تاريخ الاستلام: 11 فبراير 2024 | تاريخ التحكيم: 27 مايو 2024 | تاريخ القبول: 25 أغسطس 2024

مقالة بحثية

الفاعلُ المُكلّف في السياسة الدوليّة: استنقاذ الفاعلية الإنسانية من الانحدار لما بعد الإنسانوية

مشاري حمد الرويح

أستاذ مساعد، قسم الشؤون الدولية، جامعة قطر–قطر

malruwaih@qu.edu.qa

ملخص

يقدم هذا البحث نموذجًا نظريًا للفاعلية الإسلامية في العلاقات الدولية، مستخلصًا من مقومات التكليف التي حصرناها في ثلاثية: العلم، والقدرة، والعزم. ويقترح هذا الإسهام أنّ ترتيب المقومات وتفصيلها عبر ما سنشير إليه لاحقًا بــ "منصة التكليف السياسي"؛ يتيح استخدامها كأداة لضبط الإطار النظري، وتفتح المجال لدراسة الفاعلية الإسلامية وإنتاج المعرفة المتعلقة بالسياسة الدوليّة وفق منطلقاتٍ إسلامية "وجودية وقيمية" تكتنف الأبعاد التفسيريّة والمعيارية النقدية. لتحقيق هذا الهدف، وانطلاقًا من خبرة تأملية إسلامية، يقدم البحث نقدًا لنماذج الفاعلية في حقل العلاقات الدولية، سواء تلك الخاصة بالتيار السائد القائمة على نظرية الاختيار العقلاني أو تلك الواعية بتفككها المستندة إلى بقية التيارات الهامشية. كما يوضح البحث مآلات هذه النماذج، التي أحصرها في مساريّ التعقد (Complexity) والتفكيك (Deconstruction)، اللذين يتقاطعان لينتجا رؤى ما بعد الإنسانوية. على أن يقدم مآل الانحدار نحو ما بعد الإنسانوية باعتباره تقاطعًا لاستكبار علمي ينتهي بالتعقد، واستكبار قيمي ينتهي بالتفكيك.

الكلمات المفتاحية: العلاقات الدولية، التكليف، الفاعلية الإنسانية، ما بعد الإنسانوية

للاقتباس: الرويح، مشاري حمد. "الفاعلُ المُكلّف في السياسة الدوليّة: استنقاذ الفاعلية الإنسانية من الانحدار لما بعد الإنسانوية"، مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، المجلد السادس، العدد 2 (2024)، ص 97-129. https://doi.org/10.29117/tis.2024.0186

© 2024، الرويح، الجهة المرخص لها: مجلة تجسير، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأي وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


 

Submitted: 11 February 2024 | Reviewed: 27 May 2024 | Accepted: 25 August 2024

Research Article

Taklif based model of Islamic Agency in International Relations: Saving Human Agency from Posthumanism

Meshari Al Ruwaih

Assistant Professor of International Affairs, Qatar University–Qatar

malruwaih@qu.edu.qa

Abstract

This article provides an Islamic-based account of agency in International Relations, grounded in the Islamic concept of Taklif. It suggests that a more flexible approach to Taklif reveals three key components: Knowledge, Capabilities, and Resolve. Additionally, the article contextualizes this Islamic understanding of agency within the discipline of International Relations, showing that current agential theories increasingly anticipate posthumanist notions of agency. This shift tends to diminish human qualities and exceptionalism, which are emphasized by Islamic beliefs. The article traces the process of dehumanizing agency in International Relations theory, highlighting complexity and deconstruction as distinct trajectories that intersect to explain this posthumanist trend. Finally, the article proposes an Islamic account of agency based on Taklif as an alternative path.

Keywords: International Relations; Taklif; Human Agency; Posthumanism

Cite this article as: Al Ruwaih, Meshari. "Taklif based model of Islamic Agency in International Relations: Saving Human Agency from Posthumanism," Tajseer Journal for Interdisciplinary Studies in Humanities and Social Science, Vol. 6, Issue 2 (2024): pp. 97-129. https://doi.org/10.29117/tis.2024.0186

© 2024, Al Ruwaih, licensee, Tajseer & QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0

 

 


 

مقدمة

1.     لماذا الفاعلية الإسلامية؟

يقدم هذا البحث نموذجًا نظريًّاّ للفاعلية الإسلامية في العلاقات الدولية مستخلصًا من مقومات التكليف التي حصرناها في ثلاثية: العلم، والقدرة، والعزم. ويقترح هذا الإسهام أنّ ترتيب المقومات وتفصيلها عبر ما سنشير إليه لاحقًا بــ (منصة التكليف السياسي)؛ يفتح المجال أمام استخدامها كأداة تضبط الإطار النظري وتفتح المجال الإمبريقي لدراسة الفاعلية الإسلامية وإنتاج المعرفة المتعلقة بالعلاقات الدوليّة، وفق منطلقاتٍ إسلامية "وجودية وقيمية" تكتنف الأبعاد التفسيريّة والمعيارية النقدية.

لطالما نالت مسألة التنظير للفاعلية الإسلامية (Islamic Agency) الشطر الأكبر من اشتغالي البحثي في حقل العلاقات الدوليّة؛ إذ لا يعدُّ هذا المقال البحثي محاولتي الأولى الرامية إلى تطوير تصوّرٍ نظريّ للفاعلية الإسلامية في الحقل. ففي أطروحتي لنيل الدكتوراه، المعنوّنة بـ "الفاعلون المسلمون، البنى، والعلاقات الدولية: الرؤى الوجودية بوصفها عقيدة"؛ سعيت إلى استخدام ثلاثية (التوحيد، والتزكية، والعمران) البارزة في إسهامات مفكريّ المعهد الإسلامي للفكر العالمي، على أرضية واقعية نقدية (Critical Realism) تتجلى في أعمال روي باسكار (Roy Bhaskar) وكولن وايت (Colin Wight)[1]؛ لتطوير رؤية للفاعلية الإسلامية تغطي تفاعلاتها أبعاد علاقاتية وقيمية ومادية في البيئة الدولية. تجلت محاولتي الأخرى في كتابي "مسارات السالكين في السياسة الدولية: حول الاستجابة الفكرية والوجدانية لمؤثرات البيئة الدولية"؛ حيث اتخذت من ثلاثية (الخوف، والرجاء، والمحبة) محلًّا للتركيز على البعد الوجداني للفاعلية الإسلامية وتفاعلاتها مع بيئتها الدولية. ذلك أنّ هذه التفاعلات بأشكالها العسكرية، والاقتصادية والثقافية تؤدي دورًا في إثارة استجاباتٍ وجدانية على غرار: الخوف عند التهديد والإكراه العسكري، والرجاء عند الإغراء الاقتصادي، والمحبة عند الإخضاع للنماذج القيمية والثقافية الجاذبة[2].

لا شك في أنّ الباعث نحو الاهتمام بإنتاج معرفة إسلامية حول السياسة الدولية لا يقتضي تبريرًا من قبل باحث مسلم، مع ذلك فلا ضير من الاستئناس بالسطور الآتية للعلامة محمود شاكر:

"... بل إن اختلاف الأخلاق والآداب والسنن، أصل أصيل في اختلاف العلم، ومفهوم العلم، وطبيعة العلم. بل إن الحضارات المتباينة، بعلمها وفنونها وصناعتها وآدابها، لم تتباين كل هذا التباين، إلا من جراء تباين الآداب والأخلاق والسنن في كل حضارة. فإذا أنا حرصت على أن أجعل أخلاق الإسلام وآدابه وسننه هي الأصل الذي لا ينفك منه مؤرخ الإسلام، فذلك لأن المنهاج الذي يتبعه الباحث، لا يمكن إلا أن يكون صدى لما تقوم به حياته التي يعانيها في دخيلة نفسه بالليل والنهار، وفي السر والعلن، وفي المنشط والمكره، وفي الرضا والغضب"[3].

إذا كانت أخلاق الإسلام وآدابه وسننه وعلومه وفنونه لا ينبغي أن تنفك عن دراسة تاريخ الإسلام والمسلمين؛ فكذلك لا ينبغي أن تنفك عن دراسة حاضر المسلمين ومستقبل الإسلام في عالمنا. ولمّا كان البعد الدولي حاسمًا في تعامل المسلمين، جماعات وأفراد، مع واقعهم والتبصر في مستقبلهم؛ كانت دراسة هذا البعد وفاعلية المسلمين به وتفاعلاتهم من خلاله جديرة بالتوسل إلى أخلاق الإسلام وآدابه، وسننه، وعلومه، وفنونه. فالمسلمون اليوم لا يملكون الواقع ومجاري العادات التي لا ينغصها إلا نازلة هنا وشبهة هناك أو شهوة تطل برأسها منكسرة على فترات. بل يواجهون، واقعا مريجا تمتزج فيه الشبهات والشهوات لتنتج تحولات في مجاري العادات. ولأن المسلمين اليوم لا يملكون مفاتيح البنى الدولية؛ فإن التركيز على مستوى الفاعلية الاسلامية وتطوير نموذجها يعدُّ سعيًا معرفيًا هامًا؛ خاصًة وأن الإسلام يعلي من المسؤولية الأخلاقية وما يرتبط بها من معان التكليف، والهداية، والقصد.

علاوة على ذلك، فإن نمذجة الفاعل وأهدافه كانت على الدوام نقطة بدايةٍ للتنظير الدولي، كما وارتبطت أبدًا بالإطار القيمي للمجتمع الساعي إلى نمذجة دوره في العالم. وعليه، فمن البديهي أن يكون السعي إلى تطوير نموذج للفاعلية في إطار المجتمع العلمي المسلم سعيًا إسلاميًا؛ إلا أن تطاول الزمن وعمق الاندماج في أطر الفاعلية الغربية جعله مشروعًا يواجه تحديات كبيرة على مستوى التنظير أو الممارسة.

وتخصصنا هذا، أي العلاقات الدولية، يعدُّ تخصصًا غربيًا من بداياته إلى مآلاته، ومن مركزه إلى هامشه. لذلك لا تنفك أي مساهمة لتطوير نموذج للفاعلية على أسس وجودية بديلة عن مراغمة نماذج الفاعلية ذات المنطلقات الغربية، سواء تلك الخاصة بالتيار السائد القائمة على نظرية الاختيار العقلاني، أو تلك الواعية بتفككها المستندة إلى التيارات الهامشية. في هذا السياق يكون تطوير نموذج للفاعلية الإسلامية نوعًا من أنواع المقاومة، يهدف إلى استحفاظ معاني العلم والقدرة والعزم باعتبارها مقومات لتجسيد ما ينبغي أن يكون عليه تفاعل الفاعلية الإسلامية مع بيئتها، سواء كانت فاعلية فردية أو جماعية وهو ما لا تستطيعه نماذج الفاعلية التي تقدمها تلك التيارات.

قبل التوغل في المعالجات الغربية للفاعلية في العلاقات الدولية ومآلاتها، من المهم الإشارة إلى الارتباك المتعلق بالتعامل مع مصطلح (الفاعلية، Agency)، والذي يعني لغويًا (وكالة) والصفة المشتقة منها (Agent) أي (وكيل)؛ حيث إن استخداماتها في أغلب أدبيات العلاقات الدولية ذات العلاقة، بل في النظريات الاجتماعية المستوردة منها لا تعكس هذا المعنى[4]؛ إنما تشير إلى التميز بالقدرة على الفعل، دون اتفاق داخل الحقل على ما تعنيه هذه القدرة. يرتبط مفهوم الفاعلية عند البعض بالذات الإنسانية وما تتميز به من قدرات فكرية وتأملية[5]، إلا أن مفهوم الفاعلية عند هؤلاء آلَ لاحقًا إلى إفراغ هذه الفاعلية من تلك القدرات لصالح بنى ثقافية وخطابية. في مقابل ذلك، تعامل آخرون مع الفاعلية كحالة من الحيوية والقدرة على التأثير السببي ما يخرجها عن الحصرية الإنسانية[6]. أما المنظرون العقلانيون، فقد استخدموا مصطلح "فاعل" سواءً في نظرياتهم الكبرى، أو نظرياتهم الجزئية في حقل الدراسات الأمنية؛ حيث فضّل هؤلاء الاحتفاظ بمصطلحهم التقليدي (Actor) للإشارة إلى الدولة بوصفها فاعلًا عقلانيًا معظّمًا للمنفعة المادية. ونحن في هذا البحث لسنا معنيين كثيرًا بأصول مصطلح الفاعلية واستخداماته في أدبيات الحقل المكتوبة باللغة الإنجليزية، بقدر اعتناءنا بالافتراضات النظرية حول دور الفاعلية الإنسانية وخواصها وتميزها، بل ومراحل انحدارها عبر التاريخ التنظيري لحقل العلاقات الدولية.

ومن ثمّ فإن بواعث هذا الإسهام النظري لا تتوقف عند حد استحفاظ روح المقاومة الإسلامية كما تم الإشارة إليه سابقًا؛ حيث يقترح البحث أن مآلات كل من التيارين الغربيين: السائد والهامشي، وتقاطعهما يتطلب النظر بعين العطف المعرفي لاستنقاذ الفاعلية الإنسانية بشكل عام. بل إن هذه المآلات ليست ببعيدة عن الجماعات المسلمة المعرفية والسياسية، إذا ما فترت فيها روح المقاومة. وهذه المآلات أحصرها هنا في مساريّ التعقد (Complexity) والتفكيك (Deconstruction) اللذين يتقاطعان لينتجا معًا رؤى ما بعد الإنسانوية. فيما تبقى من هذه المقدمة، وتماشيًا مع طابعها غير الاعتيادي، سأبدأ من المآل، أي ما بعد الإنسانوية، وأقدم استعراضًا مقتضبًا لها، ومن ثم أتتبع في الأجزاء اللاحقة مسارات التعقد والتفكك في إطار حقل العلاقات الدولية وخارجه. وذلك قبل أن أقدم التكليف ومعانيه في إطار منصة للتكليف السياسي؛ باعتبارها أداة معرفية لمقاومة مسارات التعقد والتفكك ومآلتاهما. وأخيرًا على سبيل الختام أقترح بعض العلامات المنهجية التي يمكن استخلاصها من المنصة.

2.     ما بعد الإنسانوية

تمثل ما بعد الإنسانوية مظلة فكرية لعدد من التيارات المتداخلة، والتي تشترك جميعها في الاعتقاد بالحاجة الماسة لإعادة التفكير في مفهوم الإنسانية واستقلالية الانسان عن محيطه، بل وتميزه عنه، وتمحور الحياة حوله، أي تلك الرؤى التي تستشكل وترفض الاستثنائية الإنسانية. وبينما تختلف تعريفات ما بعد الإنسانوية، إلا أن أغلبها يقاوم وضع الإنسانية في مركز الفكر والكون، بل تدعم رؤية لا-تراتبية لا تضمن أي أولوية معرفية أو وجودية للإنسان، بل تسعى لبيان الشروط اللازمة لاستكشاف خبرات الكيانات غير الإنسانية كساحة للمعرفة من الحيوانات إلى الذكاء الاصطناعي[7]؛ حتى أن أكثرها تطرفًا يرفض الفصل الصارم بين ما هو بشري وغير بشري، ويرفض التعامل مع الإنسان ككيان مستقر غير قابل للتغيير، ويدعو للتفكر في مستقبل قد يشهد تحول البشر لكيانات مختلفة[8]. من المهم التأكيد هنا، كما تم الإشارة إليه، أن هذه مآلات قد لا تكون متحققة بالفعل، إلا أن انتشار هذه الدعوات وانتشار مقدماتها في كتب ودوريات العلاقات الدولية ظاهر بلا شك.

مما سبق يمكن تحديد سمتين واضحتين لما بعد الإنسانوية وافتراضاتها حول الإنسان: التشابكية (Entanglement)، والهشاشة (Fragility)، وكلاهما نتاج لتطورات فكرية متشابكة كما توضح لورا سجوبيرج (Laura Sjoberg) إحدى أهم الباحثات النسويات في العلاقات الدولية، منتقدة الانطلاق من فيزياء الكم بغرض الوصول إلى أنطولوجيا تشابكية وترى أن ذلك يعيد إنتاج مكانة "العلموية" في التخصص. فعلى الرغم من الإشارة إلى اهتماماتها بالرياضيات والفيزياء، خاصة فيزياء الكم ومبادئها التي من بينها اللايقين، والارتباطية، والتراكبية المتماشية مع نظرتها حول العالم، إلا أنها تقترح أنه يمكن الوصول إلى نفس النتائج من خلال الأدبيات النسوية والنظرية الكويرية (Queer Theory)[9]. بخلاف ذلك، يرى فرانسيسكو فراندو (Francesco Ferrando) أن ما بعد الإنسانوية تمثل الجيل الثاني لما بعد الحداثة في قيادتها لتفكيك الإنسان، وملاحظة النتائج الأكثر تطرفًا لهذا التفكيك، وربطها بالافتراضات النظرية لسمو الجنس البشري في مقابل الأنواع الأخرى. وبالتالي ينسب الباحث ما بعد الإنسانوية إلى خط طويل من المساهمات، بدءًا من أعمال مارتن هيدغر، مرورًا بما بعد الحداثة، وصولًا إلى ما يسمى "دراسات الاختلاف" التي تتضمن دراسات (الجندر، والعرق النقدية، والتغاير الجنوسي، وما بعد الكولونيالية)[10].

انطلاقًا من خبرة تأملية إسلامية، سيقدم مآل الانحدار نحو ما بعد الإنسانوية باعتباره تقاطعًا لاستكبار علمي ينتهي بالتعقد، واستكبار قيمي ينتهي بالتفكيك. والاستكبار المقصود هنا، يمكن وصفه بتجاهل الوحي وإبراز العداء تجاهه والسخرية من ضآلته عند مقارنته بالعقل ومركزيّته. كان مآل الاستكبار تفكيك الإنسان لذاته، ما جعلها ذاتًا مجردة من الإرادة الحرة، ومن القدرة على التعرف على نفسها، ومن امتلاكها أي خواص ذاتية. وعليه، فإن النتيجة البديهية لذلك كان طلب الارتباط والخضوع والاختفاء خلف فاعلية غير إنسانية، وبدلًا من البحث عن الارتباط بما عند الخالق مدبر الأمر مفصل الآيات؛ كان جنوحهم موجهًا نحو الآلة، والحيوان، والطبيعة...وغيرها. فعلى الرغم من الدعوة الصريحة للإنسانية: (ألا تتخذوا من دوني وكيلًا)؛ نشد هؤلاء الارتباط بأي شيٍ إلاه.

لسرد قصة انحدار الفاعلية الإنسانية في إطار دراسة العلاقات الدولية. سأتخذ أولًا، مسارًا ينطلق من افتراضات العقلانية التقنية مرورًا بنظريات النظم في التخصص بجناحيها: نظرية النظم العامة والسيبرنطيقيا وصولًا إلى نظرية التعقد وتنظيرها للنظم باعتبارها نظم تكيفية معقدة (Complex Adaptive Systems). ثانيًا، ننتقل إلى مسار الهشاشة والتفكك من خلال النظر في مقولات اليسار حول الفاعلية الإنسانية على هامش تخصص العلاقات الدولية.

أولا: قصة انحدار الفاعلية الإنسانية في الحقل

1.     من الاستكبار العلمي إلى التعقّد

بنهاية الحرب العالمية الثانية تجاذب المجال النظري لدراسة السياسة الدولية طرفين رئيسين: طرف تقليدي وآخر عقلانيّ تقنيّ. انطلق الأول من أدبيات الفلسفة السياسية والتاريخ الدبلوماسي رافضًا النمذجة الحادة للعقلانية التقنية، ومؤكدًا على تميز السياسة الدولية بتفاعلاتها غير القابلة للنمذجة الدقيقة والحلول العلمية. مثّل هذا الفريق في نهاية الأربعينيات والخمسينيات جُملة من الواقعيين التقليديين، كان من أبرزهم هانز مورغنثاو (Hans Morgenthau)، وكارل رينولد نيبور (Karl Reinhold Niebuhr)، بالإضافة إلى جون هيرز (John Herz)، وكينيث ثومبسون (Kenneth W. Thompson)[11]. وهم من أصحاب الرؤى المحافظة، بل والمتدينة خاصة نيبور. خلال الستينيات، حمل راية الفكر التقليدي في التخصص أيضًا المنتمون للمدرسة الإنجليزية في العلاقات الدولية، خاصة هيدلي بول (Hedley Bull) التي تعتبر حواراته مع مورتن كابلن (Morton Kaplan) على صفحات مجلة السياسة العالمية (World Politics) إحدى الحلقات الأخيرة لتلك المنافسة.

بالعودة إلى المحاولات الأولى لوقف مد النمذجة العلمية الضيقة، يظهر كتاب هانز مورغنثاو "رجل العلم في مواجهة سياسة القوة" في 1946، باعتباره البيان التقليدي الأقوى في المنافسة على "روح" المجال النظري لتخصص الحقل خاصة في الولايات المتحدة التي كانت المسرح الرئيس لتطور هذا المجال. في بداية كتابه تحدث مورغنثاو عما أسماه بانحطاط الفكر السياسي في العالم الغربي: "الاعتقاد في قدرة العلم على حل جميع المشاكل السياسية التي تواجه الإنسان في العصر الحديث"[12]. يرى مورغنثاو المشكلة كالتالي: "تفترض حضارتنا أن العالم الاجتماعي قابل للتحكم العقلاني، كما في نماذج العلوم الطبيعية، بينما خبرتنا الحالية المحلية والدولية، تناقض هذا الافتراض"[13]. ومن ثم أصر على أن إدارة السياسة لا تحتاج إلى "المهندس" العقلاني، بل إلى حكمة رجل الدولة وقوته الأخلاقية"[14].

على الرغم من عزو مورغنثاو هذه العقلانية العلمية إلى الليبرالية إلا أنه لم يكن يستهدف في كتابه، بشكل رئيس، الليبرالية الكلاسيكية المثالية. بل ما كان يقلقه أكثر هو سلالة جديدة من الباحثين، الذين اقتطعوا من الليبرالية ثقتها بالعقل البشري، لكنه عقلًا تقنيًا أنتج عقلانية تخلط بين ما هو "صحيح" تقنيًا وما هو جيد أخلاقيًا[15]. في الحقيقة اشترك العقلانيون التقنيون من جهة ومورغنثاو ومعسكره التقليدي من جهة أخرى، لأسباب مختلفة، في بغض دور الشعوب في السياسة الدولية وعدم الثقة به. بشكل عام يمكن الحديث عن مثلث من الريبة المتبادلة بين: الشعوب، ورجال الدولة الحكماء والمنظرين التقليديين، والباحثين التقنيين الجدد القادمين لدراسة السياسة الدولية بمقاربتهم الفيزيائية والبيولوجية ومعادلاتهم الرياضية. بينما خرج الطرف الأول مبكرًا لاتهامه بعدم الحكمة من قبل التقليديين، وغياب العقلانية من قبل التقنيين، كانت المواجهة، كما أشرنا، بين التيار التقليدي والتيار العلمي. على الرغم من محاولات مورغنثاو وحزبه في التصدي للقادمين الجدد؛ إلا أن الموجة العلموية كانت عارمة خاصة في الولايات المتحدة.

شهدت تلك الفترة استنفارًا علميًا وقيميًا في الولايات المتحدة في سبيل تقديم نموذج مقنع لقيادة "العالم الحر" والمنافسة على قيادة العالم مع الاتحاد السوفيتي؛ حيث بدأت عدد من المقاربات العلمية الجديدة الهيمنة على المؤسسات البحثية والأكاديمية الأمريكية، والتي فيما بعد شكّلت إلى حد كبير "الطريقة" الأمريكية لدراسة العلوم الاجتماعية. يمكن تحديد هذه المقاربات القادمة من تخصصات علمية أخرى في التالي: نظرية الاختيار العقلاني (Rational Choice Theory)، ونظرية المباريات (Game Theory)، ونظرية النظم العامة (General System Theory)، ونظرية المعلومات (Information Theory). وأخيرًا علوم السيبرنيطيقيا (Cybernetics) التي عرفها أحد أهم روادها نوربرت فينر بعلم التوجيه وآليات التواصل في الأحياء والآلات[16].

ولأن دراسة العلاقات الدولية كانت في قلب هذه المواجهة ولم تكن بمعزل عن تلك العلوم التي مثلت الأسس العلمية للمجهود العسكري والسياسي للولايات المتحدة في تلك الفترة. شهدت تلك الفترة عبورًا متكررًا بين المتخصصين في علوم أساسية وتقنية مثل الفيزياء، والرياضيات، وعلوم البرمجة المبكرة، والتكنولوجيا العسكرية من جهة والعلوم الاجتماعية بما في ذلك العلاقات الدولية من جهة أخرى. إلا أن هذا العبور كان في الأغلب في اتجاه واحد: من العلوم الأساسية والتقنية إلى العلوم الاجتماعية والعلاقات الدولية. بل يمكن القول، على الأقل جزئيًا، أن نمذجة البيئة الدولية كانت امتدادًا لنماذج تقنية رياضية تناسب وتكمل نماذج المجموعات البحثية المتمركزة حول التفوق العسكري-التقني الأمريكي، وذلك من خلال تبني افتراضات حول طبيعة الفاعلين والتفاعلات والبيئة الدولية، ولغة للتعبير عن تلك الافتراضات، تتماشى مع مناهج بناء النماذج في تلك العلوم. بشكل عام وبكثير من الاختصار، مثّل النموذج الرياضي للاختيار العقلاني أرضية نمذجة الفاعلين، بينما مثّلت نظرية المباريات إطارًا لنمذجة التفاعلات بين الفاعلين، قبل أن يهيمن التنظير النظامي بجناحيه: نظرية النظم العامة والسيبرنيطيقيا على نمذجة البيئة الدولية.

طبقًا لستيفن والت، فإن نظرية الاختيار العقلاني عرفت بمنهجية بناء النظرية أكثر من محتواها. في إشارة الى استخدام النماذج الرياضية لاستخلاص استنتاجات من مجموعة من المقدمات المنطقية؛ حيث ساعد استخدام الرياضيات، طبقًا لمتبني هذه النمذجة، في ضمان مستوىً عالٍ من الدقة والتماسك لا يمكن أن يقدمه استخدام اللغة "العادية" التي قد تقود إلى أخطاء منطقية أو توقعات غامضة[17]. على الرغم من تحذير ثوماس شيللينج، أحد أهم رموز التيار العلمي في تاريخ تخصص العلاقات الدولية، من التعامل مع الدراسات الاستراتيجية كفرع عن الرياضيات، كما ينقل ستيفن والت[18]، إلا أن الأمر كان حتميًا.

ارتبطت نظرية الاختيار العقلاني بنظرية المباريات والتي تطلبت بدورها افتراضات معينة حول الفاعلين. بشكل أكثر تفصيلًا، ارتبط نموذج الاختيار العقلاني بمساهمات كل من جون فن نيومان وأوسكار مورجينستين في كتابهما نظرية المباريات والسلوك الاقتصادي المنشور عام 1944؛ والذي قدم فيه الباحثان مدخلًا لدراسة التفاعل بين فاعلين استراتيجيين من خلال التحديد رياضيًا، ما يعنيه أن يكون الفاعل "عقلانيًّا" في سياقات صنع قرار مختلفة. إلا أن الكتاب كونه يستهدف بالدرجة الأولى المتخصصين في الاقتصاد، ولأنه معبأ بالمعادلات الرياضية؛ لم ينجح في جذب الاهتمام عبر تخصصات أكاديمية مختلفة. مع ذلك، سمحت الخلفية العلمية والعملية الواسعة لنيومان _بشكل خاص والتي تضمنت معرفة جيدة بالفيزياء الكمية والعمل كمستشار علمي لمشروع منهاتن_ بتوسيع نطاق اختياراته لتطبيق نظرية المباريات والتي كان أهمها في مجال الحرب النووية. سريعًا، اتخذ نيومان من مركز راند للأبحاث والتطوير في سانتا مونيكا محلًا لتطوير نظريته خلال نهاية الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي[19].

كما ذكرنا، لم تكن هذه المقاربات مجرد مغامرات علمية، بل جزءًا أساسيًا من تفاعلات سياسية وعسكرية حقيقية. أي أن هذه المقاربات كانت محاولة لنمذجة فاعلية الولايات المتحدة في السياسة الدولية بشكل يعكس القيم والروح الأمريكية. فاعلية تتسم بمستوى عالٍ من الكفاءة التقنية والثقافة العلموية، وفي نفس الوقت تعبر عن قيم الليبرالية الأمريكية خاصة الفردانية وحرية الاختيار. نموذج يتسم بمستوى عالٍ من كفاءة التدبير والتقدير باستخدام أحدث المقاربات العلمية المتطلبة لمعرفة تقنية لا تتوفر للعامة، وفي نفس الوقت يعبر عن الحياة الديمقراطية الأمريكية والحريات السياسية والاقتصادية والمشاركة في صنع القرار. في هذا السياق مثّل نموذج الاختيار العقلاني مقاربةً جديدة للديمقراطية، أو بشكل أكثر تحديدًا، مقاربة جديدة لمشاركة العامة في صنع السياسة الخارجية. والتي سرعان ما أدمجت في تقاليد الليبرالية السياسية والاقتصادية؛ حيث أصبح الفاعل العقلاني ذو الفكر الاستراتيجي والمصالح الخاصة، المعيار الذي يحاكم إليه إعادة تقييم اتجاهات التنوير التقليدية ومشاكل النظم السياسية التي أنتجتها[20]. ما لبثت نظرية الاختيار العقلاني وما تمثله من أسس قيمية وروح علمية، حتى أصبحت النموذج الفكري والسياسي للولايات المتحدة والغرب الليبرالي في الحرب الباردة.

إذا كانت العقلية التقنية وإطارها الاستراتيجي؛ أي نظرية المباريات، مسؤولة عن تضييق مساحة ظهور ثراء الخصائص البشرية وحرمانها من مواردها النفسية والوجدانية في تفاعلاتها مع محيطها، فإن استخدامات نظرية النظم العامة والسيبرنطيقيا قامت بتحويل ذلك المحيط إلى فاعلية نظامية قادرة على تنظيم نفسها، بل والتكيف والتعلم دون الحاجة لظهور أي إشارة إلى الفاعلية الانسانية. هناك عدد من المساهمات النظرية النظامية في التخصص أشهرها كتاب كينيث والتز ذائع الصيت "نظرية السياسة الدولية" في العام 1979، وإسهامات مورتون كابلن الذي سبقه في كتاب "النظام والعمليات" في عام 1957؛ حيث اعتمد كل منهما على نظرية النظم العامة بمستويات مختلفة من الالتزام. بالإضافة إلى اهتمامات كارل ديوتش (Karl W. Deutsch) خاصة في كتابه "الجهاز العصبي" للحكومة الذي اعتمد بشكل أكبر على أدبيات السيبرنطيقيا.

تعود نظرية النظم العامة إلى إسهامات لودفج فون بيرتالانفي (Ludwig Von Bertalanffy)، خلال العشرينيات والثلاثينات من القرن الماضي، والتي عرفها كالتالي: "هناك نماذج، ومبادئ، وقوانين، قابلة للتطبيق في نظم عامة أو فرعية منها، بغض النظر عن نوع هذه النظم، أو طبيعة عناصرها، أو العلاقات والقوى بينها. نحن نقدم دراسة علمية جديدة، تسمى نظرية النظم العامة. نظرية النظم العامة حقل يعتمد المنطق الرياضي، مهمته صياغة واستخلاص تلك المبادئ العامة القابلة للتطبيق في النظم بشكل عام "[21].

حرص بيرتالانفي أيضًا على تمييز نظريته عن المساهمات العلمية التي عرفت بالسيبرنطيقيا مع الاعتراف بأهميتها: "هناك تطورات أخرى حدثت، انطلاقًا من تطوير الصواريخ الموجهة ذاتيًا، والتشغيل الآلي والتكنولوجيا الحاسوبية، مستلهمة من أعمال فينر؛ حيث أصبحت حركة السيبرنطيقيا مؤثرة بشكل كبير. فعلى الرغم من الاختلافات المتعددة في المنطلقات (التكنولوجيا في مقابل العلوم الأساسية خاصة الأحياء)، والنموذج الأساسي (دوائر التغذية الراجعة مقابل النظم الدينامية للتفاعل)؛ إلا أن هناك توافق على الاهتمام بمواضيع التنظيم... والبحث عن مفاهيم أكثر شمولية للتعامل مع الكيانات الكلية"[22].

على الرغم من اشتراكها مع نظرية النظم العامة في توجيه المجال النظري في الولايات المتحدة نحو التنظير النظامي، إلا أن السيبرنطيقيا كانت التوأم الأكثر جرأة على تجاوز الفاعلية الإنسانية. ظهرت السيبرنيطيقيا في منتصف القرن العشرين تقريبًا لتجمع بين علوم الفيزياء، والأحياء، والرياضيات، والهندسة في تحالف يستهدف رفض التفريق بين جوهر كل من الحيوي والميكانيكي. حيث أوضح فيرنر أحد رواد هذا العلم في الخمسينيات من القرن الماضي أن عمل كل من الفرد الحي وعمل بعض آلات الاتصالات الحديثة يتسمان بتوازٍ دقيق[23]. اعتمد هذا التوازي على الانحدار بما نعرفه عن تفاعل الإنسان مع بيئته إلى مستوى المعلومات (Information) بالمعنى الهندسي والعلمي الخالي من المعان والقيم. بهذا المعنى أصبحت (المعلومات) لغة مشتركة بين الأنظمة الآلية والحيوية، ما سمح بمغامرات علمية عابرة لما هو آلي وما هو حيوي، اتخذت أحيانًا مسار القياس والنمذجة وأحيانًا أخرى مسار الدمج والمزج.

في البداية، جذبت نظرية النظم العامة اهتمام الباحثين في العلاقات الدولية أكثر من نظريات السيبرنطيقيا أو نظريات نظم التحكم والتوجيه كما أسماها فيرنر. الا أن استقبالها، أي نظرية النظم العامة، على مستوى الالتزام التقني ولغتها الرياضية اختلف باختلاف خلفية الباحثين في تخصص العلاقات الدولية. فهناك من نقلها باعتباراتها الأنطولوجية ومنهجيتها ولغتها خاصة الباحثين القادمين لدراسة العلاقات الدولية من تخصصات الرياضيات والفيزياء والاقتصاد، وهناك من اتخذها كنموذج إرشادي للتفكير في خريطة العلاقات الدولية كنظام مستخدمًا الكثير من مفاهيم النظم القادمة من خارج التخصص، لكن دون التزام بالعلاقات المنطقية بين ما تمثله هذه المفاهيم أو إثبات هذه العلاقات منطقيًا ورياضيًا. اهتم الفريق الأول، مع التطور النسبي في القوة الحاسوبية المتاحة للباحثين، بتطوير مناهج المحاكاة الحاسوبية (Computer Simulations) انطلاقًا مما عرف بالنمذجة المعتمدة على المعادلات الرياضية (Equation based Modeling)[24]. بينما طور الفريق الثاني نظريات نظامية كبرى كان أهمها كما ذكرنا مساهمات مورتن كابلن وكينيث والتز. الأخير بشكل خاص، أظهر عدم اهتمام كبير بأدبيات المنطق الرياضي، ما جعله متهمًا بالاستخدام المجازي لمفاهيم كالنظام وحالة التوازن في أطر نظرية مرنة وغير محددة، ما أفقد استخدام تلك المفاهيم معناها كما أشار براومويلر الذي وصف هذا النوع من المساهمات بالتضخم المجازي[25].

في الحقيقة، استخدمت كلّ من مبادئ نظرية النظم العامة والسيبرنطيقيا في المجال النظري للعلاقات الدولية باعتبارها بدائل لنموذج الاختيار العقلاني. فمن خلال التنظير النظامي أصبح ممكنًا تفسير نتائج القرارات الاستراتيجية دون الحاجة لأي افتراضات تأسيسية حول العمليات الفكرية التداولية، أو العقلانية، أو أي نيات وقصد[26]. من خلال الرؤى المستقاة من السيبرنطيقيا صار من الممكن استبدال القرارات بعمليات آلية.

مؤخرًا، مثّلت نظرية التعقّد (complexity theory) أحد أهم اتجاهات هذا النقد على مستوى التنظير النظامي، وهي عنوان جامع للنظريات النظامية التي تتسم باللاخطية والشواش. بشكل عام، ركز متبني رؤى التعقد على الأنظمة المفتوحة واللاخطية، وعلى مفهوم التنظيم الذاتي(Self-organization) الذي احتل اهتمام باحثي السيبرنطيقيا مستبدلًا الاهتمام بمبدأ الاستتباب (Homeostasis)[27]. يمثل التنظيم الذاتي خاصية جوهرية للنظم المعقدة والتي تمكنها من التكيف مع انبثاقات جديدة وغير متوقعة ناتجة عن تفاعل عناصر النظام وليس إضافتها لبعضها البعض. أي أن التنظيم الذاتي يمثل خاصية للنظم المعقدة، تمكنها من تطوير أو تعديل بنيتها الداخلية بشكل تلقائي وتكيفي للتأقلم والتعامل مع بيئتها[28].

تمثل الأنظمة المعقدة التكيفية (Complex Adaptive Systems) التعبير الأشهر عن التنظير النظامي المنطلق من رؤى التعقّد. بينما تمثل النمذجة المتمركزة حول الفاعلين (Agent based modeling) المنهجية الرئيسة للتعامل مع تلك الأنظمة. من المهم التذكير، وقبل الاندفاع نحو العنوان الجاذب أن هؤلاء "الفاعلين" مجرد برامج حاسوبية. فالنمذجة المتمركزة حول الفاعلين هي برنامج للمحاكاة الحاسوبية يقوم بتطبيق النظم المعقدة التكيفية من خلال محاكاة سلوكها، والتي إن كانت تتضمن قواعد سلوكية لفاعلين مستقلين؛ إلا أن ذلك يتم في إطار افتراضات التنظيم الذاتي للنظام. من خلال مبدأ التنظيم الذاتي تحول "النظام" إلى كائن حي يتعلم ويتذكر ويتكيف، أي أصبح يتمتع بفاعلية كاملة بما في ذلك امتلاكه القدرة على تكوين وتطوير نموذجه الخاص حول بيئته طبقًا لبنيته الداخلية وحاجتها للبقاء. هنا خسر الإنسان النمذجة لصالح النظام، ذاك البناء الذهني الذي كان مفترضًا أن يكون مجرد جزء من نمذجة الإنسان لبيئته، أصبح الآن الإنسان جزءًا من نمذجة النظام لبيئته.

المهم الآن الإشارة إلى أن الشق الأول من قصة انحدار الفاعلية الإنسانية في حقل العلاقات الدولية، بدأ من استبعاد المجتمعات ومواردها العاطفية والثقافية كأحد مصادر الفاعلية في السياسة الدولية، إلى استبعاد "رجل الدولة" وخبراته وحكمته وتأملاته في سبيل نموذج الاختيار العقلاني التقني الذي لا يتمسك إلا بخاصية القدرة على تعظيم المنفعة، إلى والتز الذي قام بإنهاء وجود هذا الظل للفاعلية الإنسانية تمامًا من الخيال الجمعي لباحثي التيار السائد في العلاقات الدولية، واضعًا مكانه مفهومًا مبسطًا للنظام تدور العلاقات في إطاره حول توزيع القدرات المادية. وذلك قبل أن تبث رؤى التعقّد والمحاكاة الحاسوبية "الحياة" في هذا النظام، جاعلة من الفاعلية الإنسانية وخواصها مجرد مدخلات تنتظر المعالجة في برنامج حاسوبي. وفيما يلي سنستأنف الشق الآخر من قصة انحدار فاعلية الإنسان في الحقل.

2.     من الاستكبار القيمي إلى التفكيك

يتطلب التعامل مع المسار التفكيكي لانحدار الفاعلية الإنسانية نحو ما بعد الإنسانوية النظر في هامش التخصص. مع الاعتراف بأنه يصعب اليوم تحديد تيار سائد وهوامش للتخصص؛ بسبب غياب أفكار كبرى سائدة. هذا بالمناسبة لا يمثل انتصارًا للتيارات التي احتلت الهامش لفترة طويلة، فهذه التيارات أدمنت ذلك التموضع؛ فمنه تستقي مكانتها الأخلاقية ورأس مالها الاجتماعي. والوضع على هامش التخصص ليس أفضل حالًا من مركزه، فهناك "حرب" دائرة داخل ذاك الهامش المتخيل. محل الصراع هو: من يقدم نقدًا أكثر تطرفًا لما هو سائد، أو منطقي، أو مقبول معرفيًا؟ من أكثر جموحًا في نزع الاستقرار المعرفي عن كل ما يعتبر حقيقة سواء كانت ظاهرة أو معيار أو قيمة؟ كل ذلك، سعيًا لاكتساب سلطة أخلاقية وتراكم لرأس المال الاجتماعي في الهامش الأكاديمي، الذي لم يصبح مكانًا سيئًا تمامًا كما قد يقترح وصف "الهامش".

في إطار هذه المنافسة، يمكن القول، إن تحالف "النسوية – ما بعد الكولنيالية" على أرضية ما بعد بنيوية، قد أحكم سيطرته على الهامش بعد عقود مما يعرف بالحوار الثالث بين الوضعية وما بعد الوضعية. يزعم هذا التحالف حيازته سلطة نزع المعرفة السائدة في دراسة العلاقات الدولية خاصة نزع تحيزاتها الجندرية والعرقية والكولونيالية. فما بدأ كمساءلة واستشكال للبنى الثقافية والاجتماعية والمؤسساتية التي تخلق حالة الاجماع المعرفي حول دراسة العلاقات الدولية وإعادة إنتاج ذاك الاجماع، والذي قاده إلى حد كبير باحثون منتمون إلى مدرسة فرانكفورت النقدية وبعض تيارات البنائية الاجتماعية تحت عنوان "الانعكاسية"، سرعان ما تنازعته تيارات ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية خاصة النسوية وما بعد الكولونيالية[29]؛ التي قدمت "نزع الاستقرار المعرفي" كهدف للهامش بدلًا من "الانعكاسية"، أو بشكل أدق اختطفت مفهوم الانعكاسية لتحوله إلى مشروع لنزع المعرفة والتفكيك اللامتناهي[30].

في المقابل، كان قد قدم أصحاب الرؤى النقدية المرتبطة بمدرسة فرانكفورت مفهوم الانعكاسية كأحد الحلول الوسيطة بين سعي النظريات الوضعية لإنتاج معرفة موضوعية وبين ملاحظة الطبيعة الاجتماعية لإنتاج المعرفة. فالانعكاسية وإن كانت تتطلب إدراكًا ووعيًا بالتحيزات الذاتية للباحث وسعيًا للتحكم بها؛ إلا أنها لا تستهدف نزع استقرار الافتراضات المعرفية بشكل مستمر وغير محدود يفضي إلى رفض إمكانية السعي المنهجي لإنتاج معرفة موضوعية كما تفعل أغلب تيارات ما بعد الوضعية. إلا أنه بسبب ضعف تمثيل هذا التيار في التخصص وحواراته ما لبث أن تحول مفهوم الانعكاسية لجسر يقود إلى ما بعد الوضعية.

حيث ترى إنانا آتايا (Inanna Ataya) أن مصطلح الانعكاسية أصبح فارغًا، بل تحول إلى أداة للتظاهر بالمواقف السياسية والأخلاقية و"شرعنة" أعمال بحثية ونزع الشرعية عن أخرى[31]. والمشكلة أن هذا التظاهر هو ما يمثل بعض الجاذبية لباحثي العلاقات الدولية غير الغربيين بما في ذلك بعض الباحثين المسلمين. سيحاول هذا الجزء من البحث توضيح لماذا لا يمثل ما يقدمه الهامش الغربي اختيارًا مناسبًا لأي باحث مسلم أو غير مسلم يسعى لتطوير رؤية حول الفاعلية الإنسانية تحتفظ بالحد الأدنى من الكرامة الوجودية والقيمية. وذلك من خلال تتبعه كمسار مواز لمسار التعقد، كلاهما يقودان، عند تقاطعهما إلى مآلات ما بعد الإنسانوية.

بشكل عام يمكن رد النزاعات الفلسفية حول طبيعة/إمكانية المعرفة، إلى الموقف من افتراض طبيعة وخواص مميزة للفاعلية الإنسانية. فمن جهة هناك مفهوم الذات الواثقة العقلانية المستقلة عن المؤثرات الخارجية، والمحتفظة بمركزيتها الإنسانوية، والقادرة على إنتاج معرفة علمية موضوعية تقود العالم نحو التقدم كما قدمها ديكارت وكانط. ومن جهة أخرى هناك منتقديها الذين يجمعهم تفكيك هذه الذات والإصرار على تشظيها، وبالتالي نفي استقلالها الوجودي والتحليلي ورفض تعميمها وبيان اعتمادها على تحيزات معرفية ووجودية غربية. فهذه الذات كما يتخيلها مايكل باريت: "(هو) أبيض، أوروبي، حاصل على تعليم عال، يفكر ويشعر، بل ربما يفكر باللاتينية والإغريقية، ربما عاش مبكرًا قليلًا ليكون برجوازيًا، الا أنه لديه وعي وثقة طبقية، ولديه ثقة بشكل عام في وجوده وقدراته، هو ليس امرأة، وليس أسودًا، أو مهاجرًا، أو مهمشًا، هو طبيعي الجنس (heterosexual) وهو أب"[32]. كما ذكرنا، للوهلة الأولى قد يبدو هذا الوصف للذات الأوروبية المستكبرة عقلانيًا والباحثة عن مساحة لخبرات إنسانية مختلفة وصف جاذب؛ إلا أن هذا السعي لكشف التحيز المعرفي الغربي تحول إلى آلة تفكيكية لا تتوقف حتى تهدم مفهوم المعرفة نفسه، وتهدم أي خبرة إنسانية متعلقة بها سواءً أكانت خبرة رجل أو امرأة، أسود أو أبيض، أوروبي أو غير أوروبي.

لفهم هذا المسار وتقلباته من المهم العودة لأصوله اليسارية وموقفها من الافتراضات الإنسانوية بل والعلموية. في الحقيقة لا يوجد اتفاق حول علاقة أصول الرؤى اليسارية من جهة وبين الإنسانوية والعلموية من جهة أخرى، على الأقل في أعمال ماركس التي تعتبر المكان الأفضل للبحث عن تلك الأصول. على سبيل المثال، أصر ألتوسير على التفريق بين ماركس قبل 1845 صغير السن المتأثر بهيجيل، وبين ماركس ما بعد 1845 الأكثر نضجًا والذي ترك ورائه أي افتراضات حول "الطبيعة البشرية" وغيرها من الصفات الجوهرية المفترضة للذات الإنسانية، مركزًا بدلًا من ذلك على استكشاف عمليات وديناميات المجتمع الرأسمالي بشكل علمي وبنيوي ما أنتج بديلًا نظاميًا للبراديم السابق. على العكس، رأى آخرون أن ماركس كان من أكثر الكتاب بلاغة عندما يتعلق الأمر بقدرة الإنسان على التحكم في الطبيعة والقدرات التخيلية والإبداعية للإنسان، حتى أن بعضهم انتقد الروح الانتصارية المبالغ فيها وربطها بروح المستعمر الأوروبي[33].

ليس بعيدًا عن هذا الارتباك، هناك عدم توافق حول العلاقة بين الأيديولوجيا من جهة والعلم والمعرفة من جهة أخرى. فعلى الرغم من وضوح تبني ماركس نفسه لتفريق صارم بين الأيديولوجيا كوعي زائف، وبين العلم كطريق لإنتاج معرفة موضوعية على الأقل كما يقترح ألتوسير. إلا أن معتنقي التقاليد اللينينة من جهة أخرى، كجاك رانسيير زميل ألتوسير، يقدمون رؤية مختلفة لطبيعة العلم الحديث كظاهرة مرتبطة بشكل تكاملي بالأيديولوجيا: "فالنظريات العلمية تنتقل وتنتشر من خلال خطاب وتقاليد ومؤسسات تؤسس لوجود الأيديولوجيا البرجوازية...وأنه من خلال هذه الأيديولوجيا المهيمنة تصبح النظرية "العلمية" مادة للمعرفة"[34]. هذا الاتجاه كان قد انتقده جاريث ستيدمان جونز (Gareth Stedman-Johns) في أعمال جيورجي لوكاش (Gyorgy Lukacs) الذي اتهمه بأنه من أوائل "أعداء" التقاليد العلمية في الفكر الماركسي، بل مثّل الانفجار الرئيسي الأول في كتابه التاريخ والوعي الطبقي للتقاليد الرومانسية المعادية "للعلم" كجزء من الفكر البرجوازي في النظرية الماركسية. يعبر جونز عن دهشته حول توصل لوكاش إلى قلب طرق التفكير في كل من العلم والوعي، موضحًا: "أصبح العلم كجزء من الأيديولوجيا البرجوازية مجرد تعبير عن وجهة نظر طبقة معينة، بينما أعطى (لوكاش) وعي البروليتاريا مكانة موضوعية". أدى ذلك كما يرى جاريث إلى مفهوم عال النسبوية للمعرفة، وإعطاء مكانة كونية وموضوعية لذات الطبقة العاملة"[35].

أي أن ما تم نمذجته هنا قيميًا، هو "وعي الطبقة العاملة" في إطار من التراتبية الاقتصادية. هنا أيضًا طور هذا النموذج مسارين مسار المزج ومسار القياس. والمقصود بمسار المزج هو وضع أي خبرة اضطهادية لأي جماعة في أي مجال من مجالات الحياة في إطار التراتبية الاقتصادية وعلاقات رأس المال، بما في ذلك الخبرات الاضطهادية الجندرية، العرقية،...إلخ. بينما على سبيل القياس، أصبح وعي الطبقة العاملة بالطبقية والتراتبية الاقتصادية المرجعية الأخلاقية والمعرفية التي يقاس عليها كل أنواع الاضطهاد. إلا أن هذا المسار الثاني سيمثل نقطة تحول بعيدًا عن التراتبيات الاقتصادية والطبقة العاملة ومركزيتها لليسار بشكل عام.

 تعرض اليسار لعدد من التقاطعات الفكرية والواقعية خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بدأت بالدفع بتياراته بعيدًا عن الثقة في أسسها المعرفية والحركية بشكل عام. واقعيًا مثلت أحداث باريس 1968 التي ظهرت فيها الحركات العمالية بمظهر الخائن أمام باقي الحركات الاجتماعية صدمة لمعتنقي نموذج "معايشة الاضطهاد كأساس للمعرفة" خاصة الاضطهاد الاقتصادي، وبداية تشظي هذه الحركات وراء مطالبات مختلفة رافضة للوعي الطبقي كمرجعية ورؤية كلية تنطوي تحتها أنواع وخبرات الاضطهاد المختلفة من الأعمال الفكرية التي سرعت هذا التحول مساهمات لاكلاو وموف، واللذان استهدفا بشكل أساسي ربط الاضطهاد بالطبقة الاقتصادية حصرًا ومركزيتها في اليسار، لتستبدل بهويات وخبرات مختلفة: المرأة، والمثليين، والنباتيين، وأصحاب البشرة الملونة، وغيرها من الهويات والتي عرفت بالحركات الاجتماعية الجديدة في وقتها.

في هذا السياق، لا يمكن تجاهل تأثير جرامشي المفكر اليساري، الذي أكسب البعد الثقافي أهمية في تحليل علاقات الاضطهاد، بل جعلها سابقة على البنية المادية، ما ساهم في تحرير الحركات اليسارية من هيمنة وعي الطبقة العاملة. إلا أن إعلاء هذا البعد الثقافي كان له أثر آخر لا يقل أهمية، وهو العمل كجسر نحو المدارس التفكيكية وما بعد البنيوية.

هذا التفتت لليسار كان مقدرًا له الدخول في جولة أخرى من الذوبان هذه المرة في ما بعد البنيوية، والتي لا تكتفي برفض العلم الحديث ومنهاجياته التي تزعم الوصول الى حقيقة موضوعية، بل ترفض وجود حقيقة مستقلة خارج الخطاب طبقًا لفوكو أو خارج النص طبقًا لدريدا. وبالتالي فإن مجرد تفكيك الافتراضات العلمية والمعرفية السائدة في سبيل التعبير عن وعي بديل يفترض أنه أكثر موضوعية، لم يصبح اختيارًا متاحًا في ظل ما بعد البنيوية ببساطة؛ لأن الوعي الطبقي، أو النسوي، أو العنصري، أو أي خبرة جماعية أخرى أصبحت عرضة وهدفًا للتفكيك بدورها في سبيل التعبير عن خبرة خاصة سائلة وغير مستقرة لذات لا يمكنها إدراك أي حقيقة، بل الأهم حقيقة نفسها وطبيعتها. وبالتالي لم يعد من الممكن إضفاء الكونية والموضوعية على أي خبرة إنسانية كما فعل لوكاش مع الطبقة العاملة، بل ما أصبح كونيًا و"حقيقيًا" طبقًا لهذا التيار هو التفكيك فقط. فكونية التفكيك والتي تبدو عبارة غريبة أصبحت افتراضًا معرفيًا لا يقبل الشك!

باختصار، انطلق ما يمكن وصفه بالاستكبار القيمي اليساري من أرضية علمية وضعية تنافس الليبرالية العقلانية، قبل أن ينقلب عليها في سبيل وعي الطبقة العاملة وقدرتها على كشف زيف الأيديولوجيا البرجوازية بما في ذلك "العلموية"، مرورًا بنمذجة وتعميم هذا الوعي الطبقي للاضطهاد ونقله لجميع التراتبيات كأساس للمقاومة المعرفية والحركية، ومن ثم تفتت هذا الوعي وتشظيه في ما عرف بالحركات الاجتماعية الجديدة المستقلة عن الوعي الطبقي والتراتبيات الاقتصادية وإعلاء البعد الثقافي الذي لم يصمد كثيرًا حتى أصبح جسر لنسبوية وسيولة معرفية. وأخيرًا ذوبان هذه التيارات في ما بعد البنيوية وتفكيك أسسها بنفسها وسقوطها في يد التمرد الفردي على كل حدود المعرفة والقيم كنوع من أنواع البطولة والخروج عن المألوف من حدود بين الأشياء والأنواع.

أي أن ما بدأ كمشاريع جماعية وجماهيرية تزعم لنفسها أرضية معرفية وقيمية صلبة آل إلى مجرد ممارسات تمردية فردية تتوجس من أي أسس معرفية وقيمية للحشد لأي عمل جماعي. بل إن التمرد على كل ما هو جماعي أصبح هدفًا لتلك التيارات. فالمشاريع الجماعية أصبحت نوعًا من أنواع الاستبداد؛ كونها تتجاهل أو تلغي حق كل فرد في معايشة معاناة خاصة به. هكذا آل حال من اعتقد بقدرة "الجماهير" على كشف الوعي الزائف وإصلاح وتصحيح حركة التاريخ، وقدرتها على رسم الحدود حول الطبقات والأنواع الاجتماعية بكثير من الحدة و"الغيرة"...إلى خسارة أي معنى للقيم والمعرفة ورفض الأنواع والحدود بينها.

ربما من المفيد التركيز على أحد أهم تيارات الهامش لتصور هذا المآل بوضوح. والمقصود هنا النسوية، التي لم تتخلف عن معايشة تحولات اليسار وهامشه حتى أصبحت تقود تحولاته منذ عقود بجانب ما بعد الكولونيالية. في حديثه لمجموعة من النسويات، يُنقل عن دريدا الآتي: "في سياق بنية الامتيازات الذكورية الأوربية لتركيب المعنى، يكون جانب النساء هو الجانب الذي تبدأ من خلاله بتفكيك هذه البنية...ولكن حالما تكمل الخطوة الأولى (التفكيك)، تفقد المقابلة بين "الرجال" و"النساء" أهميتها...لذلك نحتاج أن نجد طريقًا للتقدم استراتيجيًا"[36]. في الحقيقة لم تجد النسويات ذلك الطريق للتقدم استراتيجيًا، بل كان مآلها مثل باقي الحركات اليسارية "تمردٌ فرديّ" وتضحية بالبعد الحركي السياسي للنسوية على طبق من ذهب للمنظومة الليبرالية التي تفضل "المقاومة" الفردانية منزوعة التسييس.

مثّلت مساهمات جوديث بتلر النسوية السحاقية رافدًا أساسيًا لقيادة النسوية، ومعها التيارات الهامشية نحو مستوى أكثر انحطاطًا في تعاملها مع الحقيقة والقيم؛ حيث انتقدت بتلر زميلاتها من نسويات ما بعد الحداثة اللاتي شاركناها رفض التعامل مع "النساء" على المستوى الوجودي؛ إلا أنهن يرون الحديث عن "النساء" كصنف اجتماعي استراتيجية مناسبة على المستوى السياسي دون أي التزام بالسلامة الوجودية (Ontological integrity) كما يصفونها. اقترحت بتلر أن هذه "السلامة الوجودية" ينبغي أن تكون محط التبديد والتفكيك للممارسة النسوية، والتي ينبغي أيضًا أن تبحث لها عن نقطة انطلاق قيمية أكثر تقبلًا للهويات الجندرية المختلفة مما تقدمه ثنائية الرجال/النساء حتى على المستوى الاستراتيجي[37].

ومن ثّم شكّلت هذه الدعاوى للتحرر من ثنائية الرجل/المرأة على طيف الهويات الجندرية رافدًا أساسيًا بدورها لما يعرف الآن بنظرية المغايرة الجنوسية (Queer Theory). على الرغم من الحاضنة النسوية لنظرية الكوير؛ الا أنها ترتبط تلقائيًا بما يسمى بمجتمع الميم (LGBT) والذي أضيف إليه حرف (ـQ) ليعكس هذه الرغبة في التحرر والمغايرة الجنوسية على الرغم من مقاومة أولئك الذين يعرفون أنفسهم ككوير لهذا التضمين؛ حيث يرى هؤلاء أن هذا التضمين يعتبر نوعًا من أنواع التطبيع مع ما هو سائد بما في ذلك مجتمع الميم. تعتبر هذه النقطة من أهم النقط الخلافية بين ما يسمى بدراسات الـ(LGBT) ونظرية الكوير على المستوى الأكاديمي. فالثانية تنتقد الأولى؛ بسبب افتراضاتها المعرفية والوجودية القائلة بوجود ذات مستقرة تنتمي لهذه المجموعة (LGBT)، ومن ثم تنظر وتحلل لحصولها على حقوقها في المنظومة السائدة، بينما يرى أتباع نظرية الكوير أن التركيز ينبغي أن ينصبّ على عمليات تشكل ما هو عادي/غير عادي والحدود التي تفصل بينهما، وعدم الركون أو القبول بتصنيفات (إما/أو) ليس فقط على مستوى الجنوسة، بل على مستوى فكرة المعيارية والقيمية. انطلاقًا من نزع الاستقرار عن المعيارية والقيمية، وببصمات ما بعد بنوية واضحة، اهتم باحثي نظرية الكوير بتفكيك معان وحدود مختلفة في حقل العلاقات الدولية كالوطني والعابر للوطني، الداخلي والخارجي، بل والمسالم والعدائي، وغيرها[38].

3.     تقاطعات التعقد والتفكيك

قد يرى البعض أننا ذهبنا أبعد مما تتحمله أهداف هذا الجزء من البحث، إلا أن ذلك كان ضروريًا لتوضيح أن مآلات ما بعد الإنسانوية منطقية بل ومستحقة. فالمزج بين مآلات الاستكبار العلمي ومآلات الاستكبار القيمي لوهلة، يذكرنا بقول الله سبحانه وتعالى: ﴿بَلۡ كَذَّبُواْ بِٱلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمۡ فَهُمۡ فِيٓ أَمۡرٖ مَّرِيجٍ [ق: 5]. والمريج أي المضطرب والمختلط أو الملتبس والفاسد. وأصل المرج الاضطراب والقلق كما يقول القرطبي في تفسيره[39]. ويقول البغوي: من ترك الحق مرج عليه أمره والتبس عليه دينه، وينقل عن الحسن أنه قال: ما ترك قوم الحق إلا مرج أمرهم[40]. هذه حالة تتعدى وتتجاوز اللايَقِين (Uncertainty) والتي طالما كانت جزءًا من دراسة وممارسة العلاقات الدولية والعالم الاجتماعي بشكل عام، فالأمر المريج أقرب إلى التباس واختلاط واضطراب التصورات الوجودية والأسس المنطقية والعقلية للحجة والمحاجة القيمية. والحق الذي كفروا به هو وجود إله "يدبر الأمر يفصل الآيات" ومن ثم الاستكبار والاستقلال بنماذج علمية وقيمية لتدبير الأمر وتفصيل المعان والقيم وتبيينها.

فالاستكبار العلمي تجاوز "تدبير الأمر" بينما تجاوز الاستكبار القيمي "تفصيل الآيات"، وكانت مآلاتهما أنه من خلال الأول أصبح الإنسان مادة للتدبير من قبل بنية نظامية اخترعها، ثم تخيل لها سمات كالتنظيم الذاتي قبل أن يتنازل لها عن الفاعلية والتدبير، ومن خلال الثاني فقد الإنسان قدرته على التعامل مع التفصيل والتبيين الذي تظهر به المعاني، وبالتالي أصبح غير قادرٍ على فهم أو بناء حجة أخلاقية. فالأول اعتقد أنه قادر على نمذجة العالم من خلال ما يعتقد أنه تنظيرٌ كليٌ، لكنه نسي أن الكلي لا يمكن إلا أن يكون إلهيًا، قبل أن ينتهي به الأمر إلى تنظير نظامي علاقاتي غارقًا ومستغرقًا في جزئيات ذات بنية معلوماتية مجردة من ومنفصلة عن المعاني والقيم الكلية، بينما الآخر يعاني رهاب الحقائق الثابتة والمعارف المستقرة يعيش في متاهة من الكلمات وكلمات حول الكلمات. والمزج بين المآلين ليس مزجًا فكريًا على صفحات الدوريات العلمية، بل متمثلًا في الواقع يستهدف نزع الإنسانية ومقوماتها الفكرية والوجدانية، وربما كانت الكلمات التالية لديفيد شاندلر (David Chandler) في نقده لما يسمى بالمادية الجديدة والتي تمثل أحد التيارات المبشرة بمآلات ما بعد الإنسانوية توضيحًا لاضطراب تقاطعات التعقد والتفكيك:

"أن ثمن هذا الارتباط عال جدًا والجائزة زائفة، فهذه الارتباطات الجديدة ليست مع أناس حقيقيين مكافحين، أو منافسين، ليست مع زملاء أو رفاق حقيقيين، ولكنها مع عمليات غير معروفة، غير مرئية، معقدة، متداخلة، وارتباطية. هذه العمليات تخلق سلاسل سببية عابرة وتصادفية، في نفسها لا يمكن تتبعها كعلاقات سببية. أي أنها لا تعمل من خلال بنى مستقرة للمعنى. لذلك، هذه الارتباطات تعني أنه لا يمكننا أن نعمل في هذه العالم كذوات إنسانية... قادرة على فهم وتغيير العالم"[41].

هذه السلاسل الشاهدة على عشوائية العلاقات السببية ونزع استقرار المعاني ليست مجرد مجاز، بل واقع معاش في إطار ما يسمى بنماذج الشبكات العصبية الاصطناعية (ANN)؛ بوصفها قياسًا لبناء الشبكات العالمية الأمنية والاقتصادية أو من خلال إدماجها في تلك المجالات، أي على مستوى القياس ومستوى المزج مرة أخرى. وما الأول إلا تمهيدًا للثاني. هذه النماذج الشبكية الاصطناعية، وإن كانت ألهمتها الشبكات العصبية للدماغ خلال عقود من مغامرات الذكاء الاصطناعي والعلوم الادراكية، إلا أنها تنزع من الإنسان قدراته الإدراكية خاصة إدارة التصورات (Representations)؛ لتكون خاصية للشبكة والتي تدير ما يسمى بالتصورات الموزعة (Distributed Representations)[42]، من خلال آلية التنظيم الذاتي التي كنا قد أشرنا إليها سابقًا عند الحديث عن النظم المعقدة التكيفية. مع ذلك فالوضع مختلف في هذه الحالة؛ حيث إن الحديث ليس عن برنامج محاكاة تحت إشراف باحثين يضعون افتراضاته ويراقبون مخرجاته، بل عن بعد أساسي لشبكات هناك في الخارج تكاد أن تشكل "عصب" المجتمعات والعلاقات بينها. أي أن هذه الشبكات تمثل بشكل متزايد أحد المسارات المحتملة لعالم ما بعد الإنسانوية الذي يتشكل من مجتمعات هجينة بين الذكاء الاصطناعي والإنساني؛ بحيث تكون إدارة التصورات ومحتواها حقًا للعناصر الاصطناعية في الشبكة، وليس لتلك الإنسانية التي تفقد تدريجيًا قدرتها على إدارة تصوراتها القيمية والوجودية لصالح آلية التنظيم الذاتي التي تدير "تصورات شبكية"، بمعنى تصورات حول حل مشاكل (Problem-Solving) عمل الشبكة والارتباط بها. ما يجعل الفرد أو المجتمع مجرد منصة لا تملك إلا أثرة من معنى وتصورات (موزعة) تعمل عليها تعديلات أوزان الارتباط وبناء الأنماط الشبكية.

والعلوم الاجتماعية الغربية اليوم لا تملك إلا مجاراة الواقع، ولن تدركه، لتذوق مآلات ما بدأته أو على الأقل بررته. فمشاكل الواقع أصبحت تحل هناك في الواقع من خلال تلك النظم الهجينة المدمج فيها خوارزميات لحل مشاكلها الشبكية. ومن ثم؛ فإن مغامرات المحاكاة الحاسوبية في المختبرات الأكاديمية ستصبح بشكل متزايد أقل أهمية. وإن عادت إلى الكليات للتأمل والتبصر، فقد ادّارك علمها في مفهوم النظم الذي لا يلبث أن يتعقد أو يتفكك أو كلاهما معًا. بمعنى آخر، فقدت العلوم الاجتماعية القدرة على التنظير والتأمل من جهة، ومجاراة الواقع في حل مشاكله من جهة أخرى.

ثالثًا: منصة التكليف السياسيّ: أداةً للمقاومة واستنقاذ الفاعلية الإنسانية

في السياق الإسلامي يبدو مفهوم التكليف مناسبًا لبناء نموذج لفاعلية إسلامية تتميز بالقدرة على التعامل مع الارتباك التشابكي لرؤى التعقد، من خلال ارتباط التكليف بالعبادة والتوحيد أي الارتباط بالله سبحانه وتعالى من جهة، والتعامل مع تفتيت الذات من جهة أخرى؛ على اعتبار أن التكليف يعلي من قيم المسؤولية الأخلاقية التي تتطلب ذات مستقرة قادرة على استجماع قدراتها الفكرية والوجدانية حتى تكون مسؤولة عن أفعالها.

عطفًا على ذلك، فإن التكليف يقع في موقع يسمح بالتبصر في الارتباط بين التصورات الإسلامية الوجودية والقيمية وبين مسالك ملاحظتها في الواقع. ذلك أن للتكليف وجه وجودي يرتبط بالتوحيد الذي لولا اليقين والتصديق به؛ لما تحمّل العبد ما فيه من مشقة ولما سخر فاعليته نحو التمتع بحقائقه ومآلاته في الدنيا والآخرة. وللتكليف وجه قيمي بلا شك، كونه منصة حمل الأحكام الشرعية وجلب المصالح ودرء المفاسد؛ إلا أن إجراء هذا كله في الواقع يتطلب النظر في حالة علم المكلف وقدرته وسلامة فاعليته مما قد يعتريها من عوارض وموانع. بالإضافة إلى النظر في مصادر تلك العوارض إن كانت سماوية أم كسبية، فإن كانت كسبية فهل هي من كسب العبد أم من غيره؟ كالإكراه وأنواعه ومساراته ومستوى المشقة الناتج عنها، وهل هذه المشقة مما يعذر بها العبد؟

والتكليف هو إلزام ما فيه كلفة كما قال إمام الحرمين، أو الأمر بما فيه كلفة أو النهي عما في الامتناع عنه فيه كلفة كما قال (القاضي)، وقال الماوردي في "أدب الدنيا والدين": "الأمر بطاعة والنهي عن معصية ولذلك كان التكليف مقرونًا بالرغبة والرهبة"[43]. وفي الموافقات يقول الشاطبي: ".. لأن العرب تقول: "كلفته تكليفًا" إذا حملته أمرًا يشق عليه وأمرته به...فمثل هذا يسمى مشقة بهذا الاعتبار لأنه إلقاء بالمقاليد، ودخول في أعمال زائدة على ما اقتضته الحياة الدنيا"[44].

ولما كانت المشقة ليست مقصودة في نفسها، بحث الأصوليون في أهلية المكلف والعوارض التي قد تعتري قيامه بالتكليف والتزامه بالأمر والنهي الإلهيين كالمرض، والنسيان، والجهل، والسفر، والإكراه مما قد يعترض علم المكلف وقدرته على القيام بالتكليف. ذلك أن التكليف إذا شق على المكلف كان سببًا في التخفيف عنه. فإذا عجزت قدرات المكلفين وطاقاتهم عن شيء مما كلفهم به الشارع انتقل بهم إلى الحد الذي ينتفي معه العجز وتتحقق القدرة[45].

هذه الصورة التي تفترض العزيمة ابتداءً ومن ثم ظهور عوارض، بمعنى ظهور أمر مؤقت يصد المكلف عن المضيّ على ما كان فيه وصولًا إلى الترخيص والتخفيف، تمثل صورة بديهية للمسلم الذي عاش في سياق إسلامي تتحالف فيه علوم وقدرات المجتمع لتمكين أفراده من أداء التكاليف الشرعية. إلا أن هذا ليس ما نحن فيه، وذلك لطبيعة المجال محل النظر، أي المجال السياسي؛ الذي يتسم بمستوى أعلى من العوارض والموانع، وكذلك التأسيس القيمي والفكري والقانوني لتلك العوارض التي جعلت منها تحولات لا تصد المكلف عن المضي والسعي على ما كان فيه فقط، بل قد تنتقل به لطريق آخر، لوجهة أخرى، ولمقصود آخر. تحولات تصب في فك الارتباط بين الإنسان وفاعليته وسعيه وبين التكليف الإلهي. تحولات في العلم ومصادره، ومحتواه واتجاهاته، تحولات في أنواع القدرة وتشكلاتها وتبرير استخداماتها، وتحولات في منطلقات العزم ومقاصده وإمكاناته.

لذلك كان من الضروري استعادة كل من العلم والقدرة والعزيمة ليس كشروط للتكليف يمثل غيابها تبرير دائم لتوجيه الموارد بعيدًا عن المقاصد الدينية، بل كمقومات لفاعلية إسلامية مستحقة للرعاية والحراسة. في هذا الجزء من البحث أقترح استخلاص نموذج أو منصة للفاعلية الإسلامية في السياسة الدولية من معاني التكليف ومقوماته، قد تشبه نماذج الفاعلية الغربية التقليدية في تقسيماتها، إلا أنها أكثر ثراءً بالمعاني وأرحب مساحة لتتبع الأسباب. تجريديًا، تقسم المنصة إلى جانبين: الأول يحمل مقوم العلم والآخر يحمل قوة التأثير (علم + قوة تأثير)، والتي تقسّم بدورها إلى قدرات مادية وعزم لتكون كالتالي:

فيما يلي، أحاول استخلاص بعض معاني التكليف من شروطه ونثرها على منصة التكليف السياسي. إلا أنه من المهم في هذا السياق الإشارة إلى أنني لا أزعم القدرة أو الرغبة في التكييف الأصولي لإعادة النظر في العلاقة بين العلم والقدرة والعزيمة ومحلها من التكليف والأحكام الشرعية، لكن باعتباري باحث علاقات دولية مسلم، أتساءل في هذا الجزء من البحث عن إمكانية استخلاص موارد فكرية ووجدانية من مفهوم التكليف وما يحيط به من معاني العلم، والقدرة، والعزيمة نحو بناء نموذج لفاعلية إسلامية في السياسة الدولية.

1.     العلم

 في كتب الأصول يمثّل كل من الجهل والنسيان عوارض للعلم. يتداخل تعريف النسيان مع معانٍ قريبة بل قد تكون مترادفة كالسهو مثلًا. يرى أغلب أهل اللغة والفقهاء والأصوليون أنه لا فرق بينهما، بينما فرّق البعض بينهما كالآتي: السهو هو زوال الصورة عن المدركة مع بقائها في الحافظة، والنسيان زوالهما عنهما معا. وقيل: النسيان عدم ذكر ما كان مذكورًا، والسهو غفلة عما كان مذكورًا وما لم يكن مذكورًا. وعرّف البعض النسيان بأنه عدم استحضار الشيء وقت الحاجة، أو عدم تذكر الشيء وقت الحاجة إليه[46].

تقترح هذه التعريفات أن حالة النسيان أكثر استدامة من حالة السهو، فالسهو قصير المدى بالضرورة بينما النسيان قد يكون مقدمة لإعادة تنظيم المعارف والأفكار والاهتمامات، أي قد يكون حالة تتوسط الانتقال من معارف قديمة إلى معارف جديدة، أو من علم إلى جهل، أو من مقصود إلى مقصود آخر. فقد (يسهو) العبد عن صلاة المغرب مرة أو مرتين في عمره كله حتى يخرج موعدها، إنما إن تكرر ذلك كثيرًا فهذا قد يعني أنه (نسي) أهمية الصلاة، ونسي مقصودها، وفقد العزم على مباشرة أسباب تذكر التكليف الأهم، أي الصلاة. بهذا المعنى يقترب السهو من العوارض السماوية بينما يقترب النسيان من العوارض الكسبية سواءً أكانت من كسب العبد أو من غيره، ألا ترى أن ذبول الذاكرة الجماعية أحد عوارض الإدماج الثقافي والاجتماعي في السياسة الدولية؟ ألا ترى الموانع والقيود الدولية على مباشرة أسباب التذكر؟ ألا ترى الموانع والقيود على استخلاص الموارد الفكرية وحشدها لتثبيت صورة المقصود والعزم على الوصول إليه؟ وبالتالي من المفيد التفكير في النسيان كحالة وسيطة بين العلم والجهل، فالنسيان بهذا المعنى أشبه بحالة من عدم الشعور بالشيء مقدمة للشعور بالشيء على خلاف حقيقته.

والتفاعلات السياسية بشكل عام والسياسية الدولية المعاصرة بشكل خاص من أشد التفاعلات طلبًا للنسيان، وتبديل المعارف، والخضوع لذاكرة الآخر، والركون لصورة الذات في مخيلته. فالنسيان إذن ليس علامة على الانتقال بين مراتب العلم إلى الجهل فقط، بل في السياق السياسي والثقافي قد تكون علامة أيضًا على الانتقال من الاستقلال إلى التبعية والركون وفقدان العزم على السعي نحو القيام بالأمر والنهي الإلهيين، أي نحو القيام بالتكليف.

يقدم الإمام الجويني في كتابه "الغياثي" صورة بديعة وحزينة لنسيان العلم وتفكك العلاقة بينه وبين "التكليف السياسي" بل والتكليف بشكل عام؛ حيث وضع التكاليف السياسية على طيف من مستويات العلم، وليس القدرة أو الشوكة فقط. طيف يبدأ بالإمام المجتهد وينتهي بخلو الزمان عن أصول الشريعة. بعد الحديث عن الإمامة ومهامها وجهات نصبها ومن ثّم صفات الإمام ومنها المكتسبة والتي حددها في العلم، التقوى والرأي. انتقل الجويني للنظر في حال انخرام الصفات المعتبرة في الأئمة ومن ثم في خلو الزمان عن "الكافة ذوي العرامة وعمن يستحق الإمامة"، قبل أن ينتقل إلى تقدير حال انقراض حملة الشريعة والتي قسمها لمراتب: الأولى: اشتمال الزمان على المفتين المجتهدين، والثانية: خلو الزمان عن المفتين المجتهدين، ولكن "لم يعر الدهر عن نقلة المذاهب الصحيحة عن الأئمة الماضين".

في الثالثة لا يخلو الدهر عن المراسم الكلية، ولا يعرى الصدور عن حفظ القواعد الشرعية، وإنما يعتاص التفاصيل والتقاسيم والتفريع ولا يجد المستفتي من ينص على حكم الله في الواقعة على التعيين. هنا يرى الجويني أن "...تبقية ربط الشرع على أقصى الإمكان نظرًا إلى القواعد الكلية أصوب من حل رباط التكاليف لمكان استبهام التفاصيل..."[47]. وأنه إذا عسر مدرك التفاصيل في التحريم والتحليل فينبغي الاعتناء بما يحل ويحرم في الأجناس فإنه لا يخلو واقعة عن حكم الله تعالى على المتعبدين فيها. يربط الإمام الجويني هذا النظر الكليّ في الوقائع بالنظر في المكاسب التي ينهي بها حديثه عن المرتبة الثالثة، متوقعًا لحظة فرض الاختيار بين النفاذ إلى المكاسب التي يعرفها بالمصالح الدنيوية من المطاعم، والملابس، والمنازل وطرق اكتسابها وبين الإبقاء على القواعد الشرعية، مؤكدًا على أهمية ضبط العلاقة بين القواعد الشرعية وبين المصالح الكلية من خلال الكلمات التالية: "فلسنا ننكر تعلق مسائل الشرع بالمصالح، ولكنها مقصورة على الأصول المحصورة، وليست ثابتة على الاسترسال في جميع وجوه الاستصلاح ومسالك الاستصواب[48].

ينتقل بعد ذلك الإمام الجويني إلى المرتبة الرابعة وهي خلو الزمان عن أصول الشريعة بعد انحلالها وانقراض حملتها ورغبة الناس عن طلبها وإضراب الخلق عن الاهتمام بها، هي مرتبة انطواء الشريعة وانطماس شرائع الإسلام واندراس معالم الأحكام. فإذا انتفت فروع الشريعة وأصولها، ولم يبق معتصم يرجع إليه ويعول عليه، انقطعت التكاليف عن العباد، والتحقت أحوالهم بأحوال الذين لم يبلغهم دعوة ولم تنط بهم شريعة[49].

حتى لا ينقطع التكليف أو على الأقل لا نكون ممن يشهد انقطاعه نحن ولا أبناؤنا أو أحفادنا؛ كان من المناسب أن يكون التكليف جوهر نموذج الفاعلية الإسلامية، خاصة في السياسة الدولية التي تمثل القنوات الرئيسة للتجهيل بالتكاليف الشرعية ونسيانها. والمفارقة أنها أيضًا تمثل قنوات النفاذ إلى المكاسب الرئيسة من ملبس ومأكل ومنزل. هي إذن، أعني السياسة الدولية؛ محل فرض الاختيار بين النفاذ إلى المكاسب، وبين مباشرة أسباب تذكر المآخذ والقواعد الشرعية للمصالح الكلية التي تحفظ التكليف والخضوع إلى الأمر والنهي الإلهيين. لذلك كان التكليف في السياسة الدولية تكليفًا من تكليف، فهو تكليف بحراسة العلم والعزم وبناء القدرات لحفظ الدين على أهله، وتكليف سياسي لحفظ التكليف في العبادات والمعاملات، وتكليف بمقاومة تفكك العلاقة بين الأمر الإلهي والفاعلية الإنسانية. والموانع والقيود على هذا التكليف سواء استهدفت القدرة أو العزم أو العلم ليست عوارض مؤقتة _كما ذكرنا_ فهي ليست نومًا أو نسيانًا، بالمعنى البسيط، بل تحولات فكرية عميقة تعيد إنتاجها آليات مؤسساتية وشبكية عابرة للحدود. وإذا كانت الموانع والقيود على التكليف كليّة، كذلك ينبغي أن يكون النظر في مقومات التكليف من علم وعزم وقدرة.

في كتابه "الكليات التشريعية وأثرها في الاجتهاد والفتوى"؛ ذكر محمد هندو عددًا من إطلاقات وصف الكلية عند الفقهاء والأصوليين (استقلالًا عن المعنى المنطقي) حصرها في خمسة: الحقائق الشرعية الكلية والتصورات الإسلامية والسنن الإلهية، والأدلة الكلية، والأحكام الكلية، والقواعد الكلية، والمقاصد الكلية. ينتهي الدكتور هندو إلى الجمع بين كل من الأحكام الكلية والمصالح الكلية كونهما متداخلان بشكل كبير وكذلك أفعل هنا مع التصورات الإسلامية والسنن الإلهية؛ حتى تنتظم الكليات في مستويين:

-      تصورات وجودية كليّة تضم الحقائق الشرعية الكلية والتصورات الإسلامية والسنن الإلهية.

-       وتصورات قيمية تضم الأحكام الكلية، والمقاصد الكلية ومكملاتها، وما في معناها من الحكم، والمصالح والمناسبات[50].

على أن تشكل هذه التصورات بمستوييها الاثنين مقوّمًا للعلم فيما سمّيناه بمنصة التكليف في السياسة الدولية والتي تتضمن بالإضافة إلى مقوم العلم، كلًّا من مقوميّ القدرة، والعزم كعناصر لقوة التأثير. كما ومن الضروري في هذا المقام التأكيد على هذا التفريق في مقوم العلم بين مستوى التصورات الوجودية الأكثر عمقًا والتي تحمل بدورها التصورات القيمية، ولكل منهما دوره في نموذج الفاعلية الإسلامية والمعرفة التي يمكن أن ينتجها هذا النموذج كما سيأتي تفصيله.

على مستوى التصورات الوجودية يمكننا الاستئناس بما قدمه بنتلي إلين (Bentley Allan) في كتابه "الكونيات العلمية والنظم الدولية"، والذي حاول من خلاله تتبع العلاقة بين الرؤى الكونية العلمية والنظم الدولية، متتبعًا الآليات السببية والخطابات التكوينية التي عبرت من خلالها هذه الأفكار من المجال العلمي الى المجال السياسي الدولي. بشكل مختصر، يوضح إلين أن الرؤى الكونية تنسج مفهومها عن المعرفة وعن الوجود في سرديات أوسع من المجال الدولي، حول أصل وعمل/إدارة الكون، فالكونيات تتكون من عدد الأفكار حول:

-      الوحدات الأساسية للمادة، القوى التي تحكمها، وتصنيفات تمثيلها.

-       طرق وإجراءات إنتاج معرفة يمكن الاعتماد عليها أو حقيقة حول الكون.

-      طبيعة واتجاه الزمن.

-      أصول وتاريخ الكون.

-      موقع ودور البشرية في هذا الكون[51].

هذه التصورات الوجودية ليست مجرد محل نقاشات فلسفية، بل تعمل على تعريف الأهداف السياسية من خلال تقديم سرديات لموقع البشرية ودورها في الكون؛ مقترحة الغايات التي ينبغي أن يسعى نحوها الفاعلون السياسيون[52]. ولا شك أن التوحيد يمثل المفهوم الأساس لترتيب تلك الأفكار وتنظيمها في تصورات وجودية تشمل موقع ودور البشرية في الكون وأصوله وتاريخه، واتجاه الزمن وطبيعته، والتي تشكل جميعها الأساس العقدي للتعامل مع الواقع وفهمه وإنتاج معرفة حوله.

والكليّات ما هي إلا تصورات قيميّة أسست على معرفة وجودية في جوهرها التوحيد والخضوع والعبادة لله سبحانه وتعالى، سواء اتخذت شكل الأحكام أو المصالح والمقاصد ومن ثم فإن استدعائها يتعدى الوظيفة الإنشائية التشريعية بالمعنى الفني الضيق، بل لها أبعاد وجودية بالإضافة إلى تلك القيمية تتمحور حول الحفاظ على رباط التكليف وفهم العالم من خلاله. أي أنها تحافظ على السردية القيمية الكلية الإسلامية من خلال غزل جزئياتها معًا، إما بالشهود للعلية الجامعة أو من خلال إدراج الجزئيات المعاصرة في كلياتها مباشرة، وبالتالي تصنيف وترتيب وتنظيم الأحداث والوقائع في سردية قائمة على التصورات القيمية والوجودية الإسلامية وما تقدمه من أجناس للأحكام والمصالح والسنن الإلهية.

من المهم هنا التذكير بأن أهداف هذا البحث نظرية/منهاجية، وبالتالي لا يتوقع القارئ تقديم محتوى للتصورات القيمية الإسلامية، بل من المناسب أن يترك ذلك لمساهمات مستقبلية تقدم تلك التصورات مستفيدة من الأرضية النظرية والمنهاجية التي يحاول هذا البحث تطويرها. بالعودة إذن إلى منصة التكليف السياسي، وبعد تفصيل مقوّم العلم إلى تصورات وجودية وتصورات قيمية، يمكن التعبير عن هذه المنصة كالتالي:

2.     القدرة

تمثل القدرة عنصرًا بديهيًا لأي مفهوم للفاعلية، بل إن كثيرًا من أدبيات العلاقات الدولية يقصر مفهوم الفاعلية على القدرة مستخلصًا المصلحة منها، وهذا بلا شك أحد مداخل الانحدار بالفاعلية الإنسانية نحو محيطها المادي. في المقابل يرفع الإسلام الإنسان من خلال ارتباطه بحبل الله وإذعانه الاختياري وإخضاع مقومات فاعليته لله سبحانه وتعالى. وهذه الرفعة تحتاج ما يحرسها حتى لا ينزلق الإنسان من هذه المكانة نحو السفول الذي تنبئ وتحتفل به التيارات ما بعد الإنسانوية.

ذلك أنّ العلم بالتصورات الوجودية والقيمية الإسلامية ووظيفتها في وضع الجزئيات وإدراجها في معانيها وقيمها الكليّة، والعزم على إنزال الأحكام القيمية على تمثلاتها الواقعية؛ يتطلبا القدرة على نقل هذا المجهود الفكري والوجداني للعالم الخارجي والتأثير فيه. من جهة أخرى، فإن إعداد القوة والقدرة يتطلب علمًا وعزمًا، أي علمًا بالمقصود يخلق عزمًا وصبرًا على تحمل تكلفة توجيه الموارد لبناء القدرة ووسائلها. والتي بدورها، حين بلوغها مستوى يحقق الردع لمن يتخذ من الإسلام وأهله أعداءً، تساهم في حفظ الدين على أهله وتخفض تكلفة اختيار الالتزام بالقواعد والمآخذ الإسلامية القيمية عند السعي للمكاسب الدنيوية. بكلمات أخرى، كما أن الأبعاد الفكرية والوجدانية ضرورية لبناء القدرة وأسباب التأثير في السياسة الدولية، كذلك تمثل القدرة المادية بأنواعها العسكرية والاقتصادية عاملًا ضروريًا في حفظ تلك الأبعاد للفاعلية الإسلامية في السياسة الدولية.

إلا أن العلاقة بين القدرة والفاعلية ومعالجتها في بعض الأدبيات الإسلامية ليست بديهية. فالمقاربات الكلامية للتعامل مع مواضيع التكليف جنحت بها بعيدًا عن تطوير رؤى ومفاهيم أكثر قابلية للتأثير والتشغيل، بل والفهم لخدمة حركة المسلمين في الواقع خاصة في المجال السياسي وبشكل أخص في السياسة الدولية. بخلاف ذلك، عند الرجوع إلى القرآن تجد الأمر بإعداد القوة ودوره في حفظ الدين بديهي وواضح ومباشر: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60]. والإعداد هو التهيئة والإحضار قدر الاستطاعة والوسع كما ترشد وتطلب الآية. وكما في قول الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ...﴾ [البقرة: 286]، يقول ابن عاشور: والوسع هو الطاقة والاستطاعة، والمستطاع هو ما اعتاد الناس قدرتهم على أن يفعلوه إن توجهت إرادتهم لفعله مع السلامة[53].

ينقل ابن عاشور في تفسيره خلاف المعتزلة والأشاعرة حول ما عرف بالتكليف بالمحال والتكليف بما لا يطاق؛ حيث قالت المعتزلة يمتنع التكليف بما لا يطاق وقالت الأشاعرة يجوز على الله تكليف ما لا يطاق. يشير ابن عاشور إلى أن الذي جر إلى الخوض في المسألة، هو المناظرة في خلق أفعال العباد، وما ارتبط بها من الخوض في قدرة العبد لحصول المقدور وموقع القدرة من الفعل هل هي قبله أو معه. وهذا كله إن توغلنا فيه، على الأقل على طريقة المتكلمين، لحُرمنا الاستفادة من المعان والمفاهيم الإسلامية في تطوير رؤية للفاعلية الإسلامية تتسم بالحركة والتأثير في الواقع. مع ذلك يمكن الاستفادة من تقسيم القدرة بين قدرتين: القدرة بمعنى سلامة الآلات وصحة الأسباب، والقدرة بمعنى قوة التأثير[54].

طبقًا لهذا التمييز بين مستويي القدرة؛ يمكننا فهم معنى الإعداد والتهيئة والإحضار للقوة في الآية الكريمة: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ ...﴾ [الأنفال: 60]. فالاستطاعة والسعة هنا ترتبط بسلامة الآلات وصحة الأسباب أي سلامة وسائط حصول المطلوب، بينما يمثل الإعداد تحويل واستجماع وتوجيه وحشد هذه لتكون قوة تأثير. ولا مبالغة إن قلنا بأن الحركة بين هاتين القدرتين تمثل جزءًا كبيرًا من الفاعلية في السياسة الدولية. هذه حركة اتباع الأسباب لتحويلها إلى قوة تأثير وليست كل المجتمعات جادة في هذه الحركة، وهذا الاختلاف بدوره يمثل أحد مصادر اختلاف مستوى القدرات بين الدول وقوة تأثيرها في السياسة الدولية.

مع ذلك تظل هذه الحركة من مجاري العادات في السياسة الدولية؛ لذلك لم يكن الأمر باستخدام القدرة للامتثال للتكليف كما في كثير من التكليفات الأخرى بل إعدادها وتهيئتها ورعايتها. ورغم أنّ هذا يتطلب مستويات أعلى من المشقة؛ إلا أنه لا يخرج عن مستوى المشقة المعروف في السياسة الدولية: ﴿وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبۡتِغَآءِ ٱلۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ يَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرۡجُونَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 104]. فالروس يبتغون الأوكرانيين والأوكرانيون يبتغون الروس، والولايات المتحدة ترعى الآلات والأسباب لردع الصين، والصين كذلك لردع الولايات المتحدة. أما أن ينظر مجتمع ما في مستوى قدراته بمعنى قوة التأثير ثم لا يجدها كافية، أو لا يجدها، ويركن إلى الرخصة والأعذار، فهذا قلّ ما يوجد في السياسة الدولية، على الأقل ليس بين الأمم الجادة في الحفاظ على ما لديها مما تراه ذو قيمة، ما تراه يستحق الدفاع عنه. والمجتمعات المسلمة أحق باتباع الأسباب لأن حفظ ما لديها، أي دينها، لا تماثله قيمة.

 يقول السعدي في تفسير آية ﴿فَأَتۡبَعَ سَبَبًا [الكهف: 85]: أي استعملها على وجهها، فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكه، ولا كل أحد يكون قادرًا على السبب، فإذا اجتمع القدرة على السبب الحقيقي والعمل به، حصل المقصود، وإن عدما أو أحدهما لم يحصل[55]. بينما يفرق ابن عاشور بين المقصود بالسبب في قوله تعالى: ﴿وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا [الكهف: 84]، وقوله: ﴿فَأَتۡبَعَ سَبَبًا [الكهف: 85]، فيقول: والسبب حقيقته الحبل، وأطلق هنا على ما يتوسل به إلى الشيء من علم أو مقدرة أو آلات التسخير على وجه الاستعارة كقوله تعالى: ﴿وَتَقَطَّعَتۡ بِهِمُ ٱلۡأَسۡبَابُ [البقرة: 166]. بينما في الثانية يوضح أن المراد معنى مجازي وهو الطريق؛ لأن الطريق وسيلة إلى المكان المقصود[56]. وفي كل الأحوال يظهر معنى العمل والحركة في التعامل مع الأسباب بجدية وتحويلها لقوة تأثير للوصول إلى المقصود.

من الجدير بالذكر أن هذا السعي لبناء القدرات وقوة التأثير، وإن كان بعدًا حاضرًا بلا شك في واقع السياسة الدولية، إلا أنه لا يظهر أيضًا في أغلب أدبيات العلاقات الدولية. يعود ذلك لهيمنة الواقعية الجديدة على المجال النظري لفترة طويلة. كما هو معروف تزعم الواقعية الجديدة النظر في تغير توزيع القدرات على مستوى النظام الدولي كالعامل الأهم في تفسير التفاعلات الدولية. وبالتالي تتجنب النظر في قدرات الدول بشكل فردي أو بمعنى آخر العوامل الداخلية المرتبطة ببناء القدرات، مقترحة بدلًا من ذلك آلية التحالفات كمحل لتغير توزيع القدرات، وبالتالي توازن القوى وعدد الأقطاب وموقعها من بعضها البعض في النظام. النتيجة هي أنه عندما تواجه دولة أو مجموعة من الدول دولة أخرى ساعية إلى الهيمنة والسيطرة لا تقدم النظرية، مع بعض التبسيط، إلا مسارين: إما الموازنة من خلال التحالف وتجميع القدرات بينها، أو المسايرة والقبول بهيمنة الدولة الساعية إلى الهيمنة.

في المقابل، تقترح نظرية تحولات القوى (Power Transition Theory) أن النمو المحلي وتطور قدرات الدول المرتبط به يمثل المصدر الأساسي للتغيرات الدولية. بشكل أكثر تفصيلًا، تقترح النظرية أن اختلاف وتيرة النمو المحلي بين القوى العظمى وتطور اقتصادات هذه القوى نحو التصنيع والتحديث وازدياد وتيرة تحويل هذا النمو إلى قدرات عسكرية؛ يشكل المصدر الأساس الذي ينتج عنه تحولات في توزيع القدرات المادية والتساوي من عدمه بين قدرات القوى العظمى. يسمح لنا هذا الافتراض بالتركيز على مدخلات محلية كمتغيرات وسيطة، تعزز من تفسير الاستجابة لفرص تحدي المهيمن ومسارات استخلاص وتحويل عوائد النمو الاقتصادي، والصناعي، والتكنولوجي إلى وسائل للتأثير في البيئة الدولية.

ومن ثم؛ فإن مفهوم القدرة وبنائها ينبغي أن يوضع في هذا السياق من خلال التمييز بين المصادر (Resources)، والقدرات (Capabilities)، والوسائل (Instruments). تمثل المصادر السمات الأساسية لمجتمع ما، أي تلك السمات التي لا دخل للمجتمع في تحديدها، كالموقع الجغرافي، وعدد السكان، والموارد الطبيعية، وغيرها والتي يمكن وصفها هنا بالآلات وسلامتها والأسباب وصحتها. هذه المصادر عندما يتم استثمارها وتطويرها وتوجيهها بشكل يجعلها قابلة للتشغيل الفوري أو القريب من الفوري لخدمة أهداف الدولة السياسية والعسكرية تسمى قدرات. على سبيل المثال، قد يكون الموقع الجغرافي المتميز على ممرات مائية مهمة من المصادر، بينما يمثل بناء ميناء متطور قابل للتشغيل المدني والعسكري نوعًا من أنواع القدرة، التي تمثل بدورها وسيلة أساسية لقوة التأثير عند التعامل مع حصار أو عقوبات اقتصادية.

هذه المعالجة لمفهوم القدرة سواء بنسخته الأصولية كقدرتين: سلامة الآلات وصحة الأسباب وقوة التأثير، أو بنسخته النظرية الغربية كثلاثة مستويات: مصادر، وقدرات، ووسائل؛ هي أقدر على التقاط واقع القدرة وبنائها وما يرتبط بها من مسؤوليات سببية وأخلاقية وكذلك تفعيل ما تبقى من آية إعداد القوة في هذا الواقع: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ [الأنفال: 60]. فالإنفاق مجهود أساسي لبناء القدرة، وهذا يعني في نظرية تحولات القوى، استخلاص وتحويل عوائد النمو الاقتصادي والصناعي والتكنولوجي إلى وسائل للتأثير في البيئة الدولية. هذا وإن كان مكلفًا وشاقًا على الأنفس والمجتمعات؛ إلا أنه من مجاري العادات أيضًا في السياسة الدولية.

إذن، بدلًا من التعامل مع القدرة سطحيًا، ومن ثم النزوع سريعًا نحو ثنائية الرخصة والعزيمة، أو الغرق في المعالجات الكلامية لموضوع القدرة، يمكننا الاستفادة مما سبق في تفصيل مقوم القدرة في منصة التكليف السياسي في مستويات: مستوى المصادر ومستوى القدرة، مع الأخذ بالاعتبار أن استخلاص المصادر وتوجيهها لبناء القدرة يتطلب عزمًا وكذلك حشدها وتفعيلها لحصول قوة التأثير. هذا بالطبع يتطلب النظر في المقصود بالعزم واختلافه عن العزيمة بالمعنى الأصولي الفني وهذا ما سيأتي توضيحه تاليًا. يمكننا التعبير عن مقومات التكليف في منصتنا كالآتي:

3.     العزم

يقول الدكتور عبد الكريم النملة: "وإذا دققت في العزيمة وجدتها ترجع إلى جعل الشارع الأحوال العادية للمكلفين سببًا لبقاء الأحكام الأصلية واستمرارها في حقهم، بينما تعني الرخصة الحكم الثابت على خلاف الدليل لمعارض راجح وهو العذر[57]. هذا النوع من التعريفات على أهميته لا يغطي المساحة الأوسع للتكليف السياسي؛ إذ لا يلتقط دينامية التفاعل بين تغير الأحوال ومجاري العادات، وبين الاستجابة الفكرية والوجدانية لهذه التغيرات. كما أن العزيمة والرخصة بهذا المعنى تميل إلى طلب عنصر القدرة عند المكلف كشرط للتكليف. في المقابل، ما أقترحه هنا هو اقتطاع مساحة للعزيمة/العزم بجانب كل من العلم من جهة، والقدرة وبنائها ورعايتها من جهة أخرى أملًا أن تكون هذه الصيغة أنسب إلى التعبير عن مقومات الفاعلية الإسلامية في سياق السياسة الدولية.

يتطلب هذا بدوره الانتقال من التعريف الاصطلاحي للعزيمة في أصول الفقه إلى أصلها اللغوي الذي اشتقت منه، أي العزم، والذي تنتشر معانيه بشكل أكبر في علم السلوك الإسلامي. لغويًا يعرف العزم غالبًا من خلال معان لازمة له كالصبر والجد. ويعرفه الهروي بتحقيق القصد طوعًا أو كرهًا[58]. وابن عاشور بإمضاء الرأي وعدم التردد بعد تبين السداد[59]. وفي السلوك يعرفه ابن القيم بالقصد الجازم المتصل بالفعل وبالشروع في الحركة لطلب المقصود[60]. هذه المعان تقترح أنه إن كانت العزيمة اصطلاحًا تميل إلى طلب النظر في توفر القدرة وارتباطه بالأحوال العادية؛ فإن النظر في العزم ومعانيه أقرب إلى طلب أعمال القلوب والقوة النفسية اللازمة لقهر النفس ومنعها من الجنوح إلى ما لا يحل وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل. وهذا النظر من خلال العزم وليس العزيمة فقط يصبح ضروريًا لتجنب التعامل "الميكانيكي" للانتقال بين مسالك التطبيق المختلفة من إجراء إلى تعديل أو تأجيل أو حتى توقيف. فالانتقال بين هذه المسالك قد يتخلله الركون للتأجيل أو الخوف من الإجراء أو إدمان التوقيف حتى تتسرب هذه إلى التصورات القيمية ووظيفتها الإنشائية ويحل العبث بعملية إدراج الجزئيات في كلياتها.

مع ذلك، لا تجد عادة أوصاف القلوب وأعمالها مساحة معتبرة في أصول الفقه، وهذا متفهم لطبيعة موضوعها واهتماماتها كون هذه الأعمال أو الأوصاف لا تدخل بوضوح في الأفعال الاكتسابية للمكلف. في هذا السياق يقول الشاطبي في الموافقات أن الذي تعلق به الطلب ظاهرًا من الإنسان على ثلاثة أقسام:

-      ما لم يكن داخلًا تحت كسبه قطعًا.

-      ما كان داخلًا تحت كسبه قطعًا.

-      ما قد يشتبه أمره، كالحب والبغض وما في معناهما[61].

واضعًا غالب أوصاف القلوب وأعمالها تحت هذا القسم الأخير، ومضيفًا: "أن ما يظهر من أمر الحب والبغض والجبن والشجاعة والغضب والخوف ونحوها أنها داخلة على الإنسان اضطرارًا، إما لأنها من أصل الخلقة فلا يطلب إلا بتوابعها، فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بد أفعال اكتسابية، فالطلب وارد على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه، كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب؛ وإما لأن لها باعثًا من غيره فتثور فيه فيقتضي لذلك أفعالًا أخرى، فإن كان المثير لها هو السابق، وكان مما يدخل تحت كسبه، فالطلب يرد عليه"[62].

ما نفهمه من هذا الاقتباس أنه وإن كان الطلب غير وارد على الأوصاف القلبية؛ كالحب، والبغض، والشجاعة، والخوف، والغضب ونحوها، إلا أنها متصلة بالأفعال الاكتسابية. إذن، إن كان القصد هو تحديد موضوع الحكم الشرعي أي الأفعال الاكتسابية للمكلف فلا مدخل للأوصاف القلبية هنا إلا كونها توابع أو سوابق لتلك الأفعال. أما إن كان الهدف هو تعزيز الحدة التحليلية للنظر في مقومات التكليف وتفاعلها مع بيئة المكلف، فإن هذا الاتصال بين الأوصاف القلبية وبين الأفعال الاكتسابية يكتسب أهمية أكبر.

تمثل هذه العلاقة بين الأوصاف القلبية والأفعال الاكتسابية مساحة مناسبة لاقتراح العزم كأحد مقومات التكليف بجانب كل من العلم والقدرة. فالعزم أو العزيمة وإن كان تلقائيًا ومفترضًا في التكليفات الفردية التعبدية كالقيام لصلاة العصر مثلًا؛ إلا أنه ليس كذلك في التكليفات السياسية الجماعية خاصة في بيئة دولية تظهر العداء لأي ارتباط بين السياسي والديني. فأنت إن تكاسلت عن القيام لصلاة العصر في وقتها (تذكرت) سريعًا المقصود واستجمعت عزمك ومن ثم قدراتك وتحركت نحو الصلاة. وهي نفس العملية عندما يتعلق الأمر بالتكليف السياسي؛ إلا أن العزم هنا أكثر ظهورًا كون الحركة نحو المقصود تتطلب استدامة مباشرة أسباب تذكر المقصود والصبر على بناء وحشد القدرة للحركة نحوه.

هذه المساحة بين العلم والقدرة بدورها يعبر عنها تعريف ابن القيم للعزم: "القصد الجازم المتصل بالفعل والشروع في الحركة لطلب المقصود". فالعزم هنا لا ينفك عن كل من (العلم) بالمقصود و(القدرة) على الفعل والحركة نحوه. مع ذلك تقترح معالجة هذه المقومات هنا اقتراب مقوم العزم من مقوم القدرة، وهذا يفسر استخدام الرمز (×) في المنصة المقترحة للتدليل على تداخل كل من القدرات المادية والعزم في بناء وتفعيل قوة التأثير.

هنا أيضًا كما في المناقشة السابقة لعنصر القدرة، من المفيد النظر فيما عند أدبيات العلاقات الدولية. في كتابه "العزم في السياسة الدولية" يقترح جاشوا كيرتزير (Jashua Kertzer) أن العزم مختلف كليًا عن القدرات أو النوايا، وهو أقرب إلى حالة من الثبات والصمود لغاية أو قصد...فالعزم لا يعني ما يريده الفاعل (النية) بل مدى ثباته نحو تحقيق ما يريده على الرغم من الانحرافات والإغراءات للعودة عنه"[63].

لا تتوقف الاستفادة من مساهمة المؤلف هنا، بل يمكن القول إن الاستفادة الأهم هي اهتمامه بسؤال من أين يأتي العزم؟ أو كيف نفسر اختلاف مستويات العزم بين الفاعلين الدوليين؟ موضحًا أن باحثي العلاقات الدولية لا يملكون إجابات جيدة حول هذه الأسئلة؛ بسبب افتقاد مقارباتهم أسس مجهرية (Microfoundations) أو بمعنى أدق نظرية للعزم؛ حيث يغلب على تلك الأدبيات التعامل مع العزم كعامل مستقل يدعى لاحقًا للإجابة عن أسئلة فرعية سقطت عن حسابات القدرة وأنماط المصلحة، وليس كعامل تابع يحتاج إلى تفسير والنظر في مصادره. يقترح المؤلف مجموعة من السمات والتوجهات لتفسير اختلاف مستويات العزم بين الفاعلين: التعامل مع الوقت (Time Preference)، والتعامل مع المخاطر (Risk Preferences)، وتوجهات الفخر/المكانة (Honor Orientation)، وضبط النفس (Self-Constrain)[64].

لا شك أنه عند استدعاء المعاني الإسلامية للعزم نجد أن هذه السمات حاضرة بشكل أو بآخر. فما ذكره الباحث من سمة (التعامل مع الوقت) يمكن ترجمته مباشرة إلى الصبر. بينما من المناسب دمج كل من (التعامل مع المخاطر) و(ضبط النفس) في معنى (الشجاعة) كونهما يمثلان في بعض مستوياتهما حدودًا لهذا المعنى. فالتعامل مع المخاطر قد ينقلب إلى تهور، وضبط النفس قد ينقلب إلى جبن، والشجاعة وسط بينهما. كذلك يمكن التعبير عن توجهات الفخر من خلال معان أقرب إلى الروح الإسلامية كالعزة والكرامة. إذن يمكننا تحديد ثلاث سمات للعزم في سياقنا الإسلامي:

-      الصبر.

-      الشجاعة.

-      العزة.

هنا نتوقف عن متابعة مساهمة جاشوا وذلك لعدد من الأسباب: أولًا، اتخاذه منحى كمي تقني حاد إلى حد اختفاء هذه المعان في نهاية كتابه واختزاله للنتائج في مجموعة من الأرقام والرسوم البيانية. ثانيًا، تضييقه نطاق التطبيق على حالات التدخل العسكري وعدم متابعة تشغيل هذه السمات على المدى الطويل في إطار بناء القدرات التي تتطلب عزمًا لا يقل عما تتطلبه الأزمات قصيرة المدى. وأخيرًا، لأن ما لدينا من كليات وتصورات وجودية وقيمية يكفي للنظر في مستوى لا تستطيعه الأدبيات الغربية: من أين يأتي الصبر؟ الشجاعة؟ العزة؟

كنت قد قدمت في مسارات السالكين في السياسة الدولية: حول الاستجابة الفكرية والوجدانية لمؤثرات البيئة الدولية ثلاثة مشاعر وجدانية رئيسة للاستجابة لتلك المؤثرات: الخوف، والرجاء، والمحبة كبعد أساسي للفاعلية الإسلامية تعبر عن ارتباط هذه الفاعلية بالله سبحانه وتعالى. هنا أيضًا، أقترح أن سمات الصبر والشجاعة والعزة تعتمد على الاستقرار والاطمئنان الوجداني الذي يضمنه ارتباط القلب بالله سبحانه وتعالى من خلال تلك المشاعر الثلاث. والعلاقة بين مكونات العزم وبين أسسها الوجدانية الثلاث أكثر ثراءً مما يمكن التنظير حوله، مع ذلك من الممكن ربط الشجاعة بالخوف من الله سبحانه وتعالى، والعزة بالرجاء في الله سبحانه وتعالى والاستغناء بما عنده عما عند خلقه، بينما الصبر وإن كان يمده الخوف والرجاء إلا أنه في أعمق مستوياته لا ينفك عن محبته سبحانه وتعالى. إذن كمقومي العلم والقدرة يمكن تقسيم مقوم العزم إلى مستويين: مستوى الصبر، والشجاعة، والعزة؛ ومستوى الخوف، والرجاء، والمحبة لله سبحانه وتعالى. لتكتمل المنصة وتكون بالشكل الآتي:

·       علامات منهجية حول منصة التكليف السياسي

تقدم معاني التكليف المنثورة على منصة التكليف السياسي محاولة لاستنقاذ الفاعلية الإسلامية في السياسة الدولية، بل والفاعلية الإنسانية بشكل عام من مآلات تقاطع التعقد والتفكك. ومهمة الباحث المسلم هنا استحفاظ هذه المعاني في نظرياته ومناهجه، والتواصي بالتصورات القيمية والوجودية، والتواصي بالصبر والشجاعة والعزة مع الفاعلين المسلمين في السياسة الدولية، فالكل يقاوم التعقد والتفكك في مجاله. والولوج والسعي في مسار التكليف البديل يتطلب علامات منهاجية، وهذه العلامات أقترح أن السطور القليلة الآتية للإمام ابن عاشور تهدي إليها:

"إن مقصد الشريعة من أحكامها كلها إثبات أجناس تلك الأحكام لأحوال وأوصاف وأفعال من التصرفات خاصها وعامها، باعتبار ما تشتمل عليه تلك الأحوال والأوصاف والأفعال من المعاني المنتجة صلاحًا ونفعًا، أو فسادًا وضرًا، قويين أو ضعيفين"[65].

من بين هذه السطور، يمكننا استخلاص العلامات المنهاجية الآتية:

أولًا، أن المعاني المصلحية مشهود لها بالتأثير وإنتاج النفع/الضر؛ أي أنها تتمتع بقوى سببية للتأثير في الواقع.

ثانيًا، أن إنتاج المعاني المصلحية لأثرها في واقع المجتمعات الإنسانية، يتطلب فاعلية إنسانية لملاحظتها وتجسيدها بما تتمتع به من قدرات فكرية ووجدانية ومادية؛ بحيث يكون التأثير والإنتاج للنفع أو الضر عائدًا إلى الأفعال والسياسات والمبادرات باعتبار ما تشتمل عليه من معاني مصلحية. بمعنى أننا هنا ننقل القوة الإنتاجية السببية من مجال المعاني المصلحية المجردة كالعدل، والتكافل، والتعاون، والبر، إلى مجال الأفعال الإنسانية المشتملة على تلك المعاني؛ بحيث تشكل تلك المعاني سمات للفعل الإنساني تختلط بقدراته الفكرية والوجدانية والمادية، وبالتالي يمكننا القول: أن إنتاج المعاني المصلحية لأثرها من نفع أو ضر، في الواقع مشروط بتوفر مقومات الفاعلية الإنسانية (علم، وقدرة، وعزم) المتلبسة للفعل المشتمل لتلك المعاني.

ثالثًا، أن تجسيد المعاني المصلحية من قبل الفاعلية الإنسانية الإسلامية لا يحدث في فراغ، بل في سياق ثقافي ومادي. هذا السياق يمثل محل مؤثرات دولية ومحلية مختلفة تعمل كشروط أو قيود لتفعيل مقومات التكليف في مستوى الفاعلية وتجسيد المعاني المصلحية.

ما سبق من كلمات ابن عاشور وما تم استخلاص منها من إشارات منهجية يبث الحياة والحركية في منصة التكليف السياسي. أي يحولها من مجرد حامل للمعان الإسلامية الراقية إلى أداة منهجية لفهم وتقييم الممارسات الدولية. الآن يمكننا عرض أحوال وأوصاف وأفعال من التصرفات في السياسة الدولية على أعلى يمين المنصة (التصورات القيمية الإسلامية)؛ لاستكشاف ما تشتمل عليه من معاني مصلحية، ومن ثم الانتقال إلى يسار المنصة للنظر في توفر شروط إنتاج تلك التصرفات وما تشتمل عليه من معاني مصلحية لنفعها أو ضرها.

على مستوى التصورات القيمية الإسلامية فإن عرض التصرفات والممارسات في السياسة الدولية على المعاني المصلحية ما هو إلا قياسًا كليًا في جوهره عملًا مفاهيميًا. ولكنه عادة ما يكون عملًا يهدف إلى مجرد الإدراج وتحديد الأنواع. مع ذلك، فإن الحفاظ على السردية القيمية والوجودية الإسلامية؛ يتطلب أيضًا ربطًا للمعاني بالأسباب كما في العلامات المنهجية أعلاه. ولذلك نحتاج خلال القيام بهذه العملية إبراز عبارة "إنتاج النفع أو الضر" والذي يعني بدوره ربط سمات الممارسة محل النظر بالفرضيات والآليات السببية المنتجة لحالة النفع أو الضر في الواقع. أو كما يقول جاري جروتز (Gary Groetz): "أن تطور مفهوم يعني أن تقدم أكثر من مجرد تعريف، بل أن تقرر ما هو المهم بشأن شيء ما"[66] مستخدمًا مثال "النحاس"، وموضحًا أن لون النحاس المائل إلى الاحمرار ليس الإجابة الصحيحة في هذه الحالة، بل تركيبته الذرية والتي تؤسس لما ينتجه من أثر. لا شك أن الأصوليين قادرون هنا على الربط من خلال مثال قياس النبيذ المشهور في كتب الأصول. هذه السمات المهمة هي التي تشكل البنية الداخلية التي تعطي القوة السببية للظاهرة أو الممارسة عند تفاعلها مع البيئة الخارجية.

وهذا معروف في الأصول الإسلامية إلا أنه قد يحتاج إلى إبراز كما أشرنا وعدم الاكتفاء بإدراج الأنواع في أجناسها، والأعيان في أنواعها. وكلاهما ضروريٌ، فإدراج المعاني في أجناسها وتصنيفها يقاوم التفكيك، وإبراز تأثيرها وقوتها السببية يقاومان التعقد. بالعودة إلى منصتنا، يكون ربط البحث المفاهيمي بالعلاقات السببية ضمان لعبور منهاجي للمعاني المصلحية الإسلامية وحضورها في الجانب الأيسر من المنصة، حتى لا تنساها الفاعلية المسلمة ولا تجد لها عزمًا.

هذه الحركية من يمين المنصة إلى يسارها، أو العكس، بحسب أهداف البحث، تتطلب تجاوز التعامل مع العلاقات السببية كمجرد علاقات اقتران منتظم بين عاملين، كما في الرؤية الوضعية الضيقة والسطحية للفرضيات السببية. في هذا السياق، تبرز الآليات السببية (Causal Mechanism) كأرضية مناسبة لحمل تأثير المعاني المصلحية، من خلال مقومات الفاعلية الإنسانية في إطار قيود أو شروط تفعيلها في واقع السياسة الدولية.

والمقصود هنا تطوير مسار سببي بين الممارسة محل النظر وبين إنتاجها لنفعها أو ضرها. بداية من البحث المفاهيمي للنظر في المعاني المصلحية المشتملة عليها تلك الممارسة، ومن ثم النظر في مستويات مقومات التكليف ومكوناتها في سياق تفاعلاتها مع مؤثرات البيئة الدولية. من المهم هنا أيضًا تجنب التعامل مع الرؤى الوضعية للآليات السببية والتي لا تخرج عن علاقات الاقتران المنتظم التي تمر من "فوق رأس" الفاعلية الإنسانية. هذه الرؤية الوضعية لا تختلف كثيرًا عن الفرضيات السببية التي تقيس علاقات الاقتران بين عاملين إلا عبر إضافة عامل وسيط بينهما، وعادة ما يعبر هذا العامل عن شرط مادي لتكون العلاقة، لتكون كالتالي: هناك علاقة اقتران سببي بين X وY إلا أن هذه العلاقة مشروطة بتوفر M.

ومسارنا السببي أكثر ثراءً من أن تحمله هذه العلاقة، بل يتطلب دورًا أساسيًا للفاعلية في مقابل الحفاظ على علاقات الاقتران المنتظم وشروطها. وتضمين الفاعلية الإنسانية ومقوماتها في الآليات السببية التي تربط بين الممارسة وأثرها، ليس ضرورة وجودية فقط بل ومنهاجية أيضًا. هذا التضمين بدوره، يسمح بالحفاظ على حقيقة أن نفس الآلية السببية يمكن أن تنتج نتائج مختلفة حتى تحت نفس الشروط البنيوية[67]. وأن إمكانية اختلاف النتائج تعود إلى دور الفاعلية وسماتها الإنسانية من تأويل وتأمل وحسابات وفهم وتقييم...إلخ. وهذا كله يعارض، على الأقل بشكل محتمل، الاعتقاد التلقائي بانتظام الاقتران بين الظواهر والأحداث. لعلاج هذه الرؤية الميكانيكية وفتح مساحة للفاعلية الإنسانية؛ تقترح هيلدي فان ميجدينبرج (Hilde Van Meegdenburg) التعامل مع الآليات السببية كبنية تجريدية أو نموذج مثالي (Ideal Type) والتفريق بينها وبين تمثلاتها في الواقع؛ بحيث تعبر الآلية السببية عن جوهر ممارسة أو تفاعل ما على المستوى التجريدي، وتعبر تمثلاتها عن تجسيدها في الواقع من خلال الفاعلية الإنسانية، وبسبب اختلاف قدرات وتصورات ومشاعر وحسابات هذه الفاعلية قد تختلف نتائج هذه الآلية السببية في الواقع من حالة لأخرى. وهذا إلى حد كبير يشبه التفريق بين تحقيق المناط العام والمناط الخاص. إذا كان تحقيق المناط العام في الأجناس والأنواع لا يخرج عن كلمات ابن عاشور أعلاه، فتحقيق المناط الخاص توضحه الكلمات التالية للشاطبي: "...نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية... فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص... وصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورًا يعرف النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها"[68].

طبقًا لهذه المقاربة؛ يمكننا التعامل مع تحقيق المناط العام كإطار منهجي للتنظير حول أنواع الظواهر والممارسات الدولية، وما تشتمل عليه من معان مصلحية، والآليات السببية لإنتاجها لنفعها أو ضرها كبنى تجريدية أو نماذج مثالية، بينما يمكن تتبع مسار تحقيق المناط الخاص من خلال تمثلات الممارسة في الواقع وتجسيدها من قبل أعيان الفاعلين في السياسة الدولية، وما يتطلبه ذلك من النظر الإمبريقي في مستويات القدرة بأنواعها والعزم بعناصره في إطار تفاعلاتهما مع قوة أو ضعف القيود الدولية.

مع ذلك، قد يبقى سؤال محل الفاعلية، أو وحدة أو مستويات التحليل كما هو متعارف عليه في أدبيات العلاقات الدولية الغربية: هل الفاعلية هنا فردية بشرية؟ أم جماعية؟ أم مؤسساتية؟ لما كان نموذج الفاعلية المطور في هذا البحث منطلقًا من معاني التكليف لاستنقاذ الفاعلية الإنسانية، فإن هذا النموذج لا يسعه إلا إعلاء الفاعلية الإنسانية كما يجسدها الفعل الفردي والجماعي. الا أن استخدام مسارات منهجية بديلة كالتفريق بين الآليات السببية التجريدية وتمثلاتها في الواقع، وبين المناط الخاص والمناط العام، بالإضافة إلى حفظ مساحة للتصورات القيمية والتصورات الوجودية في منصة التكليف السياسي، يسمح بمساحة نظرية تظهر فيها تلك المعاني على مستوى الثقافة الاستراتيجية أو التقاليد المؤسساتية دون إخلال بمركزية التجسيد الإنساني لهذه المعاني.

الخلاصة

ربما من المناسب الاعتراف في هذه الخلاصة أن ما سبق ما هو إلا نسخة مختصرة، عن عمل أشمل، شهد إعداده الكثير من الاختصار والحذف. وكبح الرغبة في التوسع لا تعود إلى مقتضيات النشر والالتزام بالمساحة المتعارف عليها للمقالات البحثية فقط، بل تعكس أيضًا جانبًا طوعيًا يقر بأهمية العمل الجماعي في تطوير المشاريع العلمية والبحثية.

تظهر أهمية هذا العمل الجماعي بشكل جلي في التعامل مع (تحقيق المناط العام والخاص) الذي تم اقتراحه للتو كإطار منهجي للتنظير حول الممارسات والظواهر في السياسة الدولية. لا أقصد هنا تحقيق مناط آني ولحظي، بل أن يتحول تحقيق المناط بمعنى البحث عن المعاني المصلحية في الممارسات والظواهر الدولية وتتبع مسارات إنتاجها لنفعها أو ضرها، إلى بديل إسلاميّ لافتراضات تعظيم المنفعة (Utility Maximization)، وأن يكون نموذج التكليف الإسلامي منصة لإجراء هذه العملية المنهجية بدلًا من نماذج الفاعلية الغربية، بما في ذلك نموذج الفاعل العقلاني حتى لا تؤول إلى ما آلت إليه من تعقد وتفكك. الآن لدينا نموذج للفاعلية الإسلامية يمكننا التعامل معه كأرضية مستقرة؛ لإجراء تحقيق المناط العام (تنظيرًا) والمناط الخاص (تحليلًا)، في مقابل مؤثرات وتحولات السياسة الدولية. باختصار ينبغي لتحقيق المناط أن يكون جهدًا جماعيًا، بل حتى مؤسسيًا، مستدامًا، منطلقًا من أرضية معرفية مستقرة من جهة ومتسمًا بمرونة تنظيرية من جهة أخرى.

في هذا الإطار، يكون من المناسب ربط هذا الاستقرار المعرفي المنشود مع مفهوم "التوطين الفكري" كما قدمه الدكتور نايف بن نهار في كتابه "التوطين التفاعلي في العلوم الاجتماعية بين الفكرة والمقياس"، بمعنى تهيئة البنى النظرية الاجتماعية لتلائم معطيات الواقع المحلي[69]. موضحًا أن الملائمة هي جوهر عملية التوطين[70]. والتعرف على المعرفة الملائمة وغير الملائمة يتطلب منطقًا للتفكير قائمًا على الوعي بالذات ابتداءً يسمح للباحث بتهيئة المعرفة من خلال عمليات النقد والإحلال. ومنصة التكليف السياسي كما قدمت في هذا البحث تساعد الباحث على عملية التهيئة هذه. فالباحث المسلم عند استخدام هذه المنصة، لديه المساحة (الجانب الأيمن من المنصة الذي يتضمن التصورات القيمية والتصورات الوجودية الإسلامية) لتقييم المفاهيم التي توصف الممارسات الدولية المختلفة ومدى ملاءمتها للمعارف الإسلامية. ذلك بالإضافة إلى السمات والمعان الإسلامية المنتشرة على أرجاء الجانب الأيسر من المنصة، كالشجاعة، والعزة، والصبر، والخوف، والمحبة، والرجاء في الله سبحانه وتعالى.

أخيرًا، من المفيد الإشارة إلى المرونة التنظيرية التي يمكن أن يتسم بها إجراء تحقيق المناط على منصة التكليف السياسي، من خلال مفهوم "التجسير بين العلوم" الذي يعد واحدًا من أهم المسارات البحثية الأخرى لمركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية بجانب مسار التوطين. فالنظر إلى مفاهيم العلاقات الدولية المختلفة كالموازنة، أو الاعتماد المتبادل، أو الثقافة الاستراتيجية من خلال منصة التكليف السياسي لا يلبث أن يثير المكامن التجسيرية للمنصة نحو تطوير برامج بحثية بينية، على غرار: ما هي الأبعاد النفسية الاجتماعية للموازنة؟ هل هناك بعد اجتماعي لعلاقات الاعتماد المتبادل؟ وما تأثير هذه الأبعاد على عملية استخلاص الموارد المادية وتحويلها إلى قدرات؟ هل هناك علاقة بين استقرار التصورات الوجودية وبين الثقافة الاستراتيجية؟ كيف يؤثر الإدماج في الشبكات الاقتصادية المنمذج اصطناعيًا بشكل متزايد على استخلاص الموارد الفكرية والوجدانية للمجتمعات المسلمة وتفاعلاتها السياسية والأمنية؟ وما أثر هذا كله على حالة التكليف ومقوماته؟ هذه أسئلة تتطلب حركة أفقية وعمودية، بل وتقاطعية بين مقومات التكليف وعناصر كل منها؛ ما يسمح للباحث المسلم بمرونة عالية في التنظير حول الظواهر والممارسات في السياسة الدولية.


 

المراجع

أولًا: العربية

ابن القيم الجوزية، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين. بيروت: الكتاب العربي، 2003.

أبو زيد، محمد راشد. "العلم بالتكليف والعذر بعدمه: دراسة فقهية تأصيلية". منشور إلكتروني، تاريخ الزيارة: 22/5/2021. https://practice.univeyes.net/academy/fiqh00000/fiqh12001/fiqh12622.pdf

ابن عاشور، محمد الطاهر. التحرير والتنوير. تونس: الدار التونسية للنشر، 1984.

–––. مقاصد الشريعة الإسلامية. الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية القطرية، 2004.

بن نهار، نايف. التوطين التفاعلي في العلوم الاجتماعية بين الفكرة والمقياس. الدوحة: مؤسسة وعي للأبحاث والدراسات، 2023.

التفتازاني، سعد الدين مسعود. شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه. بيروت: دار الكتب العلمية، 2012.

الجويني، أبو المعالي. غياث الأمم في التياث الظلم. الإسكندرية: دار الدعوة، 1979.

الرويح، مشاري. مسارات السالكين في السياسة الدولية حول الاستجابة الفكرية والوجدانية لمؤثرات البيئة الدولية. القاهرة: عالم الأدب للترجمة والنشر، 2020.

السعدي، عبد الرحمن بن ناصر. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. الرياض، دار السلام للنشر والتوزيع، 2002.

الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم. الموافقات. الخبر: دار ابن عفان، 1997.

الشافعي، بدرالدين محمد بن عبد الله. البحر المحيط في أصول الفقه. الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1992.

شاكر، محمود. "تاريخ بلا إيمان"، في عادل سليمان جمال، جمهرة مقالات الأستاذ محمود شاكر. القاهرة، مكتبة الخانجي، 2003.

القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر. الجامع لأحكام القرآن: والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان. بيروت: مؤسسة الرسالة، 2006.

النملة، عبد الكريم بن علي. المهذب في علم أصول الفقه. الرياض: مكتبة الرشد، 1999.

الهروي، عبد الله الأنصاري. منازل السائرين. بيروت: دار الكتب العلمية، 2007.

 هندو، محمد. الكليات التشريعية وأثرها في الاجتهاد والفتوى. فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2016.

ثالثًا: الإنجليزية                                                                                                                                                                                    References

Abū Zayd, Muḥammad Rāshid. "al-ʻIlm bi-al-Taklīf wālʻdhr bʻdmh: dirāsah fiqhīyah taʼṣīlīyah" (in Arabic). Electronic publication, Accessed: 22/5/ 2021. https://practice.univeyes.net/academy/fiqh00000/fiqh12001/fiqh12622.pdf

al-Harawī, ʻAbd Allāh al-Anṣārī. Manāzil al-sāʼirīn (in Arabic). Beirut: Dār al-Kutub al-ʻIlmīyah, 2007.

al-Juwaynī, Abī al-Maʻālī. Ghiyāth al-Umam fī altyāth al-ẓulm (in Arabic), Alexandria: Dār al-Daʻwah, 1979.

Allan, B. Scientific Cosmology and International Orders. Cambridge: Cambridge University Press, 2018.

al-Namlah, ʻAbd al-Karīm ibn ʻAlī. al-Muhadhdhab fī ʻilm uṣūl al-fiqh (in Arabic). Riyadh: Maktabat al-Rushd, 1999.

al-Qurṭubī, Abī ʻAbd Allāh Muḥammad ibn Aḥmad ibn Abī Bakr. al-Jāmiʻ li-aḥkām al-Qurʼān: wālmbyn li-mā taḍammanahu min al-Sunnah wʼāy al-Furqān (in Arabic), Beirut: Muʼassasat al-Risālah, 2006.

al-Ruwayḥ, Mashārī. Masārāt al-sālikīn fī al-siyāsah al-Dawlīyah ḥawla al-istijābah al-fikrīyah wālwjdānyh lmʼthrāt al-bīʼah al-Dawlīyah (in Arabic), Cairo: ʻĀlam al-adab lil-Tarjamah wa-al-Nashr, 2020.

al-Saʻdī, ʻAbd al-Raḥmān ibn Nāṣir. Taysīr al-Karīm al-Raḥmān fī tafsīr kalām al-Mannān (in Arabic). Riyadh, Dār al-Salām lil-Nashr wa-al-Tawzīʻ, 2002.

al-Shāfiʻī, Badr-al-Dīn Muḥammad ibn ʻAbd Allāh. al-Baḥr al-muḥīṭ fī uṣūl al-fiqh (in Arabic), Kuwait: Wizārat al-Awqāf wa-al-Shuʼūn al-Islāmīyah, 1992.

al-Shāṭibī, Abī Isḥāq Ibrāhīm. al-Muwāfaqāt (in Arabic), al-Khubar: Dār Ibn ʻAffān, 1997.

al-Taftāzānī, Saʻd al-Dīn Masʻūd. sharḥ al-Talwīḥ ʻalá al-Tawḍīḥ li-matn al-Tanqīḥ fī uṣūl al-fiqh (in Arabic), Beirut: Dār al-Kutub al-ʻIlmīyah, 2012.

Amadae, S. M. Rationalizing Capitalist Democracy: The Cold War Origins of Rational Choice Liberalism. Chicago: the University of Chicago Press, 2003.

Ataya, Inanna Hamati. “Crafting the Reflexive Gaze: Knowledge of Knowledge in the Social Worlds of International Relations,” in Andreas Gofas, Inanna Hamati-Ataya, and Nicholas Onuf, The Sage Handbook of the History, Philosophy, and Sociology of International Relations. London: SAGE Publications Ltd, 2018.

Barrett, M. The Politics of Truth: From Marx to Foucault. Stanford: Stanford University Press, 1991.

Bélanger, L. Derian, James Der et Shapiro, Michael J. International / Inter-Textual Relations: Postmodern Readings of World Politics. Lexington Books press, 1989.

Bertalanffy, L. V. "The History and Status of General Systems Theory," The Academy of Management Journal, Vol. 15, No. 4 (Dec 1972).

Bessner, D., and Guilhot, N. "How Realism Waltzed off: Liberalism and Decisionmaking in Kenneth Waltz’s Realism," Journal of International Security, Vol. 40, No. 2 (2015).

Braumoeller, B. F. The Great Powers and the International System: Systematic Theory in Empirical Perspective. Cambridge: Cambridge University Press, 2012.

Braun, B., Schindler, S., and Wille, T. “Rethinking Agency in International Relations: Performativity, Performances and Actor-Networks.” Journal of International Relations and Development, Vol. 22, (December, 2019): 787–807.

Butler, J. Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. New York: Routledge, 1999.

Chandler, D. "The World of Attachment? The Post-humanist Challenge to Freedom and Necessity," Millennium Journal of International Studies, Vol. 41, No. 3 (2013).

Cilliers, P. Complexity and Postmodernism: understanding Complex Systems, London: Routledge, 1998.

Ferrando, F. Philosophical Posthumansim. London: Bloomsbury Academic, 2019.

Groetz, G. Social Science Concepts: A User’s Guide. New Jersey: Princeton University Press, 2006.

Guilhot, N. After the Enlightenment: Political Realism and International Relations in the Mid-Twentieth Century. Cambridge: Cambridge University Press, 2017.

Hayles, K. How We Became Posthuman: Virtual Bodies in Cybernetics, Literature, and Informatics. Chicago: The University of Chicago Press, 1999.

Hindū, Muḥammad. al-Kullīyāt al-tashrīʻīyah wa-atharuhā fī al-Ijtihād wa-al-fatwá (in Arabic). Virginia: al-Maʻhad al-ʻĀlamī lil-Fikr al-Islāmī, 2016.

Ibn al-Qayyim al-Jawzīyah, Abū ʻAbd Allāh Muḥammad ibn Abī Bakr, Madārij al-sālikīn bayna Manāzil ayāk naʻbudu wāyāk nastaʻīn (in Arabic), Beirut: al-Kitāb al-ʻArabī, 2003.

Ibn ʻĀshūr, Muḥammad al-Ṭāhir. al-Taḥrīr wa-al-tanwīr (in Arabic). Tūnis: al-Dār al-Tūnisīyah lil-Nashr, 1984.

–––. Maqāṣid al-sharīʻah al-Islāmīyah (in Arabic). al-Dawḥah: Wizārat al-Awqāf wa-al-Shuʼūn al-Islāmīyah al-Qaṭarīyah, 2004.

Ibn Nahār, Nāyif. al-tawṭīn al-tafāʻulī fī al-ʻUlūm al-ijtimāʻīyah bayna al-fikrah wālmqyās (in Arabic) Doha: Muʼassasat waʻy lil-Abḥāth wa-al-Dirāsāt, 2023.

Isaac, J. "Tangled Loops: Theory, History, and the Human Sciences in Modern America." Modern Intellectual History, Vol. 6, No. 2 (August 2009).

Jones, G. S. The Marxism of the Early Lukacs, in New Left Review, (eds.), Western Marxism: A Critical Reader. London: Verso, 1983.

Kertzer, J. Resolve in International Politics. New Jersey: Princeton University Press.

Meegdenburg, H. V. Process Tracing: An Analyticist Approach, in Patrick Mello and Falk Ostermann, Routledge Handbook of Foreign Policy Analysis Methods. London: Routledge, 2023.

Morgenthau, H. J. Scientific Man Vs. Power Politics. London: Latimer House Limited, 1947.

Rao, R. Out of Time: The Queer Politics of Postcoloniality. New York: Oxford University Press, 2020.

Satterwhite, J. H., and Campbell, D. R. National Deconstruction: Violence, Identity, and Justice in Bosnia. Minneapolis: University of Minnesota Press. 1998

Shākir, Maḥmūd. Tārīkh bi-lā Īmān, fī ʻĀdil Sulaymān Jamāl, Jamharat maqālāt al-Ustādh Maḥmūd Shākir (in Arabic). Cairo: Maktabat al-Khānjī, 2003.

Sjoberg, L. "Quantum Ambivalence," Millennium journal of International Studies, Vol 49. No.1 (2020).

Walt, S. "Rigor or Rigor Mortis: Rational Choice and Security Studies," International Security, Vol. 23, No. 4 (Spring 1999).

Wiener, N. Cybernetics: or Control and Communication in the Animal and the Machine, Reissue of the 1961 Second Edition., Massachusetts: MIT Press, 2019.

Wight, Colin. Agents, structures and International Relations: Politics as Ontology. Cambridge, UK: Cambridge University Press, 2006.



[1] Colin Wight, Agents, Structures, and International Relations: Politics as Ontology (Cambridge: Cambridge University Press, 2006), p. 177.

[2] مشاري حمد الرويح، مسارات السالكين في السياسة الدولية حول الاستجابة الفكرية والوجدانية لمؤثرات البيئة الدولية (القاهرة: عالم الأدب للترجمة والنشر، 2020)، ص20.

[3] محمود شاكر، "تاريخ بلا إيمان"، في عادل سليمان جمال، جمهرة مقالات الأستاذ محمود شاكر (القاهرة: مكتبة الخانجي، 2003)، ج2، ص984

[4] تمثل أعمال كولن وايت المذكورة سابقًا استثناء من هذا الاتجاه.

[5] يُنظر على سبيل المثال:

 James Der Derian and Shapiro Michael, International/Intertextual Relations: Postmodern Readings of World Politics (Lexington: Lexington Books, 1989); David Campbell, National Deconstruction: Violence, Identity, and Justice in Bosnia (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1998).

[6] Benjamen Braun, Sebastian Schindler, & Tobias Wille, "Rethinking Agency in International Relations: Performativity, performances, and actor-networks," Journal of International Relations and Development, Vol. 22 (December, 2019), p. 788.

[7] Francesca Ferrando, Philosophical Posthumansim (London: Bloomsbury Academic,2019), p. 2.

[8] Ibid., p. 3

[9] Laura Sjoberg, "Quantum Ambivalence," Millennium journal of International Studies, Vol. 49. No. 1 (2020), p. 127.

[10] Ferrando, Philosophical Posthumanism, p. 2.

[11] Nicolas Guilhot, After the Enlightenment: Political Realism and International Relations in the Mid-Twentieth Century (Cambridge: Cambridge University Press, 2017), p. 6.

[12] Hans J. Morgenthau, Scientific Man Vs. Power Politics (London: Latimer House Limited, 1947), p. 3.

[13] Morgenthau, Scientific Man, p. 7.

[14] Ibid., p. 16.

[15] Ibid., p. 37.

[16] Joel Isaac, "Tangled Loops: Theory, History, and the Human Sciences in Modern America," Modern Intellectual History, Vol. 6, No. 2 (August 2009), p. 411.

[17] Stephen M. Walt, "Rigor or Rigor Mortis: Rational Choice and Security Studies," International Security, Vol. 23, No. 4 (Spring 1999), p. 5.

[18] Walt, Rigor or Rigor Mortis: Rational Choice and Security Studies, p. 4.

[19] S.M. Amadae, Rationalizing Capitalist Democracy: The Cold War Origins of Rational Choice Liberalism (Chicago: the University of Chicago Press, 2003), p. 7.

[20] Amadae, Rationalizing Capitalist Democracy, p.3

[21] Ludwig Von Bertalanffy, "The History and Status of General Systems Theory," The Academy of Management Journal, Vol. 15, No. 4 (Dec 1972), p. 411.

[22] Ibid, p. 413.

[23] Norbert Wiener, Cybernetics: or Control and Communication in the Animal and the Machine, Reissue of the 1961 Second Edition (Massachusetts: MIT Press, 2019). p. 22

[24] Bear F. Braumoeller, The Great Powers and the International System: Systematic Theory in Empirical Perspective (Cambridge: Cambridge University Press, 2012), P. 12.

[25] Ibid., p. 15.

[26] Daniel Bessner and Nicolas Guilhot, "How Realism Waltzed off: Liberalism and Decisionmaking in Kenneth Waltz’s Realism," Journal of International Security, Vol. 40, No. 2 (2015), p. 109.

[27] Katherine Hayles, How We Became Posthuman: Virtual Bodies in Cybernetics, Literature, and Informatics (Chicago: The University of Chicago Press, 1999), p. 7.

[28] Paul Cilliers, Complexity and Postmodernism: understanding Complex Systems (London: Routledge, 1998), p. 90.

[29] Inanna Hamati- Ataya, "Crafting the Reflexive Gaze: Knowledge of Knowledge in the Social Worlds of International Relations," in Andreas Gofas, Inanna Hamati-Ataya, and Nicholas Onuf, The Sage Handbook of the History, Philosophy, and Sociology of International Relations (London: SAGE Publications Ltd, 2018) p. 13.

[30] Ibid.

[31] Ibid.

[32] Michele Barrett, The Politics of Truth: From Marx to Foucault (Stanford: Stanford University Press, 1991), p. 90.

[33] Ibid., p. 86.

[34] Ibid, p. 39

[35] Gareth Stedman-Jones, "The Marxism of the Early Lukacs," in New Left Review, (eds.), Western Marxism: A Critical Reader (London: Verso, 1983), p. 25.

[36] Barrett, Op. cit., p. 165.

[37] Judith Butler, Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity (New York: Routledge, 1999), p.5.

[38] Rahul Rao, Out of Time: The Queer Politics of Postcoloniality (New York: Oxford University Press, 2020). P.15.

[39] أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان (بيروت: مؤسسة الرسالة، 2006)، ج19، ص430.

[40] السابق نفسه.

[41] David Chandler, "The World of Attachment? The Post-humanist Challenge to Freedom and Necessity," Millennium Journal of International Studies, Vol. 41, No. 3 (2013), p. 528.

[42] Cilliers, Complexity and Postmodernism, p. 58.

[43] بدر الدين محمد بن عبد الله الشافعي، البحر المحيط في أصول الفقه (الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1992)، ج1، ص341.

[44] أبو إسحاق إبراهيم الشاطبي، الموافقات (الخبر: دار ابن عفان، 1997)، ج2، ص209.

[45] محمد راشد أبو زيد، "العلم بالتكليف والعذر بعدمه: دراسة فقهية تأصيلية"، ص3. منشور إلكتروني، تاريخ الزيارة: 22/5/2021. https://practice.univeyes.net/academy/fiqh00000/fiqh12001/fiqh12622.pdf

[46] أبوزيد، العلم بالتكليف والعذر بعدمه، ص11.

[47] أبو المعالي الجويني، غياث الأمم في التياث الظلم (الإسكندرية: دار الدعوة، 1979)، ص319.

[48] السابق نفسه، ص310.

[49] السابق نفسه، ص379.

[50] محمد هندو، الكليات التشريعية وأثرها في الاجتهاد والفتوى (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2016)، ص81.

[51] Bentley Allan, Scientific Cosmology and International Orders (Cambridge: Cambridge University Press, 2018), p. 11.

[52] Ibid., p. 16.

[53] محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير (تونس: الدار التونسية للنشر، 1984)، ج3، ص134.

[54] سعد الدين مسعود التفتازاني، شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه (بيروت: دار الكتب العلمية، 2012)، ص199.

[55] عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (الرياض: دار السلام للنشر والتوزيع، 2002)، ص303.

[56] ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج16، ص24.

[57] عبد الكريم بن علي النملة، المهذب في علم أصول الفقه (الرياض: مكتبة الرشد، 1999)، ج1، ص154.

[58] عبد الله الأنصاري الهروي، منازل السائرين (بيروت: دار الكتب العلمية، 2007)، ج1، ص65.

[59] ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج4، ص190.

[60] أبو عبداالله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل اياك نعبد واياك نستعين (بيروت: الكتاب العربي، 2003)، ج1، ص 152.

[61] الشاطبي، الموافقات، ج2، ص178.

[62] السابق نفسه.

[63] Jashua Kertzer, Resolve in International Politics (New Jersey: Princeton University Press), p. 3.

[64] Ibid., p. 4.

[65] محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية (الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية القطرية، 2004)، ج2، ص544.

[66] Gary Groetz, Social Science Concepts: A User’s Guide (New Jersey: Princeton University Press, 2006), p. 27.

[67] Hilde Van Meegdenburg, Process Tracing: An Analyticist Approach, in Patrick Mello and Falk Ostermann, Routledge Handbook of Foreign Policy Analysis Methods (London: Routledge, 2023), p. 410.

[68] الشاطبي، الموافقات، ج4، ص98.

[69] نايف بن نهار، التوطين التفاعلي في العلوم الاجتماعية بين الفكرة والمقياس (الدوحة: مؤسسة وعي للأبحاث والدراسات، 2023)، ص17.

[70] السابق، ص18.