تاريخ الاستلام:14 أبريل 2023

تاريخ التحكيم: 05 سبتمبر 2023

تاريخ القبول: 03 نوفمبر 2023

مقالة بحثية

تقاطع الشعري والصوفي في ديوان همس الجفون لميخائيل نعيمة

الحسين الوكيلي

أستاذ باحث، قسم اللغة العربية، أكاديمية الدار البيضاء-المغرب        

h.loukili086@gmail.com

 https://orcid.org/0009-0006-5788-6481

 ملخص

تسعى الدراسة إلى بيان مظاهر التقاطع بين الشعري والصوفي في ديوان همس الجفون لميخائيل نعيمة؛ باعتبار أن الشاعر أسس لتجربة فريدة منبعها الوعي الروحي الذي يوصل إلى الحقيقة المختبئة وراء الظواهر، ولعلّ هذا هو السر الذي جعلنا نبحث عن مظاهر التقاطع بين الشعري والصوفي، إذ كلاهما يهدفان للنفاذ إلى الباطن، ويسعيان إلى إذكاء المشاعر وإرهافها، وجعلها قادرة على الحب والإحساس والتفاعل مع الوجود وأشيائه. لأجل ذلك تأسست هذه الدراسة على تصور مركزي يتمثل في أن الحرية الروحية اختيار لجأ إليه ميخائيل نعيمة من أجل التأسيس لفلسفة شعرية تتجاوز الجمالي والفني وصولًا إلى القيمي والروحي، حتى صار شعره مرهونًا برؤية باطنية تحقق الوحدة العضوية داخل قصائد الديوان، وتؤسس لمفهوم الجمال الروحي الذي يستمد مقوماته من الخيال الخلاق. لتخلص الدراسة إلا أن الشعري والصوفي مظهران من مظاهر الوعي الروحي عند ميخائيل نعيمة.

الكلمات المفتاحية: الرؤيا الشعرية، الوعي الصوفي، الانفعال الروحي، الكمال الأخلاقي، ديوان همس الجفون

للاقتباس: الوكيلي، الحسين. «تقاطع الشعري والصوفي في ديوان همس الجفون لميخائيل نعيمة»، مجلة تجسير لدراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية البينية، المجلد السادس، العدد 1 (2024)، ص59-83. https://doi.org/10.29117/tis.2024.0161

© 2024، الوكيلي، الجهة المرخص لها: مجلة تجسير ودار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


 

Submitted: 14 April 2023

Reviewed: 05 September 2023

Accepted: 03 November 2023

Research Article

The Intersection of Poetry and Sufism in Mikhail Naimy’s Divan Hams Al-jufun

Elhoussein Loukili

Researcher in the Arabic Department, Academy of teaching and training in Casablanca-Morocco

h.loukili086@gmail.com

https://orcid.org/0009-0006-5788-6481

Abstract

This study seeks to show the intersection between poetry and mysticismin Mikhail Naimy’s Hams al-jufun divan as this poet founded a unique experience which is sourced by the spiritual consciousness that leads to the truth that hides behind the phenomena. This is perhaps the secret that has led me to look for the intersection of poetry and mysticism that both of which aim at the inner and seek to fuel and sensitize emotions, and make them capable of love, sensation and interaction with existence and its things. This study was based on the central conception that spiritual freedom is a choice to which Mikhail Naimy turned in order to establish a poetical philosophy beyond aesthetic and art to reach to value and spirituality. This led his poetry to become contingent on an inner vision that achieves organic unity within the poems of the divan, and establishes the concept of spiritual beauty that derives its components from creative imagination. The study concludes that poetry and mysticism are manifestations of Mikhail Naimy's spiritual consciousness.

Keywords: Poetic vision; mystical consciousness; spiritual emotion; moral perfection; Hams al-jufūn Divan

Cite this article as: Loukili, Elhoussein. "The Intersection of Poetry and Sufism in Mikhail Naimy’s Divan Hams Al-jufun". Tajseer Journal for Interdisciplinary Studies in Humanities and Social Science, Vol. 6, Issue1 (2024), pp. 59-83. https://doi.org/10.29117/tis.2024.0161

© 2024, Loukili, licensee Tajseer Journal & QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution Non-Commercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0

 


 

مقدمة

لم يكن ميخائيل نعيمة مجرد كاتب أو شاعر ارتبط اسمه بالتيار الرومانسي وحسب، بل كان صاحب فلسفة طوباوية، ذات نغمات روحية، تتغذّى على أنغام الكون، وعلى بواطن النفس البشرية. كما كان صاحب نزعة صوفية، تطابقت فيها النظرية مع الممارسة، والكلمةُ مع الفعل. لذلك، فكل من دخل عالم نعيمة الشعري، يكون قد دخل معبدًا، وعالمًا منكّهًا بمذاقات التّصوف، والحبّ، والإيمان.

 والحقيقة أن التصوف مثّل أهمّ الروافد التّي غذّت الشعر العربي، سواء على مستوى المفاهيم أم التجربة الروحية. وكان التيار الرومانسي – وخاصة الرابطة القلمية – الأكثر تأثّرًا، والأقرب إلى التصوف ممارسة وتنظيرًا. ونعيمة واحد من رواد هذه المدرسة.

وإذا سلمنا بأن العملية الإبداعية ترتبط بوجود ملهم يسعف الشاعر في نظم الشعر، فإن لكل شاعر جنيه أو شيطانه يخبره بما لطف من الأفكار والمعاني، يقول امرؤ القيس [المتقارب][1]:

تُخَبِّرُني الجِنُّ أَشعَارَهَا

 

فَمَا شِـئتُ منْ شِعْرِهِنَّ اصطَفَيْتُ

 

نفهم من هذا التصور أن هناك طقوسًا خاصة لقول الشعر، فهو يتسم بخرق المألوف والعادة، لذلك كان حكرًا على الشعراء؛ لامتلاكهم قدرات تؤهلهم. فمن كان جنيه ذكرًا ليس كمن كان أنثى. هذا التحديد سنجد له صدى ورنينًا عند شعراء المتصوفة الذين يشترطون الخيال محورًا في الإبداع.

ونشير إلى أنه لا سبيل إلى معرفة أبعاد التجربة الصوفية التي ضمَّنها ميخائيل نعيمة تجربته الشعرية، ولا إلى تلمّس خيوطها النورانية في ديوانه إلا بالاطلاع على مؤلفاته كلها؛ لأنها مؤلفات تمثل خلاصة هذا التفكير الذي يلامس الآفاق والأعماق، كما يلامس قضايا الإنسان الأخلاقية والروحية. إضافة إلى هذا،يتزيّا بوشاح عرفاني يمجّد فلسفة العلو. ولا عجب أن يكون شعر نعيمة بهذه الفرادة، وهو الذي أَلِف العزلة منذ كان صغيرًا، وفضّل الابتعاد عن صخب العلاقات اليومية، تحقيقًا للسفر الروحي في النفس، وجعل للإنسان سلاحًا لا يحطّمه زمان، ولا يفلّه موت، "وهل ذلك السلاح إلا قُوَى كامنة فيه، هي أشدّ وأمتن وأبقى من قواه الحيوانية؟ تلك قُوَى الروح غير الفانية التي ترفعنا فوق الحيوانية، وترينا في دياجير الحياة وميض أنوار تحبّب إلينا الحياة، وتُذكي في دواخلنا شرارة أمل بأنْ لا بدّ أن ندرك يوما ما نحن طالبون"[2]. ذلك أن قُوى الرّوح لا تتوهّج إلا بالشعر الحاضن للانفعالات والمعبّر عنها.

هذا الميسم الروحي شجع البحث لاستقصاء عوالم التجربة الروحية في ديوان نعيمة، مع رصد التقاطعات بين التجربتين: الشعرية والروحية، بوصفهما تجربتين متماهيتين ومتّحدتين في الآن نفسه، نظرًا لقيامهما معا على الانفعال؛ مما يعني أنّه لا حدود بين الاعتقاد والإبداع، ذلك أن الممارسة الصوفية تتحوّل إلى معنى يولد داخل الشعر، ويصير الشعر بذلك وعاءً يحوي هذه الممارسة ويدُلّ عليها. فـ"الشعر...من كيمياء التصوف...وشعرية التصوّف لا تختلف عن صوفية النص الشعري"[3].

إن الإنتاج الأدبي الفني لنعيمة قد نال اهتمام العديد من الباحثين، فخصّوه بدراسات اهتمت بالأبعاد الروحية والدينية، كما اهتمّت برؤاه الفكرية والفلسفية، وبآرائه في النقد الأدبي، جعلت طرح موضوعات جديدة للبحث في نتاج الشاعر مغامرة ومخاطرة، بل وعملًا صعبًا في الآن نفسه، لِمَا قد يحمله هذا الطرح في نتائجه من تكرار ومعاودة – إن لم يكن الباحث على تحوّط واستبصار معرفي – وما دامت دراستنا تروم استهداف عمله الشعري (همس الجفون)، فإن المخاوف تبدّدَت وتلاشت حين كان رهان البحث يتغيّا الكشف عن رؤاه الشعرية التي كانت نتاج انفعالات روحية، كما كان يتغيا الكشف عن ذاك الوعي الممكن (la conscience possible)الذي يتجاوز الوعي الفعلي أو الكائن، من خلال رؤيا استشرافية تتيح لنا الاتجاه ليس من النص الشعري إلى صاحبه، بل من النص الشعري إلى الرؤيا العرفانية للعالم والكون، وتشكّل ذات الشاعر جزءًا لا يتجزأ من هذه الرؤيا، كما كان رهان الدراسة يروم الكشف عن وحدة التجربة الروحية للإنسان عبر الزمان حتى وإن اختلف المكان والسياق، أو اختلفت أداة التعبير عن هذه التجربة.

يسعى البحث إلى تجلية البعد الصوفي، وبيان حدود التماهي بين التجربة الشعرية الصوفية عند ميخائيل نعيمة باستنطاق الرؤيا الشعرية في ديوانه؛ كما يسعى إلى الانطلاق من كون لبّ الأطروحة التي نذر الشاعر حياته للتعبير عنها، هي الحريةُ الروحية، بوصفها انعتاقًا من أسر المادية، ومن أطماع النفس البشرية، تحقيقًا للكمال والمعرفة الحقّة، يقول نعيمة: "وهذه بالتمام حال الإنسان مع حواسّه الخمس، فهي لا نفع منها إلا كدرجات يرقى بها الإنسان إلى ما وراء الحسّ، ولا خير في قيودها إلا لننعتق بها من كل قيد، ولا معنى لوجودها المحدود إلا لنبلغ بها الوجود الذي لا حد له"[4].

إن الحواس جسر عبور نحو اللامحدود، ولا سبيل إلى رصد ما وراء الحس بعده انفعالًا إلا بالشعر الذي تودع فيه مسميات الوجود وحقائقه؛ لأن الكلمات تطلعنا على ما خفي من الأسرار، وما انْحَجَب عن الأنظار من حقائق.

وحري بالإشارة إلى أن نعيمة قد أقام فلسفته الشعرية ليس على أساس جمالي فحسب، بل أقامها على أساس قيمي ومعرفي أيضا؛ حيث يرى أن الأدب يمتاز بقيمته الروحية التي تجعله خالدًا، ذلك "أن في الحياة ما ليس له إلا قيمة روحية. ومن ذلك الفنون... والأدب، أوليس في الأدب من أزياء لا تعتّق مع الزمان ولا تزيدها الأيام إلا جمالًا وهيبة؟"[5]. إن قيمة الفنّ أو الأدب، في تصور نعيمة، مرهونة بالرؤية الباطنية (la vision Ésotérique) التي تسمح للمبدع بالعلو على الممكنات، وتجاوز المسكوك والمتاح والمستهلك. وكأن الشعر مجالُ صراعٍ ومجابهة ومجاهدة لكل ذوق سقيم مبتذل، وفكر جامد، وإبداع باهت، وهو إلى هذا كله، سجلٌّ مرقونٌ يحوي تفاصيل الإنسان الساعي لرقي مدارج الكمال، والسالك دروب المعرفة الحقّانية. نقصد معرفة القوى غير المنظورة الكامنة في الكون، فالجهل قلق، والقول الشعري سبيل من سبل الكشف عن هذه القوى تحقيقا للراحة الأبدية المبدّدة للقلق والشك.

وحسبنا الإشارة إلى أن نعيمة أعرب عن إعجابه بالفلسفة الصوفية، حين دعا إلى الجثو أمام ضريح ابن الفارض بقوله: "ولنجْثُ أمام ضريح من شرب على ذكر الحبيب مدامة فسكر بها من قبل أن يخلق الكرم،...ولنمرّ من أمامهم صامتين ولنتابع السير إلى حيث الدواوين الناطقة بألف لسان"[6].

على ضوء هذه الفلسفة، سيؤسس نعيمة تصورًا خاصًا للحياة والإنسان والوجود. وهذا ما تسعى الدراسة إلى تبيانه.

تنطلق الدراسة من تصور منهجي، يتمثل في كون الاغتراب الوجودي الذي خيّم على حياة فئة من شعراء المهجر، بما هو انفعال عاطفي وإحساس بالوحشة، وتوق إلى الأنس، كان له أثرٌ في إذكاء عاطفتهم وتغذيّة مخيّلتهم لتشكيل رؤيا عرفانية للعالم وللإنسان، كما كان له أثرٌ في تشكيل وعي صوفي شفيف، وإحساس حدسي مرهف، ناتج عن اجتماع الاغتراب الروحي بالاغتراب المكاني المتولّد عن إقامة شعراء المهجر بأرض غير الأرض التي ترعرعوا فيها، فتحوّلت أشجانهم إلى إبداع شعري يترجم تلك الأحاسيس، ويؤسس لذلك التصور، فكان همّهم إيصال أنّاتهم وتهاليلهم إلى أرواح أخرى توجد في أقاصي شمال الأرض وجنوبها، أو شرقها وغربها. وعلى هذا النهج سار نعيمة، حين أسّس لتصور فلسفي صوفي جسده في أعماله الشعرية التي تنزع منزعا عرفانيًا وروحيًا.

فما تجليات الفكر الصوفي في شعر نعيمة؟ وكيف يصير الشعر المتماهي مع كل شيء صوفيًا في تحققه وحضوره؟ أيمكن عد النزعة الصوفية مطيّة امتطاها شعراء الرابطة القلمية للتخفيف من وطأة الواقع الذي عجزوا عن التأقلم معه رغبة منهم في تحقيق (الترنسندنتالية)(Transcendentalism)، أم أنّ وراءها وعيًا عرفانيًا يذكيها؟ تلكم أسئلة تدعو للتعمق أكثر في أبعاد الرؤيا الشعرية النُّعَيْمية، بما هي ممارسة تأويلية يحضر في صلبها سؤال الذات والوجود.

أولًا: الاغتراب الروحي والوعي الصوفي

لا يعزب عن كل دارس للأدب العربي حجم الاغتراب الذي كان يحسّه شعراء الاتجاه الرومانسي، وخاصة أولئك الذين هجروا بلدانهم وأقاموا في أوطان أخرى، كحال شعراء الرابطة القلمية الذين عانوا من الغربة، فكان شعرهم دفقًا شعوريا يفيض وَجْدًا وحنينًا إلى كل سرّ مخبوء بغاية تجليته وكشفه. هذا الأمر جعل الاغتراب الروحي بمثابة الشرارة التي أشعلت الأحاسيس في قلوب هؤلاء، وأوقدت في دواخلهم رغبة في البوح بما يختمر في ذواتهم. فالشاعر عند إحساسه بحالة نقص أو اغتراب، يتولّد عنده شعورٌ بالقدرة الخارقة للانفصال عن هذه الحالة، إما من أجل ترميمها بحالة وعي روحي يمنح الذات هوية ومعنى، أو من أجل تجاوزها إلى حالة الكمال الإنساني، وتلك أقصى حالة الإبداع وأتمّه، فيكون الشعر حنينًا للبدايات الأولى، وللفراديس التي جاء منها الإنسان. يتساءل نعيمة: "ونحن من نحن إلا قطرات انفصلت من بحر الوجود الأعظم. ومهما تقادمت بها الغربة لا بدّ لها من العودة إلى البحر الكبير، إلى حضن خالقها"[7]. أي أن الميلاد الحقيقي للإنسان لا يكون إلا بالعودة إلى الأصل الطاهر الذي جاء منه، وتلك مهمة الرؤيا الشعرية العرفانية التي تشكل هذا الوعي الصوفي وتُؤسس له. يقول ميخائيل نعيمة في (ترنيمة الريح)[8]:

كَانَ لِي فِي قَدِيمِ الزّمَانْ
 

 

مَرْتَعٌ فِي رِياضِ الْجِنَانْ
 

بِعْتُهُ بِالْوُعُودْ
 

 

هَلْ تُرَاهُ يَعُودْ
 

لَوْ نَكَثْتُ الْعُهُودْ
 

 

وَالْتَمَسْتُ السَّمَاحْ
 

إن شعر نعيمة يسير في هذا الاتجاه؛ حيث يمكن عدّه كفاحًا من أجل الخلاص والحرية، ومجابهة الغربة الروحية التي يُحسُّها الإنسان، بل إن شعره يمثل تمرّدًا على كل ذوق مخدّرٍ لا يستشعر بهاء العالمِ، ولا يتفاعل معه في دهشة وحب، أو لنقل: إنّ نعيمة يريد أن يرتقي بالشعر بجعله قادرًا على اكتشاف مناطق جديدة، يتقاطع فيها الفعل الشعري مع الفعل الروحي. وهنا يجب أن نؤكد أن الرؤيا العرفانية تمتلك مقدرة وأهلية لإعادة التوازن إلى العالم، بل ومقدرة على خلق عالم بريء محرّرٍ من زيف الماديات واغتراب الطبيعة. على هذا الأساس، فالرؤيا الصوفية مصاحبة للوعي الصوفي ومتلازمة معه حدّ التواشج؛ لأن الخلاص والحرية مرتبطان بهذا الوعي ومؤسسان عليه. ذلك أنه كلما ازداد وعي الذات بعالمها الباطني والخارجي ازدادت فرصة تحقيقها للخلاص الشامل، بما هي حالة خروج من النقص إلى الكمال، وتجرّد من كل الصفات السلبية السالبة للكمال الإنساني.

إن الرؤيا العرفانية مؤسسة على الإدراك العميق الذي يجعل الذات قادرة على تجاوز النظرة السطحية للحياة، لتراها بعين الخيال الخلاق وبنور القلب. يقول نعيمة: "حذار يا صاحبي أن تجعل نفسك أكرم من الله وأعلم منه بذاته، وأعدل منه في خلقه، فهو قد أهّلني لأحمل صورته ومثاله، ولأمتع روحي بجمال أكوانه، وقد بسط أمامي خيرات الأرض، وسكب عليّ بركات السماء، وما منّ عليّ يومًا بعطية. وأنت من أنت لتحجبه عني، فلا أراه إلا بعينك، ولا أمجّده إلا بلسانك؟"[9].

والحقيقة أن علاقة الشعري بالصوفي تتأكد عندما يصير التلّقي سماويًا من العبد إلى ربه، وهو ما يصطلح عليه بالواردات الإلهية التي يتلقاها المريد أثناء عروجه المعنوي. يقول ابن عربي: "رُفع لك عالم التصوير والتحسين والجمال وما ينبغي أن تكون عليه العقول من الصور المقدسة والنفوس النباتية من حسن الشكل والنظام وسريان الضوء واللين والرحمة في الموصوفين بها، ومن هذه الحضرة يكون الإمداد للشعراء."[10] يظهر من هذا، أن حضرة الإمداد الشعري مرتبة وجودية تتسم بالتصوير الفني؛ إذ الشاعر يتجاوز سجن الذات ليحتضن العالم بأسره، بكل ما فيه من رؤى وظواهر وأشياء وجمال، فيغدو الشعر كشفًا وحدسًا وتصويرًا، وليس مجرد صدى لواقع أو إيديولوجيا. وهذا ما سعى إلى إثباته نعيمة، ذلك أن هذا الشاعر مؤمن بطاقات الإنسان، وبأهليته التي منحها الله له، ليمارس فعل التأمل في الوجود. فهو لا يضع حدودًا فاصلة بين الشعر والحياة، فالحياة شعر، والشعر حياة، والشاعر الجيّد هو القادر على التعبير عن قيم شاملة تتوحّد داخل دائرة الحياة. "فالحياة وإن تعددّت مظاهرها وتنوّعت أزياؤها، هي هي. وجوهرها واحد لا يتغير. غير أن ما نستقيه من هذا المورد يتنوّع بمقدار الظمأ الداخلي فينا. فبعضنا إذا شرب من المرارة عبّ الجمال، بينما يمتصّها الآخر مصّ العليل للدواء، وبعضنا إذا هزّته نغمة رفعته إلى الجو"[11].

نفهم من هذا، أن المبدع السالك طريق الحياة بما هي كتاب مفتوح، يحتاج إلى طاقة روحية تؤهّله لإدراك جوهر الحياة الذي لن يكون سوى النفس الجامعة أو الله. والحقّ أن التوحّد الذي أحدثه نعيمة بين الروحي والطبيعي جعل وجدان الشاعر منفتحًا على أكثر من عالم؛ فالمتأمل لشعره "لا يخطئ رؤية تلك الرابطة القوية، بين نفسية الشاعر والعناصر الأربعة، من ماء ونار وهواء وتراب، وهذا يرجع…إلى تصوره الإنسانَ تصورًا صوفيًا، وإلى إلحاحه الشديد على أحوال النفس الإنسانية، دون الموضوعات الأخرى"[12].

إن نعيمة لم يكن إدراكه للطبيعة متوقّفًا على الإدراك الشّهودي وحسب، وإنما مسّ الجوانب الخفية من النفس البشرية؛ لأنها أساس الكشف والإلهام والكمال، "وهل في مستطاع الإنسان أن يجلو عينه الباطنية كيما يكون عالمه جليًا؟ كيف لا، وللإنسان نعمة الفكر والخيال والإرادة؟ فبالفكر والخيال – إذا نحن أحسنّا استعمالهما – ندرك أن الأكوان، ما بان منها وما استتر، جسد واحد، يحيا بروح واحد، وأن الجسد يشد بعضه بعضًا...، فهو كامل بهندسته ومتانته. ومتى كان الكلّ كاملًا كان كل جزء من أجزائه كاملًا. والكمال يعني الجمال، والجمال يعني الانسجام التام. وحيث الانسجام التام لا مجال ل(لولا) و(لعل) و(عسى). فلا نقص، ولا عيب، ولا لومة للائم"[13]. لهذا فمرتبة الكمال لا تُنال إلا بانصهار الذات مع الوجود وعناصره، انصهار تأمّل وتدبّر وتوحّد، وهذا يمنح الذات أهليةً تجعلها قادرة على إدراك مكامن الجمال والانسجام في الكون والعالم الواقعي. وإذا كان الإنسان جزءًا لا يتجزأ من هذا الكون فإنه يلحق به إلحاق كمالٍ أو جمال؛ لأن "في النهج الشعري، وكذلك الصوفي، توجهّا إلى رؤية الأشياء في تعالقها واتصالها الحي. ثمة تجاوب عميق يصل بين موجودات العالم من وراء مظاهر القسمة والانفصال. ومثل هذه الرؤى الشعرية والصوفية تجانب الرؤية الاختزالية التي تقسّم الوجود، وتفصم وحدته الجوهرية، بل تنقضها بعمليات العزل والاقتطاع والتفتيت"[14].

وهنا أمر يلزم الوقوف عنده، فاهتمام نعيمة بباطن الإنسان ليس محض صدفة، بل تغذّي هذا الاهتمام فلسفة ترى أن الحقيقة لا توجد خارج ذات الإنسان بل داخلها؛ لأن الإنسان جزء لا يتجزأ من هذا الكون. وعليه فمثوى الحقيقة كامن في الذات وفي بواطنها.

يقول نعيمة[15]:

وَمَا نَاشِدٌ أَسْرَارَهَا وَهْوَ كَشْفُهَا

 

سِوَى مُشْتَـرٍ بِالماءِ حُرْقَةَ عَطْشَانِ

إن مناشدة الحقيقة لا تقع إلا من خلال أعماق الذات، الذي يبحث عنها في عوالم أخرى كالذي يشتري بالماء العطش. والماء في هذا المقام يحمل دلالة الفهم، في حين يحمل العطش دلالة الغموض والإبهام والعجز عن إدراك الحقيقة. لذلك كان "أول ما يعبر عنه الإنسان… هو ذاته التي ليست من إبداعه. فهو يعبر عن اندهاشه من خلال ما يدرك من ذاته أو من الوجود الخارجي"[16]. وهنا تحسن الإشارة إلى أن التعذيب الذي يلحقه المتصوفة بذواتهم قصد تهذيب الطباع بعدّه رياضة ومجاهدة ليس الهدف منه سوى تقوية الشعور بالذات وإرهاف الحس؛ لكونهما (أي الرياضة والمجاهدة) المدخل الوحيد للوصول إلى أسمى الرتب، ذوقًا أو سلوكًا. فالتجربة الصوفية محكومة بعوالم النفس كما اتضح، وهذا يجعلها تتقاطع مع الشعر، بعدّه أقرب الأشكال التعبيرية إلى النفس البشرية، خيالًا، وعاطفة، وإحساسًا.

1.     الشعر وعي ومعرفة قلبية صافية

يمتلك الشّعر إمكانات كبيرة، ومن تلك الإمكانات قدرته على الكشف عن الأسرار العميقة للوجود، وعن خبايا النفس البشرية. فهو بطبيعته الموحية يخترق عالم المحسوسات ويعلو عليها، وهو بالإضافة إلى هذا، يشبه التصوف إلى حد كبير؛ فالشعر يلجأ إلى الرمز كما يلجأ إلى التورية والتكنية، وهي ملامح جوهرية في التصوف، وإذا كان هذا حال الشعر في الإيحاء والتعمية، فإنه يتماسّ مع التصوف في كونهما يسعيان إلى تجاوز الظاهر وصولًا إلى الباطن، ويستهدفان معًا تمزيق الحجب عن عوالم أخرى تتنوع ولا تتشابه، وتتعدد ولا تتطابق، فثمة مشتركات بين الشعر والتصوف؛ إذ كلاهما يرميان للنفاذ إلى الباطن قصد الوصول إلى الحقيقة المختبئة وراء الظواهر، "ومما يقرن الشعر بالتصوف... هو أن كلًا منهما مأخوذ بهاجس العمق وارتياد المجهول، فليس ثمة مستقر يمكن الركون إليه في هذا الاندفاع المتجدد الذي يبارح كشوفاته المتحققة ويجوزها، بقوة الكشف ذاتها، نحو ما لم يتحقق بعد، بل نحو ما لم تستنفده صور التحقق التي هي مجرد لحظات منه، أو انبثاقات محدودة في مجرى الاستحالة، أو في أفق التحول المطلق في الصور والأشكال"[17].

وكلاهما أيضا يهدفان إلى إذكاء المشاعر وإرهافها، وجعلها قادرة على الاستماع إلى نداءات الوجود. وهما بذلك يحققان إشباعًا عاطفيًا للنفس، ويسهمان في جعل الذات تتلمس طريقها نحو المعرفة الحقّة القائمة على الذوق الإيماني؛ بل يصير الإنسان قادرًا على خلق أمكنة موازية لعالمه الموضوعي، وتأثيثها بما تتوق إليه الذات من شخصيات تأنس بها. كما أن من مظاهر التّماس "وآيات التقاطع بين الشعري والصوفي أن كلًا منهما يفتح في الموضوع هوّة لا سبيل إلى عبورها وتجاوزها. وكل حركة تتوخّى ردم هذه الهوة تتبدّى، من وجهها الآخر، تعميقًا لها، فهي ردم ينطوي على الحفر، وحفر يتظاهر بالردم، وقوة تضايف بين الجانبين. ولا شك في أن تلك الهوة الفاغرة في الموضوع، تشير في اللحظة نفسها، إلى هوّة متأصلة في صميم الذات، تتطلب الإشباع والامتلاء"[18].

والحقيقة أنّ أشعار نعيمة تتأسس على إيقاع هذه النغمة الصوفية، التي تحثّ الشاعر على بناء عوالم مفترضة، يكتشف من خلالها المجهول، ورصد المعاناة التي تطبع الوجود الإنساني، مما يجعل شعره يمثل سعيًا أبديًّا لتجاوز النقص الحاصل في العالم. وهذا مؤشر واضح على أن شعره تجاوز للظواهر من أجل للوصول إلى البواطن، نقصد ظواهر العالم، وصولًا إلى مرحلة استكناه الحقائق، تحقيقًا للخلاص، وتفتيشًا عن الخفي، ومطاردةً للهارب. "فغير نعيمة من رفاقه المهجريين، يصطنع شعره للتكريم والتهنئة والتأبين والوطنية وغير ذلك، أما نعيمة فإنه لم يخض هذا الميدان الواسع، وإنما قصر شاعريته، أو اقتصرت هي به، على حديث النفس والتأمل"[19].

وهنا، يمكن الإقرار أن الشعر هو أول الفنون القادرة على احتضان أبعاد التجربة الصوفية ممارسة وتنظيرًا، فما الشعر إلا معاناة صوفية، ورياضات شاقة وتفتيش عن الخلاص، كما لا يمكن أن يكون الشعر سوى شعور وانفعال، يترجم الوعي الصوفي على شكل قصائد ناطقة بما يختلج في قلب الصوفي. يقول نعيمة في قصيدة: (الطريق)[20]:

نَحْنُ يَا ابنِي عَسْكَرٌ قَدْ تَاهَ فِي قَفْرٍ سَحِيقْ
 

نَرْغَبُ العَوْد وَلاَ نَذْكُرُ مِنْ أَيْنَ الطَرِيقْ
 

فَانْتَشَرْنَا فِي جِهَاتِ الْقَفْرِ نَسْتَجْلِي الْأَثَرْ
 

نَسْأَلُ الشمْسَ عَنِ الدرْبِ وَنَسْتَفْتِي الْحَجَرْ
 

وَسَنَبْقَى نَفْحصُ الآثَارَ مِنْ هَذَا وذَاكْ
 

رَيْثَمَا نُدْرِكُ أَن الدرْبَ فِينَا لاَ هُنَاكْ
 

يؤسس هذا المقطع الشعري لمفهوم الوعي الصوفي، ذاك الوعي الذي لا يتأتى إلا من خلال نسف حالة التخدير والغيبوية التي تتلبّس الذات، بسبب انغماسها في اليومي البسيط. فالدروب متعددة، والدرب الموصل إلى الحقيقة هو درب الذات. وما تشبيه الشاعر للإنسان الحائر بالعسكر التائه في صحراء مقفرة إلا دليل على عطلٍ في البوصلة، واحتراقٍ لخارطة الطريق، وضياعٍ للدّليل، وغياب للمرشد الموجّه. والصحراء هي الحياة بتفاصيلها وتشعباتها، كما أن الحيرة هي الباعث على التحول والانتقال من الجهل إلى العرفان. وبعبارة أخرى نقول: إن الوعي الصوفي يتأسس من خلال الحياة الباطنية، وإن سألتَ نعيمة عن مفتاح الإدراك والارتقاء فسيجيبك "بأنه فيك. وقديمًا قيل (اعرف نفسك بنفسك)، فليس أقرب منك إليك، وليس أعدى إلى دهشتك من نفسك. فحري بك أن تبدأ بدرسها وحلّ ألغازها، قبل أن تبدأ بدرس غيرك من الكائنات وتهتم بحلّ ألغازها. فهي ما كانت ألغازا إلا لأنك لغز. فمتى اهتديت إلى حل اللغز الذي هو أنت، اهتديت إلى مفتاح كل لغز سواه. ومعنى ذلك أنك يوم تعرف نفسك تعرف الكون"[21].

هكذا جعل نعيمة الشعر أداة تشخيص للحياة الباطنية، وهذا الأمر يجعلنا ندرك أن التّجربة الصوفية كما التجربة الشعرية تصدران عن غريزة أصيلة في الإنسان، يمكن أن نسميها غريزة الشغف بالمجهول، أو غريزة الحنين إلى البدايات الأولى، وإلى الأقاصي المتاخمة للمطلق، مما يعني أن التجربتين معًا ثمثلان ثورة الباطني على الظاهري، والجوهري على العرضي، والأصلي على اليومي المبتذل. يقول نعيمة في قصيدة (التائه)[22]:

أَسِيرُ فِي طَرِيقِي
 

 

فِي مَهْمَه سَحِيق
 

وَوَحْدَتِي رَفِيقِي
 

 

وَوِجْهَةِ الْفَضَا
 

مَطِيّتِي التّرَابُ
 

 

وَخوذَتِي السّحَابُ
 

وَلَسْتُ أَدْرِي شَانِي
 

 

فِي مَعْرِضِ الْوَرَى
 

فَلاَ الْقَضَا يُنْبِينِي
 

 

وَلاَ الرَّجَا يُهْدِينِي
 

وَلَا السَّمَا تُعْطِينِي
 

 

نُورًا لِكَي أَرَى
 

بَلْ فِي ضُلُوعِ نَارٌ
 

 

تُثِيرُهَا الْأَقْدَارُ
 

يَا لَيْتَهَا تَخْتَارُ
 

 

سِوَايَ مَوْقِدا
 

لقد بدا الشاعر في حالة حيرة وهو يسير في أرجاء هذا العالم، يمتطي التراب، ويحتمي بالسحاب، والمطية هي النفس الإنسانية، كما يمكن أن تكون الجسد، وقوله: (مطيتي التّراب) فيه إيحاء إلى خلع الجسد وتركه في الأرض، حيث العالمُ الكثيف. فالجسد يشبه الطبيعة الترابية التي أراد الشاعر العلو عليها، بعدما جعل السحاب خوذته التي تحميه من سهام الماديات ونِبَالها. وفي هذا إشارة منه إلى العلو والارتقاء.

وفي ملمح شعري آخر يقول نعيمة في قصيدة: (النهر المتجمّد)[23]:

يَا نَهْرُ ذَا قَلْبِي أَرَاهُ كَمَا أَرَاك
 

مُكَبَّلًا وَالْفَرْقُ أَنَّكَ تَنْشط مِنْ عِقَالِكَ وَهو لا
 

فالبيتان يجسدان محاولة الانفتاح على المطلق؛ حيث إنّ النهر في هذا المقام جاء دالًّا على التجمّد والتسمّر بفعل عوامل الطبيعة التي حوَّلت مياهه الجارية إلى صفائح جامدة متصلّبة. والأمر نفسه ينطبق على قلب الشاعر الذي حوّلته الحياة المادية إلى قلب جامد لا روح فيه. لكن الاختلاف بين النهر وقلب الشاعر يكمن في قدرة النهر على التحرر من أسر الجمود، ومعاودة الجريان من جديد كما كان في أصله الأول، بخلاف قلب الشاعر الذي أخفق في تحقيق هذا الرهان، وهذا اعتراف ضمني بمحدوديّة الإنسان الذي لم يستطع التحرر من ربقة المادي المانع من رؤية الأشياء على حقيقتها، وكأنّ الشاعر وهو يسعى إلى الخلاص من الكثيف بعدما أدرك أن الإنسان امتداد لهذا الوجود الرحب.

وعند تأمل هذا المقطع الشعري الذي يقول فيه نعيمة[24]:

إِلَى أَنْ دَارَ فِي خَلَدي
 

بِأَنَّكَ لَسْتَ مِنْ جَسَدِي
 

وَأَنَّكَ طِينَةٌ لَمَّا
 

بَرَانِي اللهُ لَمْ يَنْفخ
 

بِهَا مِنْ رُوحِهِ الأَبَدِي

لقد أدرك نعيمة أن قلبه الجسماني لن يؤهله لبلوغ الحقيقة؛ لأنه قطعة ميتة لم ينفخ الله فيها من روحه، لأجل ذلك كان سعيه حثيثًا للتجرّد من هذا القلب، واستبداله بقلب عرفاني ينبض حبًّا بالعالم، وهو قلب يختلف عن القلب الذي يمتلكه عموم الناس. وهنا إشارة لطيفة ألمع إليها أبو حامد الغزالي، وذلك حين حدّد أداة المعرفة عند المتصوفة، تلك الأداة المتمثلة في القلب لا بوصفه عضلة تضخّ الدم، بل بعده طاقة تُجلي المنطمس والمنحجب. إن أبا حامد الغزالي ينفي أن يكون المقصود بالقلب "تلك اللّحمانية المعروفة المودعة من الجانب الأيسر في صدر الإنسان، وقد يكون لها بالقلب الجسماني تعلق"[25]، بل هو قلب من طينة أخرى ومن طبيعة مغايرة، ذلك "أن قوة القلب هي قوة أو طاقة خفية تدرك الوقائع الإلهية بإدراك واضح جلي، لا يمتزج به أي شيء، ولأن القلب يتضمّن أيضًا الرحمة الإلهية. ففي حال الكشف، يغدو قلب العارف أشبه بمرآة تنعكس فيه الصورة الكونية المصغرة للحق"([26]). وهنا يجب أن ندرك العلّة وراء اشتغال نعيمة على القلب، وسعيه إلى تنقيته من أدران المادة؛ لأنه أساس المعرفة الحقّة وبه يرى الله. لأجل ذلك لا ينبغي للإنسان أن يزيد في نظافة ثيابه على نظافة قلبه، بل يجب أن يشاكل ظاهره باطنه.

هكذا جعل نعيمة القلب شرطًا للعلو على المادي، والانسلاخ عن الجسد قصد التجرّد من الغفلة والتّيه والحيرة؛ لأن القلب صار "لطيفة ربانية روحانية، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان. وهو (أي القلب) المدرك العالم العارفُ من الإنسان، وهو المُخَاطَب والمُعَاقَب والمُعَاتَب والمُطَالَب"[27].

إِذَا سَمَاؤُكَ يَوْمًا
 

 

تَحَجَّبَتْ بِالْغُيُومْ
 

أَغْمِضْ جُفُونَكَ تُبْصِرْ
 

 

خَلْفَ الْغُيُومِ نُجُومْ
 

وَالْأَرْضُ حَوْلَكَ إِمَّا
 

 

تَوَشَّحَتْ بِالثُّلُوجْ
 

أَغْمِضْ جُفُونَكَ تُبْصِرْ
 

 

تَحْتَ الثُّلُوجِ مُرُوجْ
 

وَإِنْ بُلِيتَ بِدَاءٍ
 

 

وَقِيلَ دَاءٌ عَيَاءْ
 

أَغْمِضْ جُفُونَكَ تُبْصِرْ
 

 

فِي الدَّاءِ كُلَّ الدَّوَاءْ
 

وَعِنْدَمَا الْمَوْتُ يَدْنُو
 

 

وَاللَّحْدُ يَفْغُرُ فَاهْ
 

أَغْمِضْ جُفُونَكَ تُبْصِرْ
 

 

فِي اللَّحْدِ مَهْدَ الْحَيَاهْ
 

هذا التصور يشير إلى أن إدراك الحقائق لا يمكن أن ينبع إلا من أعماق النفس البشرية، بما هي مركب من الأحاسيس والمشاعر، وبما هي قُوى خارقة تمتلك كنوزًا تؤهل صاحبها لتحقيق النوّالة، ومن تلك الكنوز الحدسُ(Intuision) بوصفه طاقة خفية، تحقق الرؤيا المباشرة التي تنتفي فيها الوسائط. وهو الجوهر الذي يتّجه بالشعر إلى امتلاك قوة الإدراك الروحي.

والحقيقة أن نعيمة لم يكتفِ بتعطيل الحواس وإبعادها عن مجالي المعرفة والإدراك، بل قام بإعدام العقل وإبادته؛ لأن العقل في تصوره لا يرقى إلى إدراك حقائق الأمور، ولا إلى النفاذ إلى جوهرها وعمقها،لاسيما أن المعرفة المطلوبة مرتبطة بعالم اللطافة، لا عالم الكثافة. وهذا يجعل العقل مسلوب الصلاحية في هذا العالم المادي. ينشد نعيمة في قصيدة (لمّا رأيت النّاس)[28]:

لَمَّا رَأَيْتُ النَّاسَ قَدْ أَضْرَمُوا
 

لِلْجَهْلِ نِيرَانًا لِكَيْ يَحْرِقُوهْ
 

وَشَيَّدُوا عَرْشًا رَفِيعَ الذُّرَى
 

وَهَيْكَلاً لِلْعِلْمِ كَيْ يَعْبُدُوهْ
 

وَضَعْتُ إِيمَانِي عَلَى رَاحَتِي
 

وَقُلْتُ هَا عِلْمِي أَلا كَرِّمُوه
 

وَقُدْتُ نَحْوَ النَّارِ عَقْلِي الْغَبِي
 

وَقُلْتُ: هَا جَهْلِي أَلاَ فَأَتْلِفُوه

ينفتح المقطع الشعري على معانٍ ذات طبيعة عرفانية، فهو يجعل المعرفة الصوفية مشروطة بالتخلّص من الخبرة الإنسانية التي تَشَكّلتْ نتيجة فاعلية الإنسان في عالمه الموضوعي، واستبدالها بخبرة ذوقية ذات أساس كشفيّ، يعمد من خلالها الشاعر إلى صقل قلبه، ومعرفة نفسه معرفة حقّة. يجافي بها عالم الناس، لكن لا يجب أن نفهم من رفض نعيمة التمسّك بالأنماط الاجتماعية القائمة المحكّمة للعقل أنه كاره للمجتمع أو خصم له(Antisocial)، بل هو يعلو على النمطية ويرفض الخضوع لإملاءات العقل التي لا تستطيع تجاوز عالم المادة، وهو بمنطق المخالفة يختار القلب، واختياره ليس اعتباطيا، لإدراكه حين سلك طريق القلب قصور العقل وعجزه، كما أن فشله في رحلة البحث عن الحقيقة يمكن إيعازه إلى استرشاده بهذا العقل الفقير.

يقول نعيمة في قصيدة (آفاق القلب)[29]:

وَرُحْتُ أَجُوبُ مَا اسْتَتَرَا
 

مِنَ الدُّنْيَا وَمَا ظَهَرَا
 

وَأَبْحَثُ فِي غُبَارِ الْعَيْشِ
 

عَنْ خَزَفٍ وَعَنْ صَدَفٍ
 

أَرَاهُ بِفِكْرَتِي دُرَرَا
 

وَرُحْتُ أَقِيسُ أَيَّامِي
 

وَأَعْمَالِي وَأَحْلاَمِي
 

وَمَا حَوْلِي وَمَنْ حَوْلِي
 

وَمَا تَحْتِي وَمَا فَوْقِي
 

بِأَفْكَارِي وَأَوْهَامِي
 

فَأَطْرحُ كُلّ مَا حَادَا
 

عَنْ الْمِقْيَاسِ أَوْ زَادَا
 

وَأَفْصِلُ ذَاكَ عَنْ هَذَا
 

فَأَدْعُو الْبَعْضَ أَشْبَاهًا
 

وَأَدْعُو الْبَعْضَ أَضْدَادَا

تمثل هذه الأبيات رصدًا وتشخيصًا لرحلة الشاعر الفاشلة، الرحلة التي تبوّأ فيها العقلُ منصب القيادة، فضلّ الطريقَ، وأساء التقدير، وتاهَ في عوالم المادة، عاد منها الشاعر مضعضعًا، مثقلًا بالشكوك، ومتقلبًا بين الحيرة والتيه. ذلك أن المقياس العقلي لم يسعفه في فهم ذاته، ولا فهم عالمه الخارجي، فصار الجوهري عرضيًا والعرضي جوهريّا. والسبب يعود إلى أن العقل يستمد معرفته من الحواس، والحواس بطبيعتها خدّاعة مخاتلة ومخادعة، ولا تسعف في تأسيس علم يقيني من خلالها. وهذا كان دافعًا ملحًّا عند نعيمة للتخلّي عن العقل، وفتح تجربته الشعرية على الكوني انطلاقًا من الذاتي الذي أصبح جسرًا لقول الإنساني في عمومه. فالشعر فضيلة تتغنّى بالقيم الروحية المطلقة، وهو إلى هذا كله،له "مرامٍ عالية، كلها ترتكز على الاختبار الروحي، والاختبار الروحي هو الذي يكتشف معالم جديدة في عالم الفكر والخيال. زمن مراميه العالية أيضًا أن ينشد الشعراء روح الفضيلة والخلود، والحقيقة والجمال. وأن يرتفعوا عن المادة الباردة إلى الملأ الأعلى، فيرتوون من منابع الوحي الخفية، ويقودون البشرية إلى ما هو أسمى من المادة وأعمق من الظواهر الطبيعية"[30].

هكذا يحاور الشعر الأقاصي البعيدة، ويقيم جسرًا بين عالم الذات وعالم الروح، وبهذه القدرات والكفايات يلج الشاعر نعيمة عالمه الباطني حين ضنّت عليه السماء بنورها، وقد ولجه طلبًا للحقيقة وللسمو والرفعة، فجعل من الذات سماءً يعرج إليها بتأملاته يقول نعيمة: "فما دامت غايتك من مذهبك الوصول إلى الله وغايتي من مذهبي الوصول إلى الله، فما شأنك معي أيّ طريق أسلك إلى الهدف. وما شأني معك إذا سلكت إليه طريقا غير طريقي؟ لعلّك نسر تبلغ القمّة بخفة واحدة من جناحيك. ولعلني سلحفاة أدبّ في منعرجات الأرض. أو لعلني أصبحت خيالا هائما كيفما اتجه واجه الخيال الأكبر"[31].

2.     التجرّد بوصفه خلاصًا ومسارًا نحو الكمال

تتعدّد معاني التّجرد وتتنوع، فمنها "التشذيب ويقال جرد الجلد إذا نزع شعره، وجرد السيف إذا سلّه من غمده، وجرّد الكتاب إذا عراه من الضبط"[32]، وفي هذا إجلاء للمكنون وإظهار للجوهر، كما قد يكون إماطة الأوصاف السلبية عن النّفس، وهذه النزعة التجريدية المخصوصة بلطائف النفس تجلّت عند نعيمة في غير ما موضع من ديوانه، ذلك أنه سعى من خلالها إلى التأسيس لمفهوم الإنسان الكامل، فجعل من الكمال جوهرًا ومحورًا لمنظومته الشعرية الجمالية والفنية. ينشد نعيمة في قصيدته (الآن)[33]:

غَدًا أَرُدُّ هِبَاتِ النّاسِ لِلنَّاسِ
 

وَعَنْ غِنَاهُمْ أَسْتَغْنِي بِإِفْلاَسِي
 

وَأَسْتَرِدُّ رُهُونًا لِي بِذِمّتِهِم
 

فَقَدْ رَهَنْتُ لَهُمْ فكْرِي وَإِحْسَاسِي
 

وَرُحْتُ أَتَّجِرُ فِي أَسْوَاقِ كَسْبِهِمْ
 

فَمَا كَسَبْتُ سِوَى هَمٍّ وَوَسْوَاسِ
 

وَكَمْ فَتَحْتُ لَهُمْ قَلْبِي فَمَا لَبِثُوا
 

أَنْ نَصَّبُوا بَعْلَهُمْ فِي قُدْس أَقْدَاسِي
 

الأبيات أعلاه، تمثل تعبيرًا عن مفهوم التجرّد، فالشاعر يسعى إلى الانسلاخ عن عالم الناس؛ ليمحو العلائق التي تربط الذات بالأغيار، طلبًا للخلاص، وهو يتغيّا تصفية الذهن وإخلائه من الوساوس والأوهام والهموم؛ إذ في عزلته الروحية يستغني بفقره عن غناهم؛ لأن منتهى استقلالية الذات يكون بتجرّدها من الأهواء والرغبات والعلائق.

والحقيقة أن نعيمة أراد أن يعيش بمخيّلته وقلبه، لا بعقله وجسده، فوجد في الشعر ما مكّنه من الولوج إلى عوالم نورانية تُحْدَسُ ولا تُدْرَكُ، وتُتَخيّل ولا تُرى رأي العين. ولن تكون هذه العوالم سوى الوجود بوصفه كتابًا مقروءًا. يقول: "إن أول ما أبحث عنه في كل ما يقع تحت نظري باسم الشعر، هو نسمة الحياة. والذي أعنيه بنسمة الحياة ليس إلا انعكاس بعض ما في داخلي من عوامل الوجود، في الكلام المنظوم الذي أطالعه"[34]. إن السعيد الحقيقي – في تصور نعيمة – هو من استطاع الاستعلاء على بدنيّته، والاتصال بقلبه وخياله الخلاق، حتى يصير كائنًا يستحق اسم الإنسانية ولقبها.

إن المنحى الصوفي يصبح بارزًا كلّما ابتعد الشاعر عن عالم الناس، تأسيسًا للإنسان الكامل، وتخليصًا للمجتمع الإنساني من المفاسد والنقائص والأطماع والتمزّق الروحي، فيصير مماثلًا ومضاهيًا لمجتمع السماء. نجازف ونقول: إن شعر نعيمة يجب أن يُقرأ بوصفه تجربة كيانية وحضارية مفتوحة على تجارب الخلاص الأرضي من الاغتراب والاستلاب، وبوصفه أيضًا تجربة روحية تنفتح على الخلاص الكوني من التشيّؤ، ومن كل ما يحدّ طاقات الإنسانية. بل إن شعره يمثل اشتياقًا أصليًا إلى المحو والفناء، وهذا ما نلمحه في بقية الأبيات ضمن قصيدة (الآن)[35]:

غَدًا أُعِيدُ بَقَايَا الطَّينِ لِلطِّينِ
 

وَأُطْلِقُ الرُّوحَ مِنْ سِجْنِ التَّخَامِينِ
 

وَأَتْرُكُ الْمَوْتَى لِلْمَوْتَى وَمَنْ وَلَدُوا
 

وَالْخَيْر وَالشَّرّ لِلدُّنْيَا وَلِلدِّينِ
 

وَأَلْبس العُرْيَ دِرْعًا لاَ تُحَطِّمُهُ
 

أَيْدِي الْمَلاَئِكِ أَوْ أَيْدِي الشَّيَاطِين
 

غَدًا أَجُوزُ حُدُودَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ
 

فَأُدْرِكُ الْمُبْتَدَأَ الْمَكْنُونَ فِي خَبَرِي
 

فَلَا كَوَاكِب إِلاَّ كَانَ لِي سُبُلٌ
 

فِيهَا وَلاَ تُرْبَة إِلاّ بِهَا أَثَرِي
 

لِي فِي الْقَضَاءِ قَضَاءٌ وَالْمَنُون مُنًى
 

وَفِي مُلاَحَمَةِ الْأَقْدَارِ لِي قَدَرِي
 

غَدًا؟ وَلاَ أَمْسَ لِي حَتَّى أَقُولَ غَدًا
 

فَلْتَمْحِهَا الآنَ مِنْ نُطْقِي وَمِنْ فْكرِي
 

إن الإعادة في هذا المقام، رجوع إلى أصل التكوين وماهيته، وتكون بإعادة الجسد إلى أصوله الطينية الزائلة، وهذا سعي حثيث سعى إليه نعيمة، فحرّر روحه من عالم المادة، فلم تعد الأرض بيته، بل صارت السماء مأواه ومستقره، بعدما جاز حدود السمع والبصر. "إن هذه القصيدة أشبه بأشعار المتصوفة، الذين يطلقون الكلمات على دلالات في أنفسهم غير دلالاتها المتعارف عليها"[36].

إنّ الموت في تصور نعيمة إفاقة وجودية على أصالة الكيان الفردي للشاعر، كما أنه انسلاخ من مَحْبس الذاتية في تناهيها، طلبًا لتأبيد الذات في عالم غير عالم المادة. ذلك أن الموت في هذا المقام بمثابة النار التي تبعث طائر الفنيق من سباته، ليحيا حياة السماء لا الأرض؛ لأنه سيترك عالم الموتى للموتى، ويحتمي بشجرة الخلود الأبدية. فالموت يستيقظ في شعر نعيمة بشكل مختلف، فهو عرس صوفي، وتجرّد من عالم المادة الفاني كما قلنا سابقًا. وهو أيضًا إدراك للحقائق وللمعارف الحقة بعين الروح لا بعين العقل. (فَأُدْرِكُ الْمُبْتَدَأَ الْمَكْنُونَ فِي خَبَرِي)، أي أنه إدراك شهودي تصل من خلاله الذات إلى الوعي المطلق بأصل البدايات الأولى، "فالحياة وإن تراءت لنا كما لو كانت تسير في خطوط مستقيمة أو ملتوية، لا تسير في الواقع إلا في دوائر. فبذور تنبت وتزهر وتثمر لتعود بذورا. وفصول تدور بعضها على بعض، وأواخرها مقْطُورَة أبدًا بأوائلها. ومياه تخرج بلا انقطاع من البحر لترجع في النهاية إلى البحر"[37].

إن استلهام نعيمة لرمزية الدائرة من الفكر الصوفي يؤشر على عنصر الكمال الذي أراد التعبير عنه؛ فبداية الدائرة نقطة، ثم يسير الخط في انحرافٍ متقوسٍ إلى أن يلتقي بنقطة الانطلاق، فتكون دائرة التمام والكمال. زاد نعيمة من تعميق هذه الدلالة حين قال: "قطرة تنطلق من البحر فتدور دورتها ثم تعود من حيث أتت، تكتسب صفات ما كانت لها قبل انطلاقها من البحر"[38]. هكذا تصير الإعادة بما هي عودة إلى الحضن الأول، وبما هي موت ورجوع إلى الأصل ولادةً ثانيةً في العالم الأخروي يكتسب فيها الإنسان صفات الكمال التي كانت تنقصه في عالمه السفلي.

إن ميخائيل نعيمة يقف من الموت موقفًا مخصوصًا، فهو يراه تطهيرًا من الشهوات، حين يقول: "أيها الرفيق الحبيب، لست أبكيك لأنك حيث أنت في غنى عن الدموع. فأنت حيٌّ في وجداني كما أنك حيٌّ في وجدان البقاء. وإن يكن في عيني دموع فأنا أحق بها منك. لأنك قد تجرّدت من شهواتك. أما أنا فلا أزال في مهبّ شهواتي كذرة في مهب الريح. ولقد تركت مطامعك على الفراش الذي لفظت عليه آخر أنحابك. أما أنا فلا أزال أذهب إلى فراشي فأجد مطامعي تحت وسادتي..."[39].

في السطرين الأخيرين من القصيدة الآنفة الذكر، ينفتح نعيمة على عوالم جديدة؛ إذ ينفي أن يكون له أمس أو كينونة في عالم المادة، حتى وإن حصل وكان هذا الأمس، فهو أمس غير مرحّب به؛ لأنه ناقص وغير مكتمل،فيأمر الشاعر بمحوه من قوله وفكره. والحقيقة أن الأمس في هذا المقام هو أمسه الشعري وماضيه الفكري، فهو يعلن عن موت الشعر الذي كان يمثل بالنسبة له يقظة المسافر العائد إلى فراديس البدايات الطاهرة؛ لأن رحلته اكتملت وما عاد يحتاج إلى ذلك الشعر المناهض لعبثية عالم المادة. على هذا الأساس يكون الشعر أرضي كما النطق أو الكلام؛ لأن شعره ناتج عن حالة شكّ وقلق وضعف، ويكون الصمت أو السكوت سماويًا، وهو المدخل إلى المعرفة الحقّة، والحرية المطلقة، "كذلك ينطلق الإنسان من قلب الوجود وقد انطوت فيه كل أسرار الحياة. ينطلق عاجزًا وجاهلًا ليعود كائنًا قادرًا على كل شيء، وعليمًا بكل شيء، وما الأعمار يطويها دورة بعد دورة غير مراحل في طريق الخير والشر"[40].

لقد سلك الشاعر بنجاح درب المعرفة حتى فاز بخاتمة سفره، بعدما تخلّص من طينته الكثيفة، فانتقل من الشك إلى اليقين، وصار روحًا طاهرة نقية، تجاوزت كل الحدود، أو لنقل: إن نعيمة أدرك السرّ، وعرف بأننا "ألغاز في عالم كلّه ألغاز، وهذه الألغاز قد تشابكت وتداخلت في شكل يتعذر علينا معه حلّ واحد منها إلا أن نَحلّ ما قبله وما بعده. فكأنها الأبواب الموصودة. أما مفتاحها فواحد. فإن أنت حظيت به فتحت جميع أبواب الكون من أصغرها إلى أكبرها، ومن أقربها إلى أبعدها"[41].

والحقيقة أن (قصيدة التائه)[42] تبدو مكتنزة بمعان أخرى ذات طبيعة صوفية، يقول الشاعر:

وَاحُرْقَتِي أَوّاهِ
 

 

لَوْ كُنْتُ أَدْرِي مَاهِي
 

أَشُعْلَةُ الْإِلَهِ
 

 

أَمْ شُعْلَةُ الرَّدَى
 

فَهيَ التي تُحْيّينِي
 

 

وَهيَ التِي تُفْنِينِي
 

وَهيَ التي تُسْقِينِي
 

 

مِنْ جَمْرِهَا نَدى
 

وَهي التي لَظَاهَا
 

 

أَرَانِي الْإِلَهَا
 

وَهي التي لَولْاَهَا
 

 

لَمْ أَعْرِفِ الشَّقَا
 

رَبَّاهُ هَلْ بَلِيَّه
 

 

ذِي النَّارُ أَمْ عَطِيَّهْ
 

لقد استطاع – في تقديري – نعيمة أن يمزج بين الصوفية والفلسفة، فصار متورّطًا في الإجابة عن سؤال سيديمي شائك، نرى تجلياته في هذه القصيدة المعبّرة عن الحيرة والتيه. فالنار في هذا المقام، أشبه ما تكون بنار الهداية التي تنير للشاعر طريق العبور إلى ضفة النّجاة، وهي كذلك عنصر تطهير وجزاء وعقاب في العالم الأخروي لمقترفي الخطايا. وتوظيف نعيمة للنار/النور يمثل تجسيدًا لمبدأ الصراع الأبدي بين النّور والظلمة، والخير والشر، والحقيقة والهباء، والنّوال والإمحال، والنقص والكمال. فالخيط الفاصل بين النار والنور داخل القصيدة ينشأ من نقطة تماس رفيعة، لا تعكس أي مظهر انفصام وتصدّع بينهما، بقدر ما تكثّف عناصر تماثلهما أو انطباقهما الكلي، فتصير النار نورًا.

ثانيًا: الانفعال الروحي والبعد الإنساني

سننطلق في هذا المقام من تصور على قدر كبير من البداهة، يتمثل في أنّه كلّما كانت الانفعالات أعمق وأصدق، كلّما صَعُب التعبير عنها، وعجزت الكلمات عن نقل تلك الشحنات الانفعالية؛ لأن الكثير من الأفكار لا تجد تمفصلاتٍ على مستوى اللسان، فتكون دموع الإنسان خير معبر، وأفضل ناقل لما يجيش في الدواخل، كما تكون شطحات الصوفي وتحيّراته دليل عجزه عن التعبير عن دواخله. والحال أن تجربة نعيمة الشعرية الصوفية تتأسس على الانفعال الروحي الذي يشيع في النفس غبطة ونشوة. هذا الانفعال الروحي هو نتاج ترويض للبواطن، يقول نعيمة: "تعلّموا منذ الآن أن تروّضوا عوالم أرواحكم. فآفاقها لا تحدّ، وعجائبها لا تعدّ، وما العالم الخارج عنكم غير خيال العالم المنطوي فيكم. فإن شئتم أن يكون عالمكم الخارجي جميلًا كحّلوا أعينكم بمرود الجمال، وإن شئتموه طاهرًا فاغسلوا أيديكم بماء الغفران، وعطّروها بشذا المحبّة، وإن شئتموه فسيحا فاتخذوه لأرجلكم جنحة من الخيال الحر. وإن شئتموه كاملًا فأضرموا في قلوبكم نار الإيمان الحي" [43]. إنه انفعال صادر عن وعي صوفي يأبى إلا أن يطهّر العالم من خطيئة العادة، ورتابة النظر إلى الأشياء بعين الألفة السالبة لمكامن الدهشة في الأشياء، انفعال يتلظّى في الفؤاد نارًا فيستحيل وعيًا شفيفًا يتمفصل على شكل قول شعري يقرع قلوب الإنسانية.

هكذا هو القول الشعري الخالص، لا يبتعد عن العالم، بقدر ما يشخص عالم الناس وأمراضه الاجتماعية. لأجل ذلك، آمن نعيمة بالإنسان، ورأى فيه عظمة لا تعادلها عظمة، وعبقرية لا تعادلها عبقرية، وعظمته ليست في أفعاله وأعماله وأقواله واختراعاته، ولكنها في مقدرته على المحبة ونشدان المعرفة الكاملة. وقد وجدنا ونحن نمعن النظر في ديوانه همس الجفون كيف تغنّى بهذه العظمة بعاطفة حسّاسة رنانة، ونغمة إنسانية تحرّك القلب، وتبعث فيه الإيمان والثقة والمحبة. من هنا تأسّست شخصية الصوفي في شعره، بل في فكره برمته، ذاك الصوفي الذي يتخطّى الواقع الممسوخ، ويسمو عليه عبر السفر بالخيال الخلاق، سعيًا إلى عالم اللطافة حيث الكمال الروحي. ذلك أن "من يسعى للإنسانية عليه بذر بذور الإيمان، واقتلاع أشواك الشهوات، وهنا يحصد الكمال الروحي الذي يسعى إليه"[44]. والحقيقة أن بذر الإيمان والحب وقيم التسامح لا تكون في نظر نعيمة إلا من خلال الشعر؛ لكونه القادر على لمّ هذه القضايا والنفاذ إلى ما وراء الحس، تحقيقًا للوعي الحدسي، والانفتاح الرؤيوي المعرفي. فـ"الفن نوعان: فن يبتدئ بالمحسوسات لينتهي منها إلى ما وراء الحسّ، فكأنه يعالج مساحيق الزمان والمكان، عارفًا أن لا نفع منها إلا للتخلّص من قيود الزمان والمكان. وفن ينشأ في المحسوسات ليفني فيها، جاهلًا القصد من مساحيق الزمان والمكان. فكأنه لا يلهو بها إلا ليصبح واحدًا منها. ومما يؤسف له أشد الأسف أن أكثر فنون الناس من هذا النوع الذي كنت أدعوه عقيمًا لولا اعتقاد راسخ في ضميري أن الحياة أدرى مني ومنكم في تدبير بنيها، وأن لا عقم فيها، فهي كالأرض تحول كل موت إلى حياة، وكل قذارة إلى طهارة، وكل عقم إلى خصب"[45].

هذا التصور يشير إلى أن التجربة الشعرية بوصفها فنًّا يجب أن تكون قائمة على الانفعال الشعري الذي يدرك الحقائق الحية في مهدها الروحي قبل أن تدخل إلى عالم المادة.

1.     أمكنة الروح الجالبة للطمأنينة

يأخذ المكان في شعر نعيمة أبعادًا تتجاوز البعد الفيزيائي الضيق، ليشكل برمزيته فضاء للحرية، والانطلاق، والكمال، والطمأنينة. كما يشكّل كينونة الصوفي وجذره الأنطولوجي؛ إذ علاقته بالمكان ما هي إلا علاقته بنفسه وبكونه الخاص. فإذا أصغينا إلى الحوار الرقيق الذي دار بين جبران خليل جبران ونعيمة أمكننا من خلاله فهم عظم المكانة التي احتلها المكان في قلبيهما ووجدانيهما: يقول جبران: "ميشا ميشا[46] نجاني الله وإياك من المدنيّة والمتمدّنين، ومن أمريكا والأمريكيين، ونحن سننجو بإذن الله، وسنعود إلى قمم لبنان الطاهرة، وأوديته الهادئة...نفسي تطالبني بعزّتها، وفكري يطالبني بحريته، وجسمي يطالبني براحته، ولن أستعيد عزة نفسي، وحرية فكري، وراحة جسمي، إلا في لبنان...لو كنت تعرف الصومعة التي اخترتها لي ولك هناك، لكنت تجذبني من يدي في هذه الدقيقة، وتقول لي هيا بنا إليها "[47]. لقد صار المكان بوصفه وطنًا أرضَ فتوحات، فالشاعر لا يستعيد روحه، وحريّة فكره إلا في لبنان مهبط الإلهام عليه، لكن حلمه لم يتحقق؛ "لأنه دخلها محمولًا على الأيدي، في نعش صنع من تلك الماكينات التي كان يود أن يهرب منها"[48].

هكذا يتجلى المكان وجدانيًا بمشاهد تحمل تجارب السفر والحنين، والاغتراب والحب والانتشاء، والشاعر ببراعته يمنح هذه المشاهد القدرة على البوح، وعلى الفعل الدلالي عبر الشعر، يقول نعيمة في قصيدة(الطمأنينة)[49]:

سَقْفُ بَيْتِي حَدِيدْ
 

 

رُكْنُ بَيْتِي حَجَرْ
 

فَاعْصفي يَا رِيَّاحْ
 

 

وَانْتَحب يَا شَجَرْ
 

وَاسْبَحِي يَا غُيُومْ
 

 

وَاهْطِلِي بِالْمَطَرْ
 

وَاقْصِفِي يَا رُعُودْ
 

 

لَسْتُ أَخْشَى خَطَرْ
 

مِنْ سِرَاجِي الضَّئِيلْ

 

أَسْتَمِدُّ الْبَصَرْ
 

بَابُ قَلْبِي حَصِينْ
 

 

مِنْ صُنُوفِ الْكَدَرْ
 

فَاقْدَحِي يَا شُرُورْ
 

 

حَوْلَ قَلْبِي الشَّرَرْ
 

وَاحْفرِي يَا مَنُونْ
 

 

حَوْلَ بَيْتِي الْحُفَرْ
 

يتقاطع المكان مع الطبيعة الروحية للإنسان الصوفي، فيصير القلب مكانًا محصّنًا غير قابل للاختراق أو تعكير الصفو والطمأنينة، فلا يمكن للخطوب والهموم أن تنال من قلبه. يصير الجسم – بوصفه هيكلًا – بيتًا يضمّ بين جوانحه تلك الروح النابضة بالحياة، روح لا تتأثر بمظاهر الطبيعة الخارجية، ولا تقع في غواية الشهوات والملذات. والحقيقة أن الرياح في هذا المقام، هي الأهواء المرصودة للجسد لتخرجه من عقاله، وتحيد به عن طريق الهداية. والحال أن الشاعر جعل سقف هذا البيت/الجسد من حديد، وأركانه من حجر لا يلين، ولا يتأثر لتلك النوازع إمعانًا منه في التعبير عن حالة الطمأنينة الصوفية التي تنأى بالذات عن كل همّ وغمّ؛ لأنها تنال بأشياء وضيعة، وأمكنة عادية ليست بالباذخة أو المتأنّقة، فمادام الشاعر يستر رأسه تحت سقف حديدي، في بناء أساسه من حجر، فلا تهمّه الأمطار ولا العواصف والأنواء. وهنا يتشكل المكان صوفيًا وجماليًا ليحيل على الوعي الداخلي الذي يعيد إنتاج الإنسان عبر الخلق والتخيّل والإبداع؛ حيث جعل للروح مكانًا تثوي فيه، ثم ما لبث أن انتقل لوصف هذا المكان الآدمي غير القابل للاختراق، فهو محصن ولا يخشى التهدّم والتضعضع. والحق أن نعيمة أراد من خلال المكان التأسيس لثنائية الجوهر والعرض، فالروح جوهري والجسم عرضي أو لنقل: إن المكان الصوفي كما الجسد فضاء مفتوح تسكنه الروح، ويؤثثه الإيمان، ويجمّله العرفان، تنقدح من خلاله القيم الأخلاقية الدالة على الإنسان الكامل. إن البيت/الجسد والقلب باعتبارهما مكانًا في هذه القصيدة يجسدان العرضي والجوهري كما سبق وقلنا، كما يجسدان الهوية الصوفية التي تنتمي إليها ذات الشاعر. إن الذي يميز رؤية نعيمة للمكان هو عده كيانًا فاعلًا ومنفعلًا في الآن نفسه. هكذا رسمه للمكان صورة على قدر كبير من الفرادة والتميز. إن المكان لا يخضع للإحداثيات الأساسية التي يخضع لها العالم الموضوعي، بل هو مكان يتماهى مع نظرة الشاعر الصوفية للإنسان؛لأن "الصوفي لا يرى نفسه وحدة مستقلة، لا في محيطه الإنساني ولا في محيطه الكوني، بل يرى نفسه مرتبطًا أوثق ما يكون الارتباط وأتمّه بإخوانه في الإنسانية، وبصور الحياة على تعدد ألوانها الكونية. فالكون وحدة متماسكة، وهو ينفعل انفعالًا باطنيًا بكل ما يحدث فيه"[50].

إن الفضاءات التي أسّسها الشاعر فضاءات ميتافيزيقية؛ لأنها لا تتحدّد بمواقع حسية، نظرا لتَمَيّزها بوعي خاص، يرصد الحالة التي تعتري الشاعر روحيًا وجسديًا. على هذا الأساس يشكل المكان المحتضن للتّجربة الشعرية اختبارًا للشاعر وامتحانًا لصبره. فالنيران والرياح والصواعق والمنون والشرور التي تحدق بالمكان المعبر عنه في الأبيات أعلاه، ما هي إلا أدوات تمحيصٍ للذات المصطلية بنار المعاناة والمنعجنة بآلامها. ولمّا كانت هذه المعاناة تقوم في الآن الذي يثبت واقع الهجر ويعمق الشعور بمرارة الانفصام، كان على الشاعر الصوفي أن يتوقّف عند هذه اللحظة ليؤسس خبرته بها، وليمنح لنفسه إمكانية معايشتها والاحتفاظ بها. ولهذا نجد أن النص الشعري الصوفي، يقوم في جانب منه، بتجميد الزمن عند اللحظة الحاضرة، فيتطابق الزمن الصوفي مع الزمن الموضوعي الخارجي في لحظة الانفصام، ومعها تنمو مظاهر الانفعال والمعاناة، وتتعاقب أحوالها في حركة الوصف.

إن اللحظي والآني بوصفهما تجليين من تجليات اليومي يضعان الشاعر أمام مأساته وجهًا لوجه، ومع ذلك، فهما من جهة أخرى، يبعثان فيه فعل العشق، ويشعلانه برغبة الرجوع إلى الرحم الذي انفصل عنه؛ لأن تثبيت اللحظة تثبيت لألمها، وعشق للألم الذي يريد نعيمة الصوفي أن يلازمه وينعم ويتغنى به حتى انتهاء الرحلة.

2.     الأخوة الإنسانية وسؤال الأخلاق

أن تكون شاعرًا صوفيًا معناه أن تمتلك قلبًا يفيض حبًا ورحمة، جمالًا وجلالًا، لطفًا ولينًا، وتكون إنسانًا يحاكي أصل الفطرة النقي الطاهر، ويعمل بمقتضى الروح السارية في أوداجه، فيمقت الظلم ويناصر المظلومين والمستضعفين، ويمسح بيد من رحمة على قلوب المحتاجين والمكلومين، ويشيع في نفوس الميؤوسين الأمل والرجاء. ولا يعزب عن كل دارس للمنجز الإبداعي والفكري لنعيمة، حضور تلك النزعة الإنسانية ذات البعد الأخلاقي التي شكّلت منطلقًا لكل التصورات التي بثّها في مؤلفاته؛ إذ في ضوء هذه النزعة يرفض الصراع المحتدم في العالم، سواء على مستوى الأفراد أم الجماعات أم التحالفات. والحق أن النزعة يغذّيها ذاك الانفعال الروحي الذي يسري في ثنايا الديوان برمته، فيجعل شعره يتزيّا بالحب الإنساني ويقي البشربة شر الحروب، وخزي الصراعات. "فما كان الكون طعامًا لكم إلا لتكونوا طعامًا له. ولا كانت روحه روحكم إلا لتكون روحكم روحه...ولو أنكم اتحدتم به مثل اتحاده بكم، لكنتم في نشوة دائمة من سحر الوجود، ولما صحوتم من نشوتكم تلك لتنتشوا بخمور الضغائن والأحقاد، والمطامع والمخازي، والسعايات والنكايات، وتفريق ما جمعته الحياة، وتخريب ما عمرته يد الله"[51]. فالحب والإخاء مظهران من مظاهر الحياة التي يسعى نعيمة إلى تكريسها في شعره، وبهما يؤسس مفهومًا جديدًا للإنسان المتواشج مع الكون حدّ التماهي. فشعره يمثل أفقًا مشرعًا على همّ صوفي ميتافيزيقي يروم ترميم الوعي المتصدع للإنسانية بفعل انفصالها الروحي عن العالم، واعتلال قيمِها الروحية. فكان أمره صريحًا وهو يقول: "ألا وسعوا أبواب أرواحكم كيلا يظل أحد خارجًا. فإن رأيتم أعمى، وكنتم مبصرين، فاعلموا أنكم عميان مثله، ما لم تعيروه من بصركم بصرًا، فما زالت طريقه مظلمة فطريقكم مظلمة؛ لأن طريقه وطريقكم واحدة"[52]. هكذا يستنبت الشاعر هوية الإنسان الجديد من الأهازيج الروحية الشعرية، وهذا ما نلامسه بقوة في قصيدته (أخي)[53]:

أَخِي إِنْ ضَجَّ بَعْدَ الْحَرْبِ غَرْبِيٌّ بِأَعْمَالِهْ
 

وَقَدَّسَ ذِكْرَ مَنْ مَاتُوا وَعَظَّمَ بَطْشَ أَبْطَالِهْ
 

فَلاَ تَهْزَجْ لِمَنْ سَادُوا، وَلاَ تَشْمِتْ بِمَنْ دَانَا
 

بَلْ ارْكَعْ صَامِتًا مِثْلِي بِقَلْبٍ خَاشِعٍ دَامٍ
 

لِنَبْكِي حَظَّ مَوْتَانًا
 

إن من ينعم النظر في هذا المقطع الشعري يلفي دفقًا شعوريًا ينساب من الكلمات ليحيي الضمائر والقلوب، ويلين النفوس والأرواح، فالقصيدة بدأت بالنداء لفتًا لعناية كل قارئ أو مستمع، ليخبره بما عايشه في الحرب العالمية الأولى، وهو الذي حمل البندقية وانخرط في جيش الولايات المتحدة محاربًا، فرأى بعينه أشلاء إخوانه في الإنسانية ممزقة، وسمع أنّات الجرحى والمعطوبين وصراخهم، فساءه قبح المشهد، وأحدث في نفسه حزنًا بليغًا، وانطبع في نفسه كره شديد للقوة الغاشمة، وللأقوياء الظالمين. وهذا الملمح كشف عن وظيفة الأدب الإنسانية من حيث هو نابذ للظلم والعنف وكل أشكال التسلط، وناكر لكل قبيح شائه. "ومن هنا تصدر وظيفة الأدب الإنسانية من حيث إنه محرك لإرادة الشعوب"[54]. ففي موضوع يمسُّ الإنسانية كالحروب، لا يقدّم الشاعر الواقع المصور كما هو، بل يعيد ترتيبه شعريًا، ويقوم بتلوينه تلوينًا خفيًا يثير القارئ ويولّد لديه ردود فعل إيجابية تجاه هذه الأزمة الطارئة التي تخلف آثارًا مدمّرة، تُبيد وتُهدم، تُدمر وتُشرّد، تُجوّع وتُيتّم.

3.     القول الشعري سبيل لترميم الكيان الخُلُقي مناهضة للتنقيص

لقد شاع في الوسط الاجتماعي المتداول أن يكون النظر إلى الأخلاق بعدها أداة قياس لمكامن الضعف في النفس البشرية، أو قياس حالات الانحراف في السلوك والمعاملات، والحال، أن نعيمة ارتقى بالأخلاق إلى مستوى رفيع حين جعلها تخدم تلك القوة أو الطاقة الداخلية المتعلقة بالروح، بل جعل الأخلاق مصدرًا لفعل الفعل. وهو بهذا يعلو بالأخلاق عن التضييق والحصر، فالفعل الأخلاقي ينفتح ليس على الإنسان في علاقته بأخيه الإنسان وحسب، بل في علاقته بجلّ كائنات الوجود ومخلوقاته تحقيقًا لشمولية الفعل الأخلاقي. يقول نعيمة: "إنني لتمرّ بي حالات أستغفر فيها التراب كلّما وَطئتُ التّرَاب مخافة أن أنسى أنني من التراب، وأن فيه من العجائب مثلما فيّ، وأتحاشى جهد استطاعتي أن أدوس نملة؛ لأنني لا أفهم النملة، وليس في قدرتي إن أنا سحقتها أن أعوّض عنها بعجيبة مثلها. ولكم مددت يدي لأقطف زهرة في الحقل فجمدت يدي"[55].

يتعلق الأمر بتأسيس لهوية جديدة للإنسان، تتغذّى على منابع التجربة الصوفية؛ لا إمكانية لتغيير مبادئ الذات الجمعية وذوقها القيمي والأخلاقي الذي كان على قدر من الانحصار والانحسار، فتغيره لتتخلّق بالمعاني الروحية وتدين بها. وهذا نلحظه في شعر نعيمة المقاوم لموت الأخلاق، والمكرس للقيم الإنسانية النبيلة. بل إن شئنا قلنا: إن شعره يعكس حضورًا أصيلًا للعرفانية الصوفية المتجسّدة في فلسفة العلو التي تصيّر "الأناشيد التي يتغنّى بها الشاعر في وحدته أو عند منظر من مناظر الحياة، كالبحر والدودة وورقة الخريف...صلوات نفس، وفيها من قوة الإشارات وعمق التأملات ما فيها"[56]. ولنا أن نتأمل قصيدة (إلى دودة) لنستشف منها هذه الدلالات والإشارات، يقول فيها[57]:

وَأَنْتِ التي يَسْتصْغِرُ الكُلُّ قَدْرَهَا
 

 

وَيَحْسِبُهَا بَعْضٌ زِيَّادَةَ نُقْصَانِ
 

تَدِبين فِي حِضْنِ الْحَيَاةِ طَلِيقَة
 

 

وَلاَ هَمَّ يُضْنِيكِ بِأَسْرَارِ أَكْوَانِ
 

فَلاَ تَسْأَلِينَ الْأرْضَ مَنْ مَدَّ طُولَهَا
 

 

وَلَا الشَّمْسَ مَنْ لَظَّى حَشَاهَا بِنِيرَان
 

وَلاَ الرِّيحَ عَنْ قَصْدٍ لَهَا مِنْ هُبُوبِهَا
 

 

وَلاَ الْوَرْدَةَ الْحَمْرَاءَ عَنْ لَوْنِهَا الْقَانِي
 

وَمَا أَنْتِ فِي عَيْنِ الْحَيَاةِ دَمِيمَة
 

 

وَأَصْغَر قَدْرًا مِنْ نُسُورٍ وَعُقْبَانِ
 

فَلاَ التِّبْرُ أَغْلَى عِنْدَهَا مِنْ تُرَابِهَا
 

 

وَلاَ الْمَاسُ أَسْنَى مِنْ حِجَارَة صوان
 

هَلْ اسْتَبْدَلْتِ يَوْمًا غُرَابًا بِبُلْبُل
 

 

وَهَلْ أَهْمَلْتِ دُودًا لِتَلْهُو بِغِزْلاَنِ؟
 

وَهَلْ أَطْلَعْتِ شَمْسًا لِتَحْرِقَ عَوْسَجًا
 

 

وَتَمْلَأَ سَطْحَ الْأَرْضِ بِالْآسِ وَالْبَانِ؟
 

لَعُمْرُكِ يَا أُخْتَاهُ مَا فِي حَيَاتِنَا
 

 

مَرَاتِبُ قَدْرٍ أَوْ تَفَاوُتِ أَثْمَانِ
 

إذا أنعمنا النظر في هذه قصيدة، وجدنا نعيمة يتّخذ من هذا الكائن الضعيف، الذي يبدو في أعين الناس حقيرًا، نموذجًا للتّعبير عن موقف فكري إنساني على قدر كبير من الفرادة والعمق، يتمثل في كون الأخلاق لا تنحصر في علاقة الإنسان بخالقه، أو بما سواه من الأفراد، بل يجب أن تشمل هذه العلاقة جميع الكائنات الحية، حيوانات كانت أو نباتات. ولا تقف العلاقة الأخلاقية التي بناها نعيمة عند هذا الحد، بل تتعداه لتشمل كل شيء بما في ذلك الجماد، "فالصوفي لا يرى نفسه وحدة مستقلة، لا في محيطه الإنساني ولا في محيطه الكوني، بل يرى نفسه مرتبطًا أوثق ما يكون الارتباط وأتمّه بإخوانه في الإنسانية، وبصور الحياة على تعدد ألوانها الكونية. فالكون وحدة متماسكة وهو ينفعل انفعالًا باطنيًا بكل ما يحدث فيه"[58].

إن نعيمة يستغفر التراب كلّما وطأت قدماه التراب، وتتجمّد يده إذا ما فكّر في قطف وردة؛ لأنه يعلم يقينًا أنه ليس باستطاعته تعويضها بجميلة مثلها، واتخاذه للدودة نموذجًا للتعبير عن هذا الموقف ليس اعتباطيًا، أو محض صدفة، بل اختارها لعلمه بالشحنة الدلالية التي تحملها في النفوس، فهي دالة على القذارة والوساخة والوضاعة، وتثير في النفس الاشمئزاز والامتعاض، لكن شاعرنا نظر إليها بعين التعظيم والإكبار والتقدير، فناداها (أختاه) إمعانًا في التبجيل، فهو يرى فيها طاقة روحية تماثل طاقة الإنسان أو تفوقها بكثير، إنها تدبّ في حضن الحياة طليقة، لا همُّ الفكر يضنيها، ولا قلقُ الشكّ يثنيها، فهي مستسلمة لأمر خالقها وراضية بحالها، بل إن الدودة صارت تلقّن الإنسان القيم الإنسانية المثلى، حتى صارت نموذجًا للكائن الذي لا يقيم تفضيلًا بين الذهب والتراب، ولا بين البلبل والغراب. إنها عادلةٌ في تعاملها، منصفةٌ في علاقاتها مع الكائنات الأخرى.

 لقد كان نعيمة صادقًا في ابتهالاته حين قال: "كحّل اللهم عيني بشعاع من ضياء كي تراك في جميع الخلق: في دود القبور، في نسور الجو، في موج البحار، في صهاريج البراري، في الكلأ، في التبر، في رمل القفار"[59]. بهذه النظرة العرفانية للوجود استطاع نعيمة أن يصل إلى ما يمكن أن نسميه بالجمال الروحي الذي يتخطّى حدود العقل، ليصل إلى آفاق سَنية، تمدّ القلب بأنوار تجعله يحسن الاستماع إلى مخلوقات الوجود وكائناته. وبهذا السمو الروحي الجمالي، يجعل الشاعر الدودة تعقد صداقتها مع العالم ومع الحياة، صداقة حبّ روحي تغيب فيه المصلحة، والتراتبية الاجتماعية، والهرمية الطبقية. لقد صارت الدودة رمزًا للبراءة والطّهر، بدل الخساسة والنجاسة؛ لأنها لقّنت الإنسان أسمى درس في الحياة، بل في الوجود كلّه، إنه درس الكمال الإنساني الذي يتغيّا من خلاله الإنسان الوصول إلى آفاق فوق أفق الإنسان العادي.

وهذا أمر يجب ألا يغيب في مقاربتنا للقصيدة؛ لأن رسالته إلى الدودة تحمل إشارات ملغزة، فهو يعلم أن الطبيعة لن تبخل على دودة بإنسان، إذ حين موته ستنهش جسده إلى أن يستحيل رفاتًا، وهنا يطرح استفهامًا تعجبيًا: "أنت يا من تبخل على شحاذ بكسرة من خبز، كيف لك أن تفهم كرم الطبيعة التي لا تبخل على دودة بإنسان؟"[60].

إن شعر نعيمة شديد الانتباه إلى الكامن والمخبوء والمستتر، فهو يجعلك تكتشف العالم بعين ترى بنور القلب والخيال، وهذه علامة من علامات الفن الأكبر، الذي يمارس لعبة الخلق البريئة. "فالشعر عند نعيمة قد تحوّل حقًا إلى نغمة يستطيع الإنسان أن يترنم فيها بصوت خافت، ويجد لها طعمًا خاصًا"[61]. وإذا ما نحن سألنا نعيمة عن أبدع آيات الفن وأعلاها أجابنا: "ضمير لا يُسَخّر، وجبين لا يُعفّر، ولسان حليم شكور، وقلب عفيف غفور، وعين لا تبصر القذى، ويد لا تنزل الأذى، وفكر يرى في البلية عطية، وخيال يربط الأزلية بالأبدية. وهذه قد تعثرون عليها فيمن لا علم لهم بأسرار الألوان والقوافي قبل أن تلمحوا لها أثرًا في كبار الشعراء والرسامين والملحّنين...فلا تخدعنكم الألقاب، ولا تغرنكم الشهرة. ولا تعمينّكم تقاليد الناس الفنية عن الفن الأكبر، فن امتشاق الإنسان من غمد ناسوته، والوصول به إلى ذروة لاهوته"[62].

لقد عدّد نعيمة علامات الفن وآياته وحصرها في مجموعة من السمات يمكن تكثيفها في أربعٍ؛ الأولى: لها علاقة بالقلب الذي يسمو ويُطَهَّر بالفن، والثانية: لها علاقة بالحواس التي تُدَرَّب – بفضل الفن – على رؤية الجمال في كل تفاصيل الحياة، وتنأى عن القبيح والشائه، والثالثة: لها علاقة بالفكر المسدّد بالأخلاق؛ حيث يكون سببًا في سعادة الإنسان لا في شقائه، والرابعة: لها علاقة بالخيال الخلاق بوصفه معراجًا ومرقى نحو الكمال.

هكذا ظل نعيمة يروض حواسه، لرؤية الجمال في كل عناصر الكون وأشيائه، حتى يتفجّر الوعي العرفاني في الإنسان تحقيقًا للسفر الروحي قصد السمو على النقائص والقبائح. لقد قال مبتهلًا: "اللهم أعطنا نورًا غير الذي يستقر في بؤبؤ العين، وسمعًا غير الذي يقرع طبلة الأذن، وشمًّا غير الذي يسري في الخياشيم. لعلّنا نبصر موكب الشمس خلف الغيوم، ونسمع معزوفة الربيع في فحيح العواصف، ونشتمّ أريج الزهر في أنفاس ريح الشمال"[63].

نفهم من هذا الكلام أن الشاعر لا تكفيه الموهبة لقول الشعر، بل لابد قبل تهذيب الطبع من تدريب الحواس على رؤية الحسن والجمال في الوجود؛ حتى يتحرّر الخيال من أقفاص العقل وأغلالها، وحينها "تجدون أن ليس في الكون أرجاء إلا ولكم فيها أثر. وعندئذ تتذوقون نشوة المعرفة بأنكم والحياة بأسرها وحدة لا تتجزأ"[64].

إن منطق الشعر يتأسس عند نعيمة على هذا النحو، ويكشف عن نفسه من خلال هذا التدريب والتهذيب، المؤسس على الخيال الخلاق الذي يروم اقتناص الخفي والمستتر، وكذلك هو منطق التجربة الصوفية التي تعلو على شروط العالم الموضوعي وممكناته.

خاتمة

انطلاقًا مما قدمناه حول الرؤيا الشعرية في ديوان همس الجفون نخلص إلى أن ديوان همس الجفون يمثل تجربة إبداعية متفرّدة، اتخذت من الإنسان نقطة الانطلاق ونقطة الوصول؛ إذ جعل نعيمة عظمة الإنسان كامنة في قدرته على الحب والإيمان؛ إذ بهما يعي حقيقته، وبوعيه لحقيقته يعي الحياة بكل ألوانها وتناقضاتها. لأجل ذلك، كان شعره رحلة فكرية وروحية، يتداخل فيها الشعري بالروحي ليشكلا وعيًا خالصًا ورؤيا تتجاوز المادي وتعلو عليه.

أما فنيًا فإن شعر نعيمة يتسم بجمالية خاصة، فهو مقِلّ في محسناته البديعية، واستعاراته وتشبيهاته، مما جعل أسلوبه الشعري يسيطر عليه حياء خفي ناتج عن كبت مشاعر الجمال الفني، وكأن هناك حربًا خفية ضد عاطفة الجمال الفني المتّقدة في نفسه، لاعتقاده أن الإفراط في الأصباغ اللغوية والمحسنات البديعية هو تناقض مع مبدأ الصوفية الذي يحارب عنف الشهوات، ولخوفه أيضًا من الخروج عن مرامي الفن الأكبر الذي أسس له ودعا إليه في غير ما مناسبة.

وعلى مستوى القيم فإن شعر نعيمة ينشد قيمًا إنسانية خالدة تنأى به عن أن يكون إبداعًا سطحيًا، فهو شعر يتأسّس على مفهوم الجمال الروحي الذي يستمد مقوماته من الخيال الخلاق، ومن التجربة الروحية القائمة على الرياضة والمجاهدة وصولًا إلى الكمال.

هكذا يصير طقس الكتابة الشعرية عند نعيمة طقس مهابة وهيبة، تصدق فيه الكلمات حين يكذب الواقع؛ لأن الكتابة الشعرية لا تقوم على تطريز الكلام وإشباعه بالأصباغ اللغوية، بل تسعى إلى ملامسة إنسانية الإنسان، فهي كتابة حالمة ترسم أوجاع الإنسانية المعذبة التي عانت وما زالت تعاني من ضجر المادية والتقنية التي أدخلت الإنسان في قفص العبودية والتشيؤ واللا جدوى.


 

المراجع

أولًا: العربية

ابن عربي، محيي الدين. الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار، تقديم عبد الرحمن حسن محمود. القاهرة: مكتبة عالم الفكر، ط1، 1986م.

ابن منظور، جمال الدين محمد المصري، لسان العرب، تصحيح: أمين محمد عبد الوهاب، ومحمد الصادق العبيدي. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1999.

بنعمارة، محمد. الصوفية في الشعر المغربي المعاصر (المفاهيم والتجليات). الدار البيضاء: شركة النشر والتوزيع – المدارس، ط1، 2000م.

ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. مصر: دار المعارف، ط5. [د.ت].

سرور، طه عبد الباقي. من أعلام التصوف الإسلامي. القاهرة: نهضة مصر،1956م.

سلطان، وفيق. الشعر والتصوف. سوريا: دار الحوار للنشر والتوزيع، ط1، 2013م.

السيد، شفيع. ميخائيل نعيمة: منهجه في النقد واتجاهه في الأدب. القاهرة: عالم الكتب، 1972م.

عباس، إحسان. ونجم، محمد يوسف. الشعر العربي في المهجر: أمريكا الشمالية. بيروت: دار صادر، ط2، 1967م.

الغزالي، أبو حامد. إحياء علوم الدين، تحقيق أبي حفص سيد بن إبراهيم بن صادق بن عمران. القاهرة: دار الحديث، 1988م.

كوربان، هنري. الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، ترجمة فريد الزاهي. الرباط: منشورات مرسم، ط2، 2006م.

المرزوقي، أبو يعرب. في العلاقة بين الشعر المطلق والإعجاز القرآني. بيروت: دار الطليعة، ط1، 2000م.

ملحس، ثريا عبد الفتاح. القيم الروحية في الشعر العربي قديمه وحديثه (حتى منتصف القرن العشرين). بيروت: دار الكتاب اللبناني،1965م.

مندور، محمد. في الأدب والنقد. القاهرة: نهضة مصر، 1988م.

نعيمة، مخائيل. الأوثان. بيروت: مؤسسة نوفل، ط7، 1978م.

–––. البيادر. بيروت: دار نوفل للنشر والتوزيع، ط12، 1992.

–––. زاد المعاد. مصر: مطبعة المقتطف والمقطم، 1936.

–––. الغربال. لبنان: دار نوفل للنشر والتوزيع، ط15، 1991.

–––. في مهب الريح. بيروت: مكتبة صادر، 1953م.

–––. المجموعة الكاملة لأعمال نعيمة، بيروت: دار العلم للملايين، ط3، 1987م.

–––. المراحل. بيروت: مؤسسة نوفل، ط9، 1989م.

–––. النور والديجور. بيروت: مؤسسة نوفل، ط7، 1988م.

–––. همس الجفون. بيروت: مكتبة صادر، ط2، 1952م.

ثانيًا:

References:

ʻAbbās, Iḥsānwnjm, Muḥammad Yūsuf. Al-shiʻr al-ʻArabīfī al-mahjar: Amrīkā al-Shamālīyah. (in Arabic). Bayrūt: Dār Ṣādir, 2nd ed., 1967.

Al-Ghazālī, AbūḤāmid. Iḥyāʼʻulūm al-Dīn, (in Arabic). taḥqīq Abī Ḥafṣ Sayyid ibn Ibrāhīm ibn Ṣādiq ibn ʻUmrān, Al-Qāhirah: Dār al-ḥadīth, 1988.

Al-Marzūqī, AbūYaʻrub. Fī al-ʻalāqahbayna al-shiʻr al-Muṭlaqwa-al-iʻjāz al-Qurʼānī. (in Arabic). Bayrūt: Dār al-Ṭalīʻah, 1st ed., 2000.

Al-Sayyid, Shafīʻ. Mīkhāʼīl Naʻīmah: manhajuhufī al-naqd wātjāhh fī al-adab. (in Arabic). Al-Qāhirah: ʻĀlam al-Kutub, 1972.

Biniʻmārah, Muḥammad. al-Ṣūfīyahfī al-shiʻr al-Maghribī al-muʻāṣir (al-mafāhīmwa al-tajallīyāt). (in Arabic). Al-Dār al-Bayḍāʼ: Sharikat al-Nashrwa-al-Tawzīʻ-al-Madāris, 1st ed., 2000.

Corbin, Hinrī. al-Khayyāl al-Khallāq fī Taṣawwuf Ibn ʻArabī, (in Arabic). trans Farīd al-Zāhī. Al-Rabāṭ: ManshūrātMarsam, 2nd ed., 2006.

DīwānImriʼ al-Qays, (in Arabic). taḥqīq Muḥammad Abū al-Faḍl Ibrāhīm. Miṣr: Dār al-Maʻārif, 5th ed., [N.D].

Ibn ʻArabī, Muḥyī al-Dīn. al-anwār fīmā ymnḥ ṣāḥib al-khalwah min al-asrār, (in Arabic). taqdīm ʻAbd al-Raḥmān Ḥasan Maḥmūd. al-Qāhirah: Maktabat ʻĀlam al-Fikr, 1st ed., 1986.

Ibn manẓūr, Jamāl al-Dīn Muḥammad al-Miṣrī, Lisān al-ʻArab, (in Arabic). taṣḥīḥ: Amīn Muḥammad ʻAbd al-Wahhāb, wa-Muḥammad al-Ṣādiq al-ʻUbaydī. Bayrūt: DārIḥyāʼ al-Turāth al-ʻArabī, 1999.

Malḥas, Thurayyā ʻAbd al-Fattāḥ. Al-Qayyim al-rūḥīyahfī al-shiʻr al-ʻArabī qadīmuhu wa-ḥadīthuhu (ḥattá muntaṣaf al-qarn al-ʻishrīn). (in Arabic). Bayrūt: Dār al-Kitāb al-Lubnānī, 1965.

Mandūr, Muḥammad. Fī al-adabwa-al-naqd. (in Arabic). AL-Qāhirah: Nahḍat Miṣr, 1988.

Naʻīmah, Mīkhāʼīl. Al-Bayādir. (in Arabic). Bayrūt: Dār Nawfal lil-Nashrwa-al-Tawzīʻ, 12th ed., 1992.

–––. Al-ghurbāl. (in Arabic). Lubnān: Dār Nawfal lil-Nashrwa-al-Tawzīʻ, 15th ed., 1991.

–––. Al-Majmūʻah al-kāmilah li-aʻmālNaʻīmah, (in Arabic). B3. Bayrūt: Dār al-ʻIlm lil-Malāyīn, 3rd ed., 1987.

–––. Al-marāḥil. (in Arabic). Bayrūt: Muʼassasat Nawfal, 9th ed., 1989.

–––. al-Nūrwāldyjwr. (in Arabic). Bayrūt: Muʼassasat Nawfal, 7th ed., 1988.

–––. Alʼwthān. (inArabic) Bayrūt: Muʼassasat Nawfal, 7th ed., 1978.

–––. fīmahabb al-rīḥ. (inArabic) Bayrūt: Maktabat Ṣādir, 1953.

–––. Hams aljfwn. (inArabic) Bayrūt: Maktabat Ṣādir, 2nd ed., 1952.

–––. Zād al-maʻād. (inArabic) Miṣr: Maṭbaʻat al-Muqtaṭaf wa-al-Muqaṭṭam, 1936.

Sulṭān, Wafīq. Al-shiʻr wa-al-taṣawwuf. (in Arabic). Sūriyā: Dār al-Ḥiwār lil-Nashrwa-al-Tawzīʻ, 1st ed., 2013.

Surūr, ṬāhāʻAbd al-Bāqī. Min Aʻlām al-taṣawwuf al-Islāmī, (in Arabic), B1. Al-Qāhirah: Nahḍat Miṣr, 1956.

 

 

 

 

 

 



[1]- ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (مصر: دار المعارف، ط5، [د.ت])، ص322.

[2]- ميخائيل نعيمة، الغربال (لبنان: دار نوفل للنشر والتوزيع، بيروت، ط15، 1991)، ص24-25.

[3]- محمد بنعمارة، الصوفية في الشعر المغربي المعاصر (المفاهيم والتجليات) (الدار البيضاء: شركة النشر والتوزيع- المدارس، ط1، 2000م)، ص58.

[4]- ميخائيل نعيمة، البيادر (بيروت: دار نوفل للنشر والتوزيع، ط12، 2992)، ص75.

[5]- نعيمة، الغربال، ص45.

[6]- المرجع السابق، ص111.

[7]- ميخائيل نعيمة، زاد المعاد (مصر: مطبعة المقتطف والمقطم، 1936)، ص117.

[8]- ميخائيل نعيمة، همس الجفون (بيروت: مكتبة صادر، ط2، 1952)، ص90.

[9]- نعيمة، البيادر، ص21-22.

[10]- محيي الدين بن عربي، الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار، تقديم عبد الرحمان حسن محمود (القاهرة: مكتبة عالم الفكر، ط1، 1986م)، ص52.

[11]- نعيمة، الغربال، ص113.

[12]- إحسان عباس ومحمد يوسف نجم، الشعر العربي في المهجر: أمريكا الشمالية (بيروت: دار صادر، ط2، 1967م)، ص189.

[13]- ميخائيل نعيمة، النور والديجور (بيروت: مؤسسة نوفل، ط7، 1988م)، ص116-117.

[14]- وفيق سلطان، الشعر والتصوف (سوريا: دار الحوار للنشر والتوزيع، ط1، 2013م)، ص11.

[15]- نعيمة، همس الجفون، ص83.

[16]- أبو يعرب المرزوقي، في العلاقة بين الشعر المطلق والإعجاز القرآني (بيروت: دار الطليعة، ط1، 2000م)، ص111.

[17]- سلطان، ص11.

[18]- المرجع السابق، ص10.

[19]- عباس، نجم، ص128.

[20]- نعيمة، همس الجفون، ص46.

[21]- نعيمة، النور والديجور، ص80-81.

[22]- نعيمة، همس الجفون، ص52.

[23]- المرجع السابق، ص13.

[24]- المرجع السابق، ص56.

[25]- أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، تحقيق أبي حفص سيد بن إبراهيم بن صادق بن عمران (القاهرة: دار الحديث، 1988م)، ج3، ص4.

[26]- هنري كوربان، الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، ترجمة فريد الزاهي (الرباط: منشورات مرسم، ط2، 2006م)، ص190.

[27]- الغزالي، ص4.

[28]- المرجع السابق، ص71.

[29]- المرجع السابق، ص59.

[30]- ثريا عبد الفتاح ملحس، القيم الروحية في الشعر العربي قديمه وحديثه (حتى منتصف القرن العشرين) (بيروت: دار الكتاب اللبناني،1965م)، ص43-44.

[31]- نعيمة، البيادر، ص20.

[32]- جمال الدين محمد المصري ابن منظور، لسان العرب، تصحيح: أمين محمد عبد الوهاب، ومحمد الصادق العبيدي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، 1999)، مادة ج.ر.د

[33]- نعيمة، همس الجفون، ص108.

[34]-نعيمة، الغربال، ص112-113.

[35]-نعيمة، همس الجفون، ص109.

[36]- شفيع السيد، ميخائيل نعيمة: منهجه في النقد واتجاهه في الأدب (القاهرة: عالم الكتب، 1972م)، ص151.

[37]- ميخائيل نعيمة، في مهب الريح (بيروت: مكتبة صادر، 1953)، ص61.

[38]- المصدر نفسه.

[39]- نعيمة، زاد المعاد، ص116.

[40]- نعيمة، في مهب الريح، ص61-62.

[41]- نعيمة، النور والديجور، ص80.

[42]- نعيمة، همس الجفون، ص53.

[43]- نعيمة، زاد المعاد، ص62.

[44]- ميخائيل نعيمة، المراحل (بيروت: مؤسسة نوفل، ط9، 1989م)، ص13.

[45]- نعيمة، البيادر، ص80.

[46]- ميشا: اسم ميخائيل مصغّرًا، يناديه به رفاقه للتحبب.

[47]- ميخائيل نعيمة، المجموعة الكاملة لأعمال نعيمة، مج3 (بيروت: دار العلم للملايين، ط3، 1987م)، ص223.

[48]- نعيمة، المجموعة الكاملة، ص225.

[49]- نعيمة، همس الجفون، ص73-74.

[50]- طه عبد الباقي سرور، من أعلام التصوف الإسلامي (القاهرة: دار نهضة مصر، 1956م)، ج1، ص80.

[51]- نعيمة، البيادر، ص36-37.

[52]- نعيمة، زاد المعاد، ص48.

[53]- نعيمة، همس الجفون، ص14.

[54]- محمد مندور، في الأدب والنقد (القاهرة: نهضة مصر، 1988م)، ص36.

[55]- نعيمة، البيادر، ص37.

[56]- عباس، ونجم، ص191.

[57]- نعيمة، همس الجفون، ص85.

[58]- سرور، ص66.

[59]- نعيمة، همس الجفون، ص35.

[60]- نعيمة، زاد المعاد، ص93.

[61]- عباس، ونجم، ص183.

[62]- ميخائيل نعيمة، الأوثان (بيروت: مؤسسة نوفل، ط7، 1978م)، ص47.

[63]- نعيمة، النور والديجور، ص57.

[64]- نعيمة، زاد المعاد، ص12.