تقرير

مؤتمر مركز ابن خلدون السنوي للتجسير

مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة قطر

30 سبتمبر -1 أكتوبر 2023

مريم ناصر ملحم

باحث مساعد، مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة قطر

m.melhim@qu.edu.qa

Report

The Annual Conference of Ibn Khaldon Center on Interdisciplinary Research

Ibn Khaldon Center for Humanities and Social Sciences, Qatar University

30 September – 1 October 2023

Maryam Naser Melhim

Research Assistant, Ibn Khaldon Center for Humanities and Social Sciences, Qatar University

m.melhim@qu.edu.qa

 

نظم مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة قطر "مؤتمر مركز ابن خلدون السنوي للتجسير" الأول يومي 30 سبتمبر -1 أكتوبر 2023. وانعقدت جلسات اليوم الأول في مبنى شؤون الطلاب في جامعة قطر، في حين احتضنت قاعة البستان في فندق ويندام دوحة (Wyndam Doha) فعاليات اليوم الثاني. وقد عُني مؤتمر تجسير في هذه الدورة بالأبحاث البينية التي تسعى للربط بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية في المستوى البحثي، بهدف خلق حالة من التفاعل العلمي بين تخصصات يندر أن تتفاعل فيما بينها في مؤسسات التعليم العالي، كما خلق منصّة علميّة مكنت الباحثين من بناء شبكة بحثية من شأنها أن تنعكس إيجابًا على تطوير موضوعاتهم البحثية، لا سيما في ظل ندرة اللقاءات العلمية التي تجمع الباحثين من تخصصات متباعدة كالعلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية.

شهد المؤتمر مشاركة 28 مفكرًا وباحثًا أكاديميًا من دول مختلفة؛ شملت: المغرب، والجزائر، وتونس، والسودان، ومصر، وفلسطين، وسوريا، وتركيا، ألمانيا، والعراق، وإيران، والمملكة العربية السعودية، وباكستان، والمملكة المتحدة (بريطانيا)، وكندا. ومن خلفيات علمية متباينة؛ كعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وعلم النفس والتربية، والدراسات القرآنية والشرعية، والتخطيط العمراني والتراث، والأدب العربي، والبرمجيات الثقافية، والعلوم القانونية والسياسية، والإعلام والاتصال، والهندسة المعمارية، والفيزياء، وغيرها من التخصصات العلمية والأكاديمية المتفاعلة في النقاش العلمي الذي حواه المؤتمر.

وتوزعت المداخلات على خمسة محاور رئيسة، جاءت تواليًا: علم الاجتماع والعلوم الطبيعية، السياسة والاجتماع والعلوم الطبيعية، الدراسات الشرعية والعلوم الطبيعية، الدراسات القرآنية والعلوم الطبيعية، علم النفس والتربية والعلوم الطبيعية. وقد أعقب هذه المحاور ورشة لدمج العلوم الاجتماعية والإنسانية في برامج كليات الطب، قبل أن يختتم بجلسة نقاشية مفتوحة حول "علاقة العلوم الاجتماعية بالعلوم الطبيعية: أسئلة الاتصال والانفصال".

افتتح المؤتمر بكلمة الأستاذة الدكتورة مريم العلي المعاضيد، نائب رئيس جامعة قطر للبحث والدراسات العليا، التي رحبت بالمشاركين والحضور، ونوهت بأهمية المؤتمر في تماشيه مع استراتيجية مركز ابن خلدون في جامعة قطر. وأن المؤتمر يهدف إلى التجسير بين المؤسسات العلمية في العالم العربي وحفظ التوازن مع علوم العصر والثقافة العربية والإسلامية.

تلتها كلمة الدكتور نايف بن نهار، مدير مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية، الذي جدد الترحيب بالمشاركين والحضور، ولفت الانتباه إلى كون أهمية المؤتمر تمكن الربط بين التخصصات العلمية والأكاديمية، في سبيل تطوير معرفة قادرة على دراسة الظواهر الإنسانية والاجتماعية المركبة، وأكد على أن هذا المؤتمر يطمح إلى خلق معرفة مركبة ومتكاملة وفق خطاب راشد وموجه بين مختلف العلوم.

ترأس الدكتور نبهان الحراصي الجلسة الأولى، التي تمحورت حول التجسير بين علم الاجتماع والعلوم الطبيعية، عرض فيها الدكتور حسن احجيج مداخلته حول النظرية الاجتماعية الخضراء، من حيث كونها تطمح إلى التجسير بين العلوم الاجتماعية والطبيعية، بهدف تطوير السياسات وفهم التدهور البيئي، مع التركيز على رفض هذه النظرية الفصل بين الإنسان والطبيعة، وتقبلها للتجذر الطبيعي للبشر، بوصفهم جزءًا من الطبيعة وغير منفكين عنها، كمات يؤكد ذلك البعد الأخلاقي لنظرية التنمية المستدامة المتمثل في حق الأجيال القادمة. قبل أن تسند الكلمة للدكتور حسن مظفر الرزو، الذي عمل على توظيف معالجات الحوسبة الذكية في المجال المعرفي للعلوم الاجتماعية من خلال توظيف تحليل شبكة النص لأحد الكتب في علم الاجتماع؛ حيث أثبت قدرة هذه المعالجة على استيعاب المادة المعرفية في نص الكتاب، مؤكدًا إمكانية استخدام ذات المعالجة لكتب متباينة بمختلف اللغات، وأن فهم محتوى أي كتاب وجذور المصطلحات الاجتماعية المتضمنة على وفق ذلك قد يحتاج قراءة الكتاب، مع العلم أن هذا لا يعني بالضرورة استغناء الباحث عن الكتاب في المستقبل. فيما وسمت مداخلة الدكتور شهاب اليحياوي بانتقال البيئة الاجتماعية جيليًا بين المعقولية السوسيولوجية والوراثة البيولوجية، محاولًا من خلالها خلق جسر معرفي يسمح بالانتقال بين حقلي السوسيولوجيا والوراثة البيولوجية، بغية إبراز إمكانات بناء معرفة تكاملية بين الحقلين العلميين، رغم اختلاف الأسس المعرفية التي بنيت عليها. فيما جاءت مداخلة الدكتور معاوية السعيدوني بعنوان "توظيف علوم الصحة والطبيعة في الخطاب العمراني بين الأمس واليوم"، ألقى من خلالها الضوء على العلاقة بين مجالي التخطيط العمراني وعلوم الصحة، باعتماد ثلاثة نماذج نظرية، شملت تواليا؛ النموذج التجسيمي، والنموذج العلاجي الطبي، والنموذج الوقائي العلمي، معتبرًا أن تحسين صورة المدن في المستقبل يتطلب التعاون التكاملي المتبادل بين كل ما يدخل في العلوم الصحية والعمران من تخصصات. وعرضت الدكتورة هناء زرفاوي مداخلتها بعنوان "فلسفة قوانين الفيزياء في تفسير العلاقات الإنسانية في المجتمع"، مركزة على ما حققته الفيزياء الاجتماعية في التنبؤ بالظواهر الاجتماعية والسياسية، ودراسة سلوك الإنسان كأنماط وجماعات بالنظر إلى ما يقابلها في الفيزياء، مفسرةً ذلك بأصل الإنسان وتركيبته المادية. وفي آخر مداخلات هذه الجلسة عرض الدكتور علي جعفري موضوع "علم الأعصاب وعلم الاجتماع: التكامل ضد النزعة الاختزالية"، محاولًا إظهار أهمية التكامل بين علمي الأعصاب والاجتماع، من خلال التوقف عند التقاطعات الكبرى مدًا وجزرًا بين العلمين، مبينًا بذلك حاجة العمليات التي يقوم بها الدماغ للبعد الاجتماعي في تفسير الواقع الاجتماعي وما يحبل به من سلوكيات الأفراد.

رأست الجلسة الثانية الدكتورة مريم محمد الكواري، التي مهدت للموضوع بطرح إشكالية الفصل بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية، مع بيان أهمية الدراسات البينية في هذا الباب، ورجحت أن يكون دعم الأبحاث في العلوم الطبيعية على حساب العلوم الاجتماعية، اعتمادًا على الدقة والفائدة المباشرة لأبحاث العلوم الطبيعية مقارنة بنتائج أبحاث العلوم الاجتماعية النسبية، وما يمكن أن تثيره من قلق معرفي وعلمي، بالرغم مما يمكن أن تسهم فيه حول الموضوع. قبل أن تفتح الباب لمداخلة الدكتور نبيل زكاوي، التي جاءت حول السياسة الحيوية والمنظور البيولوجي للدراسات السياسية، كمحاولة جادة لتحليل جسد الفرد تحليلًا سياسيًا، اعتمد فيه زكاوي على منظور معرفي تكاملي جمع بين علمي الحياة والسياسة، بما يمكن من تفسير التقدم الاجتماعي باعتماد نهج السياسة الحيوية، ويسهم في تحديد السلوك السياسي. وفي ثاني مداخلاته تقدم الدكتور هادي مشعان ربيع بموضوع "السياسة الحيوية: توظيف البيولوجيا في العلوم السياسية"؛ حيث حاول التعريف بآخر الاكتشافات في العلوم البيولوجية ذات الصلة بالعلوم الاجتماعية، بهدف كشف تأثيرها في السلوك السياسي تجاه القضايا السياسية الكبرى، موضحًا ذلك من خلال استحضار علاقة سلوك المشاركين في الانتخابات السياسية بفسيولوجيا الجسد. فيما أكدت مداخلة الدكتور عدي بشير عن نظرية البيولوجيا السياسية وتطبيقها في السياسة الجنسية أن العلوم الإنسانية والاجتماعية متصلة ومتكاملة مع العلوم الطبيعية، وأنه يجب إزالة اللثام عن وهم انفصال التخصصات العلمية، معتبرًا نظرية البيولوجية السياسية مثالًا واضحًا لذلك؛ حيث تطرق إلى التحكم السكاني في الدولة، وإدارة الجسد والعنف السياسي، والسياسة الجنسية، وأضاف أن انتشار الثقافة الجنسية في المدارس في الغرب يمثل أحد أبعاد السياسة الجنسية، كما هو سائد في مدارس فرنسا وما تحمله تلك الثقافة من خلفية معرفية، وأيديولوجية، وعلمانية. وتناول الدكتور زكريا الإبراهيمي تقاطع البعد البيئي بالسوسيولوجيا في مداخلة حملت عنوان "من سوسيولوجيا البيئة إلى الأيكوسويولوجيا"، سعيًا إلى بيان كيف استفاد علم الاجتماع من الإيكولوجيا الطبيعية في التفكير في الظواهر البيئية على المستوى النظري وتطبيقاتها العملية، مع رصد تأثير كل ذلك على التمثلات والممارسات الاجتماعية بوصفها شاهدًا ملموسًا على هذا التفاعل بين الطبيعي والاجتماعي، وما يقتضيه من مقاربة تجسيرية. فيما عرضت الأستاذة شفيقة سعادي في مداخلتها لواقع الدراسات البينية في العالم العربي وآليات تفعيلها، وتطرقت إلى المعوقات التي أخرت تفعيل البينية في العالم العربي؛ ومنها الانغلاق وعدم وجود رغبة حقيقية في تبني طرق جديدة في البحث العلمي، مع التركيز على صعوبة وجود دراسات عربية توظف المناهج نفسها المستخدمة في العلوم الطبيعية والتقنية.

وقد ترأس الدكتور أحمد بن محمد آل ثاني الجلسة الثالثة المخصصة لمقاربة موضوع الدراسات الشرعية والعلوم الطبيعية، التي افتتحتها الدكتورة شيماء فوخري بمداخلة اتخذت من التفسير العلمي نموذجًا لمقاربة التجسير بين علوم الطبيعة وعلوم الشريعة، عمدت من خلالها إلى تقييم طبيعة العلاقة التجسيرية بين حقلي العلوم الشرعية والطبيعية، بغية الوقوف على نموذج تفسيري يناسب طبيعة الفضاء المعرفي الإسلامي. فيما تمحورت مداخلة الدكتور إلياس بلكا حول الفيزياء الكلامية كمدخل لتجديد الدرس العقدي، بحثًا عن إمكانات جديدة لتجديد النظر في أسس علم الكلام، انطلاقًا من أثر الفيزياء الحديثة في التأليف العقدي، تمهيدًا لرفض أي استعمال للفيزياء في نصرة رأي معين والدعوة – بدلا من ذلك إلى الاستفادة من النص الشرعي والمنهج في حدود المعقول والمتعارف عليه. أما ثالث مداخلات تلك الجلسة فكانت من الدكتورة يمينة بوسعادي، التي حدثت الحضور حول إشكالية التعميم الاستقرائي في العلوم الشرعية والتجريبية، منطلقة من إشكالات منهج الفكر الإسلامي في الالتزام بالمنطق الأرسطي، من حيث عدم تماشي قياساته مع دراسات أصول الفقه، بوصفه من أبرز العوامل التي دفعت العلماء تدريجيًا إلى التخلي عن التفسيرات القياسية واعتماد الاستدلال الاستقرائي في تفسير النصوص الشرعية.

في اليوم الثاني من المؤتمر، خصصت الجلسة الرابعة لمناقشة موضوع الدراسات القرآنية والعلوم الطبيعية برئاسة الأستاذ محمد بن جاسم الجاسم، وقد افتتحت الجلسة بمداخلة الدكتور سعد عبد الغفار حول البلاغة والعلوم الطبيعية (مقاربة تطبيقية في النص القرآني-التشبيه نموذجًا)، التي عمل من خلالها على بيان دور البلاغة في تقديم بعض ظواهر العلوم الطبيعية في النص القرآني، وما يستتبع ذلك من إمكانات تأويل بعض الآيات في هذا السياق على ضوء المعارف الطبيعية. بينما تطرقت مداخلة الأستاذ قاسم درزي لعلاقة الدراسات القرآنية بالعلوم الطبيعية: نهج المقاربة البينية ومكتسباتها الفكرية، محاولًا الوقوف على حجم التعقيد الذي يكتنف إنشاء مقاربة تجسيرية بين الحقلين، بسبب الاختلافات المنهجية والأسس المعرفية المتجذرة في كل منهما، قبل التوصل إلى خلاصة تفيد ضرورة التسليم بالتعددية المنهجية في تقديم مقاربة تجسيرية في التعامل مع مكتسباتنا الفكرية. فيما أُطّرت مداخلة الأستاذ محمد فتوح والي بعنوان "الإسلاميات الرقمية في ألمانيا من عبور التخصصات إلى التوطين العربي"، مسلطة الضوء على تقاليد البحث الجديدة في حقل البرمجيات الإسلامية في ألمانيا، مع استعراض عدد من المشاريع البحثية المتصلة بالإسلاميات الرقمية، وضرب أمثلة للتداخل بين الإسلاميات والبرمجيات في عدد من العلوم الإسلامية المختلفة.

ورأست الجلسة الثانية الدكتورة دارينا صليبا أبي شديد، مستهلة الجلسة بمداخلة الدكتور هشام الدمناتي عن إسهام العلوم الطبيعية في تطوير علم النفس من حيث الموضوع والمنهج كإطار نظري، الذي عدّ المدرسة السلوكية أكثر مدارس علم النفس إسهامًا في توثيق العلاقة بين علم النفس والعلوم الطبيعية، من حيث اعتمادها الكلي على المنهج التجريبي في دراسة السلوك الإنساني. وعرض الدكتور عبد الرحمن محمد طعمه مداخلته حول المقاربة العصبية المعرفية للوعي، محاولًا تقديم أنموذج معرفي معاصر لفهم معضلة الوعي، اعتمادًا على المحددات النظرية والتطبيقية وبعض الموجهات المنهجية المنبثقة عن التداخل بين أطروحات السيكولوجيا المعاصرة والفيزياء النظرية. بينما ركزت مداخلة إسماعيل العيس على صعوبات تعلم القراءة من منظور علم الأعصاب المعرفي، مبرزة أهمية المقاربة التكاملية في علم الأعصاب المعرفي، من خلال التركيز على تحليل الشبكات العصبية المتداخلة باستحضار أبعادها المعرفية المختلفة وتوظيفها في تفسير صعوبة تعلم القراءة. بينما حملت مداخلة الدكتور محمد شوكات رؤية المفكر الباكستاني محمد رفيع للخطاب البديل حول مفهوم الطبيعة البشرية في علم النفس، مستعينًا في ذلك بالرؤية القرآنية التي سمحت له بالنظر للإنسان بوصفه ذاتًا روحية وأخلاقية تمتلك معرفة فطرية بالخير والشر، ردًا على الرؤية الاختزالية التي ترى الإنسان حيوانًا اجتماعيًا، ومؤكدًا أن للغرائز الإنسانية مكانة عليا في فهم تطور الإنسان ماديًا ونفسيًا.

 في آخر الجلسة، عرضت الأستاذة راية محمود عطور مداخلتها حول نمذجة معلومات البناء في سياق مجلس التعاون الخليجي، معتبرة الوعي بالواقع استراتيجية فعالة لتعزيز التعاون، ومؤكدة أن حقيقة عملية النمذجة ليست تقنية خالصة كما قد يبدو للوهلة الأولى؛ إذ لا تشكل العلوم التقنية فيها سوى 10% بينما يشكل علم الاجتماع 90%، وهو علامة على حجم علم الاجتماع مقارنة بالهندسة في هذا التداخل الحاصل في صناعة الهياكل التقنية والتكنولوجية، مما يلزم عملية صناعة تلك النماذج بمراعاة الاستدامة الاجتماعية والمرونة الثقافية بذل التركيز على الجانب التقني فقط.

قدّم المؤتمر أيضا ورشة حول دمج العلوم الاجتماعية والإنسانية في برامج كليات الطب، ترأستها الأستاذة أفراح العتيبي، التي استهلت الورشة بإبراز الحاجة للتجسير بين العلوم الطبية والاجتماعية، وأن لمختلف العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية تأثيرًا مباشرًا وغير مباشر على تصور الصحة والمرض بشكل عام، كما أن لها تأثيرًا على صحة الأفراد النفسية والجسدية بشكل خاص. وقد شهدت الورشة أربع مداخلات رئيسة؛ تطرقت في أولاها الدكتورة سهاد الناشف لدمج العلوم الاجتماعية والإنسانية في برامج التعلم الطبي القائم على حل المشكلات، متخذة من كلية الطب بجامعة قطر نموذجًا؛ حيث أشارت إلى أهمية أن يفهم الطبيب المعالج الحالة الاجتماعية والاقتصادية للمريض، سواء من أجل خلق ثقة بينه وبين المريض أم من حيث معرفة ملاءمة العلاج لهذا المريض مقارنة بالوسط والظروف الاجتماعية والنفسية التي يعيش في كنفها. فيما تحدث الدكتور مصطفى عبد الله في مداخلته عن تدريس الأنثروبولوجيا في كليات الطب في مصر، وذكر أن هذا المؤتمر يعدّ منصة للدعوة إلى التركيز ليس فقط على كليات الطب لدمج الأنثروبولوجيا الطبية؛ بل على جميع الكليات التي تعمل في المجال الصحي، مثل التمريض والعلاج الطبيعي والزراعة، موردًا بذلك مثال المحصول، الذي قال عنه: إن استخدم مواد كيميائية في المنتوج الغذائي يؤثر على صحة المجتمع، وكذلك صحة الحيوان تؤثر بشكل مباشر على صحة المستهلكين له. ومن ذلك المنطلق، أبرز ضرورة توسيع مجال الأنثروبولوجيا الطبية في كل الكليات الصحية، والتعاون مع الزملاء الأكاديميين في العالم العربي. وفي مداخلة مشتركة بين الدكتور عبد الهادي الحلحولي والدكتور زكريا الإبراهيمي، قاربَا من خلالها تجارب وإمكانات دمج العلوم الاجتماعية في قلب التكونين الطبي وعلوم الصحة في السياق المغربي؛ حيث أُشيرَ إلى أن نخبوية اللغة الطبية، وتقاسم تاريخ الطب والمعرفة الطبية مع الطلاب من شأنه أن يكشف موقع الطبيب من دائرة المعارف الطبية ويبين فائدة المعرفة الأنثروبولوجية والسوسيولوجية للطبيب، وبالتالي نزع الخصوصية والطبقية عن عملية التطبيب في المغرب. فيما اتخذ الدكتور محمد مددين المملكة العربية السعودية نموذجًا لمقاربة دور العلوم الاجتماعية والإنسانية في المنهج الدراسي في كليات الطب، مؤكدًا على أهمية خلق تكامل بين الطب والمجتمع، بما هو دعوة إلى إعادة تقديم رؤية منهجية شمولية تراعي الأساليب النظرية والتطبيقية وفق مهارات لغوية قادرة على خلق تواصل منتج مع المريض، وهو ما يجعل العلوم الصحية جزءًا لا يتجزأ من منظومة العلوم الإنسانية والاجتماعية.

في نهاية المؤتمر، عقدت جلسة نقاشية حول أسئلة الاتصال والانفصال في العلوم الاجتماعية والطبيعية، برئاسة الدكتور نايف بن نهار، الذي استهل هذه الجلسة بالتساؤل حول طبيعة الاتصال والانفصال بين العلوم الاجتماعية والطبيعية، وما إذا كانت هذه العملية جاءت استجابة لمقتضيات المنهج أو الموضوع أم محاولة لتحقيق معايير المؤسسات الأكاديمية المتأثرة بنتائج العلوم الحقة؟

ويمكن تلخيص أهم النقاط التي شهدها النقاش على النحو الآتي:

-      أفاد الدكتور محجوب الزويري بأن تركيبة الإنسانية التي تتجاوز الطابع الميكانيكي تجعل العلوم المعنية بدراسته معنية أيضًا بمراعاة اتصالها فيما بينها؛ حيث تعمل على الموضوع نفسه الذي هو الإنسان؛ وذكر مثالين على ذلك، يفيد الأول في تجسير العلاقة بين الطب والعلوم الاجتماعية في حالة تحليل سلوك الإنسان وقت المرض، والتأثير الذي يمكن أن يخلّفه تواصل الطبيب مع المريض، ويفيد الثاني في حالة الهندسة المعمارية؛ حيث يجب على المهندس تفهّم طبيعة مجتمع معين عند بناء مبنى هندسي في حالة الفصل بين الجنسين، وأن أي اتصال بين عِلمين متباينين أو أكثر في إنجاز أي عمل يجب أن يقوم على مبدأ التكامل، وليس أفضلية أي منهما على الآخر.

-      وتساءل الدكتور نايف: لماذا لا يشعر المختص في العلوم الاجتماعية بأنه متساوٍ مع الآخر المختص في العلوم الطبيعية، مع العلم أن الجامعة تخصص قسمًا لكل منهما؟ أم أن المجتمع أيضًا لا يشعر بالحاجة إلى التخصصات الاجتماعية كما هو حال التخصصات العلمية الطبيعية؟ أم أن المجتمع لم يلمس جدوى العلوم الاجتماعية، ابتداءً؟

-      أشار الدكتور التيجاني عبد القادر إلى أن عملية البينية جاءت كمقتضى لمتطلبات النشر وليس المادة المبحوث فيها، إذ يُكيّف البحث لمقتضيات النشر، فيتحول بذلك إلى شكليات وليس إنجازًا داخليًا لطبيعة المبحوث. وهذا إشكال نعاني منه في الدراسات البينية التي نستقبلها في مجلة تجسير؛ حيث يجمع الباحث نقاطًا مختلفة من تخصصات متباينة، أو يسعى لجمع أدبيات الموضوع من تخصصات مختلفة، ويوردها في البحث ظنًا منه أن هذا هو المطلوب في الدراسة حتى تصير بينية، والأصح في نظرنا أن المقاربة البينية هي ما يفرز حاجة المعالجة من التخصص الرئيس الذي ينتمي إليه الباحث إلى تخصصات مجاورة أو متقاطعة؛ لإكمال معالجة أبعاد الموضوع، وفق ما تفرزه تلك الدراسة من إشكاليات، دون أي تشيئ للإنسان.

-      أكد الدكتور الطيب أبو عزة أن العلوم الطبيعية والاجتماعية لا تحتاج إلى اتصال فحسب، بل تحتاج إلى الانفصال أيضًا، فالانفصال لا بد منه عند إنتاج المعرفة والتعمق فيها، ولكن إذا ما ركزنا على الوجود نكتشف أنه بنية مركبة ومتكاملة فيما بينها، وأي اجتثاث لأي موضوع من سياقه هو محاولة لتبسيطه وتهيئته؛ ليكون قابلًا للفهم، وفي هذا يمكن تجاوز فكرة نموذجية المنظور الواحد في تناول المادة أو الظاهرة المدروسة إلى تكامل المنظورات في تشكيل نموذج الدراسة، وذلك هو فعل التجسير.

-      أشار الدكتور نبهان الحراصي إلى أن فكرة الاتصال بين العلوم تبتدئ من التقسيم الجامعي بين كليات علمية وكليات إنسانية واجتماعية الذي ما زال معمولًا به إلى اليوم، والمترافق مع عدم قدرة الذهن العربي على استيعاب أهمية التداخل بين العلوم. وذكر من وحي تجربته أنه قد سبق له تقديم مقترح بيني، لتعليم الطلاب، يتكامل فيه علم الاجتماع والاقتصاد والشريعة، إلا أنه لم يلقَ قبولًا من قِبل مجالس الجامعة، مسندًا سبب ذلك إلى عدم الوعي بالحاجة إلى مثل تلك التخصصات البينية، لاعتقاد أن اعتماد الطريقة البينية في التدريس قد تشكل مشكلة حقيقية لآلية توظيف الأطر وإدارة التقسيمات التنظيمية في الجامعة، وعدّها أمورًا سطحية إذا ما قورنت بجدوى البرامج البينية.

-      جدد الدكتور علي باكير التأكيد على أن الانفصال ضروري لإنتاج المعرفة، ولكن الاتصال أيضًا ضروري لمعالجة الظاهرة من مختلف جوانبها، مع الإشارة إلى ضرورة ألا يكون هذا الاتصال كليًا، بل يلتزم في ذلك بآلية من آليات البحث؛ مثل الاتصال في المنهج أو في الموضوع أو في فريق العمل، شريطة إعلان الباحث عن شكل الاتصال المعتمد وكيفية تطبيقه، بهدف تسريع تلك العملية وإعطائها صبغة شرعية.

-      ركزت الدكتورة أسماء ملكاوي على اهتمام مركز ابن خلدون بأزمة العلوم الاجتماعية منذ وقت مبكر، معتبرة موضوع التجسير أحد الحلول لهذه الأزمة. وأوردت مثال حالة الجامعات العربية، التي كرّست هذا الانفصال من خلال التقسيمات المعتمدة في تدريس التخصصات؛ حيث تدرّس العلوم الطبيعية باللغة الإنجليزية، بينما تدرس العلوم الاجتماعية والإنسانية باللغة العربية في أغلب الجامعات العربية، وهذا يجعل عملية التجسير بين العلوم صعبة. كما نوهت بأن العلوم الطبيعية مسيسة أو مسلعة، وهنا يأتي دور العلوم الاجتماعية للكشف عن الأمور المستبطنة لتخليق العلوم الطبيعية وبيان الطريقة المثلى التي يمكن أن تخدم المجتمع.

-      واستعادت الدكتورة سهاد ناشف القول، بأن دور التجسير المعرفي يتمركز أساسًا وبعمق في حماية الباحث في أي حقل معرفي من السطحية في التفكير؛ فعالم الاجتماع الذي يدرس في كليات العلوم الصحية يجب أن تكون لديه خلفية علمية في هذه العلوم، لكنه غير مطالب بالتعمق بشكل كبير في التخصص الثاني المعتمد، وإنما يستقي منه ما يحتاج إليه لإيصال الفكرة، ولا يمكن عدّ ذلك نقصًا فيما يطرحه، بقدر ما يمكن اعتباره عاملًا مساعدًا على تبسيط ما يطرحه من أفكار، وعلى تمثلها من طرف المتلقي لها. لتطرح بعد ذلك جملة من الأفكار، من أهمها:

§      أن التجسير يعتمد على قدرة الباحث في استيعاب تخصصات أخرى ويوظفها، وهذا الأمر صعب جدًا، فالباحث يؤسس في مجال علمي محدد لمدة زمنية معينة، ثم يطلب منه التفكير في مجال مختلف في فترة قصيرة. وهنا، على مشروع التجسير أن يأخذ هذا الأمر بالحسبان، وأن يجد لمساراته طريقة مناسبة؛ مثل تأليف فرق متعددة من تخصصات مختلفة، تنتج معرفة متكاملة أو ما يمكن تسميته إنتاج علمي مجسر.

§      التجسير هو التقاء سياسي، اجتماعي، بيولوجي؛ لفحص ظاهرة واحدة حتى يحتاط بها.

§      قد يكون الإفراط في الاتصال بين العلوم من الشروط التي يجب الاحتياط منها، لما يمكن أن يحمله ذلك من تغطية لأجزاء كبيرة من الواقع، لذلك يمكن إعادة تحديد المقصود به من الاتصال بالانفتاح على تخصصات أخرى دون الذوبان فيها، ودون اقحام منهجيات بعض الدراسات الأخرى دون سبب، والالتزام بوجود منهجية منضبطة لتناول هذه الأمور.

 

للاقتباس: ملحم، مريم. «تقرير مؤتمر مركز ابن خلدون السنوي للتجسير – مركز بن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة قطر، 30سبتمبر-1 أكتوبر 2023»، مجلة تجسير، المجلد الخامس، العدد 2 (2023).

https://doi.org/10.29117/tis.2023.0150

© 2023، ملحم، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.