تاريخ الاستلام: 19 فبراير 2024 | تاريخ التحكيم: 13 مايو 2024 | تاريخ القبول: 06 يونيو 2024

مقالة بحثية

من الفيزياء إلى علم الاجتماع: تباين المواضيع وتقارب المناهج

علي جعفري

أستاذ علم الاجتماع، شعبة علم الاجتماع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض–المغرب

a.jafry@uca.ac.ma

سلمى فجاج

طالبة دكتوراة، شعبة علم الاجتماع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض–المغرب

salma.fejjaj@ced.uca.ma

ملخص

يسعى هذا المقال لاستكشاف تأثير الفيزياء الكلاسيكية على تأسيس علم الاجتماع وتطوره، مع التركيز على العلاقة بين التخصصين في فترة ما بعد الوضعية في علم الاجتماع وفيزياء الكوانتم. في الجزء الأول، يركز المقال على كيفية تأثر المؤسسَين الفرنسيَين، أوغست كونت وإميل دوركايم، بالفيزياء الكلاسيكية لبناء منهجية خاصة لعلم الاجتماع، تسهم في شرعنة استقلاليته العلمية؛ حيث سعى هذان المؤسسان إلى تطبيق النموذج الوضعي للفيزياء الكلاسيكية على الظواهر الاجتماعية، وتطوير أدوات وأساليب لقياس وتصنيف الظواهر الاجتماعية، بهدف استخلاص قوانين عامة وكشف العلاقات السببية التي تحكمها. ويستعرض، في الجزء الثاني، التوافقات الإبستيمولوجية والمنهجية بين علم الاجتماع وفيزياء الكوانتم. مؤكدًا أنه ًعلى الرغم من أن النظريات ما بعد الوضعية في علم الاجتماع لم تنبع مباشرةً من تطورات فيزياء الكوانتم، إلا أنها كانت نتيجة طبيعية لتطور علم الاجتماع ذاته ونضوج نماذجه المعرفية، وهذا التزامن هو ما أوجد تشابهات مهمة بين التخصصين. فتقاطع الأفكار حول عدم اليقين، والترابط بين الملاحِظ والملاحَظ، والاعتراف بحدود الموضوعية، كلها أمور شكلت جسورًا فكرية تربط بين علم الاجتماع وفيزياء الكوانتم، مما يعزز فهمًا أعمق للتطورات العلمية والاجتماعية في العصر الحديث.

الكلمات المفتاحية: علم الاجتماع، الفيزياء، الموضوعية، الذاتية، السببية، التنبؤ

للاقتباس: جعفري، علي وفجاج، سلمى. "من الفيزياء إلى علم الاجتماع: تباين المواضيع وتقارب المناهج"، مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، المجلد السادس، العدد 2 (2024)، 57-74. https://doi.org/10.29117/tis.2024.0184

© 2024، جعفري وفجاج، الجهة المرخص لها: مجلة تجسير، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأي وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0

 


 

Submitted: 19 February 2024 | Peer-reviewed: 13 May 2024 | Accepted: 06 June 2024

Research Article

From Physics to Sociology: Divergence of Topics and Convergence of Methodologies

Ali Jafry

Professor, Department of Sociology, Faculty of Letters and Human Sciences, Cadi Ayyad University–Morocco

a.jafry@uca.ac.ma

Salma Fejjaj

PhD Candidate, Department of Sociology, Faculty of Letters and Human Sciences, Cadi Ayyad University–Morocco

salma.fejjaj@ced.uca.ma

Abstract

This article examines the impact of classical physics on the development of sociology and explores the evolution of their relationship, particularly in the context of post-positivism in sociology and quantum physics. Initially, it highlights how the French founders Auguste Comte and Émile Durkheim were influenced by classical physics in crafting a distinct methodological framework for sociology and establishing its scientific legitimacy. They applied the positivist approach of classical physics to social phenomena, creating tools and methods for measuring, classifying, and controlling these phenomena with the goal of deriving general laws and causal explanations. The article then presents examples of epistemological and methodological convergences between sociology and quantum physics. Although post-positivist theories in sociology did not emerge directly from advances in quantum physics, but rather as an internal development within sociology itself and the evolution of its cognitive models, there are notable similarities between the two fields. The recognition of uncertainty, the interplay between the observer and the observed, and the challenge to absolute objectivity highlight a shared intellectual terrain, linking the disciplines and offering a more nuanced understanding of contemporary scientific and social paradigms.

Keywords: Sociology; Physics; Objectivity; Subjectivity; Causality; Prediction

 

Cite this article as: Jafry, A., & Fejjaj, S. "From Physics to Sociology: Divergence of Topics and Convergence of Methodologies." Tajseer Journal for Interdisciplinary Studies in Humanities and Social Science, Vol. 6, Issue 2 (2024), pp. 57-74. https://doi.org/10.29117/tis.2024.0184

 

© 2024, Jafry & Fejjaj, licensee, Tajseer & QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


مقدمة

أوضح عالم الاجتماع الألماني فيرنر فوكد (Werner Vogd) أن استفادة علماء الاجتماع من الفيزياء لا تكمن في تطبيق النظريات الفيزيائية بشكل مباشر على الظواهر الاجتماعية، بل يتحقق ذلك أساسا من خلال الاستفادة من المنهجية والبنية النظرية للفيزياء كمصدر إلهام لتطوير مناهجهم وأساليبهم في البحث والدراسة[1]. بمعنى آخر، يمكن أن يستفيد علم الاجتماع من منهجية البحث المعتمدة في الفيزياء والمفاهيم التي تنتمي إليها لفهم الظواهر الاجتماعية أو صياغة منهج علمي للبحث فيها.

إن العلاقة بين علم الاجتماع والفيزياء ليست حديثة العهد، فقد استفاد علم الاجتماع من منهجيات ومفاهيم الفيزياء الكلاسيكية في تطوير منهجيته الخاصة وتأكيد استقلاليته العلمية. ويظهر هذا التأثر جليًا في أعمال المؤسسين أوغست كونت وإميل دوركايم، الذين سعيا لتطبيق النموذج الوضعي لعلم الطبيعة على الظواهر الاجتماعية. فالعلاقة بين علم الاجتماع والفيزياء الكلاسيكية مباشرة وواضحة في كتب مقدمات علم الاجتماع، وإن كانت هذه العلاقة غير واضحة وضوحًا تامًا بين علم الاجتماع الوضعي والفيزياء في مرحلة ما بعد نيوتن (فيزياء الكوانتم)، فإن ذلك لا ينفي وجودها.

فبالرغم من أن تطور علم الاجتماع وظهور نماذج معرفية كالبنائية والتأويلية ليس بواضح الارتباط بتطور الفيزياء، إلا أن الفحص المعاصر للأسس المنهجية وأساليب البحث في كل من علم الاجتماع بعد الوضعي وفيزياء الكوانتم، يكشف عن وجود تقاربات إبستيمولوجي ومنهجية بين التخصصين. فالذاتية واللايقين واللاحتمية وصعوبة فصل الذات العارفة وموضوع المعرفة يمكن اعتبارها مبادئ علمية جاسرة بينهما. وإن كانت هذه المبادئ قد شكلت مصدر نقد للنظريات غير الوضعية في علم الاجتماع وكان ينظر إليها كعلل إبستيمولوجية، إلا أنها قد أثبتت شرعيتها العلمية مع فيزياء الكوانتم.

من هذا المنطلق، يسعى هذا المقال لتسليط الضوء على التجسير القائم بين التخصصين من زاويتين؛ فمن جهة أولى، يعرض التأثير الأحادي الاتجاه الذي كان للفيزياء الكلاسيكية على نشأة علم الاجتماع. فقد اعتمد المؤسسان، كونت ودوركايم، أنطولوجيا فيزيائية استندت إلى نظرة نيوتن الميكانيكية للكون، إذ رأيا أن الواقع الاجتماعي موضوعي وخارجي ويمكن ملاحظته وإخضاعه للقياس كما الظواهر الفيزيائية. ومن جهة ثانية، يتطرق للقرابات المنهجية بين فيزياء الكوانتم وعلم الاجتماع غير الوضعي (نموذج علم الاجتماع البنائي). تقارب يتجسد أساسًا في وجود مبادئ علمية مشتركة قوضت الموضوعية والحتمية كما صوغت لها الفيزياء وعلم الاجتماع الكلاسيكيين، وتبنت طرحًا يفيد أن الذاتية أمر لا مفر منه في صيرورة البحث؛ حيث إنه لا يمكن أبدًا الفصل بين الذات والموضوع، وأن العالم، الفيزيائي كما الاجتماعي، يحكمه قدر من عدم اليقين ولا يمكن التنبؤ بظواهره إلا في شكل احتمالات.

أولًا: تأسيس علم الاجتماع على مبادئ الفيزياء الكلاسيكية

يعرف كل تخصص علمي بموضوعه ومنهجه، مع العلم أن الموضوع هو من يحدد المنهج[2]. ويفترض هذا المقال أن تأثر علم الاجتماع الكلاسيكي بالفيزياء يتجلى أساسا في تأثر كونت ودوركايم بأنطولوجيا الفيزياء الكلاسيكية[3]، والتي استندت إلى نظرة نيوتونية ميكانيكية للكون؛ حيث الكل مترابط بقوانين وعلاقات سببية يمكن الوصول إليها بطريقة موضوعية من خلال الملاحظة والقياس. وكنتيجة منطقية تأثرت أيضا إبستيمولوجية ومنهج علم الاجتماع الكلاسيكي بالفيزياء: فكانت الموضوعية، والشمولية، والوضعية، والمنهج الكمي، بمثابة الركائز التي اعتمدها المؤسسان في بناء علم الاجتماع كتخصص علمي مستقل.

إن أحد التخمينات[4] التي نرجحها لتفسير انجذاب علماء الاجتماع المؤسسين لمبادئ الفيزياء الكلاسيكية هو كونهم تطبعوا ذهنيا عليها؛ مع كونت كان تطبعا مباشرا من خلال تكوينه في الفيزياء[5]، ومع دوركايم كان تطبعا غير مباشر من خلال تكوينه الفلسفي وقراءاته لفلسفة العلوم الطبيعية. وما يزكّي هذا التخمين هو مفهوم الهابتوس[6] كما قعّد له بيير بورديو. فمن خلال تنشئتهم[7] (المباشرة وغير المباشرة) في كنف علوم الطبيعة، خاصة الفيزياء والبيولوجيا، اكتسب المؤسسون هابتوسًا معرفيًا مشبعًا بمناهج ومنهجيات هذه العلوم، وهو ما انعكس على إنتاجاتهم الفكرية في علم الاجتماع، فمن خصائص الهابتوس أنه نتاج ومنتج للتاريخ.

للتحقق من هذا التخمين، ولأنه وقع اختيارنا – في هذا المقال – من المؤسسين على كونت ودوركايم، سنحاول الكشف عن هذا الهابتوس لديهم معتمدين على وقائع من سيرهم المعرفية وعلى تجلياته انطلاقا من إنتاجاتهم الفكرية. كونت درس ودرّس الفيزياء وعلم الفلك كتخصص لسنوات، ودوركايم درس فلسفة هذه العلوم وتأثر بمناهجها. كونت تأثر بشكل مباشر بالفيزياء ودوركايم بشكل غير مباشر، لكن النتيجة كانت واحدة، محاولة تأسيس علم الاجتماع على مقاييس علمية الفيزياء؛ الظواهر الاجتماعية كما الفيزيائية توجد بمعزل عن الأفراد، يمكن ملاحظتها وقياسها بموضوعية، ومن ثم تفسيرها سببيًا وصياغة قوانين عامة لها.

1.     أوغست كونت: الفيزياء الاجتماعية والتفسير الناموسي

تشبّع فكر كونت، تكوينا وممارسة، بالعلوم الحقة والطبيعية؛ حيث درس الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الفلك في مدرسة البوليتكنيك، ثم في سن الثامنة عشرة، شرع في إعطاء دروس خاصة في الرياضيات، وفي عام 1826، بدأ كونت بإلقاء دورة تعليمية شفهية حول فلسفة وتاريخ العلوم الطبيعية، قبل أن يشرع في كتابة هذه الدروس في مؤلفٍ أسماه "دروس في الفلسفة الوضعية". فيما افتتح دورة مجانية في علم الفلك سنة 1832، كان يدرسها كل يوم أحد لعموم الناس وذلك لمدة 18 عامًا، وكان مقصده حث العامة على التفكير العلمي الوضعي على اعتبار أن علم الفلك هو أكثر العلوم وضعية، ويعدّ كتابه "أطروحة فلسفية في علم الفلك الشعبي" ملخصًا لهذه الدروس[8].

من خلال تكوينه في الفيزياء وممارسته لها، اعتقد كونت أنه يمكن فهم المجتمع وتحليله باستخدام علم يقوم على نفس مبادئ الفيزياء، وأن تأسيس هذا العلم (الفيزياء الاجتماعية أو علم الاجتماع)[9] ضروري لإكمال نسق العلوم الطبيعية، وهو ما يؤكده قول: "الآن بعد أن أسس العقل البشري الفيزياء السماوية، الفيزياء الأرضية، الفيزياء العضوية، يبقى إكمال نسق علوم الملاحظة وتقديمها كفروع لجذع واحد، وليس كأجسام معزولة رهين بتأسيس الفيزياء الاجتماعية"[10]. المشترك بين هذه العلوم هو تبنيها للنهج الوضعي، وعلم الاجتماع بدوره عليه استنساخ هذا النهج.

إن الوضعية كما تبناها كونت وأتباعه مقاربة إبستيمولوجية ترفض الميتافيزيقيا، وترى أن المعرفة العلمية يجب أن تقتصر على ملاحظة الحقائق والتجريب وصياغة قوانين يمكن التحقق منها. وفقًا لهذا النهج، فإن "أي أسئلة حول الأسباب الأولية أو النهائية للظواهر يجب استبعادها من العلم"[11]؛ لأن هذه المفاهيم لا يمكن التحقق منها تجريبيًا، وبالتالي لا يمكن أن تكون موضوعًا للمعرفة العلمية. "ظهرت الوضعية بهذا المعنى بالتوازي مع الفيزياء الكلاسيكية؛ حيث رغب نيوتن في الامتناع عما أسماه الأسئلة الافتراضية؛ أي أسئلة حول الأسباب الأولى أو النهائية"[12]، واعتقد بوجوب أن يقتصر العلم على دراسة الظواهر التي يمكن ملاحظتها وقياسها فقط.

يظهر تأثر كونت بفيزياء نيوتن من خلال اعتماده النهج الوضعي، وتبنيه نظرة ميكانيكية للواقع أثرت بدورها على المنهج الذي حاول صياغته لتأسيس علم الاجتماع، واعتماده مفاهيم من الفيزياء كالثبات والديناميكا لفهم المجتمع وظواهره.

تبنى كونت نظرة ميكانيكية للمجتمع، مستوحاة من مبادئ ميكانيكا نيوتن. ووفقًا لهذا الطرح، يمكن النظر إلى المجتمع على أنه نسق ميكانيكي، يمكن فهم ظواهره باستخدام قوانين علمية عامة، تمامًا كما تتيح ميكانيكا نيوتن فهم حركة الأجسام المادية باستخدام قوانين فيزيائية (قانون القصور، قانون الديناميكية، قانون الفعل ورد الفعل).

من هذا المنطلق، سعى كونت لبناء علم يختص بدراسة المجتمع يقوم على منهجية علمية تتأسس على الملاحظة الموضوعية للظواهر الاجتماعية والبحث عن قوانين عامة تحكمها. على غرار الفيزياء أو الميكانيكا الكلاسيكية حاول كونت أن يجعل من علم الاجتماع علمًا ناموسيًا (Nomothetic Science)، أي علمًا يهتم بإيجاد القوانين العامة التي تحكم الظواهر[13]. فالعلم حسب كونت يجب أن "يتخلى عن البحث في أصل الكون ومقصده ومعرفة الأسباب الحميمة للظواهر، للتركيز فقط على اكتشاف (بالاستخدام الجيد للمنطق والملاحظة) قوانينها الفعلية، أي علاقاتها الثابتة من التعاقب والتشابه"[14]. هنا وضع كونت مبادئ علم الاجتماع قياسًا على مبادئ الفيزياء: التخلي عن التفسير السببي الغائي، واعتماد الملاحظة كمنهجية للبحث، وأخيرًا صياغة قوانين عامة مفسرة للظواهر الاجتماعية، لها نفس خصائص القوانين الفيزيائية: تبنى بالاستقراء، وكونية وموضوعية، ولها قدرة على التفسير والتنبؤ. ويمكن رصد خصائص هذه القوانين من منظور كونت كالآتي:

‌أ.       الاستقراء: وفقًا لكونت، القوانين المفسرة للظواهر الاجتماعية يجب أن تستند على الملاحظة الموضوعية لهذه الظواهر، والتي يمكن من خلالها استنباط الواقع. رفض كونت كل ما لا يمكن أن يكون موضوع ملاحظة واستبعده من التحليل العلمي الوضعي[15]. كما أن الفيزياء تنطلق من ملاحظة وقائع فيزيائية (سقوط الأجسام مثلا)، ثم تحليلها واستخلاص الانتظامات وتذهب في النهاية لصياغة قوانين فيزيائية عامة (قانون الجاذبية مثلا)؛ فعلم الاجتماع يجب أن يسير على هذا النحو لتفسير الظواهر، أي الانطلاق من ملاحظة الوقائع الخاصة لبناء القوانين العامة اعتمادًا على أساليب ومناهج علمية. فكونت يعتمد نهجًا استقرائيًّا، يبدأ من ملاحظة الحقائق لاستنتاج القوانين، ولا ينطلق من فرضيات أو تخمينات غير قابلة للملاحظة والاختبار.

‌ب.    التفسير والتنبؤ: الملاحظة كنهج لوحدها لا تجعل من الممارسة البحثية علمًا. فالعلم الحقيقي وفقًا لكونت، "بعيد عن كونه مجرد ملاحظات، يميل دائمًا إلى الاستغناء، قدر الإمكان، عن الاستكشاف المباشر، واستبداله بالتنبؤات العقلانية [...] تتمثل روح التفكير الوضعي قبل كل شيء في الرؤية من أجل التنبؤ، في دراسة ما هو كائن من أجل استنتاج ما سيكون"[16]. التنبؤ بظاهرة حسب كونت لا يتأتى إلا بالرجوع إلى القوانين العامة المفسرة لها[17]، كقوانين الثبات والديناميكا.

إن ثنائية الثبات والديناميكا هي نقل لمبادئ ميكانيكا نيوتن إلى مجال علم الاجتماع، يمكن من خلالها التفسير والتنبؤ. فالثبات يحيل على القوى في حال التوازن، في حين تحيل الديناميكيا على القوى التي تنتج الحركة. تبعًا لهذا التقسيم يمكن فهم المجتمع كنظام متوازن وثابت تنظمه القوانين، وأيضًا كنظام متطور يخضع لقوى التغيير[18]. ومن خلال هذه الثنائية يمكن تفسير الظواهر كما يمكن التنبؤ بها، إذ "تسمح قوانين الانسجام (الثبات) بالتفسير بينما تمكن قوانين التعاقب (الديناميكا) من التنبؤ"[19]: من خلال وصف "العلاقات الثابتة" بين الظواهر المرصودة والوقوف عند الانتظام الكامن خلفها (في حال الثبات كما الحركة) يمكن صياغة قوانين عامة لتفسيرها، وتبعا لهذه القوانين يمكن التنبؤ بالظواهر[20].

‌ج.     الكونية والموضوعية: تعدّ قوانين الفيزياء كونية؛ لأنها لا تختلف في الزمان والمكان، وموضوعية لأنها لا تتأثر بالآراء أو المعتقدات أو التجارب الفردية، سواء للملاحِظ أو الملاحَظ، تُحدّد فقط من خلال المعاينات الدقيقة والتجارب المتكررة التي جرى التحقق منها وتأكيدها من قبل العلماء. إذا كانت قوانين الفيزياء تقول بأن الماء يبدأ في التبخر عند درجة الحرارة مئة، فإن هذا يتحقق في كل زمان ومكان. فالقوانين التي من شأنها تفسير الواقع الاجتماعي هي كذلك كونية وموضوعية حسب كونت. وهذا شأن قانون الحالات الثلاث (اللاهوتية، الميتافيزيقية، الوضعية) مثلا، إنه لا ينطبق فقط على التطور الفكري، ولكن أيضًا على التطورات الاجتماعية والسياسية، وينطبق على كل المجتمعات، وفي كل الأزمنة[21].

حاول كونت تأسيس إبستيمولوجيا تخص علم الاجتماع أكثر من انشغاله بتحليل ظواهر اجتماعية بعينها، مستوحيًا أسس هذه الإبستيمولوجيا من دراسته للعلوم الطبيعة، بالاعتماد على أنطولوجيا مستنبطة من الفيزياء التي تنظر إلى الواقع الاجتماعي كنسق ميكانيكي تحكمه قوانين كونية، وموضوعية، وحتمية، وتسمح بالتنبؤ. فقد وضع كونت الوضعية كبراديغم إبستيمولوجي لتأسيس علم اجتماع موضوعي على غرار علوم الطبيعة. وبناء عليه، تبنى منهجية استقرائية تقوم على الملاحظة الموضوعية لتحليل الظواهر، والكشف عن الانتظامات التي تطبعها، واستخلاص القوانين المفسرة لها. وهو ما مكنه من وضع الحجر الأساس للمنهج الكمي في علم الاجتماع.

2.     إيميل دوركايم: تشييء الوقائع الاجتماعية وتفسيرها سببيا[22]

يرجع استنباط دوركايم للأسس التي بنى عليها لوضع منهج علمي لعلم الاجتماع من فلسفة العلوم، إلى تكوينه العلمي؛ فقد حصل دوركايم على البكالوريا في الآداب عام 1874، وفي العلوم عام 1875. التحق بالمدرسة العليا عام 1879[23]، وبعد حصوله على الإجازة (Bachelor) في الفلسفة في عام 1882، بدأ بتدريس هذه المادة في المرحلة الثانوية في عام 1887، قبل أن يعين محاضرًا في جامعة بوردو؛ حيث درّس العلوم الاجتماعية والبيداغوجيا. ناقش أطروحة دكتوراة عام 1893 بعنوان "حول تقسيم العمل الاجتماعي". وفي عام 1902، عُين أستاذًا في جامعة السوربون؛ حيث أسس كرسي "علم الاجتماع" لأول مرة في عام 1913 بعد سنوات من الجهد الدؤوب لتحقيق ذلك[24].

وهكذا، اكتسب دوركايم الهابتوس العلمي الطبيعاني من خلال قراءته لفلسفة علوم الطبيعة، وليس بتكوينه المباشر في هذه العلوم. وتشير فلسفة العلوم هنا إلى أحد فروع الفلسفة الذي يسعى إلى فهم كيفية إنتاج المعرفة (أسئلة إبستيمولوجية)، وكيفية تبريرها وبيان المبادئ وأساليب التفسير التي يعتمدها العلم (المنهج والمنهجية). كما البحث في طبيعة الواقع الذي يسعى العلم إلى فهمه سواء كان واقعًا فيزيائيًّا أو اجتماعيًا (أسئلة انطولوجية)، وفي دراسة العلاقات بين التخصصات العلمية المختلفة وترابطاتها[25].

تأثر دوركايم هو الآخر بالفيزياء الكلاسيكية في مقاربته لعلم الاجتماع. أنطولوجيا، نظر للوقائع الاجتماعية نظرة الفيزيائي للظواهر الفيزيائية. وبنى تعريفه لموضوع علم الاجتماع على الوقائع الاجتماعية التي استند في تحديدها على خصائص الظواهر الفيزيائية: 1. خارجة عن الأفراد، 2. يمكن ملاحظتها، 3. قابلة للقياس، 4. القدرة على استخلاص العلاقات السببية التي تفسرها. وكما أن كل تخصص في العلم يعرف بموضوعه ومنهجه؛ حيث الموضوع هو من يحدد المنهج، فقد اعتمد دوركايم منهجا يتوافق مع نظرته لطبيعة موضوع علم الاجتماع – مستنبطا هو الآخر من الفيزياء – اعتمد باراديغم الوضعية بدل البنائية، والتفسير بدل الفهم، وعمد إلى قياس الوقائع الاجتماعية باعتماد منهج كمي كما تقيس الفيزياء ظواهرها.

تبنى دوركايم فكرة كونت القائلة بامتداد نهج علوم الطبيعة (الفيزياء والبيولوجيا) لدراسة الظواهر الاجتماعية، كما هو واضح من خلال محاولته أجرأة مشروع موضوعية علم الاجتماع الذي بدأه كونت. إذ يقول "إن مبدأنا الأساسي هو الحقيقة الموضوعية للوقائع الاجتماعية، إنه المبدأ الذي يقوم عليه وينتهي إليه كل شيء"[26]. "لا يمكن دراسة الوقائع الاجتماعية علميًا إلا إذا تمت دراستها بموضوعية"[27]. ويعدّ كتابه "قواعد المنهج في علم الاجتماع" دليلًا إبستيمولوجيًا حول المنهج الذي وضعه لتحقيق موضوعية علم الاجتماع، كما يعدّ كتابه عن "الانتحار" تطبيقًا لهذا المنهج.

إن فكرة كون الأشياء أو الظواهر التي تشكل الواقع الاجتماعي لها نفس خصائص الأشياء الفيزيائية؛ سواء من حيث تواجدها بشكل موضوعي مستقل عن الأفراد أو من حيث القدرة على ملاحظتها وقياسها، تلخصها القاعدة الأولى التي وضعها دوركايم كركيزة لمنهجه، وهي: تشييء الظواهر الاجتماعية[28]؛ أي النظر إليها على أنها "أشياء" مستقلة عن ذاتي الباحث والمبحوث، يمكن ملاحظتها وقياسها وتحليلها بموضوعية، بدلًا من اعتبارها مظاهر ذاتية للأفراد. وعليه؛ يسلك الباحث في علم الاجتماع منحى الفيزيائي في دراسته لحركة الأجسام وقياس سرعتها وكتلتها، وغيرها من الأشياء القابلة للقياس، دون أن يكون لذاتية الباحث أو الأجسام المبحوثة تأثير على النتائج المتوصل إليها.

ترتبط قاعدة دوركايم في تشييء الظواهر الاجتماعية برغبته في إظهار أنه يمكن للباحث في علم الاجتماع دراسة الوقائع الاجتماعية بشكل مشابه للظواهر الفيزيائية؛ يتعامل معها كأشياء، يلاحظها بموضوعية، يجمع المعطيات الكمية لقياسها، ومن ثم يحللها بهدف الوصول للعلاقات السببية التي تفسرها. فكون الوقائع الاجتماعية تبدو ظاهريًا وكأنها ذاتية مرتبطة بالأفراد، كالانتحار مثلا، إلا أن دوركايم من خلال قاعدة التشييء زعم أنه يمكن تخليص هذه الوقائع من ذاتيتها التي تعيق تفسيرها العلمي. ولتوضيح كيف يمكن تطبيق هذه القاعدة نورد مجموعة المبادئ العلمية التي بتحققها يتحقق التشييء:

       1.       مبدأ التخلي عن التصورات المسبقة: من الضروري تحرير الذات من أي تأثير صوفي أو أيديولوجي عند تحليل الوقائع الاجتماعية"[29]. يشدد دوركايم في هذا المبدأ على أهمية تخلي الباحث في علم الاجتماع عن تصوراته المسبقة حول موضوع بحثه ووضع نفسه في حالة ذهنية تسمح له بالنظر إلى الظواهر الاجتماعية كما لو كان يكتشفها لأول مرة. يقول بأن "عالم الاجتماع يجب أن يضع نفسه في حالة ذهنية مشابهة لتلك التي يكون فيها الفيزيائيون والكيميائيون وعلماء وظائف الأعضاء عندما يبحثون في منطقة لا تزال غير مستكشفة في مجالهم العلمي. عند دخوله إلى العالم الاجتماعي، يجب أن يدرك أنه يدخل المجهول؛ يجب أن يشعر بنفسه في وجود الحقائق التي تكون قوانينها غير متوقعة [...] يجب أن يكون مستعدًا للقيام باكتشافات تفاجئه وتثير قلقه"[30].

       2.       مبدأ تفسير الاجتماعي بالاجتماعي: فسر دوركايم الانتحار كواقعة اجتماعية بواقعة أخرى هي الاندماج الاجتماعي وليس بمفسرات فردية كالحزن أو الشعور بالوحدة. إن التخلي عن الأفكار المسبقة (المبدأ الأول) كشرط لموضوعية البحث يقطع مع ذاتية الباحث. أما تفسير الوقائع الاجتماعية بمحددات اجتماعية فهو شرط لتحقيق موضوعية البحث بالقطع مع ذاتية الأفراد المبحوثين.

إن مبدأ تفسير الاجتماعي بالاجتماعي مستنبط من مبدأ تفسير ظاهرة بظاهرة في الفيزياء. فالظاهرة "الطبيعة في الفيزياء عبارة عن كل مغلق (منهجيًا) على نفسه، ويمتلك في حد ذاته المبادئ التي يمكن أن تُفهم منها ظواهره. [...] لذلك فمن أجل فهم ظاهرة ما، يجب وضعها في سياقها الأوسع وإظهار كيفية تولدها من ظواهر أخرى"[31]. على سبيل المثال، من أجل فهم حركة كرة تتدحرج على أرض مائلة، يجب البحث في ظاهرة الجاذبية التي تمارس على الكرة، وظاهرة مقاومة الهواء، وأيضًا الاحتكاك بين الكرة والأرض، إلخ. فالواقع الاجتماعي كما الطبيعة في الفيزياء عبارة عن كل مغلق على نفسه، أي في بعده الاجتماعي والمشترك بين الأفراد، والمبادئ التي تفسر ظواهره، لذا، استبعد دوركايم الأفراد ودوافع فعلهم من التفسير وتبنى تصورًا كليانيًا (Holistic)[32] للمجتمع، حيث يفسر الاجتماعي بالاجتماعي فقط.

       3.       مبدأ الاستقلالية: يجب بناء موضوع البحث على معطيات مستقلة عن ذاتية الأفراد، من خلال تجميع الوقائع حسب خصائصها الخارجية المشتركة[33]؛ إذ إن هذه الخصائص هي ما قد يمكّن من تناول موضوع البحث بموضوعية أكبر، سواء من حيث استقلاليتها عن مظاهرها الفردية أو من حيث إمكانية التحقق منها ميدانيا. ولتحقيق ذلك، يقترح دوركايم "تناول الوقائع الاجتماعية من الجانب حيث تبدو معزولة عن مظاهرها الفردية". على سبيل المثال، في دراسته للانتحار، ركز دوركايم على الخصائص الخارجية الموضوعية لحالات الانتحار، مثل العمر والجنس والحالة العائلية والدين، بدلًا من الاعتبارات الذاتية والفردية المحيطة بكل حالة انتحار. وفقًا لهذه الخصائص، ومن خلال تحليل الترابطات الإحصائية التي تجمع بينها، طور دوركايم تصنيفه الشهير للانتحار (الأناني، والإيثاري، واللامعياري والقدري).

استنادًا إلى ما سبق، فأول مظاهر تأثر منهج دوركايم بالفيزياء الكلاسيكية هي قاعدة تشييء الظواهر الاجتماعية ومبادئها الملازمة (التخلي عن التصورات المسبقة، تفسير الاجتماعي بالاجتماعي، استقلالية المعطيات). أما ثانيها فهي اعتماد دوركايم على مبدأ السببية لتفسير الوقائع الاجتماعية، الذي عمل من خلاله على توسيع مبدأ السببية المطبّق على الظواهر الفيزيائية ليشمل الظواهر الاجتماعية أيضًا، بناءً على استقراء (شرعي) للتجارب الإمبريقية. وجادل دوركايم في أنه "جرى التحقق من قانون السببية في ميادين أخرى من الطبيعة كالفيزياء؛ حيث جعل من المعقول الاعتقاد بأنه ينطبق أيضًا على الظواهر الاجتماعية، فالعالم الاجتماعي ما هو إلا جزء من العالم الطبيعي، والبحث الميداني الذي يُجرى على هذا الأساس يميل إلى تأكيد ذلك"[34].

لا جدال في أن التفسير السببي برز أولًا في الفيزياء ثم بعد ذلك انتقل إلى العلوم الاجتماعية، بما في ذلك علم الاجتماع. في هذا السياق، يؤكد الفيزيائي رشيفسكي (N. Rashevsky) "أن النسق الفيزيائي هو مجموعة من الجسيمات الأولية بالإضافة إلى ناتج أنشطتها، [كما] المجتمع هو مجموعة من الأفراد بالإضافة إلى ناتج تفاعلاتهم"[35]. ففي الفيزياء، تشكل التفاعلات بين الأجزاء المختلفة من النسق صميم التفسير السببي. على سبيل المثال، في الميكانيكا الكلاسيكية، تعدّ القوة التي يمارسها جسم على جسم آخر (التفاعل بينهما) سبب حركته. وبالمثل، في علم الاجتماع، يجادل دوركايم بأن "المزيج بين تفاعلات ووعي الأفراد هو ما ينتج الحياة الاجتماعية، وبالتالي، فإن فهذا المزيج هو الذي يفسرها"[36].

وفقا لقانون التركيب؛ حيث تختلف خصائص المجتمع الكلي عن خصائص أفراده، فإن "الفعل السببي الذي تمارسه ظاهرة اجتماعية على الكل الاجتماعي هو نفسه محدد من قبل الكل الاجتماعي، أي من خلال النسق الذي يتشكل من اتحاد الأفراد"[37]. مما يعني أن السببية الاجتماعية تُحدد من خلال عوامل جماعية وليس فردية، ومن خلال التفاعل وليس الفعل. لذلك، شدد دوركايم على ضرورة تفسير الاجتماعي بالاجتماعي للكشف عن العلاقات السببية التي تفسر الوقائع الاجتماعية الملاحظة.

غالبًا ما يستخدم الفيزيائيون التجارب المباشرة لتحديد العلاقات السببية، ومن خلال التحكم في المتغيرات المستقلة وقياس المتغيرات التابعة، يمكن للفيزيائيين تحديد العلاقات السببية بين المتغيرات بدقة. لكن، نظرًا لتعذر إجراء التجارب المباشرة في علم الاجتماع، إذ لا يمكن للمراقب التحكم في الظواهر المرصودة لعدم القدرة على ضبط تكرار لها في سياق ثابت[38]، اعتبر دوركايم أن التحليل المقارن، من بين أدوات بحث أخرى، هو السبيل البديل لذلك. فمن خلال إبراز أوجه التشابه والاختلاف بين المجتمعات أو بين شرائح من نفس المجتمع، يمكن فهم العلاقات السببية بين الوقائع الاجتماعية. وعلى سبيل المثال، قارن دوركايم في كتابه "في تقسيم العمل الاجتماعي" بين المجتمعات التقليدية والحديثة لدراسة كيفية تأثير تقسيم العمل على التضامن والتماسك الاجتماعيين. حيث مكّنته هذه المقارنة من تحديد العلاقة السببية بين تقسيم العمل (كثيف، محدود) ونوع التضامن الاجتماعي (عضوي، آلي)، الذين تؤثران بدورهما سببيًا على درجة التماسك الاجتماعي (ضعيف، قوي).

بناءً على ما سبق، وبالقياس على الأنطولوجيا الفيزيائية، اعتبر دوركايم أن المجتمع كيان مميز عن الأفراد الذين يتألف منهم، وقد نظر إلى الوقائع الاجتماعية كأشياء خارجية عن الأفراد، يمكن دراستها بموضوعية وقياسها كما الظواهر الفيزيائية. وتماشيًا مع هذه النظرة الموضوعية للعالم الاجتماعي، تبنى دوركايم الباراديغم الوضعي على غرار كونت؛ حيث إن ما هو قابل للملاحظة والتشييء (كما في الفيزياء) فقط هو موضوع الدراسة، وليس ما هو ذاتي وفردي كما دعت إليه الاتجاهات الفردانية والفهمية في علم الاجتماع. وفقًا لمبادئ الوضعية، اعتمد دوركايم منهجية استقرائية قائمة على الملاحظة والقياس، مما أدى إلى تبني منهج كمي (كالتحليل الإحصائي والتحليل المقارن) يمكِّن من ذلك. فقد كانت غايته الأولى والأخيرة هي تحقيق موضوعية علم الاجتماع وتخليصه من شبح الذاتية الذي يطارد الدراسات الاجتماعية، وهو ما يؤكده قوله: "هذا هو التقدم الذي لا يزال يتعيّن إحرازه في علم الاجتماع. يجب أن ينتقل من طور الذاتية، التي لم يتجاوزه بعد، إلى المرحلة الموضوعية"[39].

ثانيًا: إشكالات إبستيمولوجية مشتركة بين فيزياء الكوانتم وعلم الاجتماع

وفقا لأستاذ علم الاجتماع الألماني فارنر فوغد (Werner Vogd) في كتابه "فيزياء الكوانتم وعلم الاجتماع في حوار "فإن الفائدة التي يمكن أن يجنيها علماء الاجتماع من فيزياء الكوانتم لا تكمن في التطبيق المباشر لنظرياتها على الظواهر الاجتماعية، بل في استلهام منهجيتها وبنيتها النظرية لتطوير منهجياتهم الخاصة. يقول فوغد: "إذا أراد علماء النفس أو علماء الاجتماع والإنسانيات أن يتعلموا شيئًا ما من نظرية الكوانتم، فلا ينبغي عليهم العودة إلى الظواهر الفيزيائية وافتراض كل شيء من هناك. ولكن يجب أن يلتزموا بخصوصية الظواهر الاجتماعية واستقلاليتها بدلًا من اختزالها في الظواهر الفيزيائية الكوانتية، أو العكس. يكمن اكتساب المعرفة التي يمكن أن تستمدها التخصصات العلمية الأخرى من فحص فيزياء الكوانتم بدرجة أقل في مستوى المحتوى، وأكثر في مستوى المنهجية والبنية النظرية"[40]. من هذا المنطلق، حاول بعض الباحثين المختصين استكشاف أوجه التشابه المنهجي والإبستمولوجي بين فيزياء الكوانتم وعلم الاجتماع (والعلوم الاجتماعية بشكل عام)، وخاصة في التيارات الذاتية.

تتطور الأنطولوجيات باستمرار، ومضمون العلوم يتغير عبر التاريخ، فيما ظهرت الأنطولوجيا البنائية[41] في علم الاجتماع كرد فعل معارض للأنطولوجيا الموضوعية، التي هيمنت على الفيزياء الكلاسيكية وتأثر بها المؤسسون الفرنسيون الوضعيون كما سبق وأشرنا. فالأنطولوجيا البنائية ترى أن الواقع الاجتماعي ليس مجرد مادة أو موضوع يمكن تشييئه كما اعتقد دوركايم، بل هو نتاج تفاعل اجتماعي من قِبل أفراد، يتشكل من "معانٍ" مرتبطة بذاتهم.

تتضمن الباراديغمات السوسيولوجية مثل السوسيولوجيا الفهمية مع ماكس فيبر، والفينومينولوجيا مع إدموند هوسرل، والتفاعلية الرمزية مع هربرت بلومر، والإثنوميثودولوجيا مع هارولد غارفينكل، نقدًا للتفكير الوضعي وتبني الأنطولوجيا الذاتية. تعتمد هذه البراديغمات بشكل أكثر على المنهج الكيفي لفهم معنى وتصور الأفراد لبيئتهم الاجتماعية كأساس لفهم الواقع الاجتماعي. لتعيد بذلك هذه البراديغمات طابع الذاتية للظواهر الاجتماعية وللمعرفة السوسيولوجية التي حاول الوضعانيون تجريدها منه.

مع ظهور فيزياء الدقائق، اكتسبت البنائية البراديغمات التأويلية شرعية علمية واسعة؛ شرعية تعترف بالصدفة والانبثاق وتقوّض مبدأ الحتمية والموضوعية المطلقة الذي كان يشكّل الأساس لوضعية الفيزياء كما وضعية علم الاجتماع. أظهرت فيزياء الكوانتم أن القياس والمراقبة يؤثّران على نتائج التجربة، وأن الفصل بين المراقِب والمراقَب، كما زعمت التيارات الموضوعية، ليس ممكنًا، كما تبين أنه لا يمكن تقديم التنبؤات إلا بطرق افتراضية، مما أبطل أطروحة الموضوعية كما تبنتها الفيزياء وعلم الاجتماع الكلاسيكيان، وأكد أن الحقيقة مطلقة نسبية ومبنية بدلًا من أن تكون مطلقة أو موضوعية[42].Haut du formulaire

من خلال الثورة الإبستيمولوجية التي أحدثتها فيزياء الكوانتم على مبادئ الفيزياء الكلاسيكية، تم تجاوز أهم الفروقات الإبستيمولوجية التي كانت قائمة بين علوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية أو علوم الروح كما سماها ديلتي (حيث كانت الأولى موضوعية والثانية ذاتية)[43]. مع تقدم فيزياء الكوانتم، ينهار التمييز التقليدي القائم بين الفيزياء الكلاسيكية والتيارات اللا-وضعية أو البنائية في علم الاجتماع، ويظهر بدلًا من ذلك تشابهات أنطولوجية وإبستيمولوجية، كالاعتراف بتأثير المراقب والسياق في عملية المعرفة، مما يجعل من الواقع نسقًا متعدد الحقائق التي تختلف باختلاف زاوية النظر. بالإضافة إلى عدم اليقين فيما يتعلق بإمكانيات التنبؤ بالظواهر المدروسة؛ حيث لا يتأتى للباحثين من كلا التخصصين إلا تقديم احتمالات لما قد يحدث في سياقات محددة، بدلًا من تقديم تنبؤات يقينية كما في الطرح الكلاسيكي.

1.     إشكالات إبستيمولوجية مشتركة بين فيزياء الكوانتم وعلم الاجتماع

أحدثت فيزياء الكم بُعدًا جديدًا في المنهج العلمي من خلال تسليط الضوء على كون المراقبة والقياس ليسا إجراءات محايدة، بل تؤثران على الظواهر المدروسة. اعترضت فيزياء الكم على فرضية الفيزياء الكلاسيكية القائلة بأن المعرفة مستقلة عن المراقب، وعليه، تُعد صالحة لكل مجرِب وتؤدي إلى صياغة قوانين كونية، باعتبار هذه الأخير جوهر الموضوعية. وبدلًا من ذلك، تبنت فرضية أن المراقب نفسه جزء لا يتجزأ من نسق المراقبة ويؤثر فيه، إذ يكون المراقب والنسق الملاحظ، في ميكانيكا الكم، مترابطين بطريقة تجعل مراقبة الجسيم تؤثر على حالته الكوانتية.

حدث تأكيد هذا الطرح من خلال مبدأ التراكب (Superposition) الذي برهنت عليه تجربة قطة شرودنغر (Schrödinger's cat) الشهيرة (1935)؛ حيث أظهرت التجربة أن الأجسام الكوانتية مثل الذرات والفوتونات يمكن أن توجد في حالتين في آن واحد: موجة وجسيم (كما في قطة شرودنغر التي تكون ميتة وحية في الوقت ذاته). عند قياس جسم كوانتي (أي إخضاعه للملاحظة)، ينهار إلى حالة محددة، إما موجة أو جسيم[44]. وعليه، يمكن للملاحظة البسيطة لنسق ما أن تتسبب في تغييره، مما يعني أن معرفة المراقِب بالنسق الذي يراقبه ليست مستقلة عنه، بل مرتبطة به جوهريا. فهذا الترابط بين الملاحَظ والملاحِظ يتحدى المنظور الكلاسيكي الذي يفترض أن المعرفة تمثلٌ موضوعي للواقع، مستقل عن المراقِب.

تشترك فيزياء الكم مع بعض النظريات السوسيولوجية، لا سيما البنائية، في هذا القيد الإبستيمولوجي، إذ تنظر إلى دور المراقب والسياق في عملية إنتاج المعرفة. تمثل نظرية الأنساق لعالم الاجتماع الألماني نيكلاس لوهمان (Niklas Luhmann) تجسيدًا لهذا الوضع؛ حيث يعدّ فعل المعرفة (الملاحظة) متلازمًا مع مجال الدراسة. وفقًا للوهمان "الملاحظة كعملية تمييز (Distinction) وتعيين (Designation)"[45] تجعل الملاحِظ جزءًا من عملية الملاحظة وليس كيانًا منفصلًا عن الكائن أو الموضوع الذي يلاحظه.

على سبيل المثال، عندما تنظر إلى شجرة معينة كملاحظ، فإنك تبدأ أولًا بـ "عملية التمييز"، تفصل الشجرة عن بيئتها، من سماءٍ، وأرضٍ، ومبانٍ، وبقية العناصر والأشجار الأخرى. تمكنك هذه العملية من تحديد الشجرة ككيان مميز ومستقل عما حوله، لتقوم بعد ذلك بـ "بعملية التعيين": حيث تستخدم علامات أو رموز للإشارة إلى الشجرة التي ميزتها. مثل قولك "إنها شجرة أرز" أو "الشجرة الأطول"، إلخ. غير أن كل من التمييز والتعيين عمليتان بهما قدر من الذاتية، وقد تختلفان من مراقب إلى آخر، فلكل مراقب منظوره الخاص متأثرًا بتجربته، وثقافته، وخلفياته الاجتماعية والنظرية، وتحيزاته وما إلى ذلك[46]. فإذا نظر اثنان من الملاحظين إلى نفس الشيء أو الظاهرة، فقد يقومان بتمييزها وتعيينها بشكل مختلف. وهذا ما يسلط الضوء على أهمية الانعكاسية (Reflexivity) في البحث، أي مراعاة منظور وتأثير الباحث على ملاحظاته واستنتاجاته[47]. وفقًا للوهمان، الذاتية جزء لا يتجزأ من أي عملية ملاحظة، وقد يكون لها آثار مهمة على نتائج البحث، وهذا الطرح يتوافق مع الإبستيمولوجيا في فيزياء الكوانتم، التي تعترف بالعلاقة المتداخلة بين الملاحِظ والملاحَظ.

في نظرية الأنساق، يُبنى الواقع من خلال عمليات الملاحظة، ولا يمكن أن يوجد بشكل مستقل عن هذه العمليات. وعليه، يصبح التمييز بين عملية الملاحظة والظاهرة الملاحظة أمرا بالغ الأهمية لفهم هذا الطرح. فعندما يقوم شخص بعملية ملاحظة، فإنه يخلق ظاهرة تصبح هي الحقيقة التي تُنشأ بواسطة عملية الملاحظة نفسها، وكل ما يأتي بعد ذلك يكون مرتبطا بهذه العملية ولا يمكن فصله عنها، مما يعني أنه الملاحِظ عن موضوع الملاحَظ ليسا كيانين منفصلين[48]. بمعنى آخر، الظاهرة الملاحظة (أو الحقيقة كما يراها الملاحِظ) هي ما يلاحظ، وهي نتيجة التفاعل بين الفرد والعالم المحيط به[49]. لذلك، يرفض لوهمان المفهوم التقليدي الذي ينظر للملاحِظ والملاحَظ ككيانين منفصلين، مؤكدًا أن كلاهما جزء لا يتجزأ من عملية الملاحظة نفسها.

على غرار "العلوم الإنسانية (علم الاجتماع في سياقنا هذا)، يجب أن تأخذ فيزياء الكم في الاعتبار تداخل الممارسات المعرفية في الظاهرة موضوع المعرفة. مثل العلوم الإنسانية، تتعامل فيزياء الكم مع حالة يكون فيها الفعل المعرفي متعايشًا مع مجال دراسته"[50]. فاعتراف فيزياء الكم بعدم إمكانية الفصل بين الملاحِظ والملاحَظ وتأثير الذاتية على القياس، يفند التمييز التقليدي الذي يزعم أن العلوم الطبيعية موضوعية ومحايدة، بينما العلوم الإنسانية ذاتية وتتأثر بالعوامل الاجتماعية والثقافية. في ضوء هذه الرؤية، تصبح فيزياء الكم والعلوم الإنسانية متقاربتين في مواقفهما الإبستيمولوجية مما كان يعتقد سابقًا.

2.     استحالة التنبؤ على وجه اليقين

سادت في الفيزياء الكلاسيكية فكرة أن العالم يخضع لحتميات وعلاقات سببية صارمة؛ حيث يمكن إرجاع كل حدث إلى سبب واضح يمكن التنبؤ به، مما يجعل النتائج والظواهر قابلة للتنبؤ بدقة. على هذا الأساس، اعتقد علماء الاجتماع الكلاسيكيون بإمكانية تفسير سلوك الأفراد والتنبؤ به من خلال قوانين وبنيات اجتماعية ثابتة. وكانوا ينظرون إلى المجتمع كنسق منظم ومتماسك (كما هو حال الوظيفيين)؛ حيث تتحدد التفاعلات والسلوكات الاجتماعية وفقا للمعايير والقيم السائدة، والتي يمَكّن تحليلها من التنبؤ بالظواهر المجتمعية.

مع ظهور فيزياء الكوانتم، تغير هذا التصور الحتمي للعالم وتلاشى اليقين بشأن قدرة العلم على التنبؤ الدقيق. فباتت فيزياء الكوانتم نقطة تحول رئيسة في الفلسفة العلمية، لكونها تقدم نموذجًا من العلوم الطبيعية لعدم اليقين في العلم، مما عزّز موقف النظريات اللا-حتمية في العلوم الاجتماعية التي كانت تؤمن بصعوبة التنبؤ الدقيق.

وفقًا لفيزياء الدقائق، من المستحيل التنبؤ على وجه اليقين بسلوك الجسيم قبل إخضاعه للقياس؛ هل سيتصرف كموجة أم كجسيم؟ هل قطة شرودنغر حية أم ميتة؟ وعليه، فما دامت الظروف الأولية للأجسام الكوانتية غير محددة بدقة، يسقط مبدأي السببية والحتمية، ويصبح التنبؤ الدقيق على الطريقة الوضعية مستحيلًا، وأقصى ما يمكن تحقيقه هو تقديم احتمالات لمختلف النتائج الممكنة[51]. وعلى عكس التنبؤات الحتمية للفيزياء الكلاسيكية، فإن الواقع الكوانتي ذو طبيعة احتمالية، تخضع ظواهره لدرجة معينة من عدم اليقين (Uncertainty)، ولا يمكن التنبؤ بنتائجها إلا في شكل احتمالات.

كما عالم الدقائق في الفيزياء، يتميز أيضًا العالم الاجتماعي بعدم اليقين حيث يجعل تعقيد الظواهر الاجتماعية وسلوكيات الأفراد من الصعب التنبؤ بتطوراتها المستقبلية. تشكّل النظريات الانبثاقية (Emergence theory) في علم الاجتماع مثالًا على وجود خاصية عدم اليقين في المعرفة العلمية. فحسب ريمون بودون (Raymond Boudon) يرجع عدم اليقين، في جزء منه، إلى ارتباط الظواهر الاجتماعية بحريات الأفراد واختياراتهم التي لا يمكن التنبؤ بها بدقة. فالواقع الاجتماعي (في نظره) يتشكل من ثنائية بنية اجتماعية/حرية فردية؛ حيث الأولى تفرض إكراهات على الثانية لكن لا تقيّدها بشكل كامل[52]. لا يمكن اعتبار الفرد كالآلة خاضعا لبنيات اجتماعية تحدد سلوكه بطريقة ميكانيكية، وإهماله كذات لها قصدية واستقلالية قادرة على الفعل والاختيار وفقا للسياق[53].

وفقا لبودون أيضًا، يمكن أن تتأثر أهداف واختيارات الأفراد بعوامل خارجة عن سيطرتهم مثل الثقافة والتعليم والتنشئة الاجتماعية والبنيات الاجتماعية الأخرى (كأن يسعى تلميذ لأن يكون طبيبًا بحكم المكانة الاجتماعية المرموقة التي يحظى بها الطبيب في مجتمعه). ومع ذلك، "حتى لو كانت هذه العناصر خارجة عن سيطرة الأفراد وتؤثر فيهم، فإن هذا لا يعني أن خياراتهم يمكن التنبؤ بها يقينًا"[54].

فلكي يؤدي موقف معين إلى خيار يمكن التنبؤ به على وجه اليقين، لا يكفي أن تكون أهداف واختيارات الأفراد محددة من قبل البنيات الاجتماعية فقط، بل يجب أيضًا تحديد الأهداف وفق تسلسل هرمي واضح وأولويات محددة، بحيث يمكن للفاعل أن يختار دون تردد، آنذاك (فقط) يمكن للملاحظ أو الباحث التنبؤ بسلوكه على وجه الدقة[55]. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن هذا التنبؤ يتعذر مع العقلانيات المحدودة (Bounded rationality) للفاعلين الاجتماعيين، كما يؤكد ذلك سايمن (H. A. Simon)[56]، حيث إن عدم توفر الفرد على "جميع" المعلومات اللازمة للقيام باختيار معين، وعدم قدرته على تحليل جميع هذه المعلومات وترتيبها وفقًا للأولويات دقيقة، يجعل سلوكه غير قابل للتنبؤ به. ففي ظل هذه العقلانية المحدودة ينزاح الفاعل إلى الاختيار المرضي وليس الأمثل، بناءً على المعلومات المتاحة له ووفقًا لقناعاته الشخصية. فقد يختار شخص احترام إشارة المرور؛ لأنه يعلم أن الشارع مراقب بكاميرات الشرطة، بينما قد يختار شخص آخر عدم الامتثال لقانون المرور؛ لأنه يجهل وجود المراقبة الآلية، بالتالي، يتعذر التنبؤ بسلوك الفاعلين بشكل يقيني، ولا يمكن سوى تقديم احتمالات استنادًا إلى تحليل الباحث للمعطيات التي يتوفر عليها. وعند استجواب الفاعلين (باستخدام المنهج الفرداني) يمكن فهم سلوكهم وتأكيد الاحتمالات، تمامًا كما يحدث في فيزياء الكم عندما يخضع الجسم للقياس، فيتخذ شكلًا محددًا ويتضح سلوكه، مما يتيح إمكانية التيقن من الاحتمالات.

خاتمة

يمكن لعلم الاجتماع أن يستفيد من منهجية ومفاهيم الفيزياء، حتى وإن تعذر عليه استثمار نظرياتها وتطبيقاتها بشكل مباشر. فقد تأثر مؤسسو علم الاجتماع، مثل كونت ودوركايم، بالفيزياء الكلاسيكية، في النظر إلى الظواهر الاجتماعية مادية وفي القول باستقلاليتها عن الأفراد، كما تفسيرها بموضوعية من خلال بحث قوانين وعلاقات سببية وفقًا لمنظور شمولي. ووفقا لأنطولوجيا مستمدة من الفيزياء، نظروا إلى الواقع الاجتماعي كنسق ميكانيكي تحكمه قوانين كونية، وموضوعية، وحتمية، تسمح بالتنبؤ.

وضع كونت الوضعية كبراديغم إبيستيمولوجي لتأسيس علم اجتماع موضوعي مماثل لعلوم الطبيعة. وبناءً على مبادئ هذا البراديغم، الذي يعدّ الملاحظ موضوعًا للتفسير، تبنى منهجية استقرائية تقوم على الملاحظة الموضوعية لتحليل الظواهر والكشف عن الانتظامات التي تميزها، واستخلاص القوانين المفسرة لها. فمن خلال هذا النهج وضع الأساس الموضوعي للمنهج الكمي في علم الاجتماع. ومن جهته اعتبر دوركايم أن المجتمع كيان مستقل عن الأفراد الذين يتألف منهم، ونظر إلى الوقائع الاجتماعية كأشياء خارجة عن الأفراد يمكن دراستها بموضوعية وقياسها مثل الظواهر الفيزيائية. تماشيًا مع هذه النظرة الموضوعية للعالم الاجتماعي تبنى دوركايم براديغم الوضعية كما فعل كونت؛ حيث (فقط) الملاحَظ والمشيء هو موضوع الدراسة، ولا مجال للذاتي والفردي كما ذهبت إلى ذلك الاتجاهات الفردانية والفهمية في علم الاجتماع. فوفقا لمبادئ الوضعية اتبع دوركايم منهجية استقرائية قائمة على الملاحظة والقياس، وبالتالي منهجًا كميًا (التحليل الإحصائي والتحليل المقارن) يمكِّن من تحقيق ذلك. فقد كان هدفه الأساس هو تحقيق موضوعية علم الاجتماع وتخليصه من شبح الذاتية الذي ظل يهدد علميّته.

في سياق تغير الأنطولوجيات وتتطور العلوم، رافق ظهور فيزياء الكوانتم والنظريات غير الوضعية في علم الاجتماع تقويض مبدأ الموضوعية والحتمية واليقين، كما كان سائدًا عند الكلاسيكيين، وأقيم بين التخصصين جسر منهجي، رغم أن تأسيس كل منهما كان منفصلا عن الآخر. تبين مع فيزياء الكوانتم أن الموضوعية المطلقة في عالم الدقائق ليست سوى وهم لا يمكن تحقيقه، إذ اتضح أن الذاتية أمر لا مفر منه في صيرورة البحث؛ حيث إنه لا يمكن أبدا الفصل بين الذات العارفة وموضوع المعرفة، وأن العالم يحكمه قدر من عدم اليقين، ولا يمكن التنبؤ بظواهره إلا في شكل احتمالات. وبالمثل في علم الاجتماع غير الوضعي، جرى الدفاع عن طرح أن الإدراك الفردي والتفسيرات الذاتية تشكّل جزءًا مهمًا من الواقع الاجتماعي، وهو ما مكّن من تحدي المفاهيم التقليدية للمعرفة والواقع ككيانات موضوعية منفصلة عن المراقب. كما تمت البرهنة على تمتع الأفراد بمستوى معين من الإرادة الحرة، وتأثر سلوكهم بالعوامل الداخلية، مثل العقلانيات الخاصة والخيارات الفردية، وبالتالي لا يمكن فهمه فقط بالرجوع إلى المحددات الاجتماعية. كما اعتُرِف بأن الواقع تحكمه ظواهر انبثاقية لا يمكن التنبؤ بحدوثها، وبالتالي لا تخضع للحتمية.                              


 

المراجع

أولًا: العربية

لعريني، صلاح الدين. "مفهوم الهابيتوس عند بيير بورديو". مجلة العلوم الاجتماعية، ع9 (نوفمبر 2014)، ص. 63-71. استرجع في: 18/5/2024. https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/305/8/4/29568

ثانيا: الأجنبية                                                                                                                                                                           References:

Albert, Mathias & Bathon, Felix Maximilian. "Quantum and systems theory in world society: Not brothers and sisters but relatives still?." Security Dialogue, Vol. 51, N°. 5 (2020).

Andrieu, Bernard. "Au XXe siècle, la subjectivité des sciences." Le Portique, 1 January 2000, accessed 01/03/2023. https://journals.openedition.org/leportique/406

Bitbol, Michel. Théorie quantique et sciences humaines. Paris: CNRS Éditions, 2009.

Boudon, Raymon. La logique du social. Paris: Pluriel, 1979.

Bourdieu, Pierre. Le sens pratique. Paris: Ed Minuit, 1980.

Cherkaoui, Mohamed. Naissance d’une science sociale. Genève: Droz, 1998.

Colliot-Thélène, Catherine. "Max Weber et la sociologie compréhensive allemande: critique d’un mythe historiographique." in Catherine Colliot-Thélène et Jean-François Kervégan, De la société à la sociologie. Lyon: ENS Éditions, 2002, pp. 149-181.

Comte, Auguste. "Cours de philosophie positive: 1re et 2e leçon (1830-1842)." Les Classiques des sciences sociales, january 1936, accessed 10/02/2023 on the link: https://bitly.ws/3d6qs

–––. "Discours sur l’esprit positif (1842)." Les classiques des sciences sociales, 18 February 2002, accessed 08/01/2023 on the link: https://cutt.ly/V8NoHTa

Duchesneau, François. "Philosophie des sciences." in Frédéric Bouchard et al, sciences, technologies et sociétés de A à Z. Montréal: Presses de l’Université de Montréal, 2015.

Durkheim, Émile. "Les règles de la méthode sociologique (1894)." Les Classiques des sciences sociales, 1967, accessed 18/07/2023 on the link: https://tinyurl.com/2z7j32jb

Franck, Robert. "Les explications causale, fonctionnelle, systémique ou structurale, et dialectique, sont-elles complémentaires?." in Robert Franck, Faut-il chercher aux causes une raison? L'explication causale dans les sciences humaines. Lyon: Institut interdisciplinaire d'études épistémologiques, 1994.

Heilbron, Johan. "Auguste Comte and Modern Epistemology." Sociological Theory, Vol. 8, N°. 2 (1990).

Ladrière, Jean. "La causalité dans les sciences de la nature et dans les sciences humaines." in Robert Franck, Faut-il chercher aux causes une raison? L'explication causale dans les sciences humaines. Lyon: Institut interdisciplinaire d'études épistémologiques, 1994.

Lʻryny, Ṣalāḥ al-Dīn. "Mafhūm alhābytws ʻinda Pierre bwrdyw” )in Arabic) Majallat al-ʻUlūm al-ijtimāʻīyah, No. 9, Nūfimbir 2014, Accessed: 18/5/2024. https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/305/8/4/29568

Luckmann, Thomas & Berger, L. Peter. The Social Construction of Reality: A Treatise in the Sociology of Knowledge. New York: Doubleday, 1966.

Luhmann, Niklas. Die Wissenschaft der Gesellschaft. Berlin: Suhrkamp Verlag, 1990.

Lukes, Steven. Émile Durkheim: his life and work. New York: Harper & Row, 1972.

Passeron, Jean-Claude. Le raisonnement sociologique. Paris: Albin Michel, 2006.

Philippe Steiner, La sociologie de Durkheim (Paris: La Découverte, 2018), pp. 5-14.

Pickering, Mary. Auguste Comte: an intellectual biography. UK: Cambridge University Press, 1993.

Pickering, Mary. "Le positivisme philosophique: Auguste Comte." Revue interdisciplinaire d'études juridiques, Vol. 67, N°. 2 (2011).

RashevskyNicolas. "Outline of a unified approach to physics, biology and sociology." The bulletin of mathematical biophysics, Vol. 31 (1969).

Simon, Herbert. "Bounded Rationality and Organizational Learning." Organization Science, Vol. 2, N°. 1 (1991).

Turner, Jonathan H., Russell K. Schutt, et Matcheri S. Keshavan, "Biology and American Sociology, Part II: Developing a Unique Evolutionary Sociology." American Sociologist, Vol. 51 (2020), pp. 470-505.

Varenne, Franck. "La sociologie comme physique de l’organisme social: Comte." in Franck Varenne, Modéliser le social. Malakoff: Dunod, 2011.

Vogd, Werner. Quantenphysik und Soziologie im Dialog. Berlin: Springer Spectrum, 2020.

Wendt, Alexander. Quantum Mind and Social Science: Unifying Physical and Social Ontology. UK: Cambridge University Press, 2015.

 

 



[1] Werner Vogd, Quantenphysik und Soziologie im Dialog (Berlin: Springer Spectrum, 2020), p. 247.

[2] على سبيل المثال، جعل دوركايم من الوقائع الاجتماعية موضوعا لعلم الاجتماع، وعرّفها على أنها "طرق الفعل والتفكير والشعور" الخارجية عن الأفراد والمفروضة عليهم. وعليه، رأى أن الواقع الاجتماعي يوجد بمعزل عن الأفراد ويمكن ملاحظته بموضوعية، فتبنى الوضعية كإطار نظري واعتمد منهجا شموليا يهدف للتفسير (البحث عن العلاقات السببية) بالرجوع لمعطيات كمية. في حين أن فيبر رأى أن موضوع علم الاجتماع هو فهم النشاط الاجتماعي عن طريق التأويل. فعدّ الظواهر الاجتماعية مرتبطة بالأفراد – بالمعاني التي ينسبها الفاعلون لأفعالهم – فتبنى كإطار نظري التأويلية وعمد لفهم هذه المعاني باعتماد منهج فرداني وأدوات جمع معطيات كيفية. بالتالي فباختلاف نظرتهما لطبيعة الظواهر الاجتماعية (الموضوع) اختلفت مناهجهما البحثية. انظر:

Catherine Colliot-Thélène, "Max Weber et la sociologie compréhensive allemande: critique d’un mythe historiographique," in Catherine Colliot-Thélène et Jean-François Kervégan, De la société à la sociologie (Lyon: ENS Éditions, 2002), pp. 149-181.

[3] وجدير بالذكر، أن الفيزياء لم تكن مصدر الإلهام الوحيد لعلم الاجتماع، تأثر كونت ودوركايم أيضا بمبادئ البيولوجيا خاصة تلك المتعلقة بالتطورية الداروينية والمماثلة العضوية لهربرت سبنسر. على سبيل المثال لا الحصر، فقد استوحى دوركايم نظريته حول القوى المسؤولة عن التمايز الاجتماعي وزيادة تقسيم العمل من نظرية الانتخاب الطبيعي الداروينية. فاستخدم تشبيه زيادة حجم السكان التي تؤدي إلى زيادة الكثافة (المعنوية والمادية)، مما يخلق منافسة على الموارد. هذه المنافسة تسببت بدورها في تمايز الأفراد والمجموعات الاجتماعية، مما دفعهم إلى تنظيم أنشطتهم في مجالات محددة تشبه المنافذ البيئية (Ecological niche). في علم الاجتماع الأمريكي، اعتمد هذا التحليل الإيكولوجي تحت ما سمي بـ"الإيكولوجيا الحضرية" كما رسمته مدرسة شيكاغو. عدّت مدرسة شيكاغو المدينة بمثابة "نظام بيئي"، وأن دراسة هذا النظام تتطلب التغلب على التقسيمات التقليدية بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية. لتحقيق ذلك، عملوا على إقامة تشابهات مع عالم الحيوان والنبات، حيث درسوا كيفية تفاعل السكان البشريين مع بيئتهم الحضرية بطرق مشابهة لتفاعل الكائنات الحية مع بيئاتها الطبيعية. هذا المنهج ساعد في فهم الديناميات الاجتماعية في المدن من خلال عدسة بيولوجية وإيكولوجية، مما أتاح تحليلًا أكثر شمولية للتفاعلات البشرية والمساحات الحضرية. انظر:

Turner, Jonathan H., Russell K. Schutt, et Matcheri S. Keshavan, "Biology and American Sociology, Part II: Developing a Unique Evolutionary Sociology," American Sociologist, 51 (2020), pp. 470–505. Accessed 20/05/2024 on the link: https://doi.org/10.1007/s12108-020-09448-y

[4] إن اعتماد كلمة "تخمين" فلأجل ترجمة مصطلح "Conjecture" الذي يحيل على فرضية يتعذر الحصول على معطيات لاختبارها هنا والآن، مع إمكانية توفر هذه المعطيات مستقبلًا.

 [5] تُعد سلسلة النصوص التي كتبها كونت بعنوان "دروس في الفلسفة الوضعية" بين عامي 1830 و 1842، والتي تتألف من خمس مجلدات، دليلًا موضوعيا على انغماسه المباشر في علوم الطبيعة قبل محاولته تأسيس علم يختص بدراسة المجتمع. فالمجلدات الثلاثة الأولى ركزت بشكل أساسي على العلوم الطبيعية والفيزيائية مثل الرياضيات وعلم الفلك والفيزياء والكيمياء والأحياء، بينما تناول المجلدان الأخيران ظهور علم الاجتماع كنتيجة حتمية لعلوم الطبيعية والفيزياء.

[6] يعرف بيير بورديو مفهوم الهابيتوس "كأنسقة من الاستعدادات القبلية التي يكتسبها الفرد عبر تجاربه الشخصية، لتتحول مع مرور الوقت إلى بنيات منتظمة وناظمة (Structures structurées et structurantes) للسلوك في نفس الآن: أي إلى مبدأ مُولدا للفعل وناتجا له". انظر: صلاح الدين لعريني، "مفهوم الهابيتوس عند بيير بورديو"، مجلة العلوم الاجتماعية، العدد 9 (نوفمبر 2014)، ص 66؛ أيضًا هو "نتاج التاريخ، الهابتوس ينتج ممارسات فردية وجماعية، وبالتالي ينتج تاريخا، وفقا للأنماط التي يولدها التاريخ؛ إنه يضمن الوجود النشط لتجارب الماضي التي ترسبت في كل كائن على شكل خطاطات الإدراك والفكر والفعل، والتي تميل –بشكل أكبر من جميع القواعد الشكلية والمعايير الصريحة – إلى ضمان تطابق الممارسات وثباتها مع مرور الزمن. أي أن الهابتوس عبارة عن نسق من التصرفات يعمل كـ "مصفوفة لتصور التقديرات والأفعال، ويُعدّ المثال الذي يربط البنيات الداخلية للذات بالبنيات الاجتماعية الخارجية.يتحدث بورديو عن مفهوم "الهابيتوس كمجال للاستعدادات الذي ترجم المواقف الاجتماعية. "انظر:

 Pierre Bourdieu, Le sens pratique (Paris: Ed Minuit, 1980), p. 91.

[7] يمكن الحديث عن التنشئة الاجتماعية كاستبطان للهابتوس. فممارسات الأفراد محكومة بتجاربهم الاجتماعية السابقة، بتنشئتهم الاجتماعية، إذ تشكل هذه الأخيرة تاريخ الأفراد، الذي يشكل بنية من البنيات الأساسية المحددة لسلوكهم وتصوراتهم لذواتهم، وللفن والمدرسة والإعلام وللعالم بصفة عامة. انظر: صلاح الدين لعريني، المرجع نفسه؛ كما لا يمكن إغفال أهمية دور المدرسة في عملية التنشئة الاجتماعية هذه. إذ تؤثر المعرفة المكتسبة في المدرسة على الطريقة التي ينظر بها الأفراد للعالم من حولهم وتبصم إدراكهم وتصوراتهم عنه. على هذا الأساس، فإن التنشئة الاجتماعية لرواد علم الاجتماع في كنف العلوم الطبيعية قد أثرت على طريقة فهمهم وتصورهم للعلم، خاصة فيما يتعلق بأساليب البحث والتحليل.

[8] لمزيد من المعلومات حول السيرة المعرفية لأوغست كونت، أنظر:

Mary Pickering, Auguste Comte: an intellectual biography (UK: Cambridge University Press, 1993), pp. 7-50.

[9] في الواقع، استخدم كونت في البداية عبارة "الفيزياء الاجتماعية" لوصف تخصصه الجديد، لكنه تخلى فيما بعد عن هذا المصطلح؛ بسبب التباسه مع الاستخدام السابق لهذه العبارة من قبل الإحصائي وعالم الرياضيات أدولف كيتيلي (Adolphe Quételet). لتجنب هذا الالتباس، اختار كونت استخدام مصطلح "السوسيولوجيا". انظر:

Franck Varenne, "La sociologie comme physique de l’organisme social: Comte," in Franck Varenne, Modéliser le social (Malakoff: Dunod, 2011), p. 23.

[10] Auguste Comte, "Cours de philosophie positive: 1re et 2e leçon (1830-1842)," Les Classiques des sciences sociales, january 1936, p. 43, accessed 10/02/2023 on the link: https://bitly.ws/3d6qs

[11] Johan Heilbron, "Auguste Comte and Modern Epistemology," Sociological Theory, Vol. 8, N°. 2 (1990), p. 154.

[12] Heilbron, p. 154.

[13] تأثر بالفيزيائي فوريي (Joseph Fourier)؛ حيث فضّل كونت التفسير الناموسي، أي البحث عن القوانين بدلًا من تحديد الأسباب لفهم الظواهر الاجتماعية. هذا الشكل من التفسير خاصية تميز العلوم الفيزيائية التي تهدف لصياغة قوانين يمكن من خلالها تفسير الوقائع الفيزيائية (قانون الجاذبية لنيوتن، قانون أرخميدس للطفو، قانون سقوط الأجسام لغاليلي...). انظر:

 Mohamed Cherkaoui, Naissance d’une science sociale (Genève: Droz, 1998), p. 98.

[14] Comte, Cours de philosophie positive, pp. 23-24.

[15] Cherkaoui, p. 106.

[16] Auguste Comte, "Discours sur l’esprit positif (1842)," Les classiques des sciences sociales (18 February 2002(, p. 13, accessed 08/01/2023 on the link: https://cutt.ly/V8NoHTa

[17] Mary Pickering, "Le positivisme philosophique: Auguste Comte," Revue interdisciplinaire d'études juridiques, Vol. 67, N°. 2 (2011), p. 53.

 [18] يمكن أن تكون الأسرة مثالا لفهم التمييز بين الثبات والديناميكا الاجتماعيين. يتمثل الثبات الاجتماعي في وصف الأسرة وأدوارها كما هي الآن، كنسق ثابت دون مراعاة تطورها التاريخي. بينما تدرس الديناميات الاجتماعية تطور الأسرة عبر التاريخ، مع مراعاة التغيرات في الأعراف الاجتماعية والبنيات والعلاقات الأسرية كالانتقال من الأسرة الممتدة إلى الأسرة النووية.

[19] Comte, Discours sur l’esprit positif, p. 15.

[20] في الفيزياء مثلا، إذا كانت العلاقة الثابتة الملاحظة بين الماء ودرجة الحرارة مئة هي أن الماء يبدأ في التبخر عند هذه الدرجة، فيمكن صياغة قانون انطلاقا من هذه العلاقة والتنبؤ بأن الماء يبدأ في التبخر كلما وصلت درجة الحرارة مئة.

[21] Pickering, "Le positivisme philosophique: Auguste Comte," p. 54.

 [22] تماشيا مع الشبكة المفاهيمية التي صاغها دوركايم، سنعتمد في حديثنا عنه مفهوم "الوقائع الاجتماعية" (Faits Sociaux) كمرادف "للظواهر الاجتماعية" (Phénomènes Sociaux)، كما كان يفعل.

[23] مدرسة فرنسية تسمى بلغة البلد (École Normale Supérieure).

[24] لمزيد من المعلومات حول سيرة دوركايم المعرفية، انظر:                                                                                                     

Steven Lukes, Émile Durkheim: his life and work (New York: Harper & Row, 1972), pp. 39-65; Philippe Steiner, La sociologie de Durkheim (Paris: La Découverte, 2018), pp. 5-14.

[25] François Duchesneau, "Philosophie des sciences," in Frédéric Bouchard et al, sciences, technologies et sociétés de A à Z (Montréal: Presses de l’Université de Montréal, 2015), pp. 171-172.

[26] Émile Durkheim, "Les règles de la méthode sociologique (1894)," Les Classiques des sciences sociales, 1967, accessed 18/07/2023 on the link: https://tinyurl.com/2z7j32jb

[27] Durkheim, p. 21.

[28] Durkheim, p. 8.

[29] Ibid.

[30] Durkheim, pp. 21-22.

[31] Jean Ladrière, "La causalité dans les sciences de la nature et dans les sciences humaines," in Robert Franck, Faut-il chercher aux causes une raison? L'explication causale dans les sciences humaines (Lyon: Institut interdisciplinaire d'études épistémologiques, 1994), p. 252.

[32] وفقا للتصور الدوركايمي تُحدّد سلوكيات الأفراد وأفعالهم من خلال محددات اجتماعية، مثل: الثقافة والمعايير والقيم والمؤسسات التي لها طابع الخارجية والإكراه. وفقًا لهذه الحتمية الاجتماعية، لا يتمتع الأفراد بحرية مطلقة في سلوكهم، لكنهم بدلًا من ذلك يتأثرون بقوى اجتماعية تتحكم فيهم، لذلك يجب البحث في هذه القوى الخارجة عن الأفراد لتفسير الوقائع الاجتماعية. وبالتالي تفسيرها بمحددات اجتماعية لا فردية، تفسير الاجتماعي بالاجتماعي.

[33] Durkheim, p. 8.

[34] Durkheim, pp. 153-154.

[35] Nicolas Rashevsky"Outline of a unified approach to physics, biology and sociology," The bulletin of mathematical biophysics, Vol. 31 (1969), p. 159.

[36] Durkheim, p.122.

[37] Robert Franck, "Les explications causale, fonctionnelle, systémique ou structurale, et dialectique, sont-elles complémentaires?," in Robert Franck, Faut-il chercher aux causes une raison? L'explication causale dans les sciences humaines (Lyon: Institut interdisciplinaire d'études épistémologiques, 1994), p. 281.

[38] Jean-Claude Passeron, Le raisonnement sociologique (Paris: Albin Michel, 2006), p. 556.

[39] Durkheim, pp. 58-59.

[40] Vogd, p. 247.

[41]يعدّ عالما الاجتماع بيتر بيرغر وتوماس لوكمان أول من طوّر هذا المنظور من خلال كتابهما "البناء الاجتماعي للواقع"، حيث دافعا عن فكرة أن الواقع ليس بيانات موضوعية وكونية كما ذهبت لذلك التيارات الوضعية، بل هو بناء اجتماعي يظهر من خلال التفاعلات الاجتماعية والعمليات الثقافية، ولا يمكن فهمه إلا من خلال هذه التفاعلات. مثلا الجندر هو بناء اجتماعي وليس معطى طبيعي؛ حيث يكتسب الأفراد من خلال تنشئتهم مجموعة من الخصائص الاجتماعية التي تجعل منهم ذكرا أو أنثى، انظر:

Thomas Luckmann, Peter L. Berger, The Social Construction of Reality: A Treatise in the Sociology of Knowledge (New York: Doubleday, 1966).

[42] ليست فقط فيزياء الكوانتم التي أبطلت طرح موضوعية العلوم الطبيعية، هناك أيضا تخصصات أخرى في علوم الطبيعة فعلت نفس الشيء. انظر:

Bernard Andrieu, "Au XXe siècle, la subjectivité des sciences," Le Portique, 1 January 2000, accessed 01/03/2023 on the link: https://journals.openedition.org/leportique/406

[43] Michel Bitbol, Théorie quantique et sciences humaines (Paris: CNRS Éditions, 2009), p. 4.

[44]Alexander Wendt, Quantum Mind and Social Science: Unifying Physical and Social Ontology (UK: Cambridge Universiry Press, 2015), pp. 65-69.

يوضح ويدنت بشكل مفصل في الجزء الأول (ص. 58-69) من كتابه أهم التحديات الإبستيمولوجية التي قامت بها فيزياء الكم على الفيزياء الكلاسيكية، وذلك أساسًا من خلال مساءلة مبادئ: الحتمية، والمادية، والسببية، والذرية (Atomism النظرة المطلقة للمكان والزمان وجدلية الفصل بين الذات والموضوع.

[45] Niklas Luhmann, Die Wissenschaft der Gesellschaft (Berlin: Suhrkamp Verlag, 1990), pp. 73-74.

[46] لذلك شدد مختلف المؤسسين في علم الاجتماع على ضرورة قطع الباحث مع تمثلاته السابقة عن موضوع بحثه؛ من خلال: تخلي الباحث عن أفكاره المسبقة (دوركايم)، والحياد القيمي (فيبر)، والسوسيولوجيا العفوية (بورديو)، وأوهام الأفكار (فرابسيس بيكون)، والأفكار الجاهزة (كارل بوبر). لكن هذه القاعدة الإبستيمولوجية وإن التزم بها الباحث لا تعني بالضرورة تحققها الكي، فبعض الأفكار المسبقة قد لا يكون الباحث على وعي بها، وبالتالي على دراية بتأثيرها على تناوله للموضوع.

[47] Vogd, pp. 80-81.

[48] Mathias Albert & Felix Maximilian Bathon, "Quantum and systems theory in world society: Not brothers and sisters but relatives still?" Security Dialogue, Vol. 51, N°. 5 (2020), pp. 438-439.

[49] لنأخذ للتوضيح مثال محادثة بين صديقين (أ) و(ب). خلال هذه المحادثة، يمكن ل (أ) التركيز على كيفية تحدث (ب)، بينما يمكن ل (ب) التركيز على الموضوعات التي تُناقَش. كما يمكن أن يتأثر واقع المحادثة بالتوقعات والمعتقدات والخبرات السابقة للطرفين. إذا توقع (أ) محادثة تصادمية، بينما توقع (ب) محادثة سلمية. فسيلاحظ كل طرف ويميز جوانب مختلفة من المحادثة، وبالتالي يُخلق واقع محادثة خاص لكل منهما.

[50] Bitbol, p. 3.

[51] Ladrière, p. 254.

[52] Raymon Boudon, La logique du social (Paris: Pluriel, 1979), p. 296.

[53] Boudon, p. 284.

[54] Ibid, p. 285.

[55] Ibid.

[56] Herbert Simon, "Bounded Rationality and Organizational Learning, "Organization Science, Vol. 2, N°. 1 (1991), pp. 125-134.