Mengal, Pour une histoire de la psychologie,” Revue de synthèse, Vol. 109, No.3/4(1988), p. 497.

[3] عبد الكريم بلحاج، "السيكولوجيا بين المشروع العلمي والمشروعية المجتمعية"، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ع25 (2005)، ص61-76.

[4] عبد الكريم بلحاج، "علم النفس بين المنظور العلمي والتمثلات الاجتماعية"، مجلة رباط الكتب الإلكترونية، 26 يونيو 2014، استرجع في 23/01/2023، على الرابط: https://ribatalkoutoub.com/?p=1772

[5] Henning Schmidgen, “Wundt et l’unité de la psychologie,” Bulletin de Psychologie, Vol. 52, No. 440 (1999), p. 237.

[6] W. James, The Principles of Psychology (Cambridge: Harvard University Press,1981).

[7] Schmidgen, “Wundt et l’unité de la psychologie,” p. 237.

[8] J.R. Angell, Psychology: An Introductory Study of the Structure and Function of Human Consciousness (New York: H. Holt. 1904).

[9] R. Ghiglione & J-F. Richard, Cours de psychologie : 1. origines et bases (Paris : Dunod, 1992), pp. 9-10.

[10] I. P. Pavlov, Conditioned reflexes (London: Routledge and Kegan Paul,1927).

[11] J. B. Watson, Psychology as the behaviorist views it,” Psychological Review, Vol. 20, No. 2 (1913), pp. 158-177.

[12] عبد الكريم بلحاج، "علم النفس: من علوم الإنسان إلى العلوم المعرفية " أنفاس نت، 18/3/2016، استرجع في 12/1/2022، على الرابط: https://anfasse.org/2010-12-27-01-33-59/2010-12-05-18-30-05/6666

[13] بنعيسى زغبوش، "التجريب بين علم النفس وعلوم الأعصاب: اشتراك في البراديغم، واختلاف في التقنيات، وتشابه في النتائج، مجلة عمران، مج29، ع8 (2019)، ص7-31.

[14] غي تيبرغيان، وآخرون، قاموس العلوم المعرفية (فرنسي – عربي)، ترجمة جمال شحيد (بيروت: المنظمة العربية للترجمة،2013)، ص28.

[15] Marcus Raichle, “Que Fait le Cerveau Inactif ? La Recherche, No. 410 (July–August 2007), p. 73.

[16] Daniel C. Dennett, Théorie Evolutionniste de la Liberté, trad. Christian Caler (Paris : Odile Jacob, 2004).

[17] Jérôme Bruner, Y a–t–il une fin aux Révolutions Cognitives ? Revue Française de Pédagogie, No. 111 (1995), pp. 73-84.

[18] Marc Jeannerod, Psychologie et Neurosciences : Une Autre Conception de la Nature Humaine, Sciences Humaines (Hors–série spécial), No. 7 (Septembre–Octobre 2008), p. 78.

[19] H. Gardner, Histoire de la révolution cognitive (Paris : Payot,1993).

[20] Ibid.

[21] بدر الدين عامود، علم النفس في القرن العشرين (دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001)، ص220.

[22] محمد سرحان علي المحمودي، مناهج البحث العلمي (صنعاء: دار الكتب، 2015)، ص82.

[23] Daniel Andler, Cognitives (Sciences)”, Encyclopaedia Universalis, Vol. 6 (Paris: Nouv. Ed, 1989).

[24] Ibid.

[25] حـسـيـبـة الـطـايـفـي الـبـرنـوصـي وبـنـعـيـسـى زغـبـوش ومصطفى بوعناني،"الذاكرة: بين إسهامات التطور التقني ومتغيرات معالجة اللغة"، ضمن اللغة والذاكرة والكفاءات، تنسيق وتقديم بنعيسى زغبوش وإسماعيل علوي (فاس: منشورات مختبر العلوم المعرفية، 2015).

[26] المرجع نفسه.

[27] المرجع نفسه.

[28] Robert L. Fantz, The Origin of Form Perception, Scientific American, Vol. 204 (May 1961), pp. 66-72.

[29] ويشير إلى التخطيط الكهربائي لدراسة نشاط الدماغ وهو من بين الآليات التي استخدمت في علم النفس المعرفي، والتي توضح كذلك العلاقة بين العلوم العصبية وعلم النفس المعرفي.

[30] Andrea Berger, Gabriel Tzur & Michael I. Posner, “Infant Brains Detect Arithmetic Errors,” PNAS, Vol. 103, No. 33 (August 2006), pp. 12649-12653.

[31] Sandrine Etien, “Le Sens des Nombres,” Les dossiers de la recherche, No. 34 (February 2009), pp. 46-47.

[32] Howard Gardner, The Mind’s New Science: A History of the Cognitive Revolution (New York: Basic Books, 1985).

[33] Fortier et Rousseau, Psychologie cognitive (Canada : Presses de université́ du Québec, 1989(.

[34] J.F. Ricard, Traité de psychologie cognitive, Tome 3 (Paris : Dunod, 1990).

[35] Ibid.

[36] A. Bertrand & P. Garnier, Psychologie cognitive (France : Studyrama, 2005. (

[37] F. Eustache, F. Lechevalier & B. Viader, Traité de neuropsychologie clinique : neurosciences cognitives et clinique de l’adulte (France: De Boeck, 2008).

[38] Ibid.

[39] John Searle, Mind: A Brief Introduction (New York: Oxford University Press, 2004).