تاريخ الاستلام: 13 ديسمبر 2023 | تاريخ التحكيم: 20 يناير 2024 | تاريخ القبول: 19 مارس 2024

ترجمة

ما الغاية من وجود المدارس؟*

تأليف: مايكل يونغ**

ترجمة: عبد المجيد سعيد

طالب دكتوراه، كلية الآداب، جامعة القاضي عياض، المغرب

a.said.ced@uca.ac.ma

ملخص

تتناول هذه المقالة سؤال: "ما الغاية من وجود المدارس؟" وتُحاج عن أن كل جيل ملزم بالإجابة عنه بنفسه؛ وتُبيِّن أن للمدارس في المجتمعات الحديثة مهمةً متميزةً، وهي تمكين النشء من المفاهيم التي تجعلهم قادرين على تجاوز حدود تجربتهم بطرق ربما لا تكون متاحة لهم في أسرهم ومجتمعاتهم؛ وتقدم أيضًا منظورًا بديلًا للسياسات التعليمية التي ترى المدارس، في المقام الأول، أدوات للسياسات الاقتصادية؛ كما أنها تُشكك في متن كثير من العلوم الاجتماعية التي تحصر دور المدارس في إعادة الإنتاج الثقافي والاجتماعي.

الكلمات المفتاحية: المدارس، التربية، المنهاج، المعرفة

للاقتباس: يونغ، مايكل. "ما الغاية من وجود المدارس؟"، ترجمة عبد المجيد سعيد، مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، المجلد السادس، العدد 2 (2024)، 191-204. https://doi.org/10.29117/tis.2024.0191

© 2024، يونغ وسعيد، الجهة المرخص لها: مجلة تجسير، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأي وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


 

Submitted: 13 February 2023 | Peer-reviewed: 20 Nanuary 2024 | Accepted: 19 March 2024

Translation

What are schools for?

Authored by: Michael YOUNG

Translated by: Abdelmajid SAID

PhD Candidate, Faculty of Letters and Human Sciences, Cadi Ayyad University, Morocco

a.said.ced@uca.ac.ma

Abstract

This paper addresses the question «what are schools for? » and argues that each generation has to answer this question for itself. It makes the case that schools have a distinct role in modern societies to provide access to concepts which enable young people to move beyond their experience in ways that would not be open to them in their families and communities. It presents an alternative perspective to educational policies which see schools primarily as instruments of economic policy and challenges much social science which focuses exclusively on the role of schools in cultural and social reproduction.

Keywords: Schools; Education; Curriculum; Knowledge

Cite this article as: Young, M. "What are schools for?,” trans. Abdelmajid Said." Tajseer Journal for Interdisciplinary Studies in Humanities and Social Science, Vol. 6, Issue 2 (2024), pp. 191-204. https://doi.org/10.29117/tis.2024.0191

© 2024, Young & Said, licensee, Tajseer & QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


 

مقدمة

على كل والد ومعلم أن يسأل نفسه: "ما الغاية من وجود المدارس؟"[1] ومع أنها ليست المؤسسات الوحيدة التي ينبغي لنا التحقيق في أغراضها، فإنها حالة خاصة؛ ذلك أنها، على غرار مؤسسة الأُسرة، تسهم إسهامًا فريدًا في إعادة إنتاج المجتمعات البشرية، وتوفير الظروف التي تمكّنها من الابتكار والتغيير، ومن دونها، سيتعيّن على كل جيل أن يبدأ من الصفر، أو يبقى دون تغير يُذكر لقرون عدة، كما كانت الحال مع المجتمعات السابقة على وجود المدارس.

وإلى جانب هذه الأسباب العامة، هناك أسباب أكثر تحديدًا يستمدّ منها سؤال "ما الغاية من وجود المدارس؟" أهميته اليوم؛ إذ منذ سبعينيات القرن العشرين، شَكك التربويون الراديكاليون، ومعهم العديد من علماء الاجتماع النقديين، في دور المدارس، ونظروا إليها نظرة موغلة في السلبية. ومع أن في انتقاداتهم تلك شيئًا من الحق، يجب ألّا ننساه، فإنني أزعم أنها عانت سوءَ فهم عميق. لكن في السنوات الأخيرة، قدَّم فيلسوف التربية، جون وايت (John White)، إجابة نقدية عن سؤالنا، ورغم أنها كانت إيجابية بوضوح[2]، فإنها وقعت فيما وقعت فيه الانتقادات السلبية، وأخفقت في تحديد ما يميز دور المدارس من غيرها من المؤسسات؛ ولهذا، لا يمكن التعويل عليها كثيرًا.

سأبدأ هذه المقالة بمراجعة هذين النوعين من الإجابات، السلبي والإيجابي؛ ثم أنتقل إلى استكشاف الآثار المترتبة على مقاربة بديلة، ترى المدارس مؤسسات ذات هدف محدد للغاية، وهو تعزيز اكتساب المعرفة.

أَهمل صنّاع السياسات والباحثون التربويون، ولا سيما علماء اجتماع التربية، مسألة المعرفة وإسهام المدارس في اكتسابها، وذلك لأسباب مختلفة نوعًا ما؛ فصنّاع السياسات رأوا في التركيز على اكتساب المعرفة تعارضا مع الأغراض الأكثر فعالية التي تحظى بدعم الحكومات على نحو متزايد اليوم[3]، أمّا الباحثون التربويون، فالعديد منهم رأى فيه إخفاءً لمدى قدرة أصحاب السلطة على تحديد ما يُعَدّ معرفة [وما لا يُعَدّ كذلك]. أمّا أنا، فأخالفهم الرأي، ولا أجد تناقضًا في الجمع بين الأفكار الداعية إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وفكرة أنّ المدارس يجب أن تعزّز اكتساب المعرفة، وهذا ما سأحاج عنه فيما يأتي.

نقاد المدارس في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته

في سبعينيات القرن العشرين، وجّه اليسار أشدّ الانتقادات سلبية إلى التمدرس (schooling)، ودعّم الباحثون في مجال عملي الخاص -علم اجتماع التربية- هذه الانتقادات بقوّة، وكان من المقبول على نطاق واسع الأخذ بالفكرة القائلة إنّ المهمّة الأولى للمدارس في المجتمعات الرأسمالية هي تعليم الطبقة العاملة مكانها[4]. ولهذا، كان يُنظر إلى طلاّب الطبقة العاملة القلائل، ممّن التحقوا بالجامعات آنذاك، على أنّهم يضفون الشرعية على اللامساواة الأساسية الكامنة في النظام التعليمي كلّه.

وفي ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، جرى توسيع هذا التحليل ليشمل الإشارة إلى تبعيّة النساء والأقليات العرقية وغيرهما. لكن هذه التحليلات نادرًا ما تجاوزت مستوى النقد، ولم تقدِّم بديلًا يُذكر عمّا يمكن أن تكون عليه المدارس في المجتمعات الاشتراكية وغير الأبوية أو العنصرية. بل إنّ النقّاد الراديكاليين، أمثال إيفان إيليتش (Ivan Illich)[5]، ذهبوا إلى أبعد من هذا، وادَّعَوْا أن التعلّم الحقيقي لن يكون ممكنًا إلاّ إذا أُلغيت المدارس جملةً.

منعطف ما بعد البنيوية في العلوم الاجتماعية

في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، فقدت الماركسية، وغيرها من السرديات الكبرى (grand narratives) المتنبِّئة بنهاية الرأسمالية (وحتى التعليم)، مصداقيتها، وذلك تحت تأثير أفكار ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية وانهيار النظام الشيوعي في أوروبا الشرقية. ونتيجة لهذا، تغيّر أسلوب الانتقادات الموجهة إلى التمدرس، لكنّ جوهرها ظل على حاله. اعتمدت هذه الانتقادات الجديدة على أفكار الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي وضع المدارس مع المستشفيات والسجون والمصحّات في مجموعة واحدة، بوصفها مؤسسات للمراقبة والسيطرة، تعمل على تأديب التلاميذ وفرض معرفة موحّدة مجسّدة في صيغة مواد مدرسية تقدَّم على أنها تمثل المعرفة الطبيعية المقبولة (normlize)[6]. والفرق بين مفكرين أمثال فوكو وبين الأفكار اليسارية، التي ظهرت في العقود السابقة، هو أن منظّري "ما بعد الماركسية" استغنوا عن فكرتَيْ التقدم ووجود وكالة محددة، مثل الطبقة العاملة، مهمتها تحقيق التغيير. بالنسبة إلى فوكو لا يوجد بديل للتعليم بوصفه مراقبة -وكل ما يسع علماء الاجتماع، والباحثين التربويين، هو النقد. وقد عبَّر عن هذه الفكرة[7] بالقول:

"لن ألعب مطلقًا دور من يصف الحلول؛ فأنا متمسك بأنّ دور المثقف اليوم... ليس التنبّؤ بالحلول ولا اقتراحها؛ لأنه بذلك لن يزيد من تعزيز وضع السلطة، في حين أنّ هذا ما يتعيّن عليه نقده"[8].

لهذا، فإن تصامُم صنّاع السياسات عن هذه الانتقادات ليس مستغربًا، إذ لم يكن بحوزتها الشيء الكثير لتقوله عن المدارس، اللّهم لعلماء الاجتماع الآخرين.

ردود الحكومات

تزامنًا مع ظهور أفكار ما بعد البنيوية، هيمنت الأفكار الليبرالية الجديدة على الاقتصاد والحكومة، وعلى التعليم أيضًا، وإنْ كان على نحوٍ غير مباشر. وجادل الليبراليون الجدد عن أن الاقتصاد يجب أن يُترك للسوق، وأنّ على الحكومات الكفّ عن محاولة وضع سياسات اقتصادية أو صناعية. وقد اتّبعت حكومات كِلا الحزبين الرئيسيْن في المملكة المتحدة[9] منطق هذا الموقف بحماس، ما أثَّر بعمق في المدارس؛ فبينما تنازلت الحكومات للسوق الحرة عن أي تدخّل في الاقتصاد (باستثناء السيطرة على أسعار الفائدة)، كرّست جهودها لإصلاح النظام المدرسي أو تحسين "رأس المال البشري"[10]. وذهب حزب العمال الجديد إلى أبعد من حزب المحافظين، وجادل عن أنّ السوق يوفّر أنجع الحلول لتحسين القطاعين العام والخاص _والتعليم تحديدا. وكانت لهذا نتيجتان مرتبطتان بسؤال: «ما الغاية من وجود المدارس؟». أولاهما، محاولة توجيه مخرجات المدارس ونتائجها إلى خدمة ما عُدَّ "احتياجات الاقتصاد"، في نوع من تعميم التعليم المهني على الجميع (mass vocationalism). ومُنح أرباب العمل في القطاع الخاص السيطرة على قسم كبير من التعليم الإعدادي والثانوي، بل حتّى على بعض المدارس وسلطات التعليم المحلية، وقد كان أرباب العمل هؤلاء راغبين فيما أنيط بهم حينًا وراغبين عنه أحيانا. والنتيجة الثانية كانت تحويل التعليم نفسه إلى سوق (أو على الأقل شبه سوق quasi-market)؛ حيث تضطرّ المدارس إلى التنافس على التلاميذ والتمويل. وأنا أسمّي هذا بتجريد التمدرس ممّا يميزه (de-differentiation of schooling)[11]؛ لأن بمقتضاه تُعامَل المدارسُ معاملة وكالات توصيل البضائع، تُطالب بالتركيز على النتائج، والإعراض عن عملية التوصيل أو محتوى ما يوصَّل. ونتيجة لهذا، أصبحت أغراض التمدرس تُعرَّف بعبارات أداتية على نحو متزايد، بوصفها وسائل لتحقيق غايات أخرى. وإذ أصبحت المدارس تحركها الأهداف والفروض وجداول الترتيب ومقارنة الأداء، فلا عجب إذن أن يشعر التلاميذ بالملل، ويعاني المعلمون "الاحتراق الوظيفي" (burn out).

أهداف جديدة للأهداف القديمة؟[12]

أود النظر في إجابتين بديلتين عن سؤالي الأوّل، أملًا في إعادة تأكيد الأغراض المميِّزة للمدارس. يمكن العثور على الإجابة الأولى في مقالة جون وايت الأخيرة، المقدَّمة إلى جمعية فلسفة التربية في بريطانيا العظمى، والمعنونة بـ «ما الغرض من المدارس، ولماذا؟»[13]. وفيها يقول إنّ واجب المدرسة هو تعزيز سعادة الإنسان ورفاهيته، وهذه دعوى لا يمكن لأحدٍ الاعتراض عليها، لولا أنّ الأهداف التي تنيطها بالمدرسة تنطبق بالتساوي على جميع المؤسسات (ربما باستثناء السجون)، ولا تعيَّن شيئًا محدَّدًا يميز دور المدارس من دور سائر المؤسسات. لم يُقدِّر وايت في مقالته هاته فكرة أن المواد الدراسية، أو التخصصات، يمكن أن تحدِّد أغراض المدارس. واحتج لموقفه بحجة غريبة، تقول إن المنهاج القائم على المواد (subject-based curriculum)[14] صُمِّم في القرن الثامن عشر ليكون أداة تُعزز بها الطبقة الوسطى مصالح البرجوازية الصاعدة في ذلك الوقت، وما دامت هذه هي أصوله، فمن غير المعقول اتخاذه في القرن الحادي والعشرين أساسًا للمدارس الموجَّهة إلى الجميع. وفي رأيي، حجته هذه معيبة للغاية لسببيْن:

أولًا، وكما أظهَر بيكر ولوتندر (Baker & LeTendre)[15]، فإن المناهج[16] المعاصرة في المملكة المتحدة تشبه بوضوح تلك الموجودة في معظم البلدان المتقدمة، مع أن تاريخها مختلف تماما. زيادة على ذلك، فإن الحقيقة التاريخية المتمثلة في أنّ هذا المنهاج طوره جزء معين من الطبقة الوسطى في نهايات القرن الثامن عشر/أوائل القرن التاسع عشر، لا تجيز القول بإنه منهاج للطبقة الوسطى؛ تمامًا مثلما هو من المعيب وصف قانون بويل (Boyle)[17] بأنه قانون الطبقة الوسطى، على أساس أنه كان رجلًا نبيلًا من الطبقة المتوسطة العليا في القرن الثامن عشر! نحن لا ننكر أهمية البحث عن الأصول التاريخية الخاصة للاكتشافات العلمية، ولا البحث عن الأصول التاريخية للقوانين العلمية، لكن هذه الأصول لا تخبرنا بشيء عن حقيقة قانون علمي ما، ولا عن مزايا منهاج معين.

السبب الثاني لرفض حجة وايت هو عجزها عن تفسير حرص الآباء تاريخيا، وبتضحيات كبيرة في بعض الأحيان، ولا سيما في البلدان النامية، على إبقاء أطفالهم في المدارس لأطول مدة ممكنة، ولا تخبرنا بما يرجوه هؤلاء الآباء من هذه التضحيات. صحيح أن وايت طرح سؤال "ما الغاية من وجود المدارس؟"، لكنه انتهى، كما انتهت الحكومة وما بعد البنيوية، إلى طمس ما يميز أهداف المدارس عن غيرها.

تلخيصًا لما سبق، نجد ثلاث إجابات عن سؤالنا، وهي: المراقبة لفوكو، والقابلية للتوظيف (employability)[18] لحزب العمال الجديد، والسعادة والرفاهية لجون وايت. وإذا وازنّا بين هذه الإجابات، فأنا بالتأكيد أفضّل رأي وايت، لولا أنه بالكاد يوفّر دليلّا يمكّن للمسؤولين عن المناهج الدراسية اتباعه.

وإذا عدنا إلى فوكو للحظة، فسنجد أنه يضع المدارس مع السجون والمصحات والمستشفيات في فئة واحدة، يُغفل تاريخ الصراع السياسي من أجل توفير التعليم للجميع، ويغفل أيضًا ما يميز المدارس عن غيرها من المؤسسات. وسأتطرق، بإيجاز، فيما سيأتي إلى النقطة الأولى، وأبلور حجة عن الآثار المترتبة على الأغراض المميزة للمدارس.

الصراع حول الغرض من المدارس

يمكن النظر إلى الصراع التاريخي حول أغراض التمدرس باستحضار توترين اثنين: الأول هو القائم بين أهداف التحرر (emancipation) والهيمنة (domination)؛ فقد سعت الطبقات المهيمنة والتابعة، على حد سواء، إلى استخدام المدارس لتحقيق أغراض مختلفة جدا، كما نجد مثلا في حالة الشارتيون (Chartists)[19] في المملكة المتحدة في القرن التاسع عشر، وفي حالة تعليم البانتو (Bantu)[20]في جنوب أفريقيا في السنوات الأخيرة. وما على المرء إلا استحضار حالة نيلسون مانديلا، الذي كان نتاجًا لمدارس الأفارقة التي سبقت السماح بتعليم البانتو، ليجد أن حتى أشد الأنظمة المدرسية قمعًا يمكن لبعض الناس اتخاذها أدواتٍ للتحرر. والتوتر الثاني هو القائم بين سؤال «من يحصل على التمدرس؟» وسؤال «ما الذي يحصلون عليه؟».

ركّز الصراع من أجل المدارس في المملكة المتحدة على سؤال الولوج (access)؛ لأنه رأى، مع استثناءات قليلة، أن السؤال الثاني قد جرى حله، ولا شك أن الشروط التي نوقشت فيها هذه الأسئلة قد تغيرت منذ ذلك الحين. أثيرت مسألة "الولوج" أول مرة في حملة من أجل التعليم الابتدائي المجاني في القرن التاسع عشر، ثم تطورت إلى صراعات على امتحان 11+[21] وعمليات الانتقاء، وفي الوقت الحالي يعبَّر عنها بالسعي إلى تعزيز الإدماج الاجتماعي وتوسيع المشاركة. ومن اللافت أن فكرة الصراع من أجل الولوج قد تحولت إلى نهج ذي طابع مركزي، ينطلق من أعلى إلى أسفل[22]، مرتبط بسياسات الحكومة الرامية إلى "توسيع المشاركة". أمّا المناظرات في سؤال «ما الذي يحصلون عليه؟» فتعود كذلك إلى الشارتيين في القرن التاسع عشر وشعارهم الشهير "المعرفة المفيدة حقا" (really useful knowledge)، الذي كان يمثل هجومًا على هيمنة الكتاب المقدس على المنهاج. وفي سبعينيات القرن العشرين بَعث اليسار فكرة الشارتيين من جديد، لكن مثل هذه الأسئلة لا تحظى بقدر كبير من المناقشة اليوم.

يمكن رؤية إرث هذه المناقشات في مفهومين متناقضين للتعليم، يكوِّنان أساس السياسات الحكومية الحالية؛ المفهوم الأول يرى "التعليمَ نواتجَ" (education as outcome) وفي هذه المقاربة لسياسات التعليم، يهيمن تحديد الأهداف وتقييمها وتحقيقها، وإعداد التلاميذ للاختبارات والامتحانات، على التعليم والتعلم. أمّا المفهوم الثاني، وهو أقل وضوحًا، فيحمل تصورًا مختلفًا تمامًا عن التعليم، ما زال يجد تعبيرًا عنه في فكرة المقررات الدراسية القائمة على أساس المواد (subject syllabuses)[23]، ويرى أن الغرض الأول للتعليم هو تمكين التلاميذ من الوصول إلى مختلف مجالات المعرفة المتخصصة.

انتقد الباحثون التربويون فكرة التعليم بوصفه نقلًا للمعرفة نقدًا شديدًا، ومع أن لانتقاداتهم تلك وجهًا من الصحة، فإنني أراها تُفوّت نقطة حاسمة؛ لأنها ركزت في تصورها للتعلم على النموذج الميكانيكي، المنفعل أحادي الاتجاه، الذي تنطوي عليه استعارة "النقل" (transmission) وما يرتبط بها من وجهة نظر محافظة جدًا للتعليم وأغراض المدارس، وأغفلت في المقابل، أن فكرة التعليم بوصفه "نقلا للمعرفة" تعطي النقل معنى مختلفا تماما، ينص صراحة على المشاركة النشطة للمتعلم في عملية اكتساب المعرفة.

يثير القول بكون المدرسة، في المقام الأول، وكالةً لنقل الثقافة أو المعرفة، سؤالًا مهمًا، وهو: "عن أي معرفة نتحدث؟" أي، ما نوع المعرفة التي تتحمل المدارس مسؤولية نقلها؟ وما أن نقبل بأن مهمة المدارس هي نقل المعرفة، حتى يلزمنا الإقرار بأن أنواع المعرفة متباينة متفاضلة (differentiated)[24]؛ إذ يجري تعيين معارف بعينها لتكون موضوعا للتعليم [في المدارس]؛ لأنها أكثر قيمة من غيرها، وهذا التمييز يُكوِّن الأساس للاختلاف بين المعرفة المدرسية، أي المنهاج، والمعرفة غير المدرسية. وهذا يقودنا إلى البحث في سمات هذه المعرفة المدرسية، أي المنهاج، التي تجعل اكتساب بعض أنواع المعرفة ممكنًا[25].

بناء ًعلى ما سبق، فإن إجابتي عن سؤال "ما الغاية من وجود المدارس؟" هي أنها تمكِّن، أو يمكنها أن تمكِّن، النشء من اكتساب المعرفة التي لا يمكن لمعظمهم اكتسابها في المنزل أو في المجتمع، أو أماكن العمل إن كنا نتحدث عن البالغين. وبعد تقرير هذه الإجابة، ستُعنى بقية المقالة باستكشاف الآثار المترتبة عليها.

أي معرفة؟

أرى أنه من المفيد عند استخدام كلمة "المعرفة" بمعناها العام أن نميز بين فكرتين: "معرفة الأقوياء" (knowledge of the powerful) و"المعرفة القوية" (powerful knowledge). تشير "معرفة الأقوياء" إلى من يحدِّد "ما يُعد معرفة" ويملك الولوج إليها في الوقت نفسه. وعندما ننظر إلى توزيع الولوج إلى الجامعات، في الماضي والحاضر، نجد أن أصحاب السلطة الكبرى في المجتمع هم المالكون لإمكانية الولوج إلى أنواع معينة من المعرفة، وهذا هو ما أشير إليه باسم "معرفة الأقوياء". والملاحظ أن العديد من الانتقادات السوسيولوجية للمعرفة المدرسية سوَّت المعرفة المدرسية والمنهاج بـ"معرفة الأقوياء". وهذا موقف متفهَم، ففي نهاية المطاف، الطبقات العليا في أوائل القرن التاسع عشر هي من تخلت عن معلميها الخصوصيين، وأرسلت أطفالها إلى المدارس العامة لاكتساب معرفة قوية (وبطبيعة الحال، اكتساب أصدقاء أقوياء أيضًا). لكن حقيقة أن بعض المعرفة هي "معرفة الأقوياء"، أو المعرفة ذات المكانة العالية كما سميتها ذات مرة[26]، لا يخبرنا شيئًا عن المعرفة نفسها. لهذا، نحن بحاجة إلى مفهوم آخر لبناء تصور عن المنهاج الذي أريد الإشارة إليه باسم "المعرفة القوية".

لا تشير المعرفة القوية، كما أُعرفها، إلى من لديه أكبر قدر من الولوج إلى المعرفة، ولا إلى من يمنحها الشرعية، مع أنهما مسألتان مهمّتان، بل تشير إلى ما يمكن لهذه المعرفة أن تفعله، كأن تقدِّم تفسيرات موثوقة أو طرائق جديدة للتفكير في العالم؛ وهي ما كان يدعو إليه الشارتيون بشعارهم "المعرفة المفيدة حقا"، وهي أيضًا ما كان يرجوه الآباء، وإن لم يكن دائما بوعي، من تقديم التضحيات لإبقاء أطفالهم في المدرسة، أي اكتساب معرفة قوية لا تتاح لهم في المنزل.

المعرفة القوية في المجتمعات الحديثة، بالمعنى الذي استخدمته آنفا، معرفة تخصصية على نحو متزايد[27]؛ ويترتب على هذا، أن المدارس تحتاج إلى معلمين يتمتعون بهذه المعرفة المتخصصة. وإذا كان الغرض من المدارس هو "نقل المعرفة القوية"، فإن هذا يعني أن العلاقات بين المعلم والتلميذ سيكون لها بعضُ السمات المميزة الناشئة عن هذا الهدف، على سبيل المثال:

-      ستختلف عن العلاقات بين الأقران، وستكون بالضرورة هرمية؛

-      بخلاف ما تقترحه بعض السياسات الحكومية الحديثة، لن تستند هذه العلاقات إلى اختيارات المتعلم؛ لأن المتعلمين في معظم الحالات، يفتقرون إلى المعرفة المسبقة الضرورية لاتخاذ مثل هذه الاختيارات.

لكن هذا لا يعني أنه ينبغي للمدارس إهمال المعرفة التي يجلبها التلاميذ إلى المدرسة [من منازلهم وحياتهم الاعتيادية]، ولا أن السلطة التربوية في غنى عن النقد، بل يعني أن نوعًا من علاقات السلطة متأصل في البيداغوجيا والمدارس. تثير أسئلة السلطة والمسؤولية التربوية قضايا مهمة، لا سيما لمكوني المعلمين، وهذا موضوع يقع خارج نطاق هذه المقالة؛ ولهذا، لن نتوسع فيه، وسننتقل في القسم الآتي إلى معالجة مسألة تمايز المعرفة.

التمايز المعرفي والمعرفة المدرسية

ليست الأسئلة الفلسفية من قبيل "ما هي المعرفة؟" أو "كيف نعرف أصلًا؟" هي ما يعني المعلمين والباحثين التربويين حال انشغالهم بقضية المعرفة، وإنما يعنيهم كيفية اختلاف المعرفة المدرسية عن المعرفة غير المدرسية، والأساس الذي يبنى عليه هذا التمايز. ومع أننا نُسلِّم بأن هذا الموضوع يتضمن قضايا فلسفية، فإن الاختلافات بين المعرفة المدرسية وغير المدرسية تثير أسئلة سوسيولوجية وبيداغوجية في المقام الأول.

يكمن جوهر التمدرس في توفير الولوج إلى المعرفة المتخصصة المتجسدة في مجالات مختلفة. والأسئلة الرئيسة للمنهاج ستدور حول:

‌أ.      الاختلافات بين أنواع المعرفة المتخصصة المختلفة وتحديد العلاقات بينها؛

‌ب.   كيف تختلف هذه المعرفة المتخصصة عن المعرفة التي يكتسبها الناس في الحياة اليومية؛

‌ج.    كيف تترابط المعرفة المتخصصة واليومية؛

‌د.     وكيف تصير المعرفة المتخصصة معرفة بيداغوجية. أي، كيف يجري تدبير إيقاعاتها واختيارها وسلسلتها كي تناسب مجموعات مختلفة من المتعلمين.

وعليه، فإن التمايز، بالمعنى الذي أستخدمه هنا، يدل على:

-      الاختلافات بين المعرفة المدرسية واليومية؛

-      الاختلافات بين مجالات المعرفة والعلاقات بينها؛

-      الاختلافات بين المعرفة المتخصصة (على سبيل المثال، الفيزياء أو التاريخ) والمعرفة التربوية (الفيزياء المدرسية أو التاريخ المدرسي المقدم لمجموعات مختلفة من المتعلمين).

يكمن وراء هذه الاختلافات اختلاف آخر، أكثر أولية، بين نوعين من المعرفة، هما المعرفة التابعة للسياق (context-dependent knowledge) والمستقلة عنه:

-      تتولد المعرفة التابعة للسياق من حل مشكلات محددة في الحياة اليومية، ويمكنها أن تكون عملية (مثل معرفة كيفية إصلاح عطل ميكانيكي أو كهربائي، أو كيفية العثور على مسار على الخريطة) أو إجرائية (مثل دليل أو مجموعة من اللوائح الخاصة بالصحة والسلامة). ومهمة هذا النوع من المعرفة هي إعلام المرء بكيفية إنجاز أشياء محددة؛ ولأنها تتعامل مع التفاصيل، فهي لا تَشرح أو تعمِّم.

-      أمّا المعرفة النظرية أو المستقلة عن السياق، (context-independent or theoretical knowledge) فقد طُوِّرت أساسًا لتوفير التعميمات، وتسعى إلى الكونية، وتوفِّر أساسًا لإصدار الأحكام، وعادة ما ترتبط بالعلوم من دون أن تقتصر عليها؛ وهذا النوع من المعرفة تحديدًا هو المفترض اكتسابه في المدرسة، وهو ما أشرت إليه سابقا باسم المعرفة القوية.

صحيح أن المدارس لا تنجح دائمًا في تمكين التلاميذ من اكتساب معرفة قوية، وصحيح كذلك أنها تكون أنجح مع تلاميذ دون آخرين؛ لأن نجاح التلاميذ يعتمد اعتمادًا كبيرًا على الثقافة التي يجلبونها إلى المدرسة. وليس من المستغرب أيضًا أن تكون ثقافات النخبة، الأقل تقييدًا بالضروريات المادية للحياة، أكثر انسجامًا مع اكتساب المعرفة المستقلة عن السياق قياسًا إلى الثقافات المحرومة والتابعة. وهذا يعني أنه إن كان للمدارس أن تسهم إسهاما قويا في تعزيز المساواة الاجتماعية، فعليها أن تأخذ القاعدة المعرفية في بناء المنهاج على محمل الجد[28] - حتى ولو بدا هذا متعارضا مع المطالب الفورية للتلاميذ (وأحيانًا أولياء أمورهم). وعليها أن تسأل "هل بمقدور هذا المنهاج إكساب التلاميذ معرفة قوية؟"؛ لأن المشاركة النشطة في المدرسة قد تكون هي الفرصة الوحيدة المتاحة لأطفال الأسر المحرومة لاكتساب معرفة قوية، والتحرك، فكريًا على الأقل، فيما يتجاوز نطاق ظروفهم المحلية والخاصة. وليس من مصلحة هؤلاء الأطفال بناء منهاج يدور حول تجربتهم [الخاصة والمحلية] بحجة إثبات قيمتها واعتمادها (validate)، لأن ما يترتب على ذلك هو مراوحتهم لبيئتهم المحلية، وبقاؤهم دائمًا على الحال نفسها[29].

تصور المعرفة المدرسية

طور عالم الاجتماع الإنجليزي باسل برنشتاين[30] (Basil Bernstein) أكثر المحاولات استدامة وأصالة لتصور المعرفة المدرسية[31]. ونصّت رؤيته المميزة على أن الحدود بين المعارف (knowledge boundaries) شرط لاكتساب المعرفة، وتجسيد لعلاقات القوة التي تحضر بالضرورة في البيداغوجيا[32].

بدأ برنشتاين تصوره للحدود انطلاقًا من بعدين؛ أولًا، ميز بين تصنيف (classification) المعرفة: أي درجة العزل بين مجالات المعرفة، وتأطير (framing) المعرفة: أي درجة العزل بين المعرفة المدرسية، أو المنهاج، والمعرفة اليومية التي يجلبها التلاميذ إلى المدرسة.

ثانيًا، اقترح أن تصنيف المعرفة يمكن أن يكون: إما قويًا، عندما تكون المجالات معزولة للغاية عن بعضها بعضا (كما في حالة الفيزياء والتاريخ)؛ أو ضعيفًا، عندما توجد مستويات منخفضة من العزل بين المجالات (كما الحال في مناهج العلوم الإنسانية أو العلوم).

وبالمثل، يمكن أن يكون التأطير: إما قويًا، عندما تكون المعرفة المدرسية وغير المدرسية معزولة عن بعضها بعضا؛ أو ضعيفًا، عندما تكون الحدود بين المعرفة المدرسية وغير المدرسية غير واضحة (كما الحال في العديد من برامج تعليم الكبار وبعض المناهج المصممة للتلاميذ الأقل قدرة).

انتقل برنشتاين[33] في أعماله اللاحقة من التركيز على العلاقات بين المجالات إلى بنية هذه المجالات نفسها، وميَّز بين البنى الرأسية والأفقية للمعرفة. وهذا التمييز يدل على الطريقة التي تُجسِّد بها مجالات المعرفة المختلفة أفكارًا مختلفة عن كيفية تطور المعرفة. إذ نجد في بُنى المعرفة الرأسية (العلوم الطبيعية عادة) أن المعرفة تتقدم نحو مستويات أعلى من التجريد (على سبيل المثال، من قوانين نيوتن للجاذبية إلى نظرية أينشتاين النسبية)، في حين نجد بنى المعرفة الأفقية (أو كما يعبر عنها برنشتاين بالقطاعية)، مثل العلوم الاجتماعية والإنسانية، تتقدم بتطوير لغات جديدة تطرح مشكلات جديدة، ومن الأمثلة على ذلك نذكر الابتكارات في نظرية الأدب أو مقاربات العلاقة بين العقل والدماغ. كان اهتمام برنشتاين الأول هو تطوير لغة للتفكير في إمكانات المنهاج المختلفة وما يترتب عليها. وكانت حجته الحاسمة الثانية هي ربط بُنى المعرفة والحدود بهويات المتعلمين؛ فقد افترض أن الحدود القوية بين مجالات المعرفة من جهة، والحدود القوية بين المعرفة المدرسية وغير المدرسية من جهة أخرى، تسهم إسهامًا حاسمًا في دعم هويات التلاميذ[34]، ومن ثم، فهي شرط ضروري لتقدمهم. وإلى جانب هذا، هناك عدد من الجوانب المميزة لكيفية استخدام برنشتاين لفكرة الحدود، وكلها يمكن إرجاعها إلى عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايهم[35]. أولًا، تشير الحدود إلى العلاقات بين المحتويات وليس محتويات المعرفة نفسها؛ ثانيًا، مع أن الحدود القوية قد جرى التعبير عنها تاريخيًا بواسطة التخصصات والمواد المدرسية، وهذه واقعة تاريخية، فإن برنشتاين يرى أن التخصصات والموضوعات التي نعرفها ليست الصيغة الوحيدة التي يمكن للحدود القوية اتخاذها؛ ثالثًا، للحدود القوية بين المحتويات عواقب توزيعية، أو بمعنى آخر، سترتبط ببعض أوجه اللامساواة في النتائج[36]؛ رابعًا، سيتطلب منا الإبداع، سواء كان مرتبطًا بخلق معرفة جديدة (في الجامعة) أم بتوسيع نطاق اكتساب المعرفة القوية لتشمل مجموعات جديدة من المتعلمين، عبور الحدود والتشكيك في الهويات. وبعبارة أخرى، فإن تحسين المدارس، من هذا المنظور، سيشمل كُلًّا من الاستقرار والتغيير، أو، وفقا للمصطلحات المستعملة في هذه المقالة، سيشمل العلاقة المتبادلة بين صيانة الحدود وعبورها[37].

استنتاجات

خلصت هذه المقالة إلى أن الباحثين التربويين وصنّاع السياسات والمعلمين ملزمون جميعا بمعالجة سؤال: "ما الغاية من وجود المدارس؟" وذلك مهما كانت أولوياتهم النظرية المحدِّدة، أو اهتماماتهم السياسية، أو مشكلاتهم التعليمية العملية. وهذا يعني أنهم مطالبون بالسؤال عن كيفية وسبب ظهور المدارس تاريخيًا، في أوقات مختلفة وفي مجتمعات مختلفة جدًا، بوصفها مؤسساتٍ متميزةً لها هدف محدد هو تمكين التلاميذ من اكتساب المعرفة التي لا تتاح لهم في المنزل أو في حياتهم اليومية[38]. ويترتب على ذلك، كما بيّنت، أن المفهوم الرئيس لعلم اجتماع التربية (وبالنسبة إلى المعلمين عمومًا) هو تمايز المعرفة[39].

يدل مفهوم تمايز المعرفة على أن كثيرًا من المعرفة التي ينبغي للتلاميذ اكتسابها لن تكون محلية (non-local)، وستتعارض مع تجربتهم. ومن ثم، فإن البيداغوجيا تتضمن دائمًا عنصرًا مما يشير إليه، على نحو أراه مفرطًا ومضلِّلًا، عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu) بأنه عنف رمزي. ومع أنه يجب على المنهاج مراعاة المعارف المحلية اليومية التي يجلبها التلاميذ إلى المدرسة، فإن هذه المعرفة لا يمكن أبدًا أن تكون أساسًا للمنهاج؛ لأن بنية المعرفة المحلية صُممت لترتبط بالمعيَّن والمخصَّص (particular)، ولا يمكنها توفير الأساس اللازم لأي مبادئ قابلة للتعميم، ونحن نعلم أن توفير الولوج إلى هذه المبادئ هو العلة الأولى لوجود المدارس في البلدان كلها.

يُعيِّن مفهوم تمايز المعرفة جدول أعمال ثلاثي الأبعاد للمدارس والمعلمين وصانعي السياسات التعليمية والباحثين التربويين:

أولًا، يجب على كل مجموعة (معًا، وعلى حدة) استكشاف العلاقة بين الغرض من المدارس، المتمثل في تهيئة الظروف للمتعلمين لاكتساب المعرفة القوية، وبين بنياتها الداخلية - مثل تقسيمات المواد، وبنياتها الخارجية، مثل الحدود بين المدارس و"المجتمعات المنتجة للمعرفة" المهنية والأكاديمية، وبين المدارس والمعرفة اليومية للمجتمعات المحلية.

ثانيًا، إن أرادت المدارس مساعدة المتعلمين على اكتساب معارف قوية، فستحتاج المجموعات المحلية والوطنية والدولية من المعلمين المتخصصين إلى التعاون مع المتخصصين الجامعيين وغيرهم من الخبراء لاختيار المعرفة وتسلسلها وترابطها في مختلف المجالات[40]. لهذا، تحتاج المدارس إلى الاستقلالية اللازمة لتطوير هذه المعرفة المهنية؛ لأنها أساس سلطة المعلمين وثقة المجتمع بهم بوصفهم محترفين[41]. ومع أنه قد يساء استخدام هذه الثقة في بعض الأحيان، فإن أي نوع من أنواع المساءلة يجب أن يدعم هذه الثقة لا أن يسعى إلى استبدالها.

ثالثًا، يحتاج الباحثون التربويون إلى معالجة التوتر الكامن في الدور المحافظ للمدارس بوصفها مؤسسات مسؤولة عن نقل المعرفة في المجتمع، ولا سيما أن هذا الجانب من دورها أصبح حيويًا، خاصةً في عالم تقوده تقلبات السوق على نحو متزايد. ومع ذلك، فإن كلمة "النزعة المحافظة" لها معنيان مختلفان تمامًا فيما يتعلق بالمدارس:

-      يمكن أن تعني الحفاظ على استقرار الظروف اللازمة لاكتساب "المعرفة القوية"[42]، ومقاومة الضغوط السياسية أو الاقتصادية المطالبة بالمرونة، التي يمكنها مثلًا تقويض استمرارية المنهاج وتماسكه بتحويله إلى وحدات صغيرة، وتشظيته إلى أن يصير "لُقمًا صغيرة".

-      يمكن أيضًا أن تعني "محافظة" المؤسسات التعليمية إعطاء الأولوية للحفاظ على امتيازات ومصالح معينة، مثل امتيازات ومصالح التلاميذ من طبقة اجتماعية معينة أو المعلمين بوصفهم مجموعة مهنية.

كان الراديكاليون، وبعض علماء اجتماع التربية، يميلون في الماضي إلى التركيز على هذا النوع الأخير من المحافظة، ويفترضون أنه إن كان للمدارس أن تتحسن، فيجب أن تصبح أشبه بالعالم غير المدرسي - أو بصيغة أكثر تحديدًا، أشبه بالسوق. وهذا يعيدنا إلى التوتر بين تمايز المؤسسات وطمسه، المشار إليه آنفا.

قدمت هذه المقالة ثلاث حُجَج متصلة. تقضي الأولى بأنه على الرغم من أن الإجابات عن سؤال «ما الغاية من وجود المدارس؟» ستُعبِّر حتمًا عن توترات وتضارب للمصالح داخل المجتمع الأوسع، فإن واضعي السياسات التعليمية، والمعلمين الممارسين، والباحثين التربويين، بحاجة إلى معالجة الأغراض المميِّزة للمدارس. وتقضي الحُجّة الثانية بوجود صلة بين الآمال التحررية، المرتبطة بتعميم التمدرس، والفرصة التي تتيحها المدارس للمتعلمين لاكتساب "المعرفة القوية" التي نادرًا ما يملكون الولوج إليها في المنزل. أمّا الحُجّة الثالثة، فقدمتُ بها مفهوم تمايز المعرفة بوصفه طريقة رئيسة للتمييز بين المعرفة المدرسية وغير المدرسية.

تميل الصور المعاصرة من المساءلة[43] (accountability) إلى إضعاف الحدود بين المعرفة المدرسية وغير المدرسية، بدعوى أن هذه الحدود تمنع قيام مناهج دراسية أيسر ولوجًا وأكثر ملاءمةً من الناحية الاقتصادية. ولقد استندتُ إلى تحليل باسل برنشتاين لأقول إن اتباع هذا المسار قد يعني حرمان التلاميذ، المحرومين أصلًا؛ بسبب ظروفهم الاجتماعية، من شروط اكتساب المعرفة القوية[44]. وحل هذا التوتر بين المطالب السياسية والحقائق (realities) التعليمية هو، كما أرى، من الأسئلة التعليمية الكبرى في عصرنا.


 

References المراجع                                                                                                                                                                 

Althusser, Louis. Lenin and Philosophy, and Other Essays. Monthly Review Press, 1971.

Baker, David, and Gerald K. LeTendre. National Differences, Global Similarities: World Culture and the Future of Schooling. Stanford University Press, 2005.

Bernstein, Basil. Pedagogy, Symbolic Control, and Identity: Theory, Research, Critique. Rowman & Littlefield, 2000.

–––. Class, Codes and Control: Theoretical Studies towards a Sociology of Language. Routledge and K. Paul, 1971.

Bowles, Samuel, and Herbert Gintis. Schooling in Capitalist America: Educational Reform and the Contradictions of Economic Life. Routledge & Kegan Paul, 1976.

Illich, Ivan. Deschooling Society. Harper & Row, 1971.

Moore, Rob. Education and Society: Issues and Explanations in the Sociology of Education. Wiley, 2004.

Muller, Johan. Reclaiming Knowledge: Social Theory, Curriculum, and Education Policy. Routledge, 2000.

White, John. “What Schools Are for and Why.” Impact 2007, no. 14 (2007): vi–51.

Willis, Paul E. Learning to Labour: How Working Class Kids Get Working Class Jobs. Saxon House, 1977.

Young, Michael F. D. Knowledge and Control: New Directions for the Sociology of Education. Collier-Macmillan, 1971.

–––. The Curriculum of the Future: From the “New Sociology of Education” to a Critical Theory of Learning. Psychology Press, 1998.

 



* نشِر المقال الأصل باللغة الإنجليزية، وأنجزت ترجمته إلى اللغة العربية بإذن من مالك الحقوق. انظر:

Young, Michael. "What are schools for?" Educação, Sociedade & Culturas, No. 32 (2011). pp.145-155.

تُرجِم هذا المقال بوصفه دعوة لاستئناف التفكير السوسيولوجي في الوظيفة التحررية للمعرفة المدرسية، ويمكن لبرامج الإصلاح في العالم العربي الاهتداء به في معالجة بعض القضايا الخلافية التي تواجهها، مثل حدود حضور المحلي والكوني، ولغات التدريس، وعلاقة المدرسة بسوق الشغل والتكوين المهني. يرى مايكل يونغ أن المدرسة تعرضت لانتقادات حادة من علماء اجتماع التربية الذين اعتبروها أداة لإعادة الإنتاج والتطبيع مع الهيمنة، ومن رجال الاقتصاد والسياسة والتكنولوجيا الذين رأوها مؤسسات محافظة، لا تلبي حاجات الاقتصاد وتفتقر إلى الفعالية. وقد استجابت السياسات التربوية في العديد من البلدان لهذه الانتقادات، وتبنت برامج إصلاحية تنادي بإقامة المناهج الدراسية على "معارف الضعفاء" بدلًا من "معارف الأقوياء"، واستبدال المواد الدراسية الكلاسيكية بأخرى مرنة وأداتية موجهة لخدمة سوق الشغل. لكن المفارقة تكمن في أن هذه الإصلاحات تؤدي إلى عكس المرجو منها؛ فهي تلغي تميز المدرسة عن غيرها من المؤسسات، وتحولها إما إلى "بيئة محلية" تعلم التلميذ ما يعرفه مسبقًا، أو إلى "ورشة" تعدّه ليكون حرفيًا وليس عالمًا. وفي الحالين، لا تُراعى المصلحة الفضلى للمتعلمين، مما يعيد إنتاج الفوارق، ويحرم سوق الشغل من العلماء والمبدعين. ولتجاوز هذه المفارقة، يراهن يونغ على مفهوم "المعرفة القوية"، باعتباره مفهومًا سوسيولوجيًا ومبدأ لتصميم المناهج الدراسية، يسعى لضمان التحرر عبر المعرفة المدرسية، وليس خارجها. [المترجم]

** مايكل يونغ (Michael Young) عالم اجتماع بريطاني معاصر، اشتهر بدراسة خصوصيات المنهاج الدراسي، وعلاقته بإعادة الإنتاج.

[1] يدل لفظ "المدرسة" في المقال على جميع مؤسسات التعليم الرسمية.

[2] John White, "What Schools Are for and Why," Impact 2007, no. 14 (2007): vi–51.

[3] ترتبط الأهداف "الأكثر فعالية" بتوجيه المدرسة إلى خدمة السوق والإنتاجية، وذلك بالتركيز على تعليم المهارات ذات الطابع المهني وذلك في فرض لنوع من التعليم المهني الجماهيري. [المترجم]

[4]   Louis Althusser, Lenin and Philosophy, and Other Essays (Monthly Review Press, 1971); Paul E. Willis, Learning to Labour: How Working Class Kids Get Working Class Jobs (Saxon House, 1977); Samuel Bowles and Herbert Gintis, Schooling in Capitalist America: Educational Reform and the Contradictions of Economic Life (Routledge & Kegan Paul, 1976).

[5]  Ivan Illich, Deschooling Society (Harper & Row, 1971).

[6] يدل التطبيع، أو التوحيد، عند فوكو على الطرق التي ينشئ بها المجتمع معايير تحدد ما هو طبيعي. وتتكفل مؤسسات بعينها، كالمدارس، بتمرير هذه المعرفة الطبيعية وفرضها، وهذا يؤثر في سلوك الأفراد وهوياتهم؛ ومن ثم، يصبح التطبيع وسيلة لممارسة السلطة والهيمنة.   انظر: Leonard Lawlor and John Nale, The Cambridge Foucault Lexicon (Cambridge University Press, 2014), pp. 315–21. [المترجم]

[7] Michel Foucault and Duccio Trombadori, Remarks on Marx: Conversations with Duccio Trombadori (Semiotext(e), 1991).

[8] Johan Muller, Reclaiming Knowledge: Social Theory, Curriculum, and Education Policy (Routledge, 2000).

[9] الحزبان الرئيسان في المملكة المتحدة هما المحافظون والعمال. [المترجم]

[10] مفهوم نيوليبرالي، يرى الناس موارد للإنتاج الاقتصادي، ويكلف التعليم بإعدادهم لهذا الغرض وتزويد السوق بهم، وذلك بتعليمهم أكثر المهارات والمعارف فعالية وإنتاجية. [المترجم]

[11] المدارس مؤسسات متميزة عن غيرها، وإخضاعها لغايات السوق ومبادئ الفعالية الأداتية، يلغي تميزها وحدودها، ويحولها إلى مؤسسات أخرى أو يدمجها معها، فتتحول إلى "ورش" أو "دور رعاية" أو مؤسسات لتكوين الحرفيين. [المترجم]

[12] يستفسر الكاتب هل هناك حاجة لتحديث أهداف المدارس أو استبدالها بأهداف جديدة.  [المترجم]

[13] White, “What Schools Are for and Why.”

[14] منهاج تعليمي يُنظَّم حول فئات أو مواضيع معينة، كالرياضيات والعلوم والتاريخ واللغة...التي تعد مظلة تجتمع تحتها المواد ذات الصلة. [المترجم]

[15] David Baker and Gerald K. LeTendre, National Differences, Global Similarities: World Culture and the Future of Schooling (Stanford University Press, 2005).

[16] مَناهج هنا جمع مِنْهاج، وليست جمعًا لمنهج. [المترجم]

[17] بويل عالم فيزياء إيرلندي شهير، وضع قانونا يعرف بقانون بويل-ماريوت، يصف العلاقة بين حجم الغاز وضغطه عند درجة حرارة ثابتة. [المترجم]

[18] الغاية من وجود المدارس هي تخريج "عمال" يتطلبهم سوق الشغل ويوظفهم. [المترجم]

[19] الشارتيون هم أعضاء في حركة سياسية إصلاحية ليبرالية ظهرت في إنجلترا بداية القرن التاسع عشر. صاغوا مطالبهم في وثيقة تُعرف باسم "ميثاق الشعب"، ومن هنا جاء اسم "الشارتيون" أي الميثاقيون.  [المترجم]

[20] البانتو وسم أطلق إبان الفصل العنصري في جنوب إفريقيا على السكان الأصليين من السود، الذين إما حرموا التعليم كلية، أو عُلموا في مدارس منفصلة عن مدارس البيض أقل جودة وتجهيزًا. [المترجم]

[21] (+ Eleven plus) امتحان نهاية المرحلة الابتدائية، تحدد على أساس نتائجه نوع المدرسة الثانوية التي سيدخلها التلاميذ، التي تنقسم إلى مدارس للنخبة وأخرى للطبقة العاملة. [المترجم]

[22] يدل تعبير "نهج من أعلى إلى أسفل" إلى طريقة اتخاذ القرارات من طرف مستوى أعلى في السلطة أو الإدارة، ثم نقلها إلى المستويات الأدنى داخل منظمة أو نظام. ويأتي في مقابل "من أسفل إلى أعلى". [المترجم]

[23] أي اتخاذ مواضيع أو تخصصات معرفية محددة، كالفيزياء واللغة والرياضيات...أساسًا لتنظيم المنهاج الذي يكون غرضه هو اكتساب المتعلم لهذه المعرفة. [المترجم].

[24] تَحمُّل نفقات إقامة المدارس ينفي فكرة أنها تنقل المعارف نفسها التي يوفرها الشارع أو الأسرة أو الورشة بتكلفة أقل وإتقان أكبر. وانطلاقًا من وجهة نظر وظيفية (الجدوى)، لابد من القول إن المعارف التي تنقلها المدارس متميزة ومتفوقة عما توفره، أو يمكن أن توفره، بقية المؤسسات الاجتماعية؛ وإلا سيكون وجودها مضيعة للوقت والجهد والمال. [المترجم].

[25] يجمع الكاتب هنا بين المنهاج والبيداغوجيا، المنهاج هو ما ينبغي للمتعلم تعلمه، والبيداغوجيا هي التي تحدد أدوار المدرس والمتعلم وكيفية التعلم، أي ما يُتعلم وكيف يُتعلم. [المترجم].

[26]  Michael F. D. Young, The Curriculum of the Future: From the “New Sociology of Education” to a Critical Theory of Learning (Psychology Press, 1998); Michael F. D. Young, Knowledge and Control: New Directions for the Sociology of Education (Collier-Macmillan, 1971).

[27]تُعد المعرفة القوية متخصصة في كيفية إنتاجها، إذ تُنتج في المختبرات والندوات، وفي كيفية نقلها كذلك، إذ تُنقل عبر الجامعات والمدارس. وهي ليست مجرد معارف عمومية عامية تنتج في سياق الحياة اليومية وتنقل عبر الأصدقاء والأسر. انظر: Michael Young and Johan Muller, Curriculum and the Specialization of Knowledge: Studies in the Sociology of Education (Routledge, 2015).  [المترجم]

[28]  التسليم بأن أبناء الأغنياء أقدر على اكتساب المعارف القوية التي تقدمها المدارس، لا يلزم عنه حرمان أبناء الفقراء منها، ولا تعليمهم معرفة "أقل قوة"، وإنما يلزم عنه مزيد من الجهد لتمكينهم من هذه المعرفة القوية، وهنا يتجسد جمع المدرسة بين فكرتي نقل المعرفة وتحقيق التحرر. [المترجم]

[29] مثلًا، الاقتصار على تدريس اللهجات المحلية (الدوارج) كما هي في المدارس، بحجة تثمينها والاعتراف بها، قد يعيد إنتاج الوضع القائم، ويحرم التلاميذ المعرفة القوية التي تمكنهم من بناء مستقبل أفضل لو أنهم تعلموا أيضًا لغات أخرى تتيح الوصول إلى معرفة أقوى. [المترجم]

[30] عالم اجتماع بريطاني، اشتهر بدراسته لسوسيولوجيا المنهاج والخطاب التربوي، وهو المشرف على دكتوراه مؤلف هذا المقال. اهتم بتحليل البنية الداخلية للمنهاج (البيداغوجيا العلاقات بين التلاميذ والأساتذة التقويم وتصنيف المواد الدراسية...) ودورها في إعادة الإنتاج وتجاوزه في الوقت نفسه، أي أن البنية الداخلية للمنهاج تحمل نوعًا من القوة وتفرض أنواعًا من التفاوت وتخلق هويات المتعلمين وانتماءاتهم، وليست مجرد معبِّر سلبي عن علاقات القوة والهيمنة الاجتماعية الخارجية. [المترجم].

[31] Basil B. Bernstein, Class, Codes and Control: Theoretical Studies towards a Sociology of Language (Routledge and K. Paul, 1971);

Basil Bernstein, Pedagogy, Symbolic Control, and Identity: Theory, Research, Critique (Rowman & Littlefield, 2000).

[32] تمثل الطرق التي تنظم بها المعارف المدرسية وتُنقل وتتمايز نوعًا من علاقات السلطة القائمة في المجتمع، وفي الوقت نفسه يمكن أن تهدد هذه العلاقات القائمة فعلًا. ودراسة آثار هذه العلاقات هي جزء من سوسيولوجيا المنهاج التي يدعو الكاتب إلى العناية بها. [المترجم].

[33] الحدود القوية بين المواد المدرسة، وبين المعرفة المدرسية وغير المدرسية، يخلق هوية المتعلمين والمدرسين على حد سواء؛ وهؤلاء يعملون على حمايتها والتماهي معها والولاء لها (أنا معلم رياضيات، وأنا طالب طب)، ومحاولة تغيير هذه الحدود أو إضعافها يؤثر في هويتهم، ويرونه خطرًا وتهديدًا. بالإضافة إلى أن هذه الحدود تسمح للمتعلمين بالتحقق من مستوى تقدمهم، أي ما يعرفون وما يحتاج دراسة أعمق وتخصصًا أدق. انظر: Bernstein, Pedagogy, Symbolic Control, and Identity. [المترجم]

[34] Young and Muller, Curriculum and the Specialization of Knowledge..

[35] Rob Moore, Education and Society: Issues and Explanations in the Sociology of Education (Wiley, 2004).

[36] يمكن للحدود القوية بين محتويات المواد المدرسية أن تسفر عن نوع من اللامساواة في النتائج؛ فوضع التلاميذ في أقسام معينة اعتمادًا على مستواهم في مواد معينة كالرياضيات أو اللغة الإنجليزية مثلًا، قد يخلق تفاوتًا في نوع المعرفة التي يحصلون عليها قياسًا إلى بقية التلاميذ، ويمكن أن يمنحهم فرصًا ومكانةً أعلى في المستقبل. أي أن هذه الحدود تمنح بعض الجماعات والأفراد امتيازات قياسًا إلى الآخرين. [المترجم].

[37] يتطلب تطوير المدارس، أولًا التفكير في الحدود والتمايزات بين المعرفة المدرسية وغير المدرسية، وبين المواد المدرسة المختلفة، وبين المعرفة العالمة والمدرسية؛ وثانيًا، التساؤل الجماعي: متى نتخطى هذه الحدود ليمتلك التلميذ هوية ومعارف ومهارات مستعرضة تسعفه في عدة مجالات، كمهارة حل المشكلات أو المواطنة مثلًا، ومتى نصونها ليمتلك معارف ومهارات متخصصة في مجال معرفي بعينه، بوصفه متخصصًا في الفيزياء مثلًا. [المترجم].

[38] إذا وضعنا هذه المقالة في سياق نظري أوسع، يمكن النظر إليها بوصفها استطلاعًا محددًا لدور المدارس في ربط التحديث بالعدالة الاجتماعية.

[39] عندما نبدأ بنظرية عن تمايزات المعرفة، بدلًا من مجرد الاعتراف بوجود تمايزات، فإن مفهوم تمايز المعرفة يختلف تمامًا عن (وينتقد) الفكرة السطحية المشابهة له والقائلة بوجود أنواع مختلفة من المعرفة. (المؤلف)

[40] أي البعد البيداغوجي والديداكتيكي. [المترجم].

[41] يتحدث المؤلف هنا عن المهننة، حيث يكون المعلمون جماعة مهنية منظمة مستقلة ومتطورة ومنتجة للمعرفة، ومسؤولة عنها ومتحمسة لها في الوقت نفسه، وليست مجرد جماعة منفذة لسياسات وبرامج (حِرفيين أو أُجراء).  [المترجم]

[42]بناء منهاج على أساس المواد التي بينها حدود قوية يسمح بتبادل الخبرات الوطنية والدولية، والانتقال بين المدارس، ويضمن أن التلاميذ يمكنهم تعميق معارفهم في المستقبل، وفي سنة بعد أخرى. وفي هذا نوع من المحافظة، لكن بالمعنى الإيجابي للكلمة. أما تشظية المواد وتقسيمها، وبناؤها على أسس غير معرفية، كالمهارات أو الموضوعات المركبة غير التخصصية، فسيمنع هذه المحافظة والاستمرارية الإيجابية للمدارس. انظر: Young and Muller, Curriculum and the Specialization of Knowledge. [المترجم].

[43] أي محاسبة المدارس، أو النظام التعليمي عمومًا، عن مستوى الكفاءة والأداء. [المترجم]

[44]  إزالة الحدود (إلغاء التمايز) بين المعرفة المدرسية واليومية مثلًا بحجة المرونة، يحرم التلاميذ المعرفة القوية، ويكسبهم نسخًا باهتة ورخوة من المعرفة، لا تسمح لهم بالتقدم. [المترجم]