تاريخ الاستلام: 15 أكتوبر 2024 | تاريخ التحكيم: 28 نوفمبر 2024 | تاريخ القبول: 09 يناير 2025
مقالة بحثية
تجسير الفجوة المعرفية بين الأخلاق المعيارية والمهنية: مقاربة في الأخلاق المُطبّقة كمنهجية إرشادية
خالد قطب
أستاذ الفلسفة، قسم العلوم الإنسانية، كلية الآداب والعلوم، جامعة قطر–قطر
https://orcid.org/0000-0001-8054-446X
طرح فلاسفة الأخلاق سؤالًا عمّا إذا كانت القيم الأخلاقية المعيارية قادرة على حل المعضلات الأخلاقية التي تنشأ عن التطورات المتسارعة في مجال العلوم وتطبيقاتها التكنولوجية، وتَحكّم الشركات متعددة الجنسيات في المعرفة المُنتَجة وسبل تطبيقها، الأمر الذي نتجت عنه تحديات أخلاقية فرضتها تلك التطورات على حياتنا الواقعية المعيشة من جهة، والمهنية من الجهة الأخرى، أم تعجز وحدها عن الوفاء بهذه المهمة؟ وقد شهدت العقود القليلة الماضية اهتمامًا بتجسير الفجوة بين الأخلاق المعيارية الصورية المجردة والأخلاق المطبّقة بوصفها منهجية إرشادية – أو برنامج بحث إرشادي – تستجيب لأشكال الظلم، من انتهاكات وتجاوزات في مجال المهن، سيما الرعاية الصحية، والحقوق، والأعمال. لقد نشأت معضلات أخلاقية خطيرة، في هذا الشأن، دفعت باحثي الأخلاق المعاصرين، إلى البحث عن "منهجية" إرشادية عابرة للتخصصات، قادرة على التعامل مع المعضلات الأخلاقية التي تواجه المهنيين، وقادرة على تجسير الفجوة المعرفية بين المعياري والتطبيقي الواقعي.
تفترض هذه الورقة أن القضايا الأخلاقية والتساؤلات المثارة في قضايا المهن الملحة التي تواجه العلاقة بين المهنيين والعملاء (متلقي خدمة المهنيين) تتطلب منهجية بحثية إرشادية عابرة للتخصصات الضيقة، بل عابرة للقواعد واللوائح والقوانين المهنية المحدودة. تعتمد تلك المنهجية على "الأخلاق المطبّقة" التي تجمع الافكار المتباينة لتقدِّم بها رؤىً جديدة وتأويلات وابتكارات ثرية، توطِّد العلاقة بين المعارف النظريَّة التي ينتجها العقل الاخلاقي المعياري، وبين المجتمع والقيم والممارسات المهنية.
الكلمات المفتاحية: الأخلاق المعيارية، الأخلاق المطبّقة، المهنة، المهنية، النموذج الإرشادي، التجسير المعرفي، التكامل المعرفي، الفجوة المعرفية
للاقتباس: قطب، خالد. "تجسير الفجوة المعرفية بين الأخلاق المعيارية والمهنية: مقاربة في الأخلاق المُطبّقة كمنهجية إرشادية"، مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، المجلد السابع، العدد 1 (2025): 37-61. https://doi.org/10.29117/tis.2025.0206
© 2025، قطب، الجهة المرخص لها: مجلة تجسير، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-Noncommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وتنبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأي وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0
Submitted: 15 October 2024 | Reviewed: 28 November 2024 | Accepted: 09 January 2025
Research Article
Bridging the Epistemological Gap Between Normative and Professional Ethics: An approach of Applied Ethics as a Paradigm
Khaled Qutb
Professor of Philosophy, Department of Humanities, College of Arts and Sciences, Qatar University–Qatar
https://orcid.org/0000-0001-8054-446X
Abstract
Ethicists question whether normative ethical values can adequately address the moral dilemmas arising from rapid scientific progress, technological applications, the influence of multinational corporations on knowledge production and dissemination. These developments have created ethical challenges that permeate both personal and professional life. The question remains: Can normative ethics alone provide a paradigm for navigating these complexities, or do they fall short? In recent decades, there has been interest in bridging the gap between abstract, formal normative ethics and applied ethics. This interest has been driven by the ethical dilemmas arising from injustice, and human rights violations, particularly in fields such as healthcare, human rights, and business. These pressing moral challenges have prompted contemporary ethicists to seek an interdisciplinary approach to addressing the ethical dilemmas faced by professionals, ultimately aiming to close the divide between normative and applied ethics. This paper posits that the ethical issues and challenges arising within professions, as well as in the relationships between service providers and their clients, necessitate a methodology that extends beyond narrow specializations, limited professional rules, regulations, and laws. It advocates for adopting "applied ethics" as a paradigm capable of fostering interdisciplinary exchange, generating novel insights and interpretations, and facilitating rich, innovative interactions. This approach strengthens the connection between theoretical knowledge derived from normative ethical reasoning, society, values, and practices, particularly in professional contexts.
Keywords: Normative Ethics; Applied Ethics; Profession; Professional; Paradigm; Epistemological Gap; Epistemological Bridging; Epistemic Complementary
Cite this article as: Qutb, Khaled. “Bridging the Epistemological Gap Between Normative and Professional Ethics: An approach of Applied Ethics as a Paradigm,” Tajseer Journal for Interdisciplinary Studies in Humanities and Social Science, Vol. 7, Issue 1 (2025): pp. 37-61. https://doi.org/10.29117/tis.2025.0206
© 2025, Qutb, licensee, Tajseer & QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0
لا يخلو أي مجال معرفي من طرح "سؤال الأخلاق"[1] وتقديم إجابات عنه. وربما يرجع ذلك إلى أن سؤال الأخلاق ذاته متجذر في تاريخ البشرية قاطبة منذ القدم. فقد سعى الإنسان في كل عصر إلى اكتشاف طبيعة الكون، وطبيعته هو ذاته، بوسائل مختلفة تتناسب مع المنظومة المعرفية والقيمية السائدة في عصره، والتي يفكر ويسلك وفقًا لآلياتها، ومفاهيمها، وقيمها الأخلاقية. وعندما كان يصل الإنسان إلى نتائج واضحة عن أصل الكون، وأصله هو ذاته، يطرح سؤالًا بشأن مكانة القيمة الأخلاقية في عملية الاكتشاف تلك. وقد تطور هذا السؤال في عصرنا الحالي واتّخذ صورة تفسير العلاقة بين الأخلاق المعيارية والمُطبّقة أو التطبيقيّة، والبحث فيما إذا كانت القيم الأخلاقية المعيارية قادرة على حل المعضلات الأخلاقية التي تنشأ عن ممارسة المهنيين لمهنهم على اختلافها، أم تعجز وحدها عن الوفاء بهذه المهمة[2]. أو بعبارة أخرى، تغَيّرت دلالات مفهوم الأخلاق على مدى قرون، وأعيد تفسير مبادئها، وقواعدها مرات ومرات نتيجة لتغير الثقافات، وطبيعة القضايا المطروحة على المستويات: الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والمهنية العملية، وبطبيعة الحال، الفلسفية. وعلى الرغم من ذلك يُستدعى سؤال الأخلاق باستمرار عندما يسود التردي الأخلاقي، والتدهور حياتنا.
وقد شهدت العقود القليلة الماضية اهتمامًا بتجسير الفجوة بين الأخلاق المعيارية الصورية المجردة والأخلاق المُطبّقة لما أثارته مشاهد الحروب، والعنف، والظلم، والانتهاكات والتجاوزات، لا سيما في مجال الرعاية الصحية، والحقوق، والأعمال، من معضلات أخلاقية خطيرة. وهذا الذي دفع الباحثين المعاصرين في مجال الأخلاق إلى البحث عن "منهجية" إرشادية عابرة للتخصصات بهدف التعامل مع المعضلات الأخلاقية التي تواجه المهنيين بهدف تجسير هذه الفجوة[3].
لا ينكر إلا مكابر أن العالم من حولنا أصبح أكثر تعقيدًا نتيجة التطورات المتسارعة في مجال العلوم وتطبيقاتها التكنولوجية. فقد حدث شكل من أشكال التزاوج بين رأس المال والسلطة. وتَحكّمت الشركات متعددة الجنسيات في المعرفة المُنتَجة وسبل تطبيقها. الأمر الذي نتجت عنه تحديات أخلاقية فرضتها تلك التطورات على حياتنا الواقعية المعيشة من جهة، والمهنية من الجهة الأخرى[4]. فالمتغيرات الحادثة في عالمنا المعاصر، وتداخل الأزمات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية، تجعل مناقشة الدور الذي تضطلع به "الأخلاق المُطبّقة"، على المستويين: المعرفي النظري التأسيسي، والعملي التطبيقي، أمرًا ضروريًا. خاصة بعد الفراغ الأخلاقي الذي يعاني منه الإنسان المعاصر. يعكس هذا الفراغ أزمة أخلاقية في المبادئ المعرفية النظرية المؤسسة للمنظومة القيمية التي توجه هذا الإنسان. إن افتقار الإنسان المعاصر لهذه المنظومة القيمية، والتي تضم المعايير والمبادئ الأخلاقية المعيارية والعملية المطبّقة، وتوجه سلوك الناس في حياتهم، والمهنيين في مهنهم، يجعل وضع منهجية إرشادية نؤسس وفقًا لها منظومة قيمية قابلة للتطبيق، ضرورة واقعية، وثقافية، واجتماعية، وسياسية، والأهم مهنية أيضًا.
تفترض هذه الورقة أن القضايا الأخلاقية والتساؤلات المثارة في المهن والقضايا الملحة التي تواجه العلاقة بين العملاء (متلقي الخدمة من المهنيين) وبين ممارسي هذه المهنة، تتطلب منهجية بحثية عابرة للتخصصات الضيقة، والقواعد واللوائح والقوانين المهنية المحدودة، وذلك بالاعتماد على "الأخلاق المطبّقة" بعدّها منهجية إرشادية. ومن شأن هذه المنهجية أن تعمل على مشاركة الأفكار على اختلافها وتنوعها، وتقديم رؤى جديدة، وتأويلات وابتكارات ثرية، وتفاعلية، لكونها توطد العلاقة بين المعارف النظرية التي ينتجها العقل الأخلاقي المعياري من جهة، والمجتمع والقيم، والممارسات – لا سيما الممارسات المهنية منها – من جهة أخرى.
وتقتضي مقاربة هذه الفرضية التطرق إلى ثلاثة محاور رئيسة:
المحور الأول: تمهيدي؛ حيث يسعى هذا المحور إلى فهم الفجوة المعرفية في الأخلاق المعيارية بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن فعلًا. وما تنبغي ممارسته من أنواع السلوك المختلفة لا سيما في الحياة عامة، وفي المهن خاصة. فقد اكتفى بعض فلاسفة الأخلاق بالتنظير والتأسيس المعرفي المجرد للمبادئ الأخلاقية والمعايير الموجهة للسلوك فحدثت الفجوة أو الانفصال. ولهذا طرحنا سؤالًا رئيسًا يمثل جوهر هذا المحور وهو: هل النظريات الفلسفية الأخلاقية المعيارية التقليدية كافية لتفسير التغيرات المعرفية، والسلوكية، والأزمات التي نشهدها في عالمنا المعاصر، لا سيما في المهن على اختلافها؟ أم تحتاج إلى تغيير بنائها المعرفي النظري لتصبح أخلاقًا مطبقة، أو قابلة للتطبيق؟
أما المحور الثاني فهو: الانفصال بين المهنية كقيمة وممارساتها. تطرح الورقة سؤالًا مفاده: هل هناك قواعد مهنية، والتزامات أخلاقية عامة تنطبق على كل المهن، وتحدد لأعضاء المهن والمشتغلين بها السلوك الواجب اتباعه، وما لا يجب اتباعه تجاه العملاء أو الجمهور العام، بحيث لا نجد اختلافًا، أو فروقًا في تطبيقها من مهنة إلى أخرى، أو من عصر إلى آخر؟ أم أن لكل مهنة أخلاقها الخاصة بها، ومبادئها، وقواعدها التنظيمية الواجب اتباعها، والتي تُصاغ في صورة مواثيق، ولوائح، وقوانين؟ وهل يمكن لما يسمى بـ "الأخلاق المهنية" توجيه سلوك المهني وفقًا لمجموعة من المواثيق، واللوائح، والقوانين بهدف تحقيق منفعة عامة (للمهنة ذاتها) أم خاصة (للمهني ذاته) من دون الاستناد إلى نظريات فلسفية أخلاقية معيارية؟ وهل هذه المواثيق واللوائح والقوانين هي المعنية بتجاوز المعضلات الأخلاقية التي تواجه المهنيين أنفسهم؟
ثم يأتي المحور الثالث الذي يطرح سؤالًا هو: هل يتعين علينا لكي نتجاوز هذه الفجوة ونجسرها توجيه الاهتمام إلى شكل من أشكال "الأخلاق القابلة للتطبيق" أو الأخلاق المطبّقة كمنهجية عابرة للتخصصات تحدد سلوك الإنسان العادي (متلقي الخدمة) والمهني (مقدم الخدمة) على حد سواء، بحيث تعمل هذا المنهجية على تأسيس نظرية فلسفية معيارية في الأخلاق المطبّقة من جهة، وتضع في الوقت ذاته، آليات لحل المشكلات والمعضلات الناشئة عن المجال المهني من الجهة الأخرى؟
ولمقاربة هذه المحاور الثلاثة كان لابد من اتباع منهجية بحثية تعتمد على شكل من أشكال "التكامل المعرفي" بهدف البحث عن العلاقة المتداخلة بين النظر والعمل، وبين الفكر والتطبيق من خلال البحث عن "المنطق" و"القيمة" اللذين يحكمان هذه العلاقة.
ويمكن أن نستشرف النتائج المتوقعة من مقاربة الفرضية المطروحة في هذه الورقة وهي: أن الأخلاق المطبّقة، بعدّها منهجية إرشادية موجهة، هي السبيل إلى تجسير الفجوة المعرفية بين الأخلاق المعيارية الصورية المجردة والمهنية. فالمهن على اختلاف أنواعها، في حاجة إلى مبادئ وقواعد أخلاقية معيارية تنظم العمل بها للحد من المخالفات، والتجاوزات التي تتم بوعي أو من دون وعي، داخل المهن ذاتها، والتي تصدر عن المهنيين أنفسهم. ولا تكفي المواثيق، واللوائح، والقوانين التي تضعها كل مهنة على حدة للحد من تلك المخالفات أو التجاوزات، بل يتعين وجود "منظومة أخلاقية قابلة للتطبيق" تنظم سلوك المهنيين، والعاملين في أي مهنة أو مؤسسة. ومن هنا جاءت أهمية هذه الورقة.
سعى الفلاسفة منذ القدم إلى تأسيس بناء معرفي نظري من قواعد ومبادئ لتوجيه السلوك البشري[5]. وهو ما يعرف بالأخلاق Ethics، وهو بناء يبحث نظريًا عن الفضيلة الأخلاقية، وطبيعة الخير والشر، أو الخيرية، والإرادة الحرة المتصفة بالخيرية، وطبيعة الإلزام الخُلقي، والواجب[6]. ويؤسس نظريًا، لمفاهيم وتصورات عن الطرق التي نحكم بها على فعل ما من أفعال الإنسان، وهو ما يُسمى في تاريخ الفكر الفلسفي بالأحكام الخُلقية. إضافة إلى طرح فلاسفة الأخلاق لسؤال: ما إذا كانت القيم الأخلاقية، في ذاتها تتسم بالذاتية، أم بالموضوعية[7]. وهل ثمة مجموعة من القواعد، والمبادئ، أو طرق التفكير التي ترشدنا إلى أفعال توصف على أنها صواب أخلاقيًا؟ وهل هذه المجموعة نفسها ترشدنا إلى تجنب أفعال توصف على أنها خاطئة أخلاقيًا، أم أن الاختلاف والتنوع بين الأفراد والمجتمعات يحول دون وجود قيم أخلاقية، أو مبادئ إرشادية؟ ومن ثم لا يوجد معيار يمكن على أساسه الحكم على إجابة واحدة بأنها أفضل من أخرى. وهل ثمة قيمة أخلاقية ما أحق أن تُتَّبع أكثر من أخرى؟[8] يقول هاري جينسلر(Harry J. Gensler) "عندما نقارب الأخلاق المعيارية، فإننا "نفكر" في الكيفية التي ينبغي لنا العيش بها. أو بعبارة أخرى، تطرح الأخلاق المعيارية أسئلة عن المبادئ التي تتعين علينا معرفتها للعيش وفقا لها"[9]. ومن ثم كانت الأخلاق المعيارية في بحثها عما ينبغي أن يكون عليه السلوك الذي يتصف بالأخلاقية، تؤسس نظريًا لهذا "الماينبغي" في الأساس. باختصار، يُنظر إلى الأخلاق المعيارية على أنها التأسيس المعرفي النظري "للمبادئ" الأخلاقية الأساسية التي توجهنا (نظريًا/معرفيًا) نحو ما ينبغي فعله، وما ينبغي تجنبه، أو بعبارة أخرى، كيف ينبغي أن نعيش؟ وهو سؤال يمثل جوهر الأخلاق النظرية[10]. إضافة إلى مقاربة الأخلاق المعيارية للحقوق الأخلاقية الأساسية، والواجبات، والفضائل.
ولكن ماذا لو طرحنا هذا السؤال على دعاة الأخلاق المعيارية في صورتها الفلسفية التقليدية: هل هناك مبدأ أخلاقي واحد ووحيد يمكن أن نستمد منه سائر المبادئ التي توجهنا في حياتنا؟ وإذا كان الأمر صعبًا، بل يبدو مستحيلًا، هل يمكن لهذا العلم الوصول إلى قائمة من المبادئ الأخلاقية الأساسية، أو على الأقل، قائمة ببعض أهم المبادئ الأخلاقية التي تكون هادية لنا لكي نسلك سلوكًا خيّرًا؟ من الواضح أن السلوك الإنساني أعقد من أن يوجه بمجموعة من المبادئ والقواعد المرشدة. إذ أن هناك حالات عدة ومواقف تطبيقية يصعب البت في حلها، أو تطبيق مبدأ أخلاقي واحد عليها، بل هناك عوامل مختلفة ومبادئ تدخل في تحديد خيرية فعل من الأفعال، أو سلوك ما. خذ على سبيل المثال هذه الحالة: لنفترض أنك رأيت شخصًا يوشك على الغرق في البحر، وإذا افترضنا أنك لكي تُقدم على إنقاذ حياته من الغرق، يجب أن تأخذ قاربًا لكي تذهب إليه. حقيقة أن فعل التجديف وسحب الشخص الذي يوشك على الغرق سيكون فعلًا أخلاقيًا يحمل نتائج خيرة نظرًا لأنه سوف ينقذ حياة شخص ما. لكن في هذه الحالة ما هو المبدأ الأخلاقي الذي حدد على أساسه المنقذ خيرية فعله؟
إنها خيرية النتائج. لكن ليست خيرية نتيجة فعل ما كافية لكي نحكم على فعل ما بأنه أخلاقي. ثمة عوامل أخرى تحدد هذه الخيرية التي يتحدث عنها المنقذ. هب أن القارب الذي أريد أن استخدمه لإنقاذ الشخص الذي يوشك على الغرق ليس ملكي، عندئذ لابد من السطو عليه لإنقاذ الشخص، فهل يتعين علي أن أنتهك حقا من حقوق شخص آخر (حق الملكية) لصالح قيمة أخرى؟ هنا يعتمد القرار بالسطو على القارب أولًا على مبدأين أحدهما أهم من الآخر بالنسبة إلى المنقذ. قد تكون هناك عوامل أخرى دافعة لعملية السطو على القارب. منها أن يكون الشخص الذي يوشك على الغرق هو زوجة المنقذ، وهذا ربما يعطي له المسوغ للسطو على القارب وإنقاذ زوجته أكثر من حرصه على السطو على القارب نفسه لإنقاذ شخص غريب عنه[11]. قد تبدو قضايا الحياة اليومية المعيشة معقدة إلى حد كبير، يكمن هذا التعقيد من الجهة الأخلاقية في تداخل العوامل والمبادئ الموجهة لعقل الإنسان التي تجعله يسلك سلوكًا أخلاقيًا ما خيرا، ويتجنب ما دون ذلك.
ولكن هل صحيح أن الأخلاق المعيارية كمجال فلسفي لم تعد قادرة على التعامل مع أكثر المشكلات اليومية إلحاحًا، أم أن هذا الزعم عار تمامًا من الصحة؟ على الرغم من الجهود المستمرة للعديد من فلاسفة الأخلاق للتغلب على المشكلات التي تواجه المجتمع، والتي ينشأ بعضها جراء غياب منظومة أخلاقية توجه السلوك البشري نحو الأفعال الأخلاقية الصحيحة، إلا أن ثمة زعمًا يقول: إن الجهود التي بذلها فلاسفة الأخلاق الذين يقولون بمعيارية القيم لم يكن لها أي أثر يذكر في وقف هذا المد الهائل من الاختراقات العديدة التي تروج لمعتقداتها، والتي تصل إلى حد التحريض والحث على القتل والدمار. أو أن تقف في وجه الشركات الرأسمالية الراغبة في الربح وحده على حساب القيم الإنسانية، وأشكال الفساد السياسي، واستهلاك الموارد وما ينتج عن هذا الاستهلاك من أشكال متنوعة من حروب وأزمات بيئية. إضافة إلى الأزمات المالية التي نعاني منها في وقتنا الحاضر، والتي تهدد بمزيد من زعزعة الاستقرار الاقتصادي والسياسي في سائر أنحاء العالم[12]. فهل حقًا فشلت المقاربات المجردة التي قدمها فلاسفة الأخلاق في التأثير على المجتمع والحياة المعيشة أم لا؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فهل آن الأوان لكي نعيد النظر في هذه المقاربات والنظر في طرق معالجتها للمشكلات التي تواجه الإنسان المعاصر؟ وهل يجب أن تتحول مقاربات الأخلاق المعيارية عن فهم طبيعة أفعالنا والحكم عليها بالصواب أو الخطأ، وتحديد العوامل التي تؤدي إلى الإلزام الخُلقي فحسب، وتتجه صوب موضوعات أخرى للبحث؟ باختصار، هل فشل هذه المقاربات راجع إلى أن مهمتها كانت مهمة نظرية بحتة، الأمر الذي جعلها تعجز عن التأثير في سلوك الناس إلى حد كبير؟ وهل نتوقع من مقاربات فلاسفة الأخلاق المعياريين أن تتخلى عن تأملاتها الفلسفية النظرية وتتجه إلى المهن لمناقشة المشكلات الناشئة عن التطورات المتسارعة التي تشهدها قطاعات عدة نتيجة تقدم العلم وتطبيقاته التكنولوجية، وتفجر قضايا أخلاقية ومعضلات عصية على الحل في بعض الأحيان؟
لا شك أن الفلاسفة المعياريين شيّدوا عوالم جديدة بواسطة المبادئ الأخلاقية والمُثل التي ينتجها العقل. غير أن هذا العالم الذي نقطنه لا يمكن أن يكون مشيّدًا ببساطة على إنتاج نوع من المبادئ الأخلاقية المعيارية المجردة وحدها، أو اعتمادًا على وجهات نظر عن الخير والشر، والصواب والخطأ من دون أن تكون ذات صلة بالقضايا المثارة في الفضاءات المعرفية، والثقافية، والمهنية المعاصرة. والتي هي قضايا تمس بشكل كبير حياتنا الفكرية، والمهنية، واليومية المعيشة. وفي الوقت ذاته، لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن نشيّد عوالم تخلو من أي قيمة لأن مثل هذا الفعل من شأنه أن يولد فراغًا أخلاقيًا، وفجوة بين ممارساتنا وما ينبغي أن تكون عليه هذه الممارسات. فعلى سبيل المثال، لا يمكن ابتكار تكنولوجيا جديدة محايدة أخلاقيًا. فلا توجد تكنولوجيا خالية من قيمة ما لأن العقل الذي يستحدث هذه التكنولوجيا مدفوع بقيم ما. أدى تطور التكنولوجيا الحيوية، على سبيل المثال، إلى إثارة قضية تتعلق بمغزى الحياة ومكانتها. وهي قضية لا تنتمي إلى البيولوجيا فحسب؛ بل هي قضية أخلاقية في المقام الأول. وتكمن الخطورة التي تتسبب فيها التكنولوجيا الحيوية في إمكانية التلاعب في الجينوم البشري، أو المادة الوراثية للكائن الحي، وتنبع الخطورة الحقيقية للتكنولوجيا الحيوية في هذا التسارع من أجل إنتاج أشكال من التكنولوجيا تساعد في عملية التلاعب تلك، مما يعكس انتصارًا صناعيًا وليس علميًا، وبطبيعة الحال، ليس أخلاقيًا. فالأمر لم يعد يتعلق بالسقوط الأخلاقي لتقدم جديد في العلم، بل يتعلق بمشكلة تنافس صناعي، الأمر الذي يجعل هذه التكنولوجيا الحيوية أداة في يد أصحاب السلطة والمال. أو بعبارة أخرى، أصبح الذي يحرك التكنولوجيا الحيوية هي المصالح الاقتصادية/السياسية. حتى لو أثيرت مناقشات أخلاقية من أجل مساءلة هذه المصالح فإن المؤسسات السياسية والأيديولوجية تعمل على تهميش فلاسفة الأخلاق الذين هم المعنيون الحقيقيون بهذه القضايا[13].
نخلص إلى نتيجة أن "الأخلاق المعيارية في صورتها الفلسفية التقليدية قد انحصرت في "تحديد القيم" أو في صياغة المُثل العليا في صورة مبادئ مؤسسة تأسيسًا معرفيًا من حيث توضيح طبيعتها، وماهيتها المعرفية. إلا أن هذه الفلسفة مدعوة إلى إنقاذ نفسها وتحولها "من مطلق النظر إلى مشخص الفعل، في حدود الزامات، وشروط، وفواعل الحقول الجديدة، ومدعوة إلى توسيع آفاقها وإشراع البوابات لما يسمى بـ"الأخلاق المطبّقة" ... التي تتسلح "بمدونة أخلاق" سلوكية "يجب" الالتزام بها وتطبيقها، لا مجرد معرفتها والاعتراف بها فحسب"[14].
ولكن قبل شروع هذه الأخلاق المطبّقة في وضع مدونة أخلاقية سلوكية لا سيما في مجال المهن، علينا أن ننظر في نوع القوانين، واللوائح، والمواثيق، والقواعد المنظمة للمهن، والتي تُوصف بأنها "أخلاقية". لقد أُعيد النظر في العقود القليلة الماضية في القواعد، واللوائح، والقوانين المنظمة للمهن نظرًا لوجود قضايا أخلاقية ومعضلات عملية وثيقة الصلة بالسلوك الأخلاقي للمهني بعدّه فاعلًا Agent في مجالات لم تتطرق إليها هذه القواعد واللوائح والقوانين المهنية[15]. ومن هذه القضايا: هل ثمة فاعلية للقانون الأخلاقي في المهن؟ وإذا كان ذلك كذلك، فهل ينبغي احترام المهني للقانون الأخلاقي في ذاته، أم من أجل النتائج المترتبة عليه؟ وهل ثمة مجموعة من المبادئ الأخلاقية توجه عقل وسلوك المهني نحو الأفعال الخيرة، وتساعده في اتخاذ القرارات، وتبرر له أسباب اتخاذها، أم لا؟ وهل تؤدي مثل هذه القرارات إلى إجراءات بعينها، أم تختلف القرارات والإجراءات المصاحبة لها حسب الحالة المطروحة للبحث والتساؤل؟
ظهر، في العقود القليلة الماضية، اهتمام كبير بالمهن، وما ينبغي أن يسلكه المهنيون في أعمالهم من مهنية نتيجة تغير مفاهيمنا للعمل المهني ذاته. فقد ظهرت أصوات تنادي بمهنيين أخلاقيين؛ أي ضرورة أن يتمتع المهنيون بأخلاق معينة تجعلهم قادرين على التعامل مع المعضلات الأخلاقية وتقديم حلول عقلانية وجيهة لها. وفي الوقت ذاته يتعاملون مع القضايا الأخلاقية تعاملًا مهنيًا. لا ريب أن العمل المهني هو ما يحدد علاقتنا بأنفسنا، وبالآخرين، وبالعالم من حولنا. ولا توصف المهنة في ذاتها بأنها أخلاقية أم لا، وبالتالي، لا تتمتع مهنة ما بقيمة أخلاقية أكبر من أخرى. ولا يمكن أن نسم عضوًا ينتمي إلى مهنة ما بأنه أخلاقي أكثر من عضو آخر ينتمي إلى مهنة أخرى. فليس الانخراط في مهنة ما يعزز الموقف الأخلاقي للمهني أو يضعفه[16]. فالمحامي الذي ينتمي إلى مهنة المحاماة، على الرغم من أنه يتعرض أحيانًا لاستياء المجتمع نتيجة انتهاكه لمبدأ العدالة، وتعطشه إلى الربح من دون وازع أخلاقي، أو دفاع عن قيمة لا سيما العدالة، إلا أن أفعاله لا تسيء إلى مهنة المحاماة ذاتها، لكون هذه المهنة ليست لها في ذاتها مكانة أخلاقية أدنى من مهنة أخرى كالطب مثلًا[17].
قد يفرض المجتمع مكانة أرفع لمهنة ما على أخرى نتيجة الخدمات التي تقدمها هذه المهنة للمجتمع، ولكن هذا لا يعني أن هذه المهنة لها مكانة أخلاقية أرفع من مهنة أخرى، بل من شأن هذا التمييز خلق تراتبية طبقية لا أخلاقية. إذًا، المهنة التي تشير إلى "المنظمات، والجمعيات التي يستخدم أعضاؤها خبراتهم، وقدراتهم لتحقيق أهداف ذات قيمة بالنسبة إلى الأفراد الذين يتلقون خدماتهم من جهة، وأيضًا بالنسبة للمجتمعات التي يعملون فيها، وتشمل هذه الأهداف: الرعاية الصحية والاجتماعية (مهن الرعاية الصحية، والاجتماعية). والعدالة، وحماية القانون (القضاة، والمحامين). وحماية المجتمعات (الشرطة). وحماية المنشآت وتصميمها بشكل جيد (المعماريين، والمهندسين). والأمانة المالية (المحاسبة). والعدالة في السياسات الاجتماعية والإدارية (الخدمات المدنية). والتعليم (التربية والتعليم). وهلم جرا"[18]، تعتبر نوعًا من العمل. ولكن تشير “المهنية" إلى الطريقة التي يسلك وفقها المهنيون داخل المهنة، ومن ثم تعد المهنية مجموعة من الممارسات المستندة إلى معرفة مكتسبة، ومبادئ أخلاقية وقيم توجه العاملين في مهنة ما بهدف التصدي لأي انتهاكات لهذه المبادئ والقيم الأخلاقية. وهنا تثار الإشكالية التي نحن بصدد معالجتها وطرح فرضية لتجاوزها وهي الفجوة التي تحدث بين ممارسة المهنيين أنفسهم والمبادئ الأخلاقية والقيم الموجهة لهذه الممارسة.
وغالبًا ما يرتاب أصحاب المهن في المبادئ، والقواعد الأخلاقية المعيارية التي توجه سلوكهم وترشدهم في مهنهم الخاصة. ولهذا تتسع الفجوة بين الأخلاق المعيارية والمهنية. إذ أن اللوائح والقوانين والمواثيق المنظمة لسلوك أصحاب المهن، والأحكام، لا يمكن أن تحول دون الغش، والرشوة، وتعنت أصحاب الأعمال، وصراع المصالح، والتوق إلى المكانة والثروة، وتحقيق أكبر قدر من الربح من خلال التلاعب بالأسعار، وسوء استخدام أسرار المهنة بإفشائها، أو اختلاسها والمساومة عليها. ولا ينكر إلا مكابر محاولات المهنيين أنفسهم تطوير القوانين واللوائح الموجهة للسلوك المهني، ودراسة طبيعة المهن على اختلافها وأهدافها، بهدف حماية المهنيين من جهة، والفئات المستفيدة من خدمات المهن من الجهة الأخرى. غير أن ثمة تساؤلات تُثار في هذا الصدد منها: على أي أساس يمكن أن نحدد ما إذا كان سلوك مهني ما مقبولًا من الناحية الأخلاقية أم لا؟ وهل تمثل القوانين واللوائح الخاصة بكل مهنة، والقواعد الاسترشادية المنظمة لسلوك المهنيين معيارًا لما ينبغي أن يكون عليه السلوك المهني وما لا ينبغي أن يكون عليه، أم أنها ليست كافية؟
لا يمكن أن نحدد مفهوم المهني من دون التطرق إلى السلوك الصادر عنه وتقييمه من جهة، ومنظومة القيم التي توجه سلوكه من الجهة الأخرى. فلا يمكن النظر إلى المهني بوصفه "شخصًا يمارس مهارة معينة فحسب، أو يشارك في نشاط ما يحتاج إلى خبرة عملية اكتسبها من كثرة ممارسته لهذا النشاط، في حين يمارس الآخرون النشاط ذاته كهواية، أو متعة، أو لإمضاء الوقت"[19]، إذًا، من المتوقع أن يقدم المهني خدمات أفضل للمجتمع ككل، وإلى العملاء طالبي الخدمة منه وفقًا لمعايير، ومبادئ، وقيم لا يقوى على تقديمها غيره نتيجة تقيده بدرجة من الانضباط أكثر من تلك التي تُفرض على الآخرين من غير المهنيين[20]، ولكن قد يتساءل البعض لماذا عادة يثق العملاء متلقو خدمة المهنيين في المهني ذاته؟ يزعم البعض أن المهني هو الفاعل الذي يثق فيه متلقو الخدمة لأنه خبير، أي لديه معرفة متخصصة لا تتوفر لدى الفرد العادي. في حين يزعم البعض الآخر أن المهني هو من يلبي متطلبات العملاء ويوجههم مقابل رسوم تُدفع له وفقًا لشروط وأحكام محددة مسبقًا، منها على سبيل المثال، تحديد الرسوم مقابل الخدمة التي يقدمها المهني. غير أن هذين الزعمين من شأنهما زعزعة الثقة بين العملاء والمهنيين[21]، وتسمح بتسرب صور من الأيديولوجيا التي تعوق الممارسة المهنية بشكل صائب.
أحد أسباب الفجوة المعرفية بين المهنية كقيمة أخلاقية والمهن المستندة إلى لوائح وقوانين ومواثيق، هي سيادة أيديولوجيا ما داخل المهن، أو سيادة مجموعة من المعتقدات والأحكام، والقوانيين، واللوائح، والقواعد الموجهة التي تحدد الطريقة التي ينظر بها المهنيون الذين يعتنقون مثل هذه المعتقدات والأحكام، والقوانين، واللوائح والقواعد، إلى مهنتهم، ويسلكون تجاه العملاء، أو تجاه بعضهم بعضًا وفقًا لها، لدرجة أن تصبح هذه المعتقدات والأحكام، والقوانين، واللوائح والقواعد الموجهة بمثابة عقيدة راسخة لا تتزعزع، وتُستدعى حسب السياق أو الموقف. إضافة إلى أن الأيديولوجيا في مجال المهن تقدم معرفة جاهزة، وجذابة، ومُعدّة مسبقًا لخدمة أيديولوجيا ما، وتستبعد في الوقت ذاته، أشكال المعرفة الأخرى التي لا تتوافق وهذه الأيديولوجيا[22]. هناك شكل آخر من أشكال الأيديولوجيا المتسربة إلى مجال المهن وهو اللجوء إلى العلم وموضوعيته لتسويغ أيديولوجيا شركات أو مؤسسات ربحية، بهدف التستر على وضع قائم، أو تشويه وضع معين، أو إضفاء الشرعية القانونية والمهنية والأخلاقية على عدم المساواة، الأمر الذي يوسع من تلك الفجوة ويعرقل محاولات التجسير[23]. وقد تتخذ عملية التسويغ لأيديولوجيا ما شكل الزعم بأن المعايير والمبادئ الأخلاقية تعد ادعاءات كاذبة أو زائفة لكونها لا تخضع للتحقق التجريبي المباشر. ومن ثم فهي بلا معنى، أو خالية منه (فلا يمكن، على سبيل المثال، التحقق تجريبيًا من أن القتل خطأ، أو أن السرقة، والغش، وتقاضي الرشوة، رذائل أخلاقية) فالحقائق الوحيدة هي تلك التي نتجت عن التجربة العلمية[24]، فالأخلاق ليس لها وجود لا في حياتنا، ولا في المهن. فالأحكام الأخلاقية هي أحكام انفعالية ولا يمكن الاعتماد عليها في أعمال المهن، فلا يمكن على سبيل المثال، أن يتخذ العالم في معمله، أو الطبيب في مشفاه، أو القاضي في محكمته، أو المحاسب في مؤسسته قرارًا استنادًا إلى قيمة أخلاقية ما. فالعالم الذي يطور أسلحة نووية، والطبيب الذي يقوم بتجارب سريرية على مجموعة من الفقراء، أو المخدوعين، أو على الحيوانات واستغلالها لأغراض ربحية لا توجهه قيم أخلاقية، بل أيديولوجيا. لنأخذ مثالًا من بعض المهنيين في قطاع الرعاية الصحية عند تعاملهم مع جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، وكيف غابت المسؤولية الأخلاقية عن ممارساتهم المهنية نتيجة الانتصار للأيديولوجيا. أظهرت جائحة فيروس كورونا المستجد مستويات عدة من اللامساواة في هذا القطاع، فعلى سبيل المثال أثيرت مشكلة أخلاقية في قطاع الرعاية الصحية في إيطاليا عندما وُجهت عناية هذا القطاع إلى صغار السن لكونهم أكثر قابلية للبقاء على قيد الحياة مقارنة بكبار السن الذين لم ينالوا الرعاية الطبية اللازمة. لقد أهمل قطاع الرعاية الصحية الرسمي في إيطاليا علاج كبار السن، وأصحاب الأمراض المزمنة بحجة أنهم يمثلون حالات ميؤوس من شفائها. وأيضًا الممارسة اللامسؤولة لبعض دور الرعاية الصحية في الولايات المتحدة الأمريكية عند تقديمها الرعاية الصحية للأمريكان السود أثناء الجائحة. فقد أظهرت بعض ممارسات قطاع الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، لا سيما في المناطق التي يكثر فيها الأمريكان السود من أصل إفريقي، بعض الانتهاكات لقيمة المساواة، الأمر الذي حال دون تلقي هؤلاء الرعاية الصحية اللازمة لإبقائهم على قيد الحياة عند إصابتهم بفيروس كورونا المستجد، وهذا الذي يفسر معدل الوفيات الهائل الذي حدث بين الأمريكان السود من أصل إفريقي مقارنة بمعدل الوفيات من الأمريكان البيض في الكثير من الولايات. واسترشدت منظمة الرابطة الحضرية الوطنية الأمريكية (وهي منظمة معنية برفع مستوى المعيشة في المجتمعات الحضرية الأكثر احتياجًا في الولايات المتحدة الأمريكية) بتقرير صادر عن جامعة جونز هوبكنز (Johns Hopkins) الأمريكية يقول: إن الأمريكان السود عرضة للإصابة بفيروس كورونا المستجد بما يقرب من ثلاثة أضعاف معدل إصابة الأمريكان البيض، وهذا راجع إلى الظروف الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية التي تحيط بالأمريكان السود، والتي تساعد على إصاباتهم بهذا الفيروس ومن ثم الموت، منها غياب مظلة تأمينية شاملة لهم، إضافة إلى عملهم في وظائف تجعلهم معرضين أكثر من غيرهم للإصابة (يعمل أكثر الأمريكان السود من أصل إفريقي في التمريض، والرعاية الصحية لا سيما في المناطق النائية التي يكثر فيها الفقراء والمرضى). إضافة إلى أن المساكن التي يقطن فيها الأمريكان السود تقع في مناطق يكثر فيها تلوث الهواء، ونتيجة فقرهم يلجؤون إلى الوجبات السريعة التي تجعلهم عرضة للإصابة بمرض السكري، وهذا يفسر لماذا كان الأمريكان السود أكثر عرضة للإصابة بالفيروس. ويرجع التقرير إلى أن أحد الأسباب التي جعلت الأمريكان السود من أصل إفريقي أكثر عرضة للإصابة بهذا الفيروس التاجي هي الفجوة الشاسعة بين ثروة الأسرة المتوسطة من الأمريكان البيض وثروة مثيلتها من الأمريكان السود؛ حيث تعيق هذه الفجوة الوفاء بتكاليف العلاج المرتفعة التي يتعذر تحملها على المريض[25].
إن زعم المهنيين أن ثمة قواعد، ولوائح، وقوانين تحميهم وتلزمهم بأداء أفعال قد لا تسمح بها المبادئ الأخلاقية والمعايير هو زعم مغالط. إذ يدّعي بعض الأطباء مثلًا الحق في الكذب على المريض، لأن الكذب في حالة معينة سوف يحمي صحة المريض، أو أن يحجب الطبيب عمدًا معلومات عن المريض بحجة أنها معلومات متخصصة لا يفهمها المريض، وهو ما يُعرف في الدراسات الفلسفية والأخلاقية المعاصرة بـ "الظلم المعرفي" (Epistemic Injustice) الذي يمارسه الطبيب على المريض. فقد كشف التحليل الفلسفي صورًا عدة من التحيزات المضمرة في العلاقة بين الطبيب المعالج والمريض لا سيما في حقل الدراسات الفينومينولوجية والأخلاق المطبّقة. أو بعبارة أخرى، يكشف التحليل الفلسفي الممارسة المعرفية، والاجتماعية الهرمية المتحيزة التي يمارسها الطبيب المعالج على المريض بعدم السماح له بأي نوع من التدخل في طرق العلاج، أو إبداء وجهة نظر في تشخيص المرض الذي يعاني منه، أو أن يأخذ في الحسبان خياراته، أو في الأدوية التي يرغب في تناولها وتلك التي لا يرغب. باختصار، يُهمّش المريض، أو يُقصى في هذه العلاقة[26].
ثمة انتقادات وجهت إلى "المهنية" التي يمارس من خلالها المهنيون أعمالهم، على الرغم من الأسس السامية، والقوانين واللوائح والمواثيق التي يضعها المهنيون أنفسهم لكي تميزهم عن غيرهم من ذوي الوظائف العامة وأصحاب الأعمال، أو الموظفين، والعمال. إذ من الشائع أن تضع المهنة لمنتسبيها أسسًا، وقواعد، وقوانين، ولوائح تسمح لهم بممارسة أعمالهم بكيفية صحيحة لتلبية حاجات العملاء من جهة، ولتجنب المخالفات حتى لا يطالهم الاستجواب واللوم من الجهة الأخرى. غير أن هذا لا يتحقق في معظم الأحوال، إذ يرى السواد الأعظم من المنتسبين للمهن أنهم يستخدمون "مهاراتهم" من أجل مساعدة الناس، أو العملاء، الأمر الذي يجعلهم يتمتعون بحرية ممارسة مهاراتهم بالطريقة التي يجدونها مناسبة لهم، وليس العملاء، ولا المجتمع، أو القيم الأخلاقية المعيارية، وحجتهم في ذلك أنه لو كان العملاء لديهم الخبرات نفسها، والمهارات لما طالبوا بالمساعدة، فالعملاء، وفقًا لزعم المهنيين، يأتون طواعية ويقبلون مشورة الخبراء. من وجهة النظر هذه لا توجد أي شبهة غير أخلاقية في مساعدة المهنيين الخبراء مقابل رسوم تُحدد مسبقًا قبل تقديم الخدمة، ولا في اتخاذ القرارات نيابة عنهم[27]. غير أن المهنيين ليسوا تجارًا. فالتاجر هدفه باستمرار تحقيق الربح من تجارته، في حين أن المهنيين لديهم مهام يجب أن يؤدوها، وقيم يدافعون عنها. فالخدمات التي يقدمها المهني ليست سلعة أو منتجا استهلاكيا معبأ.
ثمة نقد آخر موجه إلى المهنيين وهو أنهم، على الرغم من الخبرات والمهارات التي يتمتعون بها من دون غيرهم، إلا أن هذه الخبرات والمهارات يمكن أن تُستخدم لممارسة الغش والخداع، بل ربما تتسبب في ارتكاب جرائم، في غياب منظومة القيم أو منهجية إرشادية، فعلى سبيل المثال، قد يستخدم الطبيب خبراته ومهاراته في تسميم شخص ما عوضًا عن شفائه، أو يعتقد الطبيب أنه هو مصدر حماية العميل/المريض وذلك اعتقادًا منه أنه هو واهب الصحة لجسم العميل/المريض من دون أن يدرك أن جسم الإنسان هو من ينظم نفسه تلقائيًا، وأن دور الطبيب هو مساعدة الجسم في عملية التنظيم تلك. ولهذا قيل: "إن الطب لا يتحكم في الصحة، بل يدرس الكيفية التي بفضلها نحصل على الصحة، أو بعبارة أخرى، لا يصدر الطب أوامر بالصحة، بل من أجل الصحة"[28].
لقد غابت المهنية كقيمة عندما تحولت العلاقة بين المهني وقيمة المهنية إلى علاقة نفعية، قائمة على تقديم خدمة مقابل رسوم. فإذا كان المهني خبيرًا يتمتع بالخبرات والمهارات نتيجة المعرفة المتخصصة التي اكتسبها أثناء دراسته، واعتراف الجامعة، أو المعهد بجدارته بممارسة المهنة، إلا أنه لا يعمل في النهاية لخدمة العميل، أو العمل لصالح العميل، بل يسعى إلى تطوير التقنيات التي تساعده في مواكبة التطورات التكنولوجية ذات الصلة بمهنته بهدف تحقيق رغبات العميل، فأصبحت الخدمة المقدمة من المهني حسب رغبات العملاء. فعلى سبيل المثال، لم تعد مهنة المحاماة في الولايات المتحدة الأمريكية، كما يؤكد داري كوهين (Dary Koehn) هي إقامة العدل والدفاع عنه، بل التفاوض على مساومات بين الجاني والمجني عليه[29]. ولم يعد الأطباء هم "محبي البشرية" كما ادعى فلاسفة اليونان القدماء، ولم يعد المحامون هم المدافعين عن المجتمع وحقوق العامة، كما زعم شيشرون، بل يزعم البعض أن المهنيين هم تجار يتظاهرون بأنهم في خدمة الصالح العام، في حين أنهم، في حقيقة الأمر، وبشكل من الأشكال، يمارسون نوعًا من التجارة بشكل منظم، ووفقًا لقواعد، ولوائح، وقوانين محددة[30].
قد يحكم البعض على سلوك معين من حيث صوابه أو خطؤه في قانون ما، أو مجموعة من اللوائح والمواثيق، أو عرف اجتماعي، أو معتقد ديني ما، فمن وجهة النظر القانونية قد نصدر حكمًا على سلوك معين على أنه صواب أو خطأ على أساس توافق هذا السلوك مع القانون السائد في بلد ما، أو معارضته له، كذلك نحكم على سلوك ما، في بعض الأحيان، على أساس العادات، والتقاليد، والأعراف السائدة في مجتمع ما من المجتمعات. وقد يكون سلوك ما صوابًا إذا كان مقبولًا من المجتمع، وخطأ إذا كان مرفوضًا منه. وقد يحكم البعض الآخر على سلوك معين من حيث صوابه، أو خطؤه على أساس مواثيق مهنية معمول بها في مهنة ما، فإذا كان سلوك مهني ما مطابقًا لمواد الميثاق واللوائح المؤسسية، أو القواعد التنظيمية فهو سلوك مهني صائب، أما إذا خالف هذه المواد أو اللوائح فهو يدخل في باب السلوك المرفوض، ولا يمكن أن نستثني المعتقد الديني ودوره في تحديد صواب سلوك معين أو خطئه استنادًا إلى مدى توافق هذا السلوك مع المنهج الإلهي أم لا. وأخيرًا، قد نحكم على سلوك معين وفقًا للنتائج العملية التي تنتج عنه، فإذا كانت ثمة نتائج عملية ناتجة عن سلوك معين كان هذا السلوك صائبًا، والعكس صحيح، ولكن السؤال هل يمكن الركون إلى القانون، أو اللوائح والمواثيق، أو العرف، أو الدين في هذا الحكم على صواب الفعل أو خطئه، أم نحن في حاجة إلى معايير عامة لها طابعها الشمولي تحدد لنا خيرية سلوك ما أو خلوه منها داخل المهن؟[31] يعمل المهنيون، كما أشرنا، داخل إطار من القانون، واللوائح والمواثيق، أي أن سلوكهم المهني يراعي المتطلبات القانونية والقيود المفروضة عليهم من اللوائح والقواعد التنظيمية، وهي التي تحدد لهم السلوك الصائب وغير الصائب استنادًا إلى النصوص والمواد المتضمنة في تلك القوانين واللوائح والقواعد التنظيمية التي توجههم. أو بعبارة أخرى، يركز المهنيون على السلوك الذي يجب أن يظهروه خلال ممارساتهم المهنية، أو أداء عملهم المهني المشروع تجاه العملاء أو طالبي الخدمة منهم، ولكن من دون الركون إلى مبادئ أخلاق معيارية عامة تحدد ما ينبغي أن يكون عليه سلوكهم المهني وغير المهني على السواء. ومن هنا جاء الانفصال بين المهنية كقيمة أخلاقية وأشكال السلوك المهني الذي يمارسه المهنيون داخل إطار مهنتهم. فعلى سبيل المثال، لو طرحت سؤالًا على أي شخص: هل يعد قتل طفل ما جريمة أخلاقية وقانونية، أم يمكن تسويغ هذا القتل قانونيًا وأخلاقيًا؟ فسوف يجيب بطبيعة الحال هو جريمة يعاقب عليها القانون، وتعد من الناحية الأخلاقية رذيلة من أكبر الرذائل. ولكن ماذا لو طرحنا السؤال نفسه في سياق آخر، وفي موقف آخر، مثل ذلك الموقف الذي واجهه الأطباء في مشفى سانت ماري (St Mary) القائم في مدينة مانشستر بالمملكة المتحدة. أثارت القضية المأساوية للتوأم الملتصق ماري وجودي اللتين ولدتا في مانشتسر بالمملكة المتحدة في 8 أغسطس العام 2000، أسئلة أخلاقية عدة وقانونية. فقد كانت إعاقتهما واضحة لدرجة أن الأطباء اضطروا إلى إعفاء أنفسهم من تقديم الرعاية الصحية اللازمة للتوأم. كان التوأم ماري وجودي، ولدتا ملتصقتين من أسفل البطن، وتتشاركان في عمود فقري واحد. وعلى الرغم من أن كل واحدة منهما تملك أعضاء حيوية مستقلة، إلا أن دماغ ماري كان ضعيفًا، وكان قلبها متضخمًا، وكانت الرئة لديها لا تقوم بوظيفتها بشكل جيد. في المقابل، كانت أعضاء جودي الحيوية تعمل بشكل جيد، وكان بقاء ماري على قيد الحياة مرهونًا بالدم الذي يحمل الأكسجين الذي تضخه جودي إليها. ادعى الأطباء أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر لأن كلا من ماري وجودي لا يمكنهما البقاء على قيد الحياة فترة طويلة، ولهذا كان لزامًا إنقاذ حياة جودي والتضحية بماري من خلال عملية فصل التوأم. غير أن عملية الفصل تلك تعد "قتلًا" لماري بالتأكيد من جهة، وإنقاذًا لحياة جودي من الجهة الأخرى. كانت هذه القضية التي نظرتها المحكمة غير مسبوقة في التاريخ الطبي والقانوني على حد سواء. وقد قدمت الحجج القانونية والأخلاقية المؤيدة والمعارضة لعملية الفصل، وميزات هذه العملية وعواقبها الضارة. وقد قررت المحكمة في جلستها التي عقدت في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2000 فصل التوأم إنقاذًا لحياة جودي، على الرغم من اعتراض الأبوين، وكذلك رئيس أساقفة وستمنستر. قام الأطباء في مشفى سانت ماري بفصل التوأم وماتت ماري، ولكن لا تزال هذه القضية تطرح تساؤلات منها: هل كان فصل التوأم قتلًا متعمدًا، أم تشويهًا؟ أم أن عملية الفصل تلك كانت واجبًا أخلاقيًا إلزاميًا؟[32]
على الرغم من أن جزءًا كبيرًا من طاقاتنا يتجه إلى حماية حقوقنا، ومطالبنا، ناهيك عن المطالبة بحماية بعضنا من بعض[33]. تنشغل بعض المقاربات المعاصرة في مجال الأخلاق بحقوقنا أكثر من انشغالها بطبيعة الخير، أو الواجب. باختصار، لم تعد المقاربات المعاصرة في مجال الأخلاق تميل إلى التأسيس النظري لسلوك الإنسان، وقيمه، بل غدت السمة الرئيسة السائدة اليوم هي: العداء للقانون الأخلاقي ولمن يتمسكون به. إن الحاجة إلى مبادئ أخلاقية تكون سابقة على كل تشريع أو قانون للمهن على اختلافها من شأنها أن تؤسس ما يسمى بـ "الحقوق الأخلاقية" التي يتمتع بها المهنيون وغير المهنيين بوصفهم ذوات أخلاقية لها الحق في المساواة حتى إذا لم تستجب التشريعات القانونية لذلك، انطلاقا من فكرة أسبقية حقوق الأفراد الأخلاقية على التشريعات القانونية[34]. وهي فكرة إشكالية إذ يزعم البعض أن القانون بعدّه مجموعة من القواعد التي تضبط علاقات الأفراد بعضهم ببعض في المجتمع، هو الضامن لضبط الحياة الأخلاقية بشكل ملزم، لأنه يقترن بتنفيذ الجزاء في حالة مخالفة هذه القواعد[35]، لهذا تصاغ القوانين، وفقا لهذا الزعم بهدف تحقيق العدالة، ومن وسائل تحقيق هذه العدالة الحيلولة دون التعدي على أي حق من حقوق أي إنسان. إضافة إلى ذلك، تسعى القوانين إلى خلق مناخ يضمن تحقيق تلك العدالة. وهذا الذي أدى بالفيلسوف السياسي الأمريكي جون رولز (John Rawls) على سبيل المثال، إلى إعطاء الأولوية للعدالة في معناها القانوني على الخير بالمعني الأخلاقي المعياري. والمبرر الذي لجأ إليه جون رولز هو: أن ثمة تعددا وتنوعا في الثقافات والقيم في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة، الأمر الذي يعرقل أي محاولة لتقديم تصور عن الخير. يؤكد رولز ضرورة التمييز في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة بين مجالين أحدهما عام، والآخر خاص في العلاقة بين العدالة والخير. فالقيم والقناعات الأخلاقية، والدينية، والفلسفية التي تختلف من فرد إلى آخر داخل المجتمع الواحد، لا يصلح فيها تصور عام للخير، أو للقيم بالمعنى الفلسفي المجرد، الأمر الذي يصعب معه التوافق على وجهة نظر واحدة ووحيدة، ولهذا يزعم رولز أن القناعات الأخلاقية الفردية لها مجالها الخاص لكونها هي التي تحدد أنماط حياة الأفراد الخاصة. أما المبادئ العامة للعدالة فهي تدخل، وفقًا لرولز ضمن المجال العام، وهو المجال الذي يتحقق بداخله مبدءا الحرية والمساواة[36]. ومن ثم تتطلب العدالة التي يتصورها رولز نظامًا قانونيًا صارمًا، وليس نظامًا أخلاقيًا، يحمل قواعد إلزامية لا تقبل استثناءات. فالقانون، وفقًا لوجهة النظر هذه، هو الوسيلة التي تحافظ من خلالها السلطة على الأمن، والاستقرار في مجتمع ما، وهو السبيل إلى تحقيق العدالة، والإنصاف، والحرية، والمساواة، واحترام خصوصية الأفراد طالما أنها لا تسبب ضررًا للآخرين. وعلى الرغم من أن تصور العدالة هذا يهدف إلى تحقيق المساواة والإنصاف لأفراد المجتمعات الديمقراطية المعاصرة على حد زعم رولز، فإن المعضلة التي تعكسها نظرية رولز هي إقصاء القواعد والمبادئ الأخلاقية بوصفها مصدرًا للتشريع. وهو أحد أسباب تعميق الفجوة المعرفية بين الحقوق القانونية والأخلاقية.
لقد رسخ في أذهاننا تصور يزعم أن ثمة تمييزا بين الأخلاق المعيارية والقواعد واللوائح والقوانين المنظمة للمهن، وهو تصور، أزعم أنه السبب الرئيس في الفهم المغلوط لكثير من القضايا والأسئلة التي تحتاج إلى مقاربة جادة، وإجابات سديدة لا سيما عندما نعالج أسباب الفجوة بين المجالين وسبل تجسيرها. مرجع هذا التصور هو حصار الأخلاق المعيارية داخل أسوار من الأفكار المجردة والمبادئ المثالية، كما رأينا، الأمر الذي تنتفي معه أي علاقة اتصال بين النظري المجرد والعملي التطبيقي. لم يدرك هذا التصور حقيقة التداخل بين المعارف المتباينة والسياقات، والوعي البشري الساعي إلى إرضاء الفضول المعرفي لفهم العالم، وكائناته، وظواهره، وأشيائه من جهة، وفهم كل ما يدور حولنا من أحداث ومعاملات أخلاقية وغير أخلاقية في حياتنا المعيشة من الجهة الأخرى، لا سيما مع ازدياد أشكال الغطرسة، والجشع، والعناد، والقسوة التي تمارسها سلطة ما في المهن بهدف تحقيق مكاسب بغض النظر عن القيم الأخلاقية التي ينبغي أن تسود. وهكذا ازدادت المخاوف جراء غياب المنظومات الأخلاقية عن المهن، والاكتفاء بمجموعة من اللوائح، والقوانين، والمواثيق، والقواعد المنظمة لعمل المهنيين وتحديد علاقتهم بالعملاء، الأمر الذي ازدادت معه المطالبة بحضور القيم الأخلاقية المعيارية في المهن في صورة منهجية جديدة تتجاوز الفجوة وتجسّر المعارف والمبادئ والقيم. إن مرجع السجال بين مقاربة الأخلاق المعيارية والمهنية لمعضلات أخلاقية أثيرت في المهن ذاتها، ولا تزال، والتي حالت دون التوصل، في كثير من الأحيان، إلى حلول وجيهة ومرضية، هو أن "المنهجية" المتبعة في هاتين المقاربتين عند معالجة المشكلات الأخلاقية تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة، بل ربما إلى القطيعة الإبستيمولوجية معها. ولهذا كانت "الأخلاق المُطبقة" بوصفها منهجية إرشادية عابرة للتخصصات هي الجديرة بتجسير الفجوة المعرفية والقيمية بين الأخلاق المعيارية والمهنية بطريقة تجعل اتخاذ القرارات الأخلاقية أكثر وجاهة وعقلانية. أو بعبارة أخرى، تسعى هذه المنهجية إلى الإجابة على سؤال: ماذا ينبغي أن أفعل بوصفي مهنيا؟ وهو سؤال يعكس حرية المهني في اختيار فعل ما دون آخر استنادًا إلى منظومة أخلاقية مطبّقة لها صفة الوجوب تقدم الأسباب والحجج التي تسوغ اختياراته. وهذا يعني أنه في سعينا إلى تحديد منهجية إرشادية لما ينبغي أن يتبناه المهنيون عند اتخاذ قرارات أخلاقية من شأنه أن يحقق نتائج خيرة.
شهدت أواخر القرن العشرين، لا سيما في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، اهتمامًا ملحوظًا بالمقاربات العابرة للتخصصات (تشير كلمة "عابرة" المضافة إلى التخصصات هنا إلى تجاوز المقاربة/ المقاربات التقليدية التخصصية ذات البعد التخصصي الواحد في البحث)، فمع صعود الدراسات الثقافية، والنظريات النقدية، وانفتاح الدراسات الإنسانية والاجتماعية على أشكال معرفية جديدة، واستعانتها بأدوات نظرية من تخصصات أخرى بهدف تحليل الأبعاد المعرفية، والسياقات الاجتماعية، والتاريخية، والسياسية، والمؤسساتية التي أنتجت أشكالًا من الخطاب المعرفي والأخلاقي[37]، ازدادت أهمية المقاربات العابرة للتخصصات نتيجة التغيرات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، والدينية، والصحية، والبيئية، التي حدثت في العالم ولا تزال في العقود القليلة الماضية، وما أثارته من قضايا وتحديات، وأسئلة لا تمكن معالجتها بشكل مرضي اعتمادًا على تخصص واحد ووحيد، بل تحتاج إلى مقاربة كلية شاملة، وبحث علمي دقيق لتعقد تلك التحديات، وارتباطها بقضايا متداخلة ومتشابكة يصعب فصلها. أو بعبارة أخرى، تعمل المقاربات العابرة للتخصصات على تجاوز تشظي المعرفة حيث تعمل على مقاربة قضايا معقدة وفقًا لمجموعة معرفية مركبة بهدف فهم أشمل، وحل لمشكلات أكثر لم يستطع التخصص الواحد أن يقدم حلًا لها[38]. ولهذا نجد المقاربات العابرة للتخصصات تتحول عن المفاهيم أحادية الفهم، أو التعاريف الجامعة المانعة بلغة المناطقة، أو مناهج البحث الصماء لكونها بلا جدوى "إن أسطورة الباحث أو العالم الفرد الذي يبحث عن الحقيقة بمفرده هي فكرة رومانسية في الأساس، واستمراراها يؤدي حتمًا إلى عرقلة التقدم، بل تمثل حاجزًا أمامه. فكل تقدم يحدث في علم من العلوم ويظن المتخصصون في هذا العلم أنهم حققوا تقدمًا ما فإنهم بلا شك واهمون، بل يؤدي هذا الزعم إلى نتائج عكسية"[39]. إذ من شأن هذه المقاربات أن تتبع منهجية "التكامل المعرفي" التي تجمع بين الفكر والممارسة، وبين العلم والعمل، هذه المنهجية التي تحقق هذا التضافر المعرفي المنهجي والعملي التطبيقي من أجل تجاوز الآفات الناتجة عن المنهجية الفردية التي لم تعد قادرة على تقديم حلول وجيهة وعقلانية للقضايا المثارة والتحديات التي تواجه العلوم الإنسانية والاجتماعية على اختلافها.
تعد منهجية التكامل المعرفي خطوة مهمة وضرورية لمعالجة هذه القضايا المعقدة لا سيما المثارة في مجال المهن الناتجة عن التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل، والتغيرات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية الحادثة في عصرنا الحاضر. تعمل هذه المنهجية على تجسير الفجوة بين الأخلاق المعيارية التي يطرحها الفلاسفة، والقواعد، واللوائح، والمواثيق المنظمة لعمل المهنيين من خلال الأخلاق المطبّقة التي تعمل على خلق البيئة المناسبة لانخراط فلاسفة الأخلاق والمهنيين والعملاء معًا في جهود متكاملة لمواجهة تلك التحديات والقضايا وتجاوزها بهدف تجسير الفجوة. ومن هنا جاءت سمة التكاملية التي تصف الأخلاق المطبّقة بوصفها منهجية إرشادية.
تضع الأخلاق المطبّقة كمنهجية تكامل معرفي إرشادية السياقات المتباينة في الحسبان عند مقاربة المعضلات الأخلاقية التي تواجه الإنسان المعاصر، إضافة إلى اتجاهها نحو "الفعل" (Action) والبحث عن العلاقات الأوسع نطاقًا بين الأفكار والسياقات، وتعطي مزيدًا من الاهتمام للتطورات المعرفية والممارسات المهنية نظرًا لمقاربتها قضايا ذات طابع واقعي معيش، إذ تعمل الأخلاق المطبّقة كمنهجية على إنتاج معرفة نظرية تفهم من خلالها العالم، وتعالج مشكلات مجتمعية، وتعمل على تجسير الفجوة بين المعرفة النظرية وصور اتخاذ القرارات الأخلاقية في المجتمعات. أو بعبارة أخرى، تعزز هذه المنهجية التكاملية تطوير الأطر المفاهيمية والمناهج التي قد تتجاوز الاختلافات والتباينات إلى تفكير أكثر فائدة وفعالية في إنتاج مبادئ أخلاقية قابلة للتطبيق في المهن والحياة الواقعية المعيشة، الأمر الذي من شأنه تقديم رؤية كلية شاملة متكاملة للأخلاق قادرة على تجسير المسافات.
نشأت الأخلاق المطبّقة[40] كتخصص معرفي أكاديمي في السبعينيات من القرن العشرين عندما واجه المهنيون، والسياسيون، وصناع القرار معضلات أثارت تساؤلات أخلاقية لم تستطع لوائح المهنة وقوانينها والقواعد المنظمة لها تجاوزها أو تقديم حلول وجيهة لها. كما أصبح هذا التخصص موضع اهتمام كبير بين الأوساط الأكاديمية، والمهنية، والمجتمعية بعد انفتاح هذا التخصص على تخصصات أخرى كالطب، والهندسة، وعلوم الحاسوب، وغيرها. كما عملت الأخلاق المطبّقة على تطوير منهجية تقارب من خلالها القضايا المثارة في مجال الحياة المهنية جراء التقدم المتسارع في شتى مجالات المعرفة، والعلوم وتطبيقاتها التكنولوجية، وما تبع ذلك من تغيرات ثقافية، واجتماعية، وسياسية. أكدت هذه المنهجية أن التمييز بين الأخلاق المعيارية والأخلاق المطبّقة ليس تمييزًا صارمًا، بل ثمة تكامل معرفي بين الاثنين، فلا يمكن الادعاء أن المبادئ الأخلاقية والقواعد ليست متصلة أو ملائمة لبعض المواقف وملائمة لمواقف أخرى. لا تميز منهجية الأخلاق المطبّقة بين الأخلاق المعيارية والأخلاق التي توجه المهنيين في مهنهم، بل تعد الأخلاق المعيارية أشبه بخريطة وُضعت عليها علامات تحدد للمهنيين المعايير الواجب اتباعها في حياتهم المهنية من أجل الوصول إلى حلول عقلانية عملية لمشكلات معرفية نظرية من جهة، وعملية تطبيقية من الجهة الأخرى. وإذا كانت الأخلاق المعيارية تركز على ما ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان وفقًا لمبادئ أخلاقية وقواعد إلزامية، فتؤكد الأخلاق المطبّقة على ما ينبغي للمهني أن يسلكه عند التعامل مع العميل، أو طالبي الخدمة منه.
تواجه الأخلاق المطبّقة تحديات عدة منها: صعوبة إقناع المهنيين بما ينبغي قبوله كأساس يوجه سلوكهم الأخلاقي داخل مهنهم، وهذا الذي جعل البعض يدّعي أن الأخلاق نسبية ومن ثم لا يوجد مصدر أو أساس صحيح يمكن الاعتماد عليه بوصفه أساسًا أخلاقيًا يوجه عمل المهنيين، وحجة دعاة نسبية القيم الأخلاقية هي: أن وجود مثل هذا الأساس ربما يجعل العملاء الذين لا ينتمون فكريًا ولا دينيًا إلى مثل هذا الأساس يفقدون الثقة في المهنيين ويتشككون في الخدمات التي يقدمونها، وهذه الثقة هي أساس عمل المهنيين لكي يعملوا بنجاح في كل الثقافات والمجتمعات، وبالتالي يسعى العملاء إلى التأكد من أن المهنيين يتعاملون بعدالة، أي لا يطبقون أساسًا أخلاقيًا مستمدًا من وجهة نظر ثقافة بعينها، أو أيديولوجية، أو دينية، أو شخصية.
ينظر أصحاب وجهة النظر النسبية إلى أنه من الصعب إيجاد تفسير صحيح واحد لما هو صواب وما هو خطأ بالمعنى الأخلاقي، وبالتالي يتعذر وجود أساس واحد ثابت للأخلاق يتعامل به المهنيون في مهنهم الخاصة. فالأحكام الأخلاقية من وجهة النظر النسبية لا تعد حقائق ثابتة، بل هي مجرد آراء مقبولة، أو مرفوضة بالنسبة إلى مجتمعات بعينها، أو جماعات ما، أو أفراد وفقًا لمعتقداتهم، وهذا الذي جعل بعض الفلاسفة المنتمين إلى النزعة النسبية يخلص إلى نتيجة تقول: إذا كانت هذه القيود مجرد رأي فلماذا ننزلها منزلة المبادئ الأخلاقية[41]. إلا أن ثمة انتقادات وجهت إلى النزعة النسبية منها على سبيل المثال: زعم النسبية أنه إذا كانت المبادئ الأخلاقية مجرد آراء، وأنه علينا أن نتسامح مع كل الآراء فهذا يعني أننا نتسامح مع الرأي القائل بضرورة استخدام القوة الوحشية لمنع الآخرين من العمل وفقًا لقناعاتهم الأخلاقية المعيارية. أو نجد مبررًا لأن نقبل ما يراه البعض من أن ممارسة الإبادة الجماعية لشعب من الشعوب، أو جماعة إثنية أو عرقية ما هي إلا مجرد رأي علينا احترامه، أو أنه من الصعب الحكم على هذه الممارسة بالصواب الأخلاقي أو الخطأ، لأنها مجرد رأي، وليست حقيقة، لأن الحقيقة غائبة عند أصحاب النزعة النسبية.
إذا كانت المهن لها أهدافها التي يجب على المهنيين تحقيقها، فإنه يتوجب عليهم الإقرار بمجموعة القيم الأخلاقية التي يتشاركون فيها بوصفهم مهنيين، وذلك لعدة أسباب منها: أن أعمال مهنة ما تكون غير مجدية إذا كان أعضاؤها يتعاملون وفقًا لأجندات أخلاقية مختلفة[42]. إضافة إلى أن المهنة التي تعمل وفقًا لأجندات مختلفة لا تكون موضع ثقة بالنسبة إلى العملاء، لأن العملاء، والعملاء المحتملين في المستقبل، والجمهور العام في حاجة إلى معرفة القيم والأهداف الجوهرية لمهنة ما، وأن يكونوا على ثقة من أن أعضاءها ملتزمين بها[43]. ولكن لكي تكون مهنة ما فعالة في المجتمع على أفرادها الامتثال إلى قيم أخلاقية لا تتعارض مع المجتمع ومصالحه ككل. إن تصوير المهنية على أنها انصياع المهنيين إلى مجموعة من القوانين واللوائح والمواثيق يؤدي إلى نتائج خطيرة، إذ يمكن للمهنيين الالتفاف على القوانين واللوائح والمواثيق والانفكاك منها. ولهذا كان من الضروري حضور المعايير الأخلاقية التي تنظم سلوك المهنيين الأخلاقي من خلال منهجية من التكامل المعرفي والأخلاقي قابلة للتطبيق في مجال المهن. فإذا وضعنا في الحسبان أن الأخلاق بوصفها نظامًا معرفيًا يؤسس لمنظومة من القيم الأخلاقية الهادية للعقل والسلوك على حد سواء، فإن الأخلاق المطبّقة توجه تفكير المهني لهذه المنظومة من القيم، وطريقة إدراكه لما ينبغي عليه فعله، وفي الوقت ذاته، توجه إرادته لما ينبغي أن يكون وما لا ينبغي. فضلًا عن ذلك، تعمل الأخلاق المطبّقة على إرشاد العقل إلى إنتاج مفاهيم أخلاقية جديدة تتلاءم مع التغيرات والتحديات التي تواجه المهني، وتكشف عن المفاهيم المشحونة بالأيديولوجيا وتوجيه النقد إليها وإزالة صفة المقدس عنها. تحدد الأخلاق المطبّقة الآلية التي ترشد المهنيين إلى حل المعضلات الأخلاقية التي تواجههم أثناء ممارساتهم المهنية؛ حيث ترفض هذه الآلية وجهات النظر المغلقة، أو المواد القانونية الجامدة، أو اللوائح الصارمة من جهة، وتتحرى الأخطاء التي يمارسها المهنيون بوعي أو من دون وعي، والتي من شأنها أن تعرقل المهنية كقيمة، وتضر بالعملاء من الجهة الأخرى، أي تحدد الأخلاق المطبّقة مجموعة الممارسات العملية التي ينبغي السير وفقًا لها، والتفكير في مستقبل الأفكار والقيم الموجهة لهذه الممارسات عن طريق تعديلها أو تصويبها، أو تجاوزها والقطيعة معها، أو قبولها. الأمر الذي يجعل الأخلاق المطبّقة في حالة تقدم مستمر يفيد منه المهنيون أنفسهم. وهذا من شأنه أن يضمن حضور تعددية الفهم، والتفسير، والسلوك، مما ينعكس بالإيجاب على حل المشكلات التي تواجه المهنيين والعملاء على السواء؛ على المستويين المفاهيمي والعملي التطبيقي. فعلى سبيل المثال، تؤكد الأخلاق المطبّقة على "الإلزام الخُلقي" بوصفه مبدأ يؤسس منظومة القيم التكاملية في المهن. ليس الإلزام الخُلقي مجرد صياغة مجموعة من القواعد، أو القوانين، أو اللوائح التي تنظم عمل المهنيين لكونها قواعد ملزمة يعاقب من يخرج عليها، بل الإلزام الخُلقي هنا مدفوع بدافع الواجب الأخلاقي والمسؤولية الأخلاقية. تشدد قيمة المسؤولية الأخلاقية، على سبيل المثال، في مجال الرعاية الصحية، على أخلاق العناية والرعاية وتوجه سلوك مقدمي الرعاية الصحية نحو الإجراءات الواجب اتباعها عند التعامل مع المرضى، أو عند إجراء التجارب السريرية لاختبار ما، أو للتأكد من صحة فرضية ما. بيد أن غياب هذه القيمة عن بعض قطاعات الرعاية الصحية، يثير قضايا خطيرة كالعنصرية التي تصنف الشعوب والدول وفق قوالب نمطية محددة، ويستدعي هذا الغياب أيضًا شكلًا من أشكال الترويج للعلم الزائف بهدف تصنيف الشعوب وفقًا للون بشرتها ودرجة ذكائها[44].
وكما تعمل الأخلاق المطبّقة على ترسيخ قيم التواصل، والتفاهم، والحوار، والمشاركة، والتحرر من الجمود، والتسلط، والهيمنة، والتراتبية الوظيفية والمهنية، ولا تتجه فحسب إلى المهنيين، بل إلى الفضاء العام إيمانًا منها أن الفضاء العمومي هو الفضاء الذي يمكن أن تتحقق فيه منظومة القيم المعيارية والمهنية. ومن هذه القيم التي تعمل الأخلاق المطبّقة على ترسيخها: جلب الخير إلى المهنيين أنفسهم، وإلى من يتعامل مع هذه المهن من الجمهور والعملاء، وأيضًا منع الضرر عنهم، ذلك أن التفكير في منظومة قيم أخلاقية متكاملة داخل المهن المختلفة، يسعى إلى تحقيق الخير الأسمى للأفراد، ومن ثم تضع الأخلاق المطبّقة مجموعة من القواعد، والمبادئ، والالتزامات الأخلاقية/العملية التي يسعى المهنيون بفضلها إلى تحقيق أفضل النتائج، ومن هذه القواعد والالتزامات، التعامل مع الأفراد بعدالة ونزاهة ومراعاة حقوقهم واحتياجاتهم، واحترام استقلالهم الذاتي داخل المهن وخارجها، واحترام السرية، والخصوصية، وعدم الكذب، أو الخداع. إن تفكير المهنيين في إطار من المبادئ الأخلاقية والإلزامية، والاحتكام إليها عند اتخاذ القرارات المناسبة يجعل موضوع أخلاق المهنة من الموضوعات الجديرة بالاهتمام نظرًا لارتباطه بالحياة العملية للفرد، سواء أكان هذا الفرد مهنيًا، أم عميلًا، أم من الجمهور العادي.
تعمل إذًا، الأخلاق المطبّقة على تقديم قيم أساسية للمهنيين يعملون وفقًا لها مع كل قطاع من قطاعات المجتمع، ويمكن أن نحصرها في أربعة مبادئ رئيسة هي:
1. مبدأ الالتزام الخلقي بتحقيق أفضل النتائج الممكنة الأكثر نفعًا، والأقل ضررًا.
2. مبدأ المعاملة بعدالة ونزاهة من دون تمييز على أي أساس.
3. مبدأ احترام الاستقلال الذاتي.
4. مبدأ العمل وفقًا للأمانة المهنية.
يسعى المهنيون في التزامهم بتحقيق أفضل النتائج إلى تحقيق الخير لمتلقي خدماتهم، وذلك إما عن طريق تحقيق منافع لهم، أو منع الضرر عنهم، أو الحد منه. وفي سعي المهنيين لتحقيق هذه القيمة عليهم فهم طبيعة الخير المعيارية، واستخدام خبراتهم لتقييم النتائج المحتملة لمتلقي خدماتهم ومراعاة الخير لهم. ومعرفة ما إذا كانت النتائج المحتملة لها تأثيرها في المستقبل على متلقي الخدمة من جهة، وعلى المهنيين، أم لا من الجهة الأخرى. وهذا يتطلب من المهنيين السعي إلى تحقيق الخير للجميع من دون التحيز لمصالح أفراد ينتمون إلى ثقافة ما، أو التعاطف مع أفراد آخرين تربطهم صلة قرابة بهم[45]. إضافة أنه في حالة ما إذا كان ثمة تعارض بين التزام المهنيين تجاه عملائهم ومن هم ليسوا بعملائهم فإنهم، إذا كان عليهم التزام خُلقي بتحقيق أفضل النتائج لعملائهم، فعليهم كذلك أن يضعوا في الحسبان تحقيق أفضل النتائج لمن هم ليسوا بعملائهم، وهذا يتطلب أن يلتزم المهنيون بمبدأ الوفاء بالالتزام الخُلقي المعياري وهو: تحقيق الخير للجميع. هنا تكون للمهنيين القدرة على إنجاز أهداف المهنية بوصفها قيمة وهي: تحقيق الخير لعملائهم ومن ليسوا بعملائهم على السواء.
يسعى المهنيون إلى معاملة متلقي خدماتهم من دون تمييز على أي أساس ليست له علاقة بالعدالة والنزاهة، وهو مبدأ أخلاقي معياري يؤكد وجوب معاملة متلقى الخدمة المهنية على قدم المساواة من جهة، والنظر فيما إذا كانت هذه القيمة حاضرة على مستوى الممارسة الحقيقية بين المهنيين أم لا من الجهة الأخرى[46]. فقد تسمح القواعد المنظمة لمهنة ما بتلقي الذكور تدريبًا ما لكونهم، من وجهة نظر ثقافة ما، أو معتقد ديني معين، أجدر من الإناث بتلقي هذا التدريب.
يؤكد هذا المبدأ الأخلاقي المعياري معاملة متلقى الخدمة المهنية بعدالة من دون النظر إلى الفروق بينهم على أساس الجنس، أو العرق، أو الدين، أو الثقافة، أو معاملة المهنيين بعضهم بعضًا على أساس هذه الفروق، الأمر الذي يؤثر سلبًا على المهنية كقيمة. إضافة إلى ذلك، يقتضي هذا المبدأ الأخلاقي المعياري تجنب المهنيين أشكال المحاباة والتحيز، ووجوب العمل بشفافية وفقًا لقيمة المهنية والالتزام بالمبادئ المعيارية[47].
يعني مبدأ احترام الاستقلال الذاتي لمتلقي الخدمة المهنية وللمهنيين أنفسهم احترام وجهات نظرهم المتباينة في القرارات التي يتخذونها. ولهذا يتوجب على المهنيين، في تحقيقهم للمهنية كقيمة معيارية، تقديم تفسير واضح لمتلقي الخدمة عن الخيارات المتاحة لهم، والنتائج المترتبة على هذا الاختيار بشفافية، وعدم ممارسة ضغوط من أي نوع على أحد بطريقة ما. إضافة إلى ذلك، لا يعني احترام مبدأ الاستقلال الذاتي لمتلقي الخدمة أو المهنيين أنفسهم السماح لهم بفعل ما يشاءون، بل تتوجب عليهم معرفة ما إذا كانت مواقفهم وقراراتهم المستقلة مدروسة بشكل جيد أم لا، وما إذا كانت سوف تؤثر على الآخرين أم لا. ولهذا كانت المسؤولية الأخلاقية للمهنيين للنهوض بالمهنية كقيمة هي تحقيق الاستقلال الذاتي لمتلقي الخدمة المهنية، وكذلك لبعضهم بعضًا، وفقًا لمبدأ تحقيق الخير للجميع، فلا يمكن على سبيل المثال، أن يعطي المهني الأولوية لقيمه الشخصية المستندة على معتقد ما، أو ثقافة من الثقافات على حساب القيم المهنية والمبادئ الأخلاقية المعيارية. باختصار، يتطلب تحقيق مبدأ احترام الاستقلال الذاتي أن يكون المهنيون على معرفة جيدة (الخبرة المهنية) من جهة، واتباع الموضوعية عند تقديم هذه المعرفة أو الخبرة المهنية من دون انتقاء لمعلومات معينة أو إقصاء أخرى، أو تغليب القيم الشخصية على القيم المهنية من الجهة الأخرى.
يعمل المهنيون وفق مبدأ العمل بأمانة مهنية، أي وفق قيم وتعهدات صريحة أو ضمنية، وأيضًا وفق أهداف المهنة. تتحقق الأمانة المهنية عندما تتوافق أفعال المهني مع قيمة المهنية بحيث لا يوجد تعارض أو تضارب بين ما يقوم به المهني وقيمه المهنية، لهذا قيل "في حالة وجود تعارض بين القيم الشخصية للمهني وقيم المهنية ذاتها يتوجب عليه التخلي عن قيمه الشخصية أو يترك مهنته". يعني العمل وفق الأمانة المهنية العمل وفق خبرات المهني وسلطاته وموارد المهنة لتحقيق أهدافها، والامتثال للمعايير والممارسات المهنية ومنها: المحافظة على السرية، واحترام الخصوصية ومستوياتها، والصدق وعدم الكذب عمدًا، والوفاء بالمبادئ والمعايير الأخلاقية المعيارية بهدف تحقيق أفضل خير ممكن لمتلقي الخدمات المهنية. لا يمكن للمهني أن يخضع لمصالح معينة على حساب الامتثال إلى المعايير المقبولة في مهنة ما.
نخلص إلى نتيجة هي أن المهنية كقيمة تقتضي تحقيق أفضل النتائج لمتلقي خدمات مهنة ما، والتعامل معهم بعدالة ونزاهة والتزام بالوعود، وذلك لأن ثمة إطارا أخلاقيا معياريا يوجه المهنيين في بناء مفاهيم أخلاقية ومواقف. لا يستند هذا الإطار على أحكام قيمية أيديولوجية، أو قائمة على أسس ثقافية، أو دينية، أو سياسية أو حتى شخصية لأن تعويل المهنيين على مثل هذه الأسس من شأنه أن يزعزع قيمة المهنية، أو بعبارة أخرى، لا ينبغي على المهنيين أن يسلكوا وفقًا لعواطفهم، أو على أساس قيمهم الشخصية من دون التحقق من أنها متوافقة مع المبادئ الأخلاقية المعيارية المهنية.
ثمة قصة تُروى عن صديق لنيلز بور Niels Bohr عالم الفيزياء الدنماركي الحاصل على جائزة نوبل على بحوثه في الفيزياء الذرية؛ حيث كان في زيارة لمنزل بور، وقد عبر عن دهشته عندما اكتشف أن ثمة "تميمة" لجلب الحظ معلقة على جدار من جدران منزل بور فقال الصديق: أعتقد أنك لا تؤمن بالخرافة؟ فرد عليه بور: بالطبع لا، لكنني أقول لك إن هذه "التميمة" تعمل سواء أكنت تؤمن بتأثيرها أم لا، فـ"التميمة" في حد ذاتها لا تجلب حظًا، بل الذي يجعلها تعمل هو ما يسمى بـ"المناخ الأخلاقي" Ethical Climate الذي هو بطبيعة الحال، شيء يختلف عادة عن "القانون الأخلاقي".
على الرغم من أن "المناخ الأخلاقي" السائد اليوم ليس هو المناخ الأخلاقي الذي عالج فيه الفلاسفة نظرياتهم الأخلاقية المعيارية ونظّروا للخيرية، إلا أن الأخلاق تظل هي الحاملة لطموح نابع من الفكر لتوجيه عقولنا، ومشاعرنا، وسلوكنا نحو مبادئ ومعايير تعزز حياتنا وتدعمها، وقد عملت الأخلاق المطبّقة، بوصفها منهجية إرشادية على تشكيل نظرة المهنيين من جهة، ومتلقي الخدمات المهنية من الجهة الأخرى، إلى الأهداف التي ينبغي عليهم تحقيقها في مهنهم الخاصة، وهذا الذي يعطي للمهنية كسمة ملازمة للمهنيين قيمتها لكونها تستمد مرجعيتها المعرفية والسلوكية من منظومة المفاهيم والقيم التي تمدها بها الأخلاق المطبّقة كمنهجية إرشادية تحدد لمجتمع المهنيين، ولمتلقي الخدمة الغايات التي ينبغي السعي إلى تحقيقها. إضافة إلى ذلك، عملت الأخلاق المطبّقة على تجسير الفجوة المعرفية بين الأخلاق المعيارية والمهنية في صورة منظومة أخلاقية كلية تعزز إنسانيتنا بوصفنا فاعلين على المستويين الواقعي المعيشي والمهني التطبيقي. لقد عملت الأخلاق المطبّقة على توسيع رؤيتنا للأخلاق لا سيما بعد التطورات التي حدثت على مستويات عدة وخلّفت معضلات أخلاقية في مجال المهن لها سمة العملية، والتي جعلت البعض يزعم أن التفكير في "الأخلاق" يعد شكلًا من أشكال الترف الفكري الذي لا يقوى على مواجهة الأزمات وتقديم حلول لها على اختلافها. وأن البحث عن الحلول في الأخلاق النظرية لا سيما المعيارية منها، هو بحث عقيم لا فائدة منه ولا طائل.
حاولت هذه الورقة الإجابة على سؤال مركب يتمحور حول ما هي المبادئ الأخلاقية، والغايات التي ينبغي أن تقوم عليها مهنة ما ويسلكها المهنيون أنفسهم، بحيث تتحول المهنية من مجرد قواعد منظمة للمهنة إلى قيمة أخلاقية معيارية؟ وهل تقدم لنا الأخلاق المطبّقة منهجًا عقلانيًا وجيهًا نقرر على أساسه ما ينبغي أن نقبله في المهنة وما لا ينبغي؟ وإذا كان ذلك في مقدورنا، ما هو هذا المنهج، وما هي طبيعته؟ كماطرحت الورقة فرضية لتجسير الفجوة المعرفية بين المهن الموجهة بمجموعة من اللوائح والقوانيين والمواثيق، وبين المبادئ المعيارية التي تطرحها الأخلاق المطبّقة، وذلك بالاعتماد على مجموعة من المعايير الأخلاقية الموجهة للمهنيين، والقابلة للتطبيق، بالاعتماد على حلول عقلانية وجيهة، وهذا من شأنه أن يسهم في تقديم رؤى جديدة، وتأويلات وابتكارات ثرية، وتفاعلية، لتوطيد العلاقة بين المعارف النظرية التي ينتجها العقل الأخلاقي المعياري، والمجتمع، والقيم، والممارسات لا سيما المهنية منها. ويمكن إجمال هذه المعايير في الآتي:
1. مبدأ الالتزام الخلقي بتحقيق أفضل النتائج الممكنة الأكثر نفعًا، والأقل ضررًا.
2. مبدأ المعاملة بعدالة ونزاهة من دون تمييز على أي أساس.
3. مبدأ احترام الاستقلال الذاتي.
4. مبدأ العمل وفقًا للأمانة المهنية.
تبتعد الأخلاق المطبّقة بهذه المبادئ عن النظريات الأخلاقية التقليدية التي تحمل أفكارًا مغلقة ومعزولة عن السياقات الاجتماعية، والثقافية، والمهنية التي نشأت فيها. وتقدم حلولًا للمعضلات التي تواجه المهنيين على المستويين المعرفي النظري والعملي المهني التطبيقي. إضافة إلى أن الأخلاق المطبّقة في حالة تطور مستمر بحيث تعمل على إدخال التعديلات المستمرة على أفكارها، ومبادئها، ومنهجيتها وفقًا للتطورات التي تشهدها الفضاءات المعرفية والعملية التطبيقية المختلفة، الأمر الذي يجعل المهنيين يراجعون باستمرار قراراتهم للوقوف على الإخفاقات التي وقع فيها مهني ما عند تقديم حل لمعضلة، أو إزالة توتر، أو استبدال فرضية بأخرى، أو تعديلها، أو القطيعة معها.
باختصار، غدا تحليل الفجوة المعرفية بين الأخلاق المعيارية والمهنية أمرًا ضروريًا لا سيما مع الدور الذي قامت به الدراسات العابرة للتخصصات التي كشفت عن صعوبة التمييز الصارم بين المعارف التي ينتجها العقل البشري من جهة، ودعت إلى ما يسمى بــ "التكامل المعرفي" حيث تتلاقى بداخله جُل المعارف التي كانت تبدو في السابق متباينة من الجهة الأخرى. والأهم هو أن هذه الدراسات العابرة للتخصصات قد عملت على تجسير ما هو نظري وما هو عملي لا سيما في مجال الأخلاق بواسطة "الأخلاق المطبّقة" التي توجه سلوك الأفراد. فهي تحدد مصادر المبادئ والقواعد الأخلاقية المعيارية، وتحدد، كذلك، أساسا للأخلاق داخل المهن المختلفة للحكم على سلوك المهنيين بالصواب أو الخطأ من الناحية الأخلاقية، الأمر الذي يعكس وجود قيم موحدة يمكن السير وفقًا لها داخل المهن المختلفة.
أولًا: العربية
إبراهيم، زكريا. المشكلة الخلقية، مشكلات فلسفية 6، القاهرة: مكتبة مصر، 1998.
أفلاطون. الجمهورية، ترجمة فؤاد زكريا، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974.
دووركين، رونالد. أخذ الحقوق على محمل الجد، ترجمة منير الكشو، تونس: المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا، 2015.
روسن، ريتشارد. أخلاق العمل المهني: كيف تكون عادلًا في عالم معقد ثقافيًا، ترجمة خالد قطب، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2018.
رولز، جون. العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009.
الطويل، توفيق. فلسفة الأخلاق، القاهرة، دار النهضة العربية، ط9، 1991.
عبد الرحمن، طه. سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000.
عزمي بشارة (محرر)، سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018.
قطب، خالد. "جائحة كوفيد – 19 وغياب المسؤولية الأخلاقية"، مجلة الفيصل العلمية، ع62، (الرياض، يناير- مارس 2021)، ص50-57.
–––. "مقاربة فلسفية للظلم المعرفي: علاقة الطبيب المعالج بالمريض"، ع9، مجلة مثاقفات (خريف 2023).
كانْت، إيمانويل. تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، كولونيا-ألمانيا: منشورات الجمل، ط1، 2002.
كفيليس، دانييل. "من تحت معطف اليوجينا: السياسة التاريخية للطاقم الوراثي البشري"، ضمن: الشفرة الوراثية للإنسان: القضايا العلمية والاجتماعية لمشروع الجينوم البشري، ترجمة أحمد مستجير، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والعلوم والآداب، سلسلة عالم المعرفة، 1997.
لويد، دينيس. فكرة القانون، ترجمة سليم الصويص، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، 1981.
محمود، زكي نجيب. موقف من الميتافيزيقا، القاهرة: دار الشروق، 1987.
المضرب، عبد الرزاق. مبادئ الأخلاق المهنية، أبو ظبي: مطبوعات جامعة الإمارات العربية المتحدة، 2003.
ثانيًا: الأجنبية |
References |
‘Abd al-Rahman, Taha. Su’al al-Akhlaq: Musahama fi al-Naqd al-Akhlaqi lil-Hadatha al-Gharbiyya (in Arabic), casablanca: Al-Markaz al-Thaqafi al-‘Arabi, 2000.
al-Mudarrib, ‘Abd al-Razzaq. Mabadi' al-Akhlaq al-Mihaniyya (in Arabic), Abu Dhabi: Matbu‘at Jami‘at al-Imarat al-‘Arabiyya al-Muttahida, 2003.
Al-Tawil, Tawfiq. Falsafat al-Akhlaq (in Arabic), Cairo: Dar al-Nahda al-‘Arabiyya, 9th ed., 1991.
Anderson, Roger B. “Interdisciplinary Studies: Four Suggestions,” The South-Central Bulletin, Vol. 33, No. 2 (1973), pp. 45; 49-50. https://doi.org/10.2307/3188127
Beauchamp, Tom L. “The Nature of Applied Ethics,” In: R.G. Frey and Christopher Heath Wellman (eds.), A companion to Applied Ethics, Oxford: Blackwell Publishing Ltd., 2003.
Bishara, Azmi (ed.). The Issue of Ethics in Arab-Islamic Civilization (in Arabic), Beirut: Arab Center for Research and Policy Studies, 2018.
Blackburn, Simon. Ethics: A very Short Introduction. Oxford: Oxford University Press, 2001.
Briggle, Adam & Mitcham, Carl. Ethics and Science: An Introduction. Cambridge: Cambridge University Press, 2012.
Brincat, Cynthia and Wike, Victoria. at Morality and the Professional Life: Values Work, New Jersey: Prentice-Hall, Inc, 2000.
Broadhbent, Jane., Dietrich, Michael and Roberts, Jennifer. “The End of Professions?” In: Jane Broadhbent, Michael Dietrich, and Jennifer Roberts (eds.), The End of Professions? The restructuring of professional work, London and New York: Routledge, 1997.
Cohen, Andrew I. and Wellman, Christopher Heath. Contemporary Debates in Applied Ethics. New Jersey: Wiley-Blackwell, 2005.
Dutu, Carmen. “Introduction” in: Banu Akçeşme, Hasan Baktır and Eugene Steele (eds.), Interdisciplinarity, Multidisciplinarity and Transdisciplinarity in Humanities, Cambridge: Cambridge Scholars Publishing, 2016.
Dworkin, Ronald. Taking Rights Seriously (in Arabic) trans. Munir al-Kashu, Tunis: Al-Markaz al-Watani lil-Tarjama, Dar Sinatra, 2015.
Eastman, Wayne. “Ideology as Rationalization and as Self-Righteousness: Psychology and Law as Paths to Critical Business Ethics.” Business Ethics Quarterly, Vol. 23, No. 4 (2013), pp. 527-560. https://doi.org/10.5840/beq201323439
Floridi, Luciano. The Ethics of Artificial Intelligence: Principles, Challenges, and Opportunities, Oxford: Oxford University Press, 2023.
Gensler, J. Harry. Ethics: A Contemporary Introduction, London: Routledge, 2nd ed., 2011.
Hamrick, Florence and Benjamin, Mimi (eds.). Maybe I Should: Case Studies on Ethics for Students Affairs Professionals, London: University Press of America, 2009.
Ibrahim, Zakariyya. Al-Mushkila al-Khuluqiyya.(In Arabic) Al-Qahirah: Maktabat Misr, Mushkilat Falsafiyya 6, [n.d.].
Kaczor, Christopher. “The Tragic Case of Jodie and Mary: Questions about Separating Conjoined Twins” The Linacre Quarterly, Vol. 70, No. 2 (2003), pp. 159-170. https://doi.org/10.1080/20508549.2003.11877673
Kagan, Shelly. “The Structure of Normative Ethics: Philosophical Perspectives,” Ethics, Vol. 6 (1992), pp. 223-242. https://doi.org/10.2307/2214246
Kagan, Shelly. Normative Ethics, Oxford: Westview Press, 1998.
Kant, Immanuel. Foundations of the Metaphysics of Morals (in Arabic), trans. ‘Abd al-Ghaffar Makawi, Cologne-Germany: Manshurat al-Jamal, 2002.
Kevles, J. Daniel. “Min Taht Mi‘taf al-Yujina: al-Siyasat al-Tarikhiyya li-Taqam al-Wirathi al-Bashari” (in Arabic), In: trans. Ahmad Mustajir, The Code of Codes: Scientific and Social Issues in the Human Genome Project, Kuwait: al-Majlis al-Watani lil-Thaqafa wa al-‘Ulum wa al-Adab, Silsilat ‘Alam al-Ma‘rifa, January 1997.
Klikauer, Thomas. “Business Ethics as Ideology?” Critique, Vol. 45, No. 1-2 (2017), pp. 81-100. https://doi.org/10.1080/03017605.2016.1268757
Koehn, Dary. The Ground of Professional Ethics, London: Routledge, 1994.
Lloyd, Denis. The idea of law (in Arabic), trans. Salim al-Suwais, Kuwait: al-Majlis al-Watani lil-Thaqafa wa al-Funun wa al-Adab & Silsilat ‘Alam al-Ma‘rifa, 1981.
Lubanr, David. “Professional Ethics,” In: R. G. Frey and Christopher Heath Wellman (eds.), A Companion to Applied Ethics, Oxford: Blackwell Publishing Ltd, 2003, pp. 583-596.
Mark S. Schwartz, “Ethical Decision-Making Theory: An Integrated Approach,” Journal of Business Ethics, Vol. 139, No. 4 (December 2016), pp. 755-776. https://doi.org/10.1007/s10551-015-2886-8
Qutb, Khaled. “Jaihat Covid – 19 wa Ghayab al-Mas'uliyya al-Akhlaqiyya” (in Arabic), al-Faysal al-‘Ilmiyya Journal, No. 62 (Riyadh, January–March 2021).
–––. “Maqarabah Falsafiyya lil-Zulm al-Ma‘rifi: ‘Ilaqat al-Tabib al-Mu‘alij bil-Marid” (in Arabic), Mithaqafat Journal, No. 9 (autumn, 2023).
Rawls, John. Justice as Fairness: A Restatement (in Arabic) trans. Haydar Haj Isma‘il, Beirut: Arab Organization for Translation, 2009.
Rosen, Richard. Ethics of Professional Practice: How to Be Fair in a Culturally Complex World (in Arabic), trans. Khalid Qutb, Cairo: National Center for Translation, 2018.
Rowe, John W. “Introduction: Approaching Interdisciplinary Research,” In: Frank Kessel, Patricia L. Rosenfield and Norman B. Anderson (eds.), Interdisciplinary Research: Case Studies from Health and Social Science, Oxford: Oxford University Press, 2008. https://doi.org/10.1093/acprof:oso/9780195324273.003.0001
Sethy, Satya Sundar (ed.). Higher Education and Professional Ethics: Roles and Responsibilities of Teachers, London: Routledge, 2018. https://doi.org/10.4324/9781351173803
Singer, Peter (ed.). Ethics, Oxford: Oxford University Press, 2013.
Wong B., David. Moral Relativism and Pluralism, Cambridge: Cambridge University Press, 2023.
[1] طرح العديد من المفكرين والباحثين العرب، في الآونة الأخيرة "سؤال الأخلاق" إما لنقد المشروع الحداثي الغربي، أو بحثًا عن جذور هذا السؤال في الحضارة العربية الإسلامية. فقد طرح، على سبيل المثال، طه عبد الرحمن هذا السؤال بهدف نقد المشروع الحداثي الغربي العلماني. لقد فصل هذا المشروع بين طريقة الحياة التي لها أخلاقها الخاصة بها وهي أخلاق الرغبة، والامتثال لأخلاق الواجب التي يحكمها العقل. غير أنه يزعم أن مفاهيم الأخلاق المستخدمة في هذا الفكر مفاهيم مضطربة نتيجة إخفاق فلاسفة الأخلاق الغربيين في التعرف على مصدر الأخلاق الحقيقي وهو "الدين" أو "الغيب". ومن ثم يؤكد عبد الرحمن نتيجة تمثل جوهر الأخلاق في مشروعه الفكري وهو: "لا أخلاق بدون غيبيات، كما لا دين بدون غيبيات". يُنظر: طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000)، ص23. وكما طرح مجموعة من المؤلفين سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية بهدف الوقوف على العلاقة بين الإشكاليات الأخلاقية التي طُرحت في العصر الإسلامي الذهبي، والسياقات الإسلامية المعاصرة بحثًا عن أسباب فشل بناء الدولة، والمجتمعات، والسياسة العربية المعاصرة بوصفه فشلًا أخلاقيًا. يُنظر: عزمي بشارة (محرر)، سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص16.
[2] يُنظر على سبيل المثال كتاب "دليل بلاكويل في الأخلاق التطبيقية حيث يطرح ديفيد لوبان في فصله الذي خصصه للأخلاق المهنية هذه التساؤلات:
David Lubanr, “Professional Ethics,” In: R. G. Frey and Christopher Heath Wellman (eds.), A Companion to Applied Ethics (Oxford: Blackwell Publishing Ltd, 2003), pp. 583-596.
[3] أثار كل من أنردو كوهن، وكريستوفر هيث ويلمان بعض القضايا كالإجهاض، والاستنساخ، والهجرة وغيرها في محاولة إيجاد منهجية لها طابعها القيمي الأخلاقي عند مقاربة هذه القضايا. ينظر:
[4] أثار التقدم المتسارع في مجال الحاسوب والتعلم الآلي، وتطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، معضلات أخلاقية. فقد ساعدت وفرة المعلومات التي لا يمكن تقدير حجمها، أو تداعياتها، تَحوّل بعض مبتكري نظم وبرامج الذكاء الاصطناعي إلى فاعلين أيديولوجيين. حيث يوجهون المجتمعات نحو تفكير مؤدلج، وصور من السلوك محددة في غياب منظومة قيمية وأخلاقية تحكم سلوك أولئك الفاعلين. وتداخل السياسي، والعلمي، والتكنولوجي بطريقة يصعب التمييز بينها. يُنظر في المعضلات الأخلاقية التي نشأت عن تطوير نظم الذكاء الاصطناعي وبناء الثقة في هذه النظم كتاب الفيلسوف الإيطالي لوسيانو فلوريدي (Luciano Floridi) أستاذ فلسفة المعلومات في جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة، والذي يؤكد فيه كيف تحول الذكاء الاصطناعي إلى فاعلية Agency وليس إلى ذكاء:
Luciano Floridi, The Ethics of Artificial Intelligence: Principles, Challenges, and Opportunities (Oxford: Oxford University Press, 2023), p. 57.
إضافة إلى التطورات المتسارعة في التكنولوجيا الحيوية، كالاستنساخ، وإعادة تكوين الحمض النووي، والتعديلات الوراثية على الأطعمة، والحيوانات، وعلى الجمهور العام في المجتمع. إضافة إلى تكنولوجيا النانو وتصميم مواد جديدة. كل هذا أثار إشكالية العلاقة بين الأخلاق، والعلم والبحث العلمي، ودور السلطة في تحديد جدول أعمال البحث العلمي، وانتهاكات بعض الباحثين والعلماء للمبادئ الأخلاقية والمعايير الواجب اتباعها من قبل المجتمع العلمي أو الجماعة العلمية عند إجراء البحوث على الإنسان والحيوان على حد سواء. يُنظر، على سبيل المثال في دور العلماء في مشروع مانهاتن ومسؤوليتهم تجاه المعرفة وعواقبها:
Adam Briggle and Carl Mitcham, Ethics and Science: An Introduction (Cambridge: Cambridge University Press, 2012), p. 228.
[5] أسس فلاسفة اليونان القدماء سقراط، وأفلاطون، وأرسطو (على الرغم من الاختلافات الطفيفة بينهم) البناء المعرفي النظري على مجموعة من المبادئ المعيارية التي توجهنا نحو الخير. فالخير هو القيمة الأسمى والأجدر بأن تسود حياة الإنسان بهدف تحقيق السعادة. فالشخص الذي يريد أن يكون سعيدًا عليه أن يكون خيرًا. والشخص الخير هو الشخص الذي يحمل جُل الخصال الطيبة. يُنظر في هذه العلاقة بين الخير والسعادة: أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد زكريا (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974).
كان سعي فلاسفة اليونان القدماء إلى تحقيق الخير الأقصى من خلال التأسيس المعرفي لمفهوم الفضيلة. فغاية الفعل الذي يتصف بالخيرية، لا سيما عند أفلاطون وأرسطو، هو الوصول إلى هذا الخير الأقصى، وسبيل الوصول إليه هو "التأمل"، أي في معرفة طبيعة الخير الأقصى. ومعرفة سبيل الوصول إليه من دون فعله. إذ أن الأفعال الصائبة التي تصدر عن الأفراد تكون صادرة عن العادة، والمألوف، والغريزة، وهي أفعال لا توصف بالخيرية، بل منبعها اللذة. وهذا يفسر لماذا أكد جُل فلاسفة اليونان على التمييز بين اللذة وما تحدثه من ألم للفرد، ومعرفة الفضيلة وما تؤدي به هذه المعرفة إلى السعادة. يُنظر: توفيق الطويل، فلسفة الأخلاق (القاهرة، دار النهضة العربية، ط9، 1991).
[6] نظّر فلاسفة الأخلاق المعياريون أمثال كانط لمفهوم الواجب في العصر الحديث. وأكدوا أن أفعالنا التي تتصف بالخيرية لا تنبع من فعل الخير، بل من الشعور بالواجب، وأن مصدر هذا الشعور هو العقل. ومن هنا كان مفهوم الواجب عند كانط يعادل مفهوم الخيرية. فعلى الرغم من أن كانط يؤسس مفهوم الواجب على قدرتنا كموجودات عاقلة على تعزيز القانون الأخلاقي. ولما كان القانون الأخلاقي مؤسسا على العقل، فإن هذا التصور يظل تصورًا نظريًا ليست له علاقة مباشرة بحياتنا العملية، وفي قراراتنا الأخلاقية. يُنظر في مقاربة كانط لمفهوم الواجب: إيمانويل كانْت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي (كولونيا-ألمانيا: منشورات الجمل، ط1، 2002)
[7] Peter Singer (ed.), Ethics (Oxford: Oxford University Press, 2013), p. 3.
[8] Ibid., p. 4.
[9] Harry J. Gensler, Ethics: A Contemporary Introduction (London: Routledge, 2nd ed., 2011), p. 1.
[10] Shelly Kagan, Normative Ethics (Oxford: Westview Press, 1998), pp. 1-2.
[11] Shelly Kagan, “The Structure of Normative Ethics: Philosophical Perspectives,” Ethics, Vol. 6 (1992), p. 224.
[12] هناك العديد من الاتجاهات الوضعية والعلمانية في الفكر الغربي أسست معرفيًا لهذا الزعم، مدعية أن الأخلاق المعيارية لا تقوى بذاتها على مواجهة هذه الاختراقات أو الانتهاكات التي تواجه الإنسان المعاصر، مدعية أن القيم المطلقة أصبحت وهما من الأوهام، وهو زعم، في حد ذاته، قد تجاوزته فلسفة الأخلاق المُطبّقة. فعلى سبيل المثال نظر الوضعيون المناطقة إلى أن العبارات التي تتحدث عن القيم المعيارية هي عبارات خالية من المعنى لأنها لا تشير إلى شيء متحقق بالفعل في الواقع. وهذا الذي دفعهم إلى زعمهم هذا. يُنظر على سبيل المثال: زكي نجيب محمود، موقف من الميتافيزيقا (القاهرة: دار الشروق، 1987)، ص110.
[13] رفض العديد من الدول تطبيقات التكنولوجيا الحيوية لأن مبتكري هذه التكنولوجيا، لا سيما في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، قد فشلوا في الكشف عن العواقب اللاأخلاقية التي يمكن أن تنتج عن الاستنساخ، والهندسة الوراثية، والتعديلات الجينية على الأطعمة والحيوانات. وكذلك على الجمهور العام في المجتمع. فعلى سبيل المثال، أثار التقدم الهائل في التكنولوجيا الحيوية قضية العدالة؛ عدالة الاطلاع على المعلومات المتعلقة بتطورات التكنولوجيا الحيوية ذاتها. فضلًا عن العنصرية التي تعكسها اليوجينيا Eugenics (علم تحسين النسل) التي تؤكد الفروق بين السلالات من حيث العرق. فقد سادت وجهة نظر تقول إن ثمة تخلفا بيولوجيا وراثيا للسود، ومن ثم كان هناك ارتياب كبير من سيادة الديمقراطية في المجتمعات التي تعتنق اليوجينيا، بحيث تحولت الروح الحقيقية للديمقراطية الأمريكية، والتي تقول إن كل الناس يولدون ولهم الصفات نفسها، والقدرات نفسها على حكم أنفسهم، وحكم غيرهم. وأن التربية والبيئة لا يمكنهما التغلب على العيوب الوراثية. لذا طالب عدد كبير من اليوجينيين الحكومات الإمبريالية (البريطانية والأمريكية) بالحث عبر وسائل الإعلام، المقروءة والمسموعة ومراكز الأبحاث، على تحسين النسل حتى تتمكن هذه الحكومات من تعمير المستعمرات بأفراد متميزين من الجنس البريطاني والأمريكي. والوسيلة التي اُتخذت، في هذا الصدد، هي قتل المتخلفين بغير ألم، والسماح للأمهات بخنق من يحمل من أطفالهن تشوهات وراثية، وتقييد الزواج، والعزل الجنسي، والتعقيم، وتقييد الهجرة من وإلى أمريكا. يُنظر: دانييل كفيليس، "من تحت معطف اليوجينيا: السياسة التاريخية للطاقم الوراثي البشري"، ضمن: الشفرة الوراثية للإنسان: القضايا العلمية والاجتماعية لمشروع الجينوم البشري، ترجمة أحمد مستجير (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والعلوم والآداب، سلسلة عالم المعرفة، 1997)، ص19.
[14] فهمي جدعان، "مركب أخلاقي حديث للمستقبل العربي"، ضمن: سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية، ص38.
[15] يمكن أن نضرب مثالًا على ذلك من اهتمام الجامعات، لا سيما في أوروبا وبعض البلاد العربية بمقررات "أخلاق المهنة" أو "أخلاق العمل المهني" بهدف تزويد الطلاب الجامعيين بما ينبغي أن يكون عليه السلوك المهني. يُنظر:
Florence Hamrick and Mimi Benjamin(eds.), Maybe I Should: Case Studies on Ethics for Students Affairs Professionals (London: University Press of America, 2009), pp. xi-xii.
[16] Cynthia Brincat and Victoria Wike, at Morality and the Professional Life: Values Work (New Jersey: Prentice-Hall, Inc, 2000), p. 7.
[17] Ibid.
[18] Jane Broadhbent, Michael Dietrich and Jennifer Roberts, “The End of Professions?” In: Jane Broadhbent, Michael Dietrich, and Jennifer Roberts (eds.), The End of Professions? The restructuring of professional work (London and New York: Routledge, 1997), pp. 1-12.
[19] عبد الرزاق المضرب، مبادئ الأخلاق المهنية (أبو ظبي: مطبوعات جامعة الإمارات العربية المتحدة، ط1، 2003)، ص42.
[20] المرجع السابق. ص44.
[21] Dary Koehn, The Ground of Professional Ethics (London and New York: Routledge, 1994), p. 16.
[22] توجد، على سبيل المثال، في اللوائح والقوانين المنظمة لعمل المهنيين في دول رأسمالية كبرى مواد قانونية (تتخذ شكل معايير أخلاقية ومبادئ) تخدم أيديولوجيات هذه الدول منها "ضرورة الالتزام بطاعة قوانين الشركة والعمل على تحقيق أهدافها" أو "قول الحقيقة برمتها يتعارض مع مصلحة الشركة" يُنظر في ذلك:
Thomas Klikauer, “Business Ethics as Ideology?” Critique, Vol. 45, No. 1-2 (2017), pp. 81-100.
[23] Wayne Eastman, “Ideology as Rationalization and as Self-Righteousness: Psychology and Law as Paths to Critical Business Ethics,” Business Ethics Quarterly, Vol. 23, No. 4 (2013), pp. 527-560.
[24] أسست الاتجاهات الوضعية، والوضعية المنطقية، والتجريبية، لا سيما مع الفيلسوف الألماني رودلف كارناب (Rudolf Carnap) معرفيًا هذا الزعم. فمن وجهة نظرها، لا تنطوي "القضايا الأخلاقية" على أي بحث في الوقائع، بل هي بحث مزعوم فيما هو خير، وما هو شر، أعني فيما يصح عمله وما لا يصح عمله، ولو أننا نظرنا إلى "العبارات الأخلاقية" على أنها قضايا لكان علينا أن نقول إننا هنا بإزاء "قضايا زائفة" لا تعبر عن أي شيء قابل للتحقق تجريبيًا. والحق أننا هنا بإزاء أقاويل لا تعبر إلا عن بعض "الرغبات" أو "الأوامر" أو "الوصايا" والتي لا يمكن أن تعد صادقة أو كاذبة، وبالتالي فإنها لا تمثل قضايا أصلًا. يُنظر: زكريا إبراهيم، المشكلة الخلقية، مشكلات فلسفية 6 (القاهرة: مكتبة مصر، 1998)، ص67-68.
[25] خالد قطب، "جائحة كوفيد – 19 وغياب المسؤولية الأخلاقية"، مجلة الفيصل العلمية، ع62 (الرياض، يناير- مارس 2021)، ص50-57.
[26] خالد قطب، "مقاربة فلسفية للظلم المعرفي: علاقة الطبيب المعالج بالمريض"، مجلة مثاقفات، ع9 (خريف 2023)، ص14.
[27] يعد اتخاذ القرار الأخلاقي من الصعوبة بمكان نظرًا للضغوط الحياتية والمهنية التي يتعرض لها المهنيون أنفسهم. فعلى سبيل المثال، هل يجب على المهني أن يكذب لكي يحصل على عمل حتى يتجنب، هو وعائلته، الطرد من منزله لعدم قدرته على دفع الإيجار، أم أن الكذب رذيلة؟ هل يجب على المهني أن يتجاهل عبارات النفاق لرئيسه للحفاظ على عمله أو منصبه، أم النفاق آفة ذميمة خُلقيًا؟ هل "الضرورة" التي تستخدم في بعض الأحيان لتبرير فعل أخلاقي ما هي انتهاك صريح للمبادئ الأخلاقية والمهنية؟ على الرغم من أن اتخاذ أي قرار يتطلب إرادة وقيمة، فإن المهنيين لا يمكنهم، بأي حال من الأحوال، تجاهل المعايير الأخلاقية والمبادئ لا سيما عندما يفكرون في العواقب المحتملة جراء تجاهل مثل هذه المعايير، أو الزعم بعدم أهميتها، أو لا علميتها. يتطلب اتخاذ القرار الأخلاقي أكثر من مجرد معرفة بأهمية القيم المهنية والأخلاقية، ومعرفة العواقب المترتبة جراء اتخاذ القرار على الآخرين، والقدرة على تقييم الوقائع والمعضلات المراد حلها، والمهارات المطلوبة (المعرفية والمطبّقة) لتنفيذ القرارات بفاعلية، وهذا يتطلب برنامج بحث لصياغة منظومة قيمية قابلة للتطبيق. يقدم مارك شوارتز (Mark S. Schwartz)، الأستاذ في جامعة نيويورك، المختص في أخلاق الأعمال، نموذجًا معرفيًا لسد الفجوة بين النظرية الأخلاقية والتطبيق من خلال ما أطلق عليه" نموذج اتخاذ القرار الأخلاقي المتكامل" ينظر في تفاصيل هذا النموذج:
Mark S. Schwartz, “Ethical Decision-Making Theory: An Integrated Approach,” Journal of Business Ethics, Vol. 139, No. 4 (December 2016), pp. 755-776.
[28] Koehn, The Ground of Professional Ethics, p. 21.
[29] Ibid., p. 24.
[30] Koehn, The Ground of Professional Ethics. p. 2.
[31] ريتشارد روسن، أخلاق العمل المهني: كيف تكون عادلًا في عالم معقد ثقافيًا، ترجمة خالد قطب (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2018)، ص23.
[32] Christopher Kaczor, “The Tragic Case of Jodie and Mary: Questions about Separating Conjoined Twins” The Linacre Quarterly, Vol. 70, No. 2 (2003), pp. 159-160.
[33] Simon Blackburn, Ethics: A very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2001), pp. 4-7.
[34] أسس الفيلسوف الأمريكي المعاصر رونالد دووركين Ronald Dworkin لعلاقة وجيهة بين القانون والأخلاق متجاوزًا المقاربات الوضعية والبراغماتية النفعية التي تفصل بين المجالين اعتمادًا على زعم يقول: إن المقولات الأخلاقية هي مقولات انفعالية، أو وجدانية تنتمي إلى ما هو معياري تجريدي؛ أي إلى ما لا يمكن التحقق من صدقه أو كذبه تجريبيًا، حتى إذا افترضنا وجود مقولات أخلاقية ما، فإن وجاهتها، وفقا للبراغماتية، تعتمد على ما تحققه من نتائج تعود بالنفع العملي على من يمارسها. تستند هذه العلاقة التي أسس لها رونالد دووركين على ما أطلق عليه "الحقوق الأخلاقية" القادرة على حل معضلة صناعة القانون الذي يعجز، في أحيان كثيرة، عن حماية الحقوق. ينظر: رونالد دووركين، أخذ الحقوق على محمل الجد، ترجمة منير الكشو (تونس: المركز الوطني للترجمة، دار سيناترا، 2015).
[35] يُنظر في تفاصيل العلاقة بين القانون والأخلاق: دينيس لويد، فكرة القانون، ترجمة سليم الصويص (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، 1981)، ص70-71.
[36] جون رولز، العدالة كإنصاف: إعادة صياغة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009)، ص143.
[37] Carmen Dutu, “Introduction” in: Banu Akçeşme, Hasan Baktır and Eugene Steele (eds.), Interdisciplinarity, Multidisciplinarity and Transdisciplinarity in Humanities (Cambridge: Cambridge Scholars Publishing, 2016), pp. viii-ix.
[38] على الرغم من أن البعض يرى أن المقاربات العابرة للتخصصات تمثل خطرًا على المعرفة ذاتها لكونها تهدد التخصصات الدقيقة وتزعزع المفردات والتعاريف المستقرة ومناهج البحث الدقيقة التي تساعدنا في الوصول إلى نتائج دقيقة، ولأن التعددية التي تروج لها هذه المقاربات غير فعالة لكونها تقوض دعائم القواسم المشتركة والقيم التي تسم كل تخصص بسماته التي تميزه عن غيره. ويزعمون أن المقاربات عابرة التخصصات أشبه بزواج غير متكافئ بين مجموعة من التخصصات المتباينة رغبة في الراحة. ينظر في تلك الانتقادات:
Roger B. Anderson, “Interdisciplinary Studies: Four Suggestions,” The South-Central Bulletin, Vol. 33, No. 2 (1973), pp. 45; 49-50.
[40] على الرغم من الأصول الحديثة لمصطلح "الأخلاق المطبًقة"، إلا أن البعض يرجعه إلى العصور الفلسفية القديمة. فقد وُجدت إشارات غير مباشرة إلى بعض القضايا المثارة في أعمال فلسفية، والتي تتشابه مع القضايا المثارة في الأخلاق المطبّقة الحديثة، مثل قضية الحريات وعلاقتها بالأخلاق، والعصيان المدني، والانتحار، والحروب، وأخلاق البحث على الحيوانات والإنسان. إلا أن هذه المقاربات الفلسفية لم تطور برنامجا أو منهجية لأخلاق مطبقة توجه سلوك المهنيين ومتلقي الخدمات المهنية معًا. إضافة إلى عد الأخلاق المطبّقة بمثابة مجموعة من القواعد العامة، أو النظريات الأخلاقية، والتي تهدف إلى حل المشكلات التي تواجه المهنيين على اختلافهم. أو أن الأخلاق المطبّقة هي صورة أخرى للأخلاق المهنية، وهي تصورات ضيقة للغاية. فحصر الأخلاق المطبّقة في قواعد عامة أو نظريات سطحية لا يسمح لها بتقديم حلول عقلانية وجيهة على أسس معرفية ومنهجية دقيقة قابلة للتطبيق. ولهذا كانت طبيعة الأخلاق المطبّقة، كما يقول توم بوشامب Tom L. Beauchamp تنحصر في كونها برنامجا أو منهجية إرشادية تعالج المعضلات الأخلاقية الناتجة عن الممارسات المهنية، والسياسات المتبعة في المهن، والنتائج المترتبة على تطبيقات المعرفة العلمية (التكنولوجيا)، وغيرها من المعضلات الأخرى كالتوزيع غير العادل للموارد الطبيعية، أو الطبية في حالة الشح، والاجهاض، وتضارب المصالح. وكذلك عند اتخاذ قرار ما، وجرائم الكراهية، ومشاركة المواد الإباحية، وطرق الإبلاغ عن المخالفات، وسرية المعلومات عند جامعي الضرائب وغيرها، لا يمكن للأخلاق المهنية أن تدلي بدلوها فيها، بل الأمر في حاجة إلى منهجية الأخلاق المطبّقة أو برنامج إرشادي يعالج تلك القضايا معالجة فلسفية ومنهجية دقيقة، يُنظر:
Tom L. Beauchamp, “The Nature of Applied Ethics,” In: R.G. Frey and Christopher Heath Wellman (eds.), A companion to Applied Ethics (Oxford: Blackwell Publishing Ltd, 2003), pp. 1-15.
[41] David B. Wong, Moral Relativism and Pluralism (Cambridge: Cambridge University Press, 2023), p. 48.
[42] روسن، أخلاق العمل المهني، ص55.
[43] المرجع السابق، ص56.
[44] قطب، "جائحة كوفيد – 19 وغياب المسؤولية الأخلاقية"، ص52.
[45] Brincat and Wike, at Morality and the Professional Life, p. 54.
[46] وجهت انتقادات عدة إلى الشرطة في بريطانيا لكونها اعتمدت مؤخرًا سياسة عدم متابعة حالات السطو على ممتلكات تقل قيمتها عن الحد الذي حددته اللوائح والقواعد المنظمة للمهنة، ومبرر الشرطة في هذا الإجراء هو ضرورة استغلال عمل ضباط الشرطة في أعمال أكثر فائدة للمجتمع. وهو إجراء يعكس، في حقيقة الأمر عدم إلتزام الشرطة كمهنة بقيمة المهنية، والتي تؤكد وجوب توفير الخدمة للجميع على قدم المساواة. ينظر: روسن، أخلاق العمل المهني، ص96.
[47] يُنظر على سبيل المثال:
Satya Sundar Sethy (ed.), Higher Education and Professional Ethics: Roles and Responsibilities of Teachers (London: Routledge, 2018).
حيث يناقش أهمية المبادئ المعيارية في سياق التعليم العالي والجامعات، والدور المنوط بأساتذة الجامعات القيام به، ومسؤولياتهم وواجباتهم وحقوقهم، والالتزامات الخلقية التي ينبغي امتثالها، فضلًا عن تقديم أمثلة على معضلات أخلاقية واجهت أساتذة الجامعات بعضها يتعلق بالعلاقة بين الأخلاق الأكاديمية والتسويق، ودورهم في إصلاح وتطوير جودة التعليم العالي، ومدى تأثير السياسة على هذا التطوير ووسائله، والمعايير الأخلاقية التي تدخل في تقييم الطلاب الجامعيين، والبحث العلمي.