تاريخ الاستلام: 3 ديسمبر 2023

تاريخ القبول: 26 يناير 2024

مراجعة كتاب

التربية البيئية بالمغرب وإشكالية بناء المواطن الإيكولوجي: من العقد الاجتماعي إلى العقد الطبيعي، لفوزي بوخريص وعبد الله هرهار

مراجعة: ربيع حدف

باحث دكتوراه في علم الاجتماع، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي، المغرب

rabie.hadaf@etu.uae.ac.ma

https://orcid.org/0009-0002-4458-5170: Orcid id

Book Review

Environmental Education in Morocco and the Problem of Construction Ecological Citizen: From the Social Contract to The Natural Contract, by Faouzi Boukhriss and Abdellah Herhar

Reviewed By: Rabie Hadaf

PhD Researcher in Sociology, Faculty of Letters and Human Sciences, Abdelmalek Essaadi University, Morocco

rabie.hadaf@etu.uae.ac.ma

Orcid id: https://orcid.org/0009-0002-4458-5170

 

Book Title: Environmental Education in Morocco and the Problem of Construction Ecological Citizen: From the Social Contract to the Natural Contract

Authored by: Faouzi Boukhriss and Abdellah Herhar

Edition: Arabic language

Publisher: Rabat Net Press, Morocco

Year of publishing: 2021

No. of pages: 286

عنوان الكتاب: التربية البيئية بالمغرب وإشكالية بناء المواطن الإيكولوجي: من العقد الاجتماعي إلى العقد الطبيعي

المؤلف: فوزي بوخريص وعبد الله هرهار

لغة الإصدار: اللغة العربية

الناشر: مطابع الرباط نت، المغرب

سنة النشر: 2021

عدد الصفحات: 286 صفحة

ISBN: Paper book 978-9920-9588-1-3

الترقيم الدولي (ردمك):

 

للاقتباس: حدف، ربيع. «مراجعة كتاب: التربية البيئية بالمغرب وإشكالية بناء المواطن الإيكولوجي: من العقد الاجتماعي إلى العقد الطبيعي، لفوزي بوخريص وعبد الله هرهار». مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، المجلد السادس، العدد 1 (2024)، ص229-237. https://doi.org/10.29117/tis.2024.0171

© 2024، حدف، الجهة المرخص لها: مجلة تجسير ودار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0

 

مقدمة

صدر في عام 2021م عن مطابع الرباط نت، كتاب مشترك لعالمي الاجتماع المغربيين فوزي بوخريص وعبد الله هرهار، تحت عنوان: التربية البيئية بالمغرب وإشكالية بناء المواطن الإيكولوجي: بين العقد الاجتماعي والعقد الطبيعي[1]. يُعالج الكتاب إشكالية بحثية تتعلق بالكشف عن مدى حضور قيم التربية البيئية في المقررات المدرسية؛ حيث انطلق الباحثان من فرضية أساسية مفادها أنّ المقررات الدراسية تساهم في تكوين مشروع مواطن إيكولوجي يتعامل مع البيئة ومكوناتها تعاملًا يتسم بالرشد والعقلانية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. ولفحص المضامين، كان الاشتغال على عينة عشوائية متنوعة من الكتب المدرسية وصلت إلى اثنين وأربعين كتابًا، منها سبعة عشر كتابًا من مستويات السلك الابتدائي، وخمسة عشر كتابًا من السلك الثانوي الإعدادي، بينما سلك الثانوي التأهيلي خصصت له عشرة مقررات دراسية.

وقد توصل الباحثان إلى أن هناك مضامين إيكولوجية في تلك المقررات تفسح المجال لبناء مواطن إيكولوجي ملتزم، ومسؤول عن بيئته، وحاملٍ للقيم وللوعي البيئي، ويستحضر مصلحة الأجيال اللاحقة. كما خَلُص الباحثان إلى أن بناء مواطن إيكولوجي لا يقتضي شحن عقول التلاميذ بالمعلومات والمعارف والمهارات المرتبطة بالبيئة، بل ينبغي أن تتحول المدرسة إلى مختبر إيكولوجي ينمي المتعلم كفاياته وسلوكياته التي تسمح له باحترام وسط العيش المشترك.

أولًا: أهمية الكتاب وأهدافه

أما عن أهمية الكتاب، فتكمن في أنه يسلط الضوء على التربية البيئية بعدها الجسر الذي يربط بين الإنسان والبيئة؛ إذ تكسر الهوة بين ثنائية المجتمع والطبيعة، وتملئ الشرخ الذي لطالما كان موجودًا بين العلوم الحقة خصوصًا علوم البيئة، والعلوم الاجتماعية؛ حيث تسهر على غرس قيم البيئية في نفوس الناشئة، عبر آليات التنشئة الاجتماعية المختلفة لاسيما منها المُؤسسة والمُمنهجة التي يصرفها المنهاج الدراسي.

يمتاز الكتاب بأنه يجمع بين التأصيل النظري للتربية البيئية، بتتبع النشأة والتطور، والفحص العميق لمضامين الكتب المغربية المدرسية. علاوة على ذلك؛ تتجلى قيمته في تناوله إشكالية لها أهمية بالغة في الوقت الراهن، لا سيّما أنّه ليس من السهل الاشتغال على عدد هائل من الوثائق؛ حيث عني المؤلفان بشرح وتحليل مسألة التربية البيئية المتضمنة في المقررات الدراسية المغربية؛ بغية استخلاص الدلالات البيئية. فضلًا عن أن الكتاب يزخر بأفكار ودليل منهجي للباحثين المشتغلين بتقنية تحليل المضمون.

وأما الأهداف العامة التي سعى الباحثان إلى الوصول إليها، فمتعددة ومنها: رصد مضامين القيم البيئية، وتقديم رؤية شاملة للكيفية التي تحضر بها التربية البيئية في المقررات المدرسية المغربية. عموديًا عبر ثلاثة أسلاك دراسية: المرحلة الابتدائية والإعدادية وصولًا لمرحلة الثانوي التأهيلي. أفقيًا، انطلاقًا من حضورها في كل مادة بكل مستوى تعليمي على حدة. إن هذا التحرك قد أملته الطبيعة العرضانية للمضامين البيئية التي امتدت عبر المواد الدراسية وتضاعيف المناهج التعليمية؛ للكشف عن قيم الوعي بالبيئة والمحافظة عليها[2].

ثانيًا: هندسة الكتاب ومضامينه الرئيسية

من حيث الشكل، يتألف الكتاب من 286 صفحة موزعة على أربعة فصول، كما يضم بين دفتيه مقدمة وخاتمة على شكل تنبيهات؛ حيث عالج المؤلفان موضوعًا خصبًا، بأسلوب سلس وبمنهج واضح ورصانة علمية تدفع القارئ للاطلاع أكثر حول الموضوع. كما يُعد المؤلَّف متكامل الأركان؛ لأنه يضم بين دفتيه الجانب النظري والجانب الميداني وفق منهجية كلاسيكية.

وبالنظر للمضمون، نجد الفصل الأول ذا طبيعة نظرية، يحتوي على ثلاثة عناصر، العنصر الأول: تركز البحث في قضايا الفلسفة البيئية، كما تناول الباحثان الأخطار التي تهدد البيئة، وأهمية استعادة استحضار رمزية غايا[3]، وكذا تتجاوز مركزية الإنسان، ونقد العقد الاجتماعي والدعوة إلى العقد الطبيعي كما سماه مشيل سير (M. serres)، بعدها تطرقا في العنصر الثاني للحديث عن التربية البيئية في بعض التقارير والمؤتمرات الدولية. أما العنصر الثالث من الكتاب، فخصص لسوسيولوجية التربية البيئية بتسليط الضوء على تطور التخصص، عن طريق تتبع مسار التربية البيئية وتياراتها الفكرية من الطفولة وصولًا للمواطن الإيكولوجي.

أما الفصول المتبقية، فهي ذات طبيعة تطبيقية خصصت لتحليل الوثائق والصور المتضمنة للتربية البيئية. فجاء الفصل الثاني بعنوان، المدرسة الابتدائية المغربية والتفتح الإيكولوجي. توصل فيه الباحثان إلى أن حضور التربية البيئية بالكتب المدرسية يختلف عدديًا من مستوى دراسي إلى آخر، ومن مادة لأخرى، وهو حضور ليس جوهريًا وثابتًا، بل اتخذ أشكال عرضية ومتغيرة؛ حيث تحضر تيمة البيئة أحيانًا بقوة تصل إلى سبع وثائق في مادة واحدة ومستوى واحد، وأحيانًا أخرى لا أثر لها في أي مادة دراسية أو مستوى دراسي، وهو ما لا يمكن أن يُفسر إلا بشيء واحد، يتعلق بقناعات مؤلفي الكتب المدرسية وإيمانهم بجدوى التربية البيئية وقيمتها لأجيال المستقبل[4].

كما أن المكونات العامة للبيئة (الماء، الغابة، النبات، الهواء، التربة)، من أهم المضامين البيئية الحاضرة في الكتب المدرسية المغربية؛ نظرًا لدورها في تربية الناشئة وتكوينها ثقافة بيئية تمكنها من التعامل الإيجابي والرشيد مع البيئة، ومع المخاطر التي تواجه الإنسان ومكوناته الطبيعية المهددة بالتلوث والانقراض[5].

وخلال تحليل الوثائق، لاحظ المؤلفان أن هناك إرشادات وتمارين تهم القضايا البيئية. بل إن كل ما وُقف عليه من وثائق في الدراسة عبارة عن توجيهات ترشد الطفل نحو السلوك السوي تجاه البيئة. وهذا حاضر في كل المقررات والمواضيع التي فُحصت، ويظهر ذلك من خلال مجموعة من الجمل والاختيارات الموجهة للتلاميذ كتقويم جزئي أو مرحلي يساعدهم على اكتساب معارف أو تعديلها، وتبنيهم اتجاهات واختيارات نحو بيئتهم ومحيطهم[6].

وجرى تدريجيًا، الانتقال في الفصل الثالث إلى المستويات الثلاثة من السلك الإعدادي التي أُطلق عليها مرحلة الإعداد الإيكولوجي، تتبع الباحثان معالم التربية البيئية خلال هذا التكوين، انطلاقًا من فحص مضامين العديد من المقررات، والاشتغال على الوثائق التي تضمنتها المواد الدراسية، ولاسيما كتب: اللغة العربية، والتربية الإسلامية، والاجتماعيات، والفيزياء، وعلوم الحياة والأرض[7].

في هذا الصدد، نشير أن الإعداد الإيكولوجي يحتل مكانة محورية في عملية بناء المواطن الإيكولوجي؛ لأن هذه المرحلة العمرية التي يوجد فيها المتعلم تكون حاسمة في تكوين سلوكياته ومواقفه تجاه البيئة، خصوصًا أنها ترتبط بمرحلة المراهقة، إن المعارف التي يكتسبها الفرد في هذا العمر لها بالغ الأثر في سيرورة التنشئة الاجتماعية التي يتلقها المتعلم.

في الفصل الرابع من الكتاب، عالج الباحثان مسألة التأهيل الإيكولوجي، لكل من المستويات الثلاثة لسلك البكالوريا. ومن أجل البناء والاستنتاج، ينتهي المؤلفان إلى أن الإنسان لا يعتمد في علاقته مع الطبيعة، ومع الكائنات الحية الأخرى على مؤهلاته العضوية والفيزيولوجية، بل يستند إلى استخدام عقله ومؤهلاته الفكرية والذهنية. ولهذا السبب، لا تظل عمليات الإشباع والاستهلاك والإنتاج متمحورة على الاقتصاد الطبيعي، بل يلجأ الإنسان إلى إنتاجاته العلمية والتقنية، بناء على قدراته في تحقيق الوفرة في الإنتاج والاستهلاك بما يضمن المنفعة والرخاء. وبهذا المعنى، يتدخل الإنسان في الطبيعة من خلال تضافر الجهود الإنسانية جمعاء في مواجهة الكوارث الطبيعية، مما يؤدي إلى بروز قيم التضامن والتكافل والتآزر، ومعرفة أسرار الطبيعة وقوانينها وفك ألغازها، وبالتدخل المباشر فيها، وبالاستخدام التكنولوجي الحديث بشكل متزايد. لكن مع تزايد حاجياته ازداد تأثيره على الطبيعة، فأدى إلى تدهور البيئة، وترتب عليه انتشار التلوث والأوبئة والأمراض. فجاءت الدعوة إلى ضرورة الحد من هذا التدخل، حمايةً لحقي الطبيعة والإنسان[8].

ثالثًا: إشكالية بناء المواطن الإيكولوجي

رغم ما حظيت به الدراسات البيئية من اهتمام في حقل العلوم الحقة، إلا أنه لا يمكن إغفال ما أدى إليه انفتاح العلوم الاجتماعية على دراسة القضايا البيئية من زعزعة للعديد من الأسس الإبستمولوجية والأنطولوجية التقليدية، وأسهم هذا الانفتاح في تخضير النظرية الاجتماعية من خلال تجاوز الفصل الصارم بين المجتمع والطبيعة[9].

 إن العلاقة المركبة بين الإنسان والطبيعة تتطلب تنظيم المعارف المشتتة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والأدب والفلسفة[10]، وتجاوز المقاربة البيئية التقنية، بالانفتاح على مقاربات متعددة التخصصات (Multidisciplinaire)، أو بين التخصصات (Interdisciplinaire) أو حتى عابرة للتخصصات (Transdisciplinaire). فالتجسير بين العلوم الصلبة (les sciences dures) والعلوم الرخوة (les sciences molles)، سبيل لردم الفجوة بين الفرد والبيئة.

فبعد ظهور التربية البيئية كتخصص قائم بذاته، صار الحديث عن إشكالية بناء مواطن إيكولوجي، وهو الأمر الذي يطمح كتاب بوخريص وهرهار الكشف عنه، بتتبع مسارات التربية البيئية المتضمنة في المقررات المدرسية. وبالعودة إلى أهم مرحلة طفا فيها هذا الموضوع على السطح بشكل واضح، نجدها تعود إلى حقبة التسعينيات من القرن العشرين؛ حيث أضحى الحديث عن مسألة تكوين مواطن إيكولوجي من جهة، ودمج قضايا البيئة في أنشطة الحياة المدرسية من جهة أخرى، مثل التعرف على أهمية الماء، وتلوث الهواء، وكيفية معالجة النفايات. مع إبراز الأهمية الكبرى للتربية البيئية في المنظومة التربوية لبناء أخلاق إيكولوجية، وإضفاء طابع أخلاقي على أنماط الإنتاج والاستهلاك[11].

وفي هذا المضمار؛ يتضح أن التربية البيئية لا تمرر خلال الكتب المدرسية فحسب، بل أيضًا عبر الأندية التربوية، عن طريق تفعيل أنشطة الحياة المدرسية؛ لكونها الجسر الذي يُيسر بناء مواطن إيكولوجي.

ركز المؤلفان بشكل كبير على المضامين البيئية النظرية المقررة في الكتب، في حين أن الحياة المدرسية أيضًا، تشارك في تدبير العملية التعليمية، وتوفر رؤية شاملة لإصلاح المدرسة؛ فلا يكفي أن يكتسب التلميذ المعرفة، بل يجب أن نفكر في بناء هويته في بُعدها المكاني والزماني؛ لكي يتأقلم مع التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية، فهناك حاجة إلى نموذج تربوي جديد يستحضر هذه التغيرات العميقة[12].

والملاحظ أن التربية البيئية في المدارس المغربية ما زالت تمارس بطرق نظرية وتفتقر للمرتكزات العملية من أجل تكوين مواطنٍ إيكولوجي، ومن المؤشرات الدالة على ذلك، حرص النظام التعليمي المغربي على اكتساب المعرفة للمتعلم أكثر من تنمية مهارته وتغيير مواقفه تجاه البيئة؛ فالمناهج المعتمدة تركز على المحتوى العلمي النظري، في المقابل تفتقر لأنشطة إيكولوجية اللاصفية التي يمارسها المتعلم خارج أوقات الدراسة، بالاعتماد على قدراته وميولاته ورغباته، مثل: القيام بالبستنة، والمشاركة في الرحلات الاستكشافية، وممارسة العمل التطوعي.

ولجعل الطفل يتعلم مبادئ الطبيعة ومعنى الملكية والمحافظة عليها، ينبغي أن تلقن التربية البيئية بشكل عملي؛ حتى تكون أكثر فعالية ونجاعة. فمثلًا عندما يقوم الطفل بالمساعدة في البستنة ويقلب الأرض ويحمل الفأس ويزرع البذور في الحديقة، من المؤكد أنه سيعتني وسيحافظ عليها، وسيبذل جهدًا للعناية بالبيئة؛ لأنه قد كلفه ذلك مجهودًا ووقتًا. فالمعلومات الأولية وجميع الدروس من كل النواحي يجب أن تكون بالأعمال لا بالأقوال؛ لأن الطفل يميل إلى التقليد والإنتاج. كما أن الأطفال ينسون بسهولة ما قالوه وما يُقال لهم، ولكنهم لا ينسون بسهولة ما عملوه وما عمل بهم[13].

إن المدرسة اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى، بضرورة تعليم التربية البيئية عبر الممارسة والفعل، وليس الاكتفاء بما هو نظري فحسب. علاوة على هذا، فإن التربية على الفهم غائبة، رغم كونها قوة المستقبل وأداة التغيير، ولمواجهة تفكيرنا تجاه التعقيد المتصاعد والتحولات المتسارعة واللامتوقعة، علينا إعادة تشكيل سياستنا وبرامجنا التربوية وفق ما يحفظ مستقبل الأجيال القادمة[14]، فعندما ننظر للمستقبل، كما قال إدغار موران (E. Morin فإننا نجد عددًا من اللايقينيات فيما سيكون عليه عالم أطفالنا وأحفادنا، لهذا على المجتمع الإنساني أن يتغير؛ لأن عالم الغد سيكون مختلفًا بعمق عن العالم الذي نعرفه اليوم، بالتالي يجب تعليم مبادئ استراتيجية تمكن من مواجهة اللامحتمل (improbable)، وتوقع اللامتوقع، ومواجهة اللايقينيات والمفاجآت واللامنتظر (l’inattendu)، لبناء مستقبل قابل للعيش.

رابعًا: أهداف التربية البيئية

غالبًا ترتبط أهداف التربية البيئية بالنتائج المنتظرة من العملية التعليمية (على سبيل المثال من برنامج دراسي معين):

      من منظور بيئي: تهدف التربية البيئية إلى تزويد المواطنين بالمعرفة والإرادة للفعل على أساس حل المشكلات وتدابير البيئية، وبالتركيز على التنمية المستدامة والحفاظ على أشكال الحياة.

      من وجهة نظر تربوية: يتعلق الأمر بالحرص على التنمية المستدامة لدى كافة أفراد المجتمع، وتطوير الجوانب المعرفية والعاطفية والاجتماعية والأخلاقية والعملية التي تمكن من تحسين العلاقات بين الفرد والمجتمع والبيئة، بغية تحقيق تنمية مجتمعية متناغمة وقابلة للحياة.

      من وجهة نظر بيداغوجية: تهدف التربية البيئية إلى تحسين شروط التعلم، والحرص على أجرأة الممارسات البيداغوجية المرتبطة بالبيئة[15].

إنّ مواجهة مشكلة الحفاظ على البيئة تأتي انطلاقًا من تربية الإنسان تربية بيئية تمده بالمعلومات والمعارف والمفاهيم البيئية، وتكوّن لديه مجموعة من العادات والمهارات والمواقف والقيم التي توجه سلوكه بشكل إيجابي، بما يحقق الحفاظ على البيئة[16]. كما يبقى هدف التربية البيئية هو نقل الثقافة والقيم المشتركة للعيش في وسط متعدد، وتجاوز الأزمة الإيكولوجية التي هي أزمة هوية في الوقت نفسه، غايتها بناء مواطن إيكولوجي مستقل وأصيل ومبدع[17].

ما يلاحظ في واقع الأمر، أن تناول مسألة البيئة في بعض التخصصات كالبيولوجيا، وعلوم الحياة والأرض...، غالبًا تكون كوحدات ثانوية أو عرضية، في حين لا يوجد نظام تربوي يُدرس التربية البيئية كمادة مستقلة. هنا تنبهنا الباحثة الكندية لوسي سوفي (L. Sauvé) بأن واقع الحال يشهد في كثير من الأحيان بحجب التربية البيئية من السيرورة التعليمية؛ لأنها تكون خفية، مما يؤدي لصناعة كائن غير مكتمل «inachevé»، الذي نلمسه في الثقافة الاستهلاكية الفردية التي تميز مجتمعاتنا[18].

من جانب آخر، يدعو محمد فاوبار إلى إعادة بناء المناهج الدراسية؛ حتى تصبح التربية البيئية فعالة وناجعة، فالدراسة التي أنجزها حول واقع التربية البيئية في المجتمعات العربية، توَصل فيها إلى ضعف اهتمام النظام التعليمي بالتربية البيئية في المناهج الدراسية، ليس على أساس التلقين المعرفي فحسب، ولكن بتطوير قدرات الناشئة على التفكير والنقد والممارسة داخل المدرسة وخارجها. وبالتالي لا يمكن النظر إلى الإيكولوجيا تربويًا على أنها معرفة قبلية تستظهر من طرف المتلقي، بل هي وعي وممارسة في الميدان، تتكون في إطار تفاعلي يربط بين الجوانب البيئية والتربوية، والجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية، مع ضرورة انعكاس الترابط على الدروس والأنشطة الثقافية والعملية، علاوة على توعية التلاميذ بتعددية المنظورات البيئية؛ مما سيتيح انخراطًا فعالًا للأستاذ والتلميذ في صميم البيئة المحلية[19].

بالإشارة إلى ما تضمنه الكتاب من تقاطعات معرفية، يؤكد المؤلفان أن حماية البيئة مسألة تقتضي بناء مواطن إيكولوجي، ولا يقتصر في ذلك على القوانين والتشريعات والمؤسسات فحسب، بل إن المسألة تهم الجميع، فالمواطنة البيئية قد تتجلى بالقيام بسلوك عادي، لكن نتائجه عميقة الأثر في الحفاظ على بيئتنا. فالتربية هي المدخل الأساس لترسيخ وتقوية الثقافة الإيكولوجية، ومن ثم فإن إدراج التربية البيئية ضمن البرامج التربوية التعليمية، مسألة ذات أهمية وراهنية، قصد توعية الناشئة بضرورة الحفاظ على البيئة[20].

انطلاقًا من هذه الرحلة القصيرة، يمكن استنتاج أن علينا الانتقال من حالة المواطن الأناني (égo-citoyen) الذي يفكر في نفسه إلى مواطن إيكولوجي (éco-citoyen) يفكر بمنطق النحن[21]. إنه الشخص الذي لا يهتم بحالة الكوكب فحسب، بل أيضًا مطلع ومدرك لتأثيرات أنشطته اليومية على البيئة. بالإضافة إلى ذلك، يتخذ الإيكولوجي مواقف من خلال تنفيذ إجراءات ملموسة تهدف إلى تقليل من التبذير والهدر، كما تكون سلوكياته حكيمة واستعمالاته أكثر عقلانية، بما في ذلك تغيير عاداته الاستهلاكية. فالمواطن الإيكولوجي يتعرف على المشكلات الكبيرة والصغيرة التي تهم الكوكب أو البلد الذي يعيش فيه أو قريته. إنه يجعل صوته مسموعًا، ويمكنه الضغط على القادة لإحداث تغيير في السياسات العمومية لصالح الحفاظ على الأولوية البيئة[22].

خاتمة

تأسيسًا على ما سبق، يتضح أن النتائج التي توصل إليها المؤلفان تؤكد الفرضية التي انطلاقا منها، بأن هناك زخمًا كبيرًا من الوثائق والصور والنصوص الحاملة لقيم التربية البيئية، والتي تسهم في بناء مواطن إيكولوجي؛ حيث قاما بقراءة تركيبية لأشكال التربية البيئية المتضمنة في الكتب الدراسية، وذلك عن طريق ثلاث مراحل: الأولى تسمى بالتفتح الإيكولوجي وتشير إلى السلك الابتدائي، والثانية أُطلِق عليها الإعداد الإيكولوجي تتصل بمرحلة الثانوي الإعدادي، أما في السلك الثانوي التأهيلي فهي مرحلة للتأهيل الإيكولوجيكما يؤكد المؤلفان على حضور الوعي البيئي في جميع المستويات تقريبًا بواسطة النصوص والصور[23]. مع هيمنة الجانب الوصفي لغرس القيم البيئية على الشق التطبيقي. وفي السياق ذاته، يدعوان إلى إعادة النظر في قضايا التربية البيئية، ويكشفان عن أن الغاية الكبرى لمسار المتعلم، وهي بناء مواطن إيكولوجي.

وما نستنتجه هو أن المؤلفيْن قدما لنا كتابًا استكشافيًا لحقل التربية البيئية، وأضافا إلى المكتبة العربية لبنة معرفية جديدة تستحق الاهتمام؛ إذ يُعد هذا التخصص المعرفي بكرًا من حيث الدراسة والتحليل في المغرب. فالكتاب يقدم وصفًا دقيقًا للتربية البيئية المتضمنة في المقررات الدراسية، ويقدم رؤية تحليلية عميقة لها. في المقابل، يُعد الكتاب تنبيهًا موجهًا للفاعلين التربويين، ومرجعًا مهمًا للمهتمين بالتربية البيئية؛ حيث يمد بدروس عملية في التعاطي مع منهجية تحليل المضمون تتسم برؤية ومنهج تفكير. وعليه، تبدو قراءة الكتاب مفيدة وماتعة؛ نظرا لغزارة الأفكار المثارة فيه، وعمق التحليل الذي قُدم بعين سوسيولوجية فاحصة وفق بناء منهجي دقيق.          

المراجع

أولًا: العربية

احجيج، حسن."النظرية الاجتماعية الخضراء بوصفها جسرًا بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية"، مجلة تجسير، مج5، ع2 (2023). https://doi.org/10.29117/tis.2023.0137

الدحاني، محمد. "التربية البيئية بالمغرب وإشكالية بناء المواطن الإيكولوجي، من العقد الاجتماعي إلى العقد الطبيعي"، المستقبل العربي، ع 528 (2023).

روسو، جون جاك، إميل أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد، ترجمة نظمي لوقا. القاهرة: الشبكة العربية للطباعة ونشر، 1958.

فاوبار، محمد. "التربية البيئية في ضوء العدالة الإيكولوجية: مقاربة سوسيولوجية"، عالم الفكر، ع 180 (2019).

موران، إدغار. تربية المستقبل: المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي. المغرب: اليونيسكو ودار توبقال للنشر، 2002.

هرهار، عبد الله. "المدرسة والثقافة البيئية " ضمن فوزي بوخريص وعبد الله هرهار، قضايا في سوسيولوجية التربية: النوع والبيئة والقيم. الرباط: مطابع الرباط نت، 2018.

ثانيًا:

References:

Albouy, Vincent. 250 réponces aux questions d'un citoyen. France: édition du Gerfaut, 2008.

Aldḥāny, Muḥammad."al-Tarbiyah al-bīʼīyah bi-al-Maghrib wa-ishkālīyat bināʼ al-Muwāṭin alʼykwlwjy, min al-ʻIqd al-ijtimāʻī ilá al-ʻIqd al-ṭabīʻī", (in Arabic). al-Mustaqbal al-ʻArabī, No. 528 (2023).

Aspe, Chantal & Jacqué, Marie. Environnement et société. Une analyse sociologique de la question environnementale. France : Maison des Sciences de l'Homme, Éd. Quæ, 2012.

Claire M. "Crise écologique et éducation. Vers une nouvelle position éthique dans le lien entre l'homme et la nature, " Revue d'éthique et de théologie morale, Vol. 270, No. 3 (2012).

Fāwbār, Muḥammad. "Al-Tarbiyah al-bīʼīyah fī ḍawʼ al-ʻadālah alʼykwlwjyh: muqārabah sūsiyūlūjīyah”, (in Arabic). ʻĀlam fikr, No. 180 (2019).

Hajij, Hassan. "Green Social Theory as a Bridge Between the Social Sciences and Natural Sciences", (in Arabic). Tajseer Journal, Vol. 5, Issue 2 (2023). DOI https://doi.org/10.29117/tis.2023.0137

Hrhār, ʻAbd Allāh. " al-Madrasah wa-al-Thaqāfah al-bīʼīyah" fī Fawzī Būkharīṣ wa-ʻAbd Allāh hrhār, Qaḍāyā fī sūsiyūlūjīyah al-Tarbiyah: al-nawʻ wa-al-bīʼah wa-al-qiyam. (in Arabic). al-Rabāṭ: Maṭābiʻ al-Rabāṭ Nit, 2018.

Morin, Edgar.  Les Sept savoirs nécessaires à l'éducation du futur. (in Arabic). trans ʻAzīz Lazraq wa-Munīr al-Ḥajjūjī. al-Maghrib: alywnyskw wa-Dār Tūbqāl lil-Nashr, 2002.

Rosnay, Joël De. L'écologie et la vulgarisation scientifique: de l'égocitoyen à l'écocitoyen. Montréal: Les Editions Fides, 1994.

Rousseau, Jean-Jacques. Émile ou De l’éducation. (in Arabic). trans Naẓmī Lūqā. al-Qāhirah: al-Shabakah al-ʻArabīyah lil-Ṭibāʻah wa-nashr, 1958.

Sauvé Lucie, Pour une éducation relative à l’environnement : éléments de design pédagogique. Montréal : Guérin, 2nd éd.,1997.

Sauvé, L. & all, Éducation, environnement, écocitoyenneté : repères contemporains. Montréal : Presses de l’Université du Québec, 2017.

Vitali, Christian. Nouveaux enjeux pour la vie scolaire, Mutations et variations. France: Hachette Éducation, 2015.



[1]- تجدر الإشارة إلى أن هذه هي المراجعة الثانية للكتاب، بعد مراجعة محمد الدحاني،"التربية البيئية بالمغرب وإشكالية بناء المواطن الإيكولوجي، من العقد الاجتماعي إلى العقد الطبيعي"، المستقبل العربي، ع528 (2023)، لكن قراءته اقتصرت على الجزء الثاني من الكتاب، أما هذه المراجعة فهي تتناول مضامين الكتاب كلها، مع مناقشته ببعض الإسهامات والأفكار المتعلقة بالتربية البيئية.

[2]- فوزي بوخريص وعبد الله هرهار، التربية البيئية بالمغرب وإشكالية بناء المواطن الإيكولوجي: بين العقد الاجتماعي والعقد الطبيعي (المغرب: الرباط نت، 2021)، ص5.

[3]- هي إلهة الأرض في الأساطير اليونانية القديمة، تُشير إلى الأرض البكر التي فسدتها أنشطة الإنسان. للمزيد ينظر: جيمس لوفلوك، وجه غايا المتلاشي: تحدير الأخير، ترجمة سعد الدين خرفان، سلسلة عالم المعرفة 265 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2012).

[4]- بوخريص وهرهار، ص80.

[5]- المرجع نفسه، ص81.

[6]- المرجع نفسه، ص83.

[7]- بوخريص وهرهار، ص87.

[8]- المرجع نفسه، ص218.

[9]- حسن احجيج، "النظرية الاجتماعية الخضراء بوصفها جسرًا بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية"، مجلة تجسير، مج5، ع2 (2023)، ص20. https://doi.org/10.29117/tis.2023.0137

[10]- إدغار موران، تربية المستقبل: المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي (المغرب: اليونيسكو ودار توبقال للنشر، 2002)، ص17.

[11]- Chantal Aspe & Marie Jacqué, Environnement et société. Une analyse sociologique de la question environnementale (France : Maison des Sciences de l'Homme, Éd. Quæ, 2012), p. 233.

[12]- Christian Vitali, Nouveaux enjeux pour la vie scolaire, Mutations et variations (France: Hachette Éducation, 2015).

[13]- جون جاك روسو، إميل أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد، ترجمة نظمي لوقا (القاهرة: الشبكة العربية للطباعة ونشر، 1958)، ص100-103.

[14]- موران، ص13.

[15]- Lucie Sauvé, Pour une éducation relative à l’environnement : éléments de design pédagogique (Montréal : Guérin, 2nd éd.,1997), pp. 79-80.

[16]- بوخريص وهرهار، ص41.

[17]- M. Claire, « Crise écologique et éducation. Vers une nouvelle position éthique dans le lien entre l'homme et la nature, » Revue d'éthique et de théologie morale, Vol. 270, No. 3 (2012), p. 108.

[18]- L. Sauvé, & et al, Éducation, environnement, écocitoyenneté : repères contemporains (Montréal : Presses de l’Université du Québec, 2017), p. 2.

[19]- محمد فاوبار، "التربية البيئية في ضوء العدالة الإيكولوجية: مقاربة سوسيولوجية"، عالم الفكر، ع180 (2019)، ص150.

[20]- بوخريص وهرهار، ص276.

[21]- Joël De Rosnay, L'écologie et la vulgarisation scientifique: de l'égocitoyen à l'écocitoyen (Montréal: Les Editions Fides, 1994), p. 14.

[22]- Vincent Albouy, 250 réponces aux questions d'un citoyen (France: édition du Gerfaut, 2008), p. 5.

[23]- ينظر: عبد الله هرهار، "المدرسة والثقافة البيئية " ضمن فوزي بوخريص وعبد الله هرهار، قضايا في سوسيولوجية التربية: النوع والبيئة والقيم (الرباط: مطابع الرباط نت، 2018).