تاريخ الاستلام: 29 ديسمبر 2023 | تاريخ القبول: 05 مارس 2024
مراجعة كتاب
المسألة الثقافية في الجزائر: النخب - الهوية – اللغة (دراسة تاريخية نقدية)، لناصر الدين سعيدوني
دكتوراه في الفلسفة الغربية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة باتنة–الجزائر
سكرتير تحرير مجلة تبين، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات–قطر
kamel.terchi@dohainstitute.org
The Cultural Issue in Algeria: Elites - Identity - Language (A Critical Historical Study), by Nasser Al-Din Saidouni
Ph.D. in Western Philosophy, College of Humanities and Social Sciences, Batna University–Algeria
Editorial Secretary of Tabayyun Journal, Arab Center for Research and Policy Studies–Qatar
kamel.terchi@dohainstitute.org
Book Title: The Cultural Issue in Algeria: Elites – Identity – Language: A Critical Historical Study Authored by: Nasser Al-Din Saidouni Language of Edition: Arabic Publisher: Arab Center for Research and Policy Studies –Beirut Year of publishing: 2021 No. of pages: 663 |
عنوان الكتاب: المسألة الثقافية في الجزائر: النخب – الهوية – اللغة: دراسة تاريخية نقدية المؤلِف: ناصر الدين سعيدوني لغة الإصدار: العربية الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – بيروت سنة النشر: 2021 عدد الصفحات: 663 صفحة |
||
ISBN: |
9786144454077 |
الترقيم الدولي: |
|
للاقتباس: طيرشي، كمال. «مراجعة كتاب: المسألة الثقافية في الجزائر: النخب - الهوية – اللغة: دراسة تاريخية نقدية، لناصر الدين سعيدوني».مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، المجلد السادس، العدد 2 (2024)، ص239-246. https://doi.org/10.29117/tis.2024.0194 |
© 2024، طيرشي، الجهة المرخص لها: مجلة تجسير، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأي وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0
تعدّ مسألة الثقافة والهوية واللغة من المسائل الشائكة التي ما تزال تُلقي بظلالها في كتابات الدارسين على اختلاف توجهاتهم ومذاهبهم، وأي محاولة لدراستها تستدعي اطلاعًا كبيرًا من لدن الباحث على قضايا عصره، بما في ذلك المناخ الفكري الذي يتعايش فيه الفرد في ظل هيمنة العولمة، كما تستدعي أيضًا خبرة معيشة للباحث مع البيئة الثقافية والفكرية التي ينتمي إليها، والتي تضطره بصورة أو بأخرى لتبني موقف على حساب غيره، أو أيديولوجيا على حساب أخرى، بحكم أن الإنسان مدني بطبعه ويتأثر بالتغيرات الحاصلة في وطنه حتى وإن حاول سعيه الحثيث لتبني موقف موضوعي، ينأى به عن أي تصنيفات تموضعه في وجهة معينة.
ولعل من المحاولات الراهنة التي تحاول دراسة هذه القضايا والمسائل الشائكة المتعلقة بقضايا اللغة والهوية والثقافة، ما كتبه المؤرخ الجزائري ناصر الدين سعيدوني، الذي صدر له عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات وضمن "سلسلة قضايا" مُؤلف بعنوان: المسألة الثقافية في الجزائر: النخب - الهوية – اللغة (دراسة تاريخية نقدية). هذه السلسلة التي عودتنا الأبحاث التي تصدرها على الرصانة العلمية متجاوزة المنحى المدرسي الأكاديمي في معناه الضيق المحصور، إلى إطار واسع يسمح بجدل وجهات النظر الفكرية المتباينة حول الإنسان والمجتمع والثقافة والدولة، وذلك وفق ضوابط منهجية تتسم بالمعايير النقدية الموضوعية للبحث النقدي المتسائل الذي يعيد النظر في القضايا والمفاهيم والإشكاليات.
حاول الباحث في هذا المُؤلَّف أن يناقش مسائل شائكة في المسألة الثقافية الجزائرية، بمنهجية أوضح من خلالها وشائج القربى للثقافة في الجزائر مع الظواهر الإنسانية الأخرى: التاريخ والأخلاق والسياسة وعلم الاجتماع والثقافة، متقصّيًا أصولها الأولى وتطوراتها وآفاقها المستقبلية الاستشرافية، وبروح حاول قدر المستطاع أن تكون أقرب إلى الموضوعية التي يستدعيها البحث العلمي الرصين، محاولًا في الآن عينه أن يصوّب الصورة النمطية المترسخة في أذهان الكثير من الدارسين، الذين تبنوا أحكامًا جزافية متسرعة، هي في الأخير تنبع من موقف أيديولوجي إقصائي إن صح هذا التعبير.
استهل سعيدوني بحثه بالتطرق إلى السياسة الاستعمارية وتأثيراتها الوخيمة في المجتمع الجزائري، وثقافته، هذا الاستعمار الذي اقتدرنا على اقتلاع جذوته؛ إلا أنه لا يزال يعشعش ثقافيًا في عقولنا. فهوية الجزائري قبل الاستعمار الفرنسي الغاشم كانت لها تفردية ثقافية متواشجة على قلب رجل واحد، متعالقًة أساسًا بالرصيد الثقافي المُراكم من مكونات هذه الأمة المنتمية إلى العروبة[1] والإسلام والأمازيغية، قبل أن يأتي هذا الاستعمار ويحاول زعزعة هذه الكينونة المتحدة وينخر هويتها ويضرب في مقومات شخصيتها، بُغية تشويه صورتها وطمس معالم حضارتها وثقافتها. سعيًا منهم إلى تخريب الذاكرة الجماعية للجزائر[2]، وزعزعة صرحه الاجتماعي، وانسجامه الإثني والتنكر لهويته الحضارية[3]، وترجع هذه المساعي الخبيثة – كما يقول سعيدوني – إلى ضباط عسكريين، وحكام مدنيين، ومسيرين إداريين، وباحثين من ذوي الاختصاص في الشأن الجزائري الذين كانوا في الصفوف الأولى للمشروع الاستعماري الفرنسي في الجزائر، وسعوا جهد أيمانهم لإثبات أن سكان الجزائر قبل الاستعمار الفرنسي لم يكونوا سوى قبائل وطوائف ذات ثقافات محلية ونزعات جهوية[4]، محاولين في الآن عينه مجاوزة الواقع الذي اصطدموا به في أثناء مقاومة الجزائريين لهم طوال حقبة الاستعمار[5].
ينفتح سعيدوني في بحثه هذا على السياسات الاستعمارية وتأثيرها البالغ في بُنية المجتمع الجزائري ورصيده الثقافي، ويستحضر في نفس الوقت إرهاصات التيقظ والإحياء، في إطار حركة الإحياء في نسختها الكلاسيكية وكذلك الاندماجية، فسعيدوني يعتقد أن أي منهمك على دراسة تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية يتجلى له -بما لا يدع أي مجال للشك- أنها دراسات انصبّت على فهم تبور الوعي الجزائري الحديث، وركّزت على هذه الجماعة الاندماجية على اعتبار أن أعضائها يجسدون طلائع حركة الشباب الجزائريين، مستندة في حكمها إلى توجهات بعض أفراد الجماعة الذين تحفظوا عن السياسة الاستعمارية الفرنسية. كما استحضر سعيدوني الوضع الثقافي الجزائري قبل الثورة التحريرية والاستقلال، وذلك بالعودة إلى رؤى وتوجهات وبرامج التيارات السياسية المؤلفة للحركة الوطنية الجزائرية، والتي من خلالها نقتدر أن نكتنه المواقف المتباينة المتناقضة للواقع الثقافي الماثل في الجزائر. هذه التيارات السياسية التي وضعت الدعامات الأولى للانشطار والتصادم ومازالا حتى اليوم، يطالان النخبة الثقافية الجزائرية، ويبلورون تصوراتها ومنطقها المؤدلج[6].
أما في القسم الثاني من الكتاب، فنجد سعيدوني يعرج على منظومة الحكم والنخب الثقافية، معتبرًا أن المنظومة التي حكمت الجزائر بعد الاستقلال كان تعاملها مع الثقافة مندرجًا في إطار سعيها لبناء الدولة، وكذلك محاولة التملّص تمامًا من أي رواسب استعمارية ثقافية لا تزال عالقة في اللحمة الثقافية الجزائرية، وفي الآن عينه محاولة وضع اللبنات الأولى لاستقلال الكينونة السياسية للدولة، وتشييد صرح الشخصية الوطنية الجزائرية، متأثرة في ذلك بالواقع الذي نادت به شعارات الثورة المجيدة وكذا انعكاسات الثورة المضادة، فحاولت بكل ما أوتيت من قوة لمجابهة ثلاثة مناحي جوهرية مسيطرة في بناء مؤسسات الدولة وتسيير المجتمع بطريقة سلسلة، وموضعة توجهات النخب الثقافية وتشييد صرح الاقتصاد وإعادة هيكلة للفضاء الثقافي الجزائري، وتتمثل هذه المناحي الأساسية في: الجزأرة[7] والاشتراكية، والتعريب، وهي تمثل الخطوط العريضة التي تجسدت بمنحاها اتجاهاتُ رؤساء الجزائر وممارساتُ الجهاز الإداري[8].
واستحضر سعيدوني القادة الذين حكموا الجزائر بعد الاستقلال مستهلًا ذلك بالرئيس أحمد بن بلة الذي ترك بصمته في تطور المسألة الثقافية في الجزائر، والذي لا يزال إلى يومنا هذا مثار جدل واسعٍ حول المسألة الثقافية التي تركها؛ حيث لم يتقبل الذين عارضوه مواقفه العروبية والتي ربطوها بطبيعة علاقته مع مصر، محاولين في ذلك عن قصد تجاهل رؤاه التحررية وحسّه العروبي والملابسات التي كانت سائدة آنذاك، ولعل من أبرز هؤلاء المعارضين الناشط الحقوقي مقران آيت العربي، الداعي إلى البربرية فيما بعد، متهمًا بن بلة بالترويج لعروبة الجزائر[9] إرضاءً لصديقه العزيز آنذاك الراحل جمال عبد الناصر.[10]
ثم ينقلنا سعيدوني بعد ذلك إلى الرئيس هواري بومدين الذي عرفت عهدته الرئاسية تناقضات كثيرة، هذا الرئيس الذي عمد إلى ممارسة حكمه السياسي من منطلق روح وطنية، خصوصًا في أعوامه الأولى، مستمدًا في ذلك قوته ونفوذه من المؤسسة العسكرية، وشعبيته الكبيرة آنذاك التي استمدها من الشعب، وللأسف الشديد، قبل وفاته، تحكمت في قراراته البيروقراطية الإدارية، وأثّرت فيها أيما تأثير القوى اليساريةُ ذات الحمولة الثقافية الفرنسية، فلم يقتدر على مراجعة مواقفه، كما لم يقتدر تزويد الجزائر بمؤسسات وطنية ذات فعالية، لتستقر المؤسسة العسكرية كأساس للحكم، بالإضافة إلى طريقته في الحكم التي استأثر فيها إلغاء المخالفين له ومجابهة التوجهات السياسية التي تعارضه إلى حصول فراغ كبير في الأعوام الأخيرة من حكمه، فبرغم براعته الواضحة والحنكة السياسية التي كان يتصف بها فإنه كرس للغموض والتناقضات، وترك وضعًا مغلقًا، فكان بمثابة الشمعة المضيئة في غرفة مغلقة تستهلك الأكسجين ليحل بعد انْطِفائها الظلام الدامس، ولعل من أكثر الأمثلة دلالة على ذلك الوضع، المشاهد المهولة والمؤثرة لجنازته في العاصمة الجزائرية، التي كانت تعكس بصورة جلية رهاب الشعب الجزائري من المجهول الذي ينتظر مستقبله، وهذا ما فتح المجال لرؤية جديدة ونفس جديد جاءه بصعود الرئيس الشاذلي بن جديد إلى حكم الجزائر[11].
حيث وجد الرئيس الجديد للجزائر ساحة ثقافية يتجاذبها تياران متصارعان؛ الأول إسلامي يدعو إلى الأصالة الإسلامية ونهج طريق التعريب، وله شعبيته الواسعة، المتعالقة أساسًا بالمنافحة الحماسية، وثاني تغريبي فرانكفوني له أصوله الضاربة المرتبطة بالأذرع المتحكمة في الدولة. ما يُميز الفترة الشاذلية هو انتهاجها طريق تشجيع الاستهلاك وهو ما حوّل النخبة البيروقراطية كما يقول سعيدوني إلى جماعات ريعية، فظهرت للوجود طبقة من التجار الجشعين والأثرياء المستغلين للنفوذ والفساد، وفي المقابل من ذلك كان أغلب الشعب راضيًا بالوضع؛ حيث لُبيت جل احتياجاته الحياتية تحت شعار نحو حياة أفضل وأكثر ميسورية[12]. كما سعى بن جديد إلى ترسيخ رؤية تكاملية للهوية الجزائرية معترفًا بذلك بالأصول الأمازيغية للجزائر، مع إصرار على البعد العروبي والإسلامي للجزائر، إلا أن الفترة الثانية من حكم هذا الرئيس عرفت أزمة كبيرة؛ نتيجة انخفاض أسعار النفط وعجز الخزينة عن تلبية المطالب الاجتماعية المتزايدة مع ارتفاع عدد السكان وتحسن مستوى معيشتهم. هذا وعرفت نهاية الحقبة الشاذلية تغيرًا في مناحي القوى لترجح الكفة لصالح القوى المتغنية بالثقافة الفرنسية، وعادت اللغة الفرنسية لتفرض سطوتها في مجال التعليم، والادارة.[13] لينقلنا بعد ذلك سعيدوني إلى حقبة محمد بوضياف وعلي كافي واليامين زروال؛ حيث امتازت هذه الفترة بتشرذمات كبيرة في الوسط الثقافي الجزائري كنتيجة للتحكم الفرانكفوني الذي طال أجهزة الدولة، وعمدوا إلى الوقوف في وجه كل عمليات التعريب التي بدأت تشكل تهديدًا لمصالحها وتزعزع منزلتها، كما وجدوا في منظومة سياسية معادية للاتجاه الإسلامي ومتحفظة في الآن عينه على العناصر الوطنية ذات النزعة العروبية، كما وجدوا أيضًا التأييد من بوضياف الذي لم يكن على اطلاع راسخ بوضع الجزائر آنذاك، فسلك الطريق الذي رسمه له من أتوا به إلى سدة الحكم، من الشخصيات ذات النزوع التغريبي العلماني، والمتشبعون بالثقافة الفرنسية، وأقطاب الشيوعية، وتنبه كل من علي كافي وزروال إلى هذا الصراع الذي كان حاصلًا في عهد بوضياف فعمدوا إلى تجنب الطرح الأيديولوجي[14].
لتأتي بعد ذلك المرحلة الطويلة من نظام عبد العزيز بوتفليقة الذي مثّل نظام حكمه تعاملًا متناقضًا مع ثوابت الأمة الجزائرية، فكان جل مقترحاته وطروحاته لا تتوافق مع الواقع وغير قابلة للتجسيد، خصوصًا وأنه عمد إلى اعتماد شخصيات عرف عنها التحفظ فيما يتعلق بالقيم الحضارية للجزائري، وبمعاداتها للسان العربي والنزوع العلماني التغريبي، منتهجًا في ذلك سياسة احتكار المناصب وتدويرها داخل جماعات محظوظة ممن يدينون بالولاء الكامل لبوتفليقة، مثل أحمد أويحيى وعبد المالك سلال، وصاحبت اتجاهاته هاته استعمال اللسان الفرنسي في خطاباته، وهذا بُغية أن يجد الحظوة عند الأقلية الفرانكفونية.
وفي ظل هذا الواقع الهش، وعزوف الشعب الجزائري في الأعوام الأخيرة من حكم بوتفليقة، تجلى حينها أن النظام الجزائري الذي تأسس بنيانه على الشرعية الثورية قد استنفد قواه السياسية والاقتصادية والثقافية، وأصبح من الضروري إعادة بناء نظام حكم جديد يوفر فرصًا للجميع، ويعيد بناء اقتصاد قوي وثقافة بعيدة كل البعد عن التعصب الأيديولوجي، وبذلك دخلت الجزائر عصرًا جديدًا خصوصًا في عام 2017 وما تمخض عن هذا العام من هبّة شعبية شاملة لكل طوائف المجتمع، منادية بالنظام الديمقراطي، ومطالبة برحيل بوتفليقة وجماعته، فكانت مؤشرًا على مبادرة جادة من طرف شباب واعد أعاد الأمل للجزائر، ولثقافتها وعروبتها، من أجل بناء دولة ديمقراطية يمارس فيها الشعب حقه بحرية ويعبر فيها عن سيادته[15].
ثم ينقلنا سعيدوني بعد ذلك إلى الحراك الأمازيغي في شتى تمظهراته السياسية والثقافية، والتوجه الانفصالي للحركة الأمازيغية في الجزائر، هذه الحركة التي جابهت منحى سلبيًا من ناحية طبيعة المساعي الثقافية التي تنادي بها، مما جعلها تبقى رهينة الأمنيات والأحلام الطامحة غير قابلة للتجسيد على أرض الواقع العملي، ويُرجع سعيدوني سبب ذلك إلى طابع اللغة، بحكم أن البربرية ليست لها لغة معيارية قائمة بذاتها، مستبعدًا في ذلك أي حديث عن قوى برّانيّة هي السبب في عرقلة ترسيخ هذا المشروع البربري في الجزائر[16]، كما أن الأمازيغ أنفسهم لم يقتدروا على إيجاد أحرف متفق عليها يكتبون بها لغتهم؛ حيث حبذ البعض اعتماد التيفيناغ بينما فضل آخرون اعتماد أحرف عربية أو لاتينية، هذا بالإضافة إلى وجود جماعات أمازيغية خارج منطقة القبائل تتحفظ بخصوص الهيمنة الثقافية الفرنسية؛ حيث لم يكن المسار التاريخي نفسه جامعًا لهم (الشاوية[17]، ميزاب[18]، التوارق[19])، وبذاك أضحى المجال الثقافي العام الجزائري تحكمه الروح العروبية ببعديها الوطني والدولي، برغم وجود ثقافة فرنسية مسيطرة على الواقع العملي والعلوم التخصصية في الجامعات التي ما تزال إلى يوم الناس هذا تدرس هذه العلوم باللسان الفرنسي، وكل هذا يجعل من أي مسعى انفصالي للأمازيغ ضربًا من المستحيل وعملية انتحارية ونهاية للحلم غير القابل للتحقيق البتة، إلا أن هذه الحقيقة الساطعة يتحاشاها الكثير من دعاة الحركة البربرية ويخشون مواجهتها، وإن أصبح هذا المسعى مجابهًا من لدن الشعب الجزائري الرافض له، ما يعيد الحركة الأمازيغية إلى منطلقاتها الأولى في حال استكمال عملية التعريب والتخلص من هيمنة الثقافة الفرنسية[20].
بناءً على ما سبق طرحه في كتاب المؤرخ سعيدوني، نجد أنفسنا أمام تحديات كبيرة تجابه الواقع الثقافي الجزائري، يتقاطع فيها وبطريقة بينية السياسي مع الأخلاقي مع التاريخي والهوياتي وغيرها. خصوصًا أمام المنافحين عن اللغة الفرنسية كلغة علم وثقافة، ويسعون لزيادة حضورها في المحافل العلمية والأكاديمية، بدءًا بالمدرسة التي من خلالها تنغرس أولى اللبنات لتكوين جيل مثقف. لهذا كانت وما تزال إلى يوم الناس هذا المدرسة بمثابة معركة حقيقية في الصراع الثقافي منذ استقلال الجزائر، كما يقول سعيدوني، خصوصًا حينما تكون بصدد مجابهة دعاة الفرانكفونية الذي سعوا منذ السبعينيات، محاولين تمرير مشروعهم الثقافي، والذي اصطدم بوعي حضاري ولغوي لدى السواد الأعظم من الشعب الجزائري. وتبقى المسألة الثقافية الجزائرية يدور فلكها أساسًا حول اللغة، هذه الوسيلة التعبيرية الحضارية التي تجسد الانتماء الثقافي والحضاري للفرد داخل مجتمعه. وأي حديث عن وجود أزمة ثقافة في الجزائر مردّه أساسًا إلى وجود اللغة الفرنسية في حياتنا، وتشبث الفرانكفونيين بهذه اللغة في شتى مناحي الإدارة والاقتصاد، معتبرين إياها أداة للتعليم والتعلم والتثقيف. ويعتبر بقاء اللغة الفرنسية ضربًا من الاستعمار، حتى وإن كان الشعب الجزائري قد تخلص منه جغرافيًا. إلا أنه ما زال يحاول البقاء في عقولنا ثقافيًا.
أولًا: العربية
إبراهيم، سعد الدين. الملل والنحل والأعراق: هموم الأقليات في العالم العربي. القاهرة: دار بن رشد، 2018.
الأنصاري، عمر. الرجال الزرق: الطوارق، الأسطورة والواقع. بيروت: دار الساقي، 2006. متاح إلكترونيًا على الرابط المختصر: https://bit.ly/3PwUkup
بوهند، خالد. النخب الجزائرية: 1892-1942. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020.
الحجلاوي، ناجي. التفكير الاجتماعي عند مالك بن نبي. تونس: الدار التونسية للكتاب، 2011.
حسن، صميلي. الشاوية: التاريخ والمجال، المجلد الأول: دفاتر الشاوية. بنمسيك: لجنة الشاوية، كلية الآداب والعلوم الانسانية بنمسيكٰ، 1997.
خير الدين، شمامة وآخرون. اللغة والهوية في الوطن العربي: إشكاليات التعليم والترجمة والمصطلح. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013.
سعدي، عثمان. "الموقف الصحيح لأحمد بن بلة من المسألة الأمازيغية". جريدة الشروق الجزائرية، 4/5/2014. https://bit.ly/3IHQE76
سعيدوني، ناصر الدين. المسألة الثقافية في الجزائر: النخب - الهوية – اللغة (دراسة تاريخية نقدية). الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021.
شبابجة، فضيلة. الحركة الأمازيغية في ظل الحراك العربي: الجزائر نموذجًا. القدس: دار الجندي للنشر والتوزيع، 2018.
قجالي، آمنة. الإعلام والعنف السياسي، بيروت: مركز الكتاب الأكاديمي، 2015.
لخضاري، منصور. السياسة الأمنية الجزائرية: المحددات – الميادين – التحديات. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015. متاح إلكترونيًا على الرابط المختصر: https://bit.ly/3ob55ao
مجلة المستقبل العربي. ع335-336، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007.
ثانيًا: الأجنبية
al-Ansari, O. Ar-Rijal az-Zarq: At-Tuareg, Al-Asatir wa Al-Waqi' (in Arabic). Beirut: Dar al-Saqi, 2006. https://bit.ly/3PwUkup
Al-Hajlaoui, N. At-Tafkir al-Ijtima'i 'inda Malek ibn Nabi (in Arabic). Tunis: Dar Tunisian for Publishing, 2011.
Hassan, S. Ash-Shawia: At-Tarikh wal-Majal (in Arabic). Beni Mellal: Shawia Committee, Faculty of Arts and Humanities Beni Mellal, 1997.
Khair al-Din, S. and Others, Language and Identity in the Arab World: Historical, Cultural and Political Problematics, (in Arabic), Doha: Arab Center for Research and Policy Studies, 2013.
Lakhderi, M. As-Siyasah al-Amniyyah al-Jaza'iriyyah: Al-Muhaddidat-Al-Miyadin - At-Tahadiyat (in Arabic). Doha: Arab Center for Research and Policy Studies, 2015. https://bit.ly/3ob55ao
Qajali, A. Al-I'lām wal-'Unf al-Siyāsī (in Arabic). Beirut: Academic Book Center, 2015.
Saadi, Othman. Al-Mawqif al-Sahih li Ahmed Ben Bella min al-Mas'ala al-Amazighiyya, (in Arabic). Jarīdat al-Shurūq al-Jazāʼirīyah, 5/4/2014. at: https://bit.ly/3IHQE76
Saeedouni, N. The Cultural Question in Algeria: Elites, Identity and Language (a Critical History) (in Arabic). Doha: Arab Center for Research and Policy Studies, 2021.
[1] هناك واشج قوي يربط الهوية الثقافية لأي دولة برصيدها اللغوي، والجزائر من بين الدول التي حاولت فرنسا إبادة هويتها جذريًا، وكان من أشرس استراتيجياتها الهادفة إلى طمس معالم الهوية الثقافية الجزائرية في محاربة اللغة العربية، إلا أنه وبعد الاستقلال وبعد مخاض عسير اقتدرت اللغة العربية على استعادة منزلتها بعد الاستقلال مباشرة، وأصبحت اللغة الرسمية في دستور البلاد ولغة التعليم والإدارة ولو بصورة جزئية، وكذلك القضاء والإعلام المرئي والمكتوب، لكن هذا الأمر لم يكن هينًا البتة، خصوصًا وأن الكثير من الجزائريين الذي تأثروا بالموروث الثقافي الاستعماري لا يزالون يمجدون اللسان الفرنسي، ويعتبرون هذه اللغة هي لغة النخبة والعلم والتقدم، وأن اللسان العربي ما هو إلا لسان العامة والشعر ولا يمكن اعتماده للتطور العلمي. يُنظر: شمامة خير الدين وآخرون، اللغة والهوية في الوطن العربي: إشكاليات التعليم والترجمة والمصطلح (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص117.
[2] بحكم أن الحفاظ على الهوية الجماعية يكون بحسب الحرية المتوافرة، وبحسب امتلاك الحقيقة أو ما يعرف عن الحقيقة، ووجود العدل والعدالة، سواء كقيمة أخلاقية أو كمؤسسات للمساواة والفرص المتساوية وتحقيق الحق، لكن كل ذلك يقتضي بالضرورة وجود الآخر الذي يعترف لك بذلك. يُنظر: مجلة المستقبل العربي، ع335-336 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007)، ص7.
[3] في الوقت الذي تأسست فيه جمعية العلماء الجزائريين عام 1931، كان قد أفل قرن من ظلمة الاحتلال الفرنسي، وجاءت شعارات هذه الجمعية كرد قاصم للظهر الفرنسي ولكل من كان يدّعي إمّحاء الجزائر العربية المسلمة مروجين في ذلك لنجاحات المستعمر الواهمة، وعلى الرغم من فشل فرنسا في طمس الهوية الحضارية للجزائر. والتي أقرها العلامة عبد الحميد بن باديس حينما اعتبر الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا ولا يمكن أن تكون فرنسا ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تقتدر أن تصير فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وعنصرها وفي دينها، لا تريد أن تندمج ولها وطن محدد معين هو الوطني الجزائري، إلا أن القضية لم تكن هينة البتة رغم بداهة الفكرة، إذ إن إنقاذ الهوية الحضارية الجزائرية هو بحاجة إلى عمل جبار بٌغيته صد محاولات التغريب، وكل اختراقاته التي تمس النسيج الاجتماعي والشخصية الحضارية الجزائرية. يُنظر: ناجي الحجلاوي، التفكير الاجتماعي عند مالك بن نبي (تونس: الدار التونسية للكتاب، 2011)، ص91-91.
[4] نفى المؤرخ الفرنسي فيليكس غوتييه في معرض دفاعه عن الاستعمار الفرنسي للجزائر أن تكون للجزائريين طبقات اجتماعية وسطى أو برجوازية مؤثرة في البلاد، وذكر أن الجزائر كلها تقريبًا ريفية، ليس عندها شيء، حتى في ولاية تلمسان التي وإن وجد فيها برجوازية مسلمة فهي لا تساوي شيئًا. يُنظر: خالد بوهند، النخب الجزائرية: 1892-1942 (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، ص4-5.
[5] ناصر الدين سعيدوني، المسألة الثقافية في الجزائر: النخب - الهوية – اللغة (دراسة تاريخية نقدية) (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021)، ص76.
[6] نفسه، ص92-93.
[7] الجزأرة: لفظ اشتُق من أصل كلمة الجزائر، ويدل حرفيًا على الانتماء إلى الجزائر حصريًا. يدعو أصحاب هذا التيار إلى بناء جمهورية إسلامية في إطار وطني محض، تشكلت الجزأرة سريًا أواخر السبعينيات في الجامعة، حول نواة من الجامعيين والشيوخ، تحت الغطاء القانويني للجمعية الإسلامية لأجل البناء الحضاري. ويضعها المحللون كامتداد لحركة بن بادين الإصلاحية. يُنظر: آمنة قجالي، الإعلام والعنف السياسي (بيروت: مركز الكتاب الأكاديمي، 2015)، ص40.
[8] نفسه، ص207.
[9] في حديث خصه مقرآن آيت العربي لصحيفة الشروق الجزائرية، أكد فيه أن أحمد بن بلة كان من أشد أعداء القضية الأمازيغية في الجزائر، وهذا حينما قال بن بلة إننا عرب ورددها ثلاث مرات، علمًا أن كلامه هذا كان موجهًا للحبيب بورقيبة الذي كان يهاجم العروبة، وليس موجهًا للأمازيغ، كما يدعي ذلك مقران آيت العربي. يُنظر: عثمان سعدي، "الموقف الصحيح لأحمد بن بلة من المسألة الأمازيغية"، جريدة الشروق الجزائرية، 4/5/2014، في: https://bit.ly/3IHQE76
[10] نفسه، ص218.
[11] نفسه، ص230-231.
[12] نفسه، ص231.
[13] نفسه، ص273.
[14] نفسه، ص247-249.
[15] نفسه، ص256.
[16] لا يمكن أن ننكر ههنا أن الحركة الأمازيغية في الجزائر، حالها كحال باقي الكيانات السياسية، تجلت فيها محاولات التوظيف السلطوي على المستوى الوطني والدولي، وفي هذا الإطار بذلت السلطة السياسية في الجزائر محاولاتٍ شتى لاحتواء هذه الحركة وتوظيفها بما يخدم أمن واستقرار الجزائر، كما وظفتها أيضًا أطراف أجنبية، بما يسهم في خلق أقلية تبحث عن الانفصال، وهي المحاولة التي باءت بالفشل وفسحت المجال أمام الحركة الأمازيغية في الجزائر لتُعبر عن تأكيد انتمائها الحضاري الثقافي في ظل التعددية والتنوع، وفي ظل الوحدة الوطنية. يُنظر: فضيلة شبابجة، الحركة الأمازيغية في ظل الحراك العربي: الجزائر نموذجًا (القدس: دار الجندي للنشر والتوزيع، 2018)، ص15-16.
[17] لعل اسم الشاوية يدل على النشاط الأصلي للسكان وهو تربية الأغنام، إذ ترجع كلمة الشاوية إلى الشاة أو الشاء والنسبة شاوي. يُنظر: صميلي حسن، الشاوية: التاريخ والمجال، المجلد الأول: دفاتر الشاوية (بنمسيك: لجنة الشاوية، كلية الآداب والعلوم الانسانية بنمسيكٰ، 1997)، ص203. ويتركز وجود الشاوية في الشرق الجزائري، وفي منطقة الأوراس بدرجة خاصة، على مقربة من حدود تونس، يتميز البربر الشاوية بأنهم يتحدثون اللغة العربية، بالإضافة إلى الأمازيغية، بحكم أن منطقة الشاوية كانت معبرًا للهجرات والجيوش العربية التي وفدت من المشرق، وبالتالي كان لذلك دور كبير في التعرض للتفاعل الثقافي والالتحام العربي، هذا بالإضافة إلى درجة قربها من تونس والتفاعل الحاصل مع سكانها، بحكم أنهم من أكثر شعوب المغرب العربي الكبير عروبة من الناحية الإثنية والثقافية. يُنظر: سعد الدين إبراهيم، الملل والنحل والأعراق: هموم الأقليات في العالم العربي (القاهرة: دار بن رشد، 2018)، مج2، ج1، ص255.
[18] هي جماعة إثنية تقطن في منطقة وادي مزاب وذلك في شمال الصحراء الكبرى الجزائرية، ويتحدث سكان هذه المنطقة الميزابية (تمزابت) الأمازيغية، كما يتحدثون أيضًا الدارجة الجزائرية، ويتبع بنو ميزاب المذهب الإباضي الذي يعتبره الكثير من الدارسين أول المذاهب الإسلامية ظهورًا وأعدلها فقهًا وأوسطها عقيدة. يُنظر: منصور لخضاري، السياسة الأمنية الجزائرية: المحددات –الميادين – التحديات (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015). متاح إلكترونيًا على الرابط المختصر: https://bit.ly/3ob55ao
[19] يُجمع الكثير من الدارسين على أن الطوارق في الصحراء الكبرى الجزائرية، بعود نسبهم إلى قبيلة صنهاجة وفروعها، وإلى لمتونة وجدالة ومسوفة على وجه خاص. يُنظر: عمر الأنصاري، الرجال الزرق: الطوارق، الأسطورة والواقع (بيروت: دار الساقي، 2006). متاح إلكترونيًا على الرابط المختصر: https://bit.ly/3PwUkup
[20] نفسه، ص409.