تاريخ الاستلام: 27 مايو 2023

تاريخ القبول: 13 أغسطس 2023

مراجعة كتاب

"تعددية التخصصات: إعادة تشكيل العلوم الاجتماعية والطبيعية" تحرير أندرو باري وجورجينا بورن

مراجعة: الصادق الفقيه

أستاذ العلاقات الدولية والدبلوماسية، جامعة سكاريا، سيردفان، تركيا

elfaqih123@gmail.com

Book Review

"Interdisciplinarity: Reconfigurations of the Social and Natural Sciences", Edited by Andrew Barry & Georgina Born

Reviewed By: Elsadig Elfaqih

Professor of International Relations and Diplomacy, Sakarya University, Serdivan, Türkiye

elfaqih123@gmail.com

 

Book Title: Interdisciplinarity: Reconfigurations of the Social and Natural Sciences

Edited by: Andrew Barry & Georgina Born

Publisher: London & New York: Routledge

Year of publishing: 2013

No. of pages: 296

العنوان باللغة العربية: تعددية التخصصات: إعادة تشكيل العلوم الاجتماعية والطبيعية

تحرير: أندرو باري وجورجينا بورن

الناشر: روتليدج، نيويورك، لندن

سنة النشر: 2013

عدد الصفحات: 296 صفحة

ISBN:            Paperback: 9781138843349 – Hardback: 9780415578929 – eBook: 9780203584279

الترقيم الدولي (ردمك):

 

 

للاقتباس: الفقيه، الصادق. «مراجعة كتاب: "تعددية التخصصات: إعادة تشكيل العلوم الاجتماعية والطبيعية"، تحرير: أندرو باري وجورجينا بورن »، مجلة تجسير، المجلد الخامس، العدد 2 (2023).

https://doi.org/10.29117/tis.2023.0148

© 2023، الفقيه، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.

 

 

 


 

مقدّمة

تنبع أهمية كتاب: "تعددية التخصصات: إعادة تشكيل العلوم الاجتماعية والطبيعية"[1]، الذي بين أيدينا، من دعوته لاعتماد تداخل العلوم وترابط المناهج؛ ليس فقط داخل التخصص الواحد، بل يرى أنه من الضروري للباحث تصميم منهجية بحث للمشكلة المختارة، والإطلال عليها من نوافذ تخصصات مختلفة، تشمل كل العلوم الاجتماعية، ولا تقف عند وَصْفِيَّتِهَا وتجريديتها، وتنظر في علائقها مع العلوم التطبيقية، ولا تنحاز لتَجْرِيبيتها ومعياريتها. مع ملاحظة أنه، حتى لو كانت طريقة البحث، التي نُظِر فيها لمشكلتين هي نفسها، فقد تكون منهجيات البحث مختلفة، وفق تعدديتها. من المهم للباحث أن لا تقف حدود معرفته على الطرق اللازمة للبحث، الذي يجريه؛ بل عليه أيضًا معرفة المنهجية المعتمدة فيه. على سبيل المثال، لا يحتاج الباحث فقط إلى معرفة كيفية حساب دالة المتوسط ​​والتباين والتوزيع لمجموعة من البيانات، وكيفية إيجاد حل لنظام مادي مألوف بواسطة نموذج رياضي مستحدث، وكيفية تحديد جذور المعادلات الجبرية، وكيفية تطبيق طريقة معينة، ولكن يحتاج أيضًا إلى معرفة: ما الطريقة المناسبة لحل المشكلة المختارة ثقافياً؟ وما كفاءة الحل اجتماعيًا؟ وما ترتيب دقة النتيجة علميًا؟ وما إلى ذلك من تساؤلات قد لا تتوقف عن حدود تخصص معين. وتشكل كل هذه الاعتبارات؛ وفقًا لهذا الكتاب، الجوانب المنهجية المتعددة للبحث، وبتعبير أدق، يُساعد تعدد مناهج البحث في إيجاد حل لمشكلة تضرب بجذورها في أعماق بيئة معقدة من الثقافة والاجتماع والاقتصاد والسياسة، وغيرها الكثير من المسائل التطبيقية؛ المادية والمعنوية.

فحص المحتويات

لقد حوى الكتاب دراسات علمية، وإسهامات ثَرَّة، استوعبها أحد عشر فصلًا، تشرح بتفصيل مقنع أهمية هذه النظرة لتداخل التخصصات، وما يتطلبه ذلك من إعادة تقييم وموضوعية لمناهج البحث، وكيف يجب أن تُستثمر في الوصول إلى نتيجة تحقق الشمول المستهدف. وبإلقاء نظرة سريعة على صفحات الكتاب، نجد أنه أفرد أولاها لملاحظات، أو تعريف للمحررين، تلاها "شكر وتقدير"، ليبدأ الفصل الأول (صفحات 1-56) بتثبيت ما حمله العنوان العام، وهو: "تعددية التخصصات: إعادة تشكيل العلوم الاجتماعية والطبيعية"، لمحرري الكتاب: أندرو باري (Andrew Barry)، عضو هيئة تدريس، كلية لندن الجامعية، وجورجينا بورن (Georgina Born)، عضو هيئة تدريس بجامعة أكسفورد. يُمَثِّل حجم هذا الفصل خُمس الكتاب تقريبًا، وهو عبارة عن مقدمة شارحة لفكرة "تعددية التخصصات"، وقد ألقت ضوءًا على ما حملته الإسهامات الأخرى من مضامين. وقد تواضع المحرران على الإشارة إلى أعمال مفكرين رواد؛ مثل جان بياجيه (Jean Piaget) وإدغار موران (Edgar Morin)، اللذين كتبا على نطاق واسع عن تعدد التخصصات والتعقيد في السبعينيات من القرن العشرين، فيما عُرِفَ وقتها بـ"عبرمنهاجية". وقد تصور باري وبورن، في هذا الفصل، عدة مفاهيم، أو "أنماط تعددية التخصصات"، وجادلا بأنه "لا ينبغي بالضرورة أن تُفهم ممارسة تعدد التخصصات على أنها مجموع مكونين، أو أكثر من «التخصصات»، أو كما يتحقق من خلال توليف مختلف المناهج التخصصية، سواء من خلال عملية تكامل، أو تلاقح"[2]. ويتجلى هذا المطلب في القدرة على ربط العلوم الطبيعية بالعلوم الاجتماعية، والتمكن من شرحها اجتماعيًا بعد ذلك، بما في ذلك ما يرتبط به من توقعات لمعالجة بعض الأبعاد غير المحسوسة، التي لا يستطيع المشتغلون بالعلوم الطبيعية القيام بها، أو تجسير الفهم بمقتضياتها.

وفي الفصل الثاني (صفحات 57-81)، تساءل سيمون شيفر (Simon Schaffer)، الذي دَرَّسَ العلوم الطبيعية والتاريخ وفلسفة العلوم في جامعتي كامبريدج هارفارد وغيرهما، حول "كيف تبدو التخصصات؟"، ليضعنا في إطار تاريخي للتفكير حول التغيرات العميقة، التي حدثت في نظام التخصصات؛ إذ يبدأ بالتأكيد المثير للاهتمام بالقول إن "كل تخصص يروي قصة ... محددة"[3]، توفر الأساس المنطقي والوسائل المُعِينَة على متابعة النظام المنهجي للتخصص. وهو بهذا يطالب بأن "التخصصات العلمية هي اختراعات أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر قرون، منذ أن يستمرّ العلماء في الإيمان بالعقلانية المعرفية لتجاوز هوية التخصص"[4]، أو المساق العلمي المُعَرَّف بحدودٍ منهجيةٍ صارمة. وقد تتبع شيفر تحليلًا ذا شقين. أولهما، هدف إلى التعرف على كيف أعادت المقاربات الجديدة إلى علم الاجتماع وأنثروبولوجيا العلوم تشكيل حدود التخصص؛ وثانيهما، نادى بالأخذ في الحسبان تأثير تخلي معظم العلماء الذين يعملون حاليًا في العلوم الحديثة عن أحد نماذجها التاريخية الرئيسة: الثورة العلمية بوصفها صعودًا للحداثة العلمية، مدعومة برؤية مركزية أوروبية لإنتاج المعرفة. على الرغم من أن معظم الأبحاث حول الفترة الحديثة المبكرة تسعى الآن إلى إبعاد نفسها عن هذه الرواية، إلا أنها، كما يرى، يجب أن تواجه أيضًا تحديات وأسئلة جديدة؛ لا سيما دور العلم في عمليات العولمة وتعدد المواقع والتكوينات الاجتماعية، التي تشارك في هذا التغيير الكبير. ويُقِرُّ أن هذه التحديات تُشير إلى أساليب وطُرق جديدة في تاريخ العلوم الطبيعية، وعلى نطاق أوسع، في العلوم الاجتماعية.

ويجيب توماس أوسبورن (Thomas Osborne)، أستاذ النظرية الاجتماعية والسياسية بجامعة بريستول في بريطانيا، في الفصل الثالث (صفحات 82-98)، المعنون بـ"ادخل هذا المساق": أن التفكير متعدد التخصصات هو القدرة على النظر في الظاهرة قيد الدراسة من زوايا متعددة، وتحليل نقاط القوة والضعف فيها بمنظورات مختلف، ودمج تباين الرؤى في إنتاج فهم جديد وأكثر شمولاً لتلك الظاهرة. ويعترف أوسبورن أن مبدأ تعددية التخصصات يمكن أن يؤدي إلى إخفاء أ المساقات الكامنة في التجزئة المنهجية، على الرغم من التأثيرات الأدائية الداعمة لتوسيع مسافات المنهج التجزيئي، كما هو حال السائد من المناهج المدفوعة إداريًا، التي أدت –بطريقة أو بأخرى – إلى توسيع الفجوة بين ثقافة العلوم الطبيعية وثقافة العلوم الاجتماعية والإنسانية على حساب خطاب تعدد التخصصات.

وفي الفصل الرابع (صفحات 99-118)، تتناول شيلا جاسانوف (Sheila Jasanoff)، أستاذة فلسفة العلوم والتكنولوجيا بجامعة هارفارد، "الحقول والمخلفات: التاريخ السياسي". يتماشى التحليل الذي قدمته في هذا الفصل مع المنطق المألوف لتراتبية التخصصات من أعلى إلى أسفل، التي حددها أندرو باري وجورجينا بورن في مقدمتهما لهذا الكتاب. لكن شيلا تحتفي بتعدّد التخصصات وتعتبرها "أرض كنعان الجديدة"، وكأنها كانت تنتظر نداءً للعودة إلى أرض الميعاد (حسب المعتقد اليهودي) حيث يعاني العلماء من المرض، وحيث ستولد التقاليد من جديد، ويتحرر الإبداع الأكاديمي من قيود التجزئة الممنهجة. وتُبَشِّر بأن مسؤولي الجامعات يستدعون دون توقف تعددية التخصصات كحل لعلل مؤسساتهم، التي يلفها الشعور بالركود، وتناقص الأموال المرصودة للبحوث، ولامبالاة الكثير من الأكاديميين، وانخفاض في حماس الطلاب. ولا شك أن التخصصات التقليدية هي صوامع تعزز عقيدة الاختلاف، وإنتاج المعرفة الرسمية المجزأة، وتقسيم عالم المشاكل الفكرية؛ في زيادات دقيقة لعناوين المساقات والتخصصات.

فيما كتبت مارلين ستراثرن (Marilyn Strathern عالمة الأنثروبولوجيا البريطانية، وإيلينا خلينوفسكايا روكهيل (Elena Khlinovskaya Rockhill)، من معهد الإثنولوجيا والأنثروبولوجيا، بالأكاديمية الروسية للعلوم، في الفصل الخامس (صفحات 119-140)، الذي حمل عنوان "عواقب غير متوقعة ونتائج غير متوقعة"، عن طيف من الاحتمالات في المشاركة متعددة التخصصات، من خلال دراسة عملياتها، التي تختلف في النطاق والإمكانية الإثنوغرافية عن الآخرين في هذا الكتاب. فبدلًا من دمج التحليل مع ما قُدّم في الفصول الأخرى، فإنهما احتفظتا بالتفرد بسبب هذه الثنائية؛ إذ قامتا بذلك جزئيًا؛ لرغبتهما في ظهور نتيجة معينة تتحقق معها المعقولية الخاصة. فقد ذكرتا مسبقًا هذه النتيجة، التي لها علاقة بالطريقة، والتي عبرها تعرض العلوم الاجتماعية وتقييمها. وقد يبدو أنها تأتي من الإشكالية أو من المضامين التي لم تكن متوقعة من قبل، خاصة وأن هذا الفصل يستند إلى النتائج الواردة في وثيقة سرية، غير منشورة، عبارة عن دراسة إثنوغرافية لـحديقة كامبريدج للمعرفة الوراثية، أجرتها إيلينا على مدار 18 شهرًا من عام 2004 إلى عام 2006، وكانت بعنوان "تعددية التخصصات والمجتمع".

لقد ركزت لوسي سوتشمان (Lucy Suchman)، أستاذة أنثروبولوجيا العلوم والتكنولوجيا في قسم علم الاجتماع بجامعة لانكستر بالمملكة المتحدة، في الفصل السادس (صفحات 141-160)، على "استهلاك الأنثروبولوجيا". وأقرت بأنه بدلًا من أن تعيق "الثقافات" الموجودة طريق التنمية، فإن الأنظمة القائمة هي التي تقف عائقًا أمامها في تداخل التخصصات، لتؤخر عرضها كمشروع تنموي ضمن تخيلات "اقتصاد المعرفة". ويبدو أن جعل المعرفة المفيدة ينطوي على تداخل تخصصات لا يحظى بنفس التقدير الذي يحظى السرد المعادي للسياق المنهجي، على اعتبار ما قد يوفره ارتباط هذه الأخيرة بالنشاط الاقتصادي من ظروف مناسبة لتحوله كما يظهر التاريخ؛ ومثال ذلك "الاضطرابات" العمالية في الثلاثينيات من القرن الماضي، وعلماء الأنثروبولوجيا الأمريكيين، جنبًا إلى جنب مع آخرين في العلوم السلوكية والاجتماعية الناشئة آنذاك، الذين عملوا على إضفاء الشرعية على تخصصهم بوصفه ذا صلة بالصناعة؛ أي أنه جرى في هذا التاريخ دمج الأنثروبولوجيا، على الصعيدين العملي والممارسة، في البحث الصناعي والتنمية في الولايات المتحدة ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي. لذلك، فحص هذا الفصل الأطر التي من خلالها يمكن تصور الأنثروبولوجيا على أنها ذات قيمة للصناعة المعاصرة، لا سيما في المجال الذي تعرفه لوسي أفضل من غيرها، وهو تصميم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وكيف تُوضع الأنثروبولوجيا ضمن هذه الأطر، وتحويل الأسواق ككائن بحثي في العلوم الاجتماعية. وزعمت سوشمان أنه على الرغم من خضوعها للزحف إلى النزعة التعسفية الجديدة وإضفاء الطابع المؤسسي، فإن الأكاديمية كمؤسسة لا تزال توفر إطارات المرجعية والمساءلة، التي رغم كونها تختلف بشكل كبير عن تلك الخاصة بالصناعة، إلا أنها تظل أساسية فيما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية لمواطنة الشركة.

وفي منحىً آخر، جاء تساؤل سارة ج. واتمور (Sarah J. Whatmore)، أستاذة البيئة والسياسة العامة في جامعة أكسفورد، في الفصل السابع (صفحات 161-177)، "أين تلتقي العلوم الطبيعية والاجتماعية؟ تأملات في تجربة في الممارسة الجغرافية"، ومدخلها هو أن الجغرافيا طالما ارتبطت بالأرض فهي الحياة بعلومها الطبيعية والاجتماعية؛ لأن الروابط الحيوية بين علوم الجغرافيا الأرض (الحياة) هي الأكثر ديمومة من الاهتمامات الأخرى. ونتيجة لذلك، فإن الجغرافيين أكثر دراية بعبء التوقع المرتبط بـ"إعادة" الجمع بين مؤسسات العلوم الطبيعية والاجتماعية في خدمة "مشاكل العالم الحقيقي". وقد جعلها هذا الفهم تجادل في إصرار على العمل على عكس اتجاه الفروق المسبق بين العالمين الاجتماعي والطبيعي؛ حيث يمكن العثور على التقاليد متعددة التخصصات الأكثر إبداعًا. لكن هذا الإصرار قائم، كما تعترف سارة بشكل محرج، على تبني النظام الاستراتيجي لـ "حل المشكلات البيئية" والمنطق المعياري متعدد التخصصات، الذي هو حليف البحث في جداول الأعمال الحكومية والتجارية؛ حيث يكون فيها العلم والسياسة متورطان في الممارسات نفسها. ونتفق معها أنه لا توجد هناك صيغة واحدة، أو جاهزة، لإدراك إمكانات الإبداع متعدد التخصصات للجغرافيا، بل بالأحرى أن العلاقة بين الأرض والحياة هي موقع توليدي يتم فيه تنظيم ممارسات تجريبية تحقيقًا لهذه الغاية.

وتحدثنا جيزا ويسزكالنيز (Gisa Weszkalnys)، أستاذة العلوم السياسية بجامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، وأندرو باري (Andrew Barry)، في الفصل الثامن (صفحات 178-208)، حول "بيئات متعددة: المساءلة والتكامل والأنطولوجيا"، بطرحهما أنه ما كان للبيئة أن تكون حقلًا سياقيًا قويًا لولا كثافة الاهتمام، الذي وجدته في سبعينيات القرن الماضي؛ حيث زادت حركة البحث الأكاديمي تبعًا للوعي العام، الذي مهد لدخول السياسة، وأوجد نوعًا من التكامل وما تطلبه هذا التكامل من مساءلة. فقد أتيحت الفرصة للباحثين للرد على الإشارات التي يقدمها المجتمع، ما استوجب وضع البحث البيئي بالضرورة "في سياق" علمي حديث. رغم أن الفصل تناول النقص التجريبي للدراسات البيئية، مع التركيز على عمل المؤسسات البحثية التي تناولت العلاقة بين البحث البيئي و"المجتمع"، وهذا لا يعني بالضرورة أن الباحثين استجابوا مباشرة "لإشارات المجتمع"، من دون التحقق العلمي في ظواهر تمس حقائق الوجود البشري، كما تتطلب سياسات رسمية على مستوى أجهزة الدولة. فيما رأى ويزكالنيز وباري أن بعض الباحثين عدّوا الاستجابة لمطالب وإشارات المجتمع أمرًا استفزازيًا. بالفعل، كان هذا التحليل مؤثرًا بالنسبة إلى بعض الباحثين، كونها بمثابة بيان عام لممارسة لديهم طُوّرت عمليًا أو كدليل ومحفز لظهورها بالفعل. علاوة على ذلك، لاحظ ويزكالنيز وباري أن تعددية التخصصات وتعدد المناهج أصبحت من الصفات التي يُتوقع إجراؤها على ممولي الأبحاث وصانعي السياسات. باختصار، في البحث البيئي، فإن تحليل العلوم الاجتماعية من منظور تعددية التخصصات وعبر مناهجية دخلت الحقل بسرعة، والواقع الماثل أمامنا، الذي يصف هذه الحالة يُخبِر بذلك.

إن الإشارة إلى الأنطولوجيا أو الوجود، التي وردت في الفصل الثامن، تناولها بتوسع أكبر، أندرو بيكرينغ (Andrew Pickering)، عالِم الاجتماع الأمريكي، في فصل تاسع (صفحات 209-225)، بعنوان: "علم الوجود وضد التخصصات". وقد أراد بهذا العنوان فتح جبهة جديدة في المناقشات حول تعددية التخصصات، حتى يتوقف الجدل على الفرز "الخام" لأنواع العلوم على طول خطوط الأنطولوجيا. يُميز بيكرينغ بين العلوم "الحديثة" بشكل عام؛ كحقول الممارسة والمصنوعات اليدوية المرتبطة بها، ونظرائها من العلوم التقليدية، غير ما يزعجه هو أن معظم مناقشات تداخل التخصصات تركز على التوليفات والتجاور بين العلوم الحديثة. في حين أنه إذا ركز المرء؛ بدلًا من ذلك، على غير العلوم الحديثة تظهر صورة مختلفة إلى حد ما، وليس الكثير من مجموعة التخصصات المتميزة، ولكن من اجتراح نهج موحد نسبيًا تجاه العالم عبر الخريطة التخصصية؛ كما حددتها العلوم الحديثة نفسها. وقد حاول بيكرينغ بيان أنه يمكن بالفعل إحضار ما هو حديث وغير حديث في علاقة مع بعضها البعض؛ بل ويمكن انصهارهما معًا.

وتعود مونيكا جريكو (Monica Greco)، أستاذ زائر في جامعة برينستون الأمريكية، في الفصل العاشر (صفحات 226-246) إلى "منطق تعدد التخصصات: حالة الإنسانيات الطبية"، لتقرر أن المفتاح لفهم خصوصية العلوم الإنسانية الطبية كشكل من أشكال تعددية التخصصات هو التركيز على نيتها التربوية، وأن الالتزام الأنطولوجي واضح في الأخير. وبالمعنى البراغماتي، فإن هذا الالتزام الأنطولوجي لم يُتَناول في المقام الأول في موضوع المعرفة والتدخل الطبي، ولكن في موضوعية الممارس الطبي، الذي يسعى لتغييره، والذي يتضمن موضوعًا مختلفًا بالتبعية للمعرفة الطبية أيضًا. كما توضح جريكو أن التخوف من موضوع المعرفة الطبية كنوع مختلف من الأشياء، هي في الواقع، لم يعد من الممكن وصفها ككائن على الإطلاق. وتُشير إلى أنه إذا كان بإمكاننا وصف هذه النية التربوية بالتأكيد على هذا البعد من علم الوجود. وقد بنت حجتها عن قصد على النقيض من قراءات العلوم الإنسانية الطبية، التي من شأنها أن تختزلها إلى منطق المساءلة، أو في لغة تنتقص من الحركة، إلى العلاقات العامة، التي تُمارس مُصَمَّمَة لتهدئة الرأي العام وإخضاع الأجندات السياسية.

في الفصل الحادي عشر، والأخير (صفحات 247-272)، تختتم الكتاب جورجينا بورن (Georgina Born) وأندرو باري (Andrew Barry)، كما بدآه، حول "الفن-العلوم: من الفهم العام إلى التجربة العامة"، ويُشيران إلى أن ما أصبح واضحًا في الفصول السابقة، هو الالتزام بنموذج في المعرفة العلمية في الوقت الحاضر، التي يُزعمان أنها "أكثر استجابةً لتوقعات الجمهور. وأحد المظاهر، في حساب هذا الوضوح، هو الطريقة التي ينخرط فيها العديد من الناس والمنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية؛ بما في ذلك الحركات النسوية والبيئية وحركات ذوي الحاجات الخاصة، في النقد والطعن في البحوث العلمية، بحيث (يتداخل) العلم والمجتمع ويلعبان في حلبة المواجهة بينهما بطريقة تحيي عمليات الوعي والمعرفة في الفضاء العام"[5].

وعبر المحرران المشاركان؛ في نهاية الكتاب، عن أملهما في أن يكونا قد أشارا إلى بعض المنهجيات والآليات غير المختصرة الضرورية من أجل تلبية احتياجات إنتاج المعرفة عبر تعددية التخصصات.

ونلفت الانتباه إلى أن اعتراف المحررين في مدخل "الشكر والتقدير" بأن إنتاجهما لحقه تأخير طويل على أمل أن يكون المساهمون في تحرير الكتاب وإعداده "قد وصلوا لنتائج تستحق الانتظار"، جاء مع ثناء على أولئك الذين شاركوا في تقديم الدراسات المُشار إليها في المؤتمر الذي عُقد في كلية سانت كاترين (St. Catherine)، بجامعة أكسفورد، والذي أدى إلى انبثاق فكرة هذا الكتاب. ولا شكّ أن البحث المستنير الذي شكل مقدمة الكتاب وفصله الأول، هو ما يستحق بداية التوقف المتأني عنده؛ لأننا سنجد فيه أن فكرة الانضباط المنهجي، التي ركز عليها، تفتح رابطة من المعنى، والتي تُؤشر على كمالية التعدد؛ إذ إن الالتزام بالانضباط هو وسيلة لضمان اليقين بما يُستخدم من أساليب ومفاهيم معيارية بشكل صارم. فالأفكار المنبثقة من تعدد التخصصات تنطوي على مجموعة متنوعة من تجاوزات الحدود الرخوة، التي وضعتها الكثير من المناهج، حيث القواعد التأهيلية والدورات التدريبية والجهود الذاتية، والتي قدمها القائمون على أبحاث الكتاب ترتبط بمزيد من ضرورات تحول التعميم في العلاقات بين العلم والتكنولوجيا والمجتمع إلى واقع معيش. لذلك، فإن التشكيل المعاصر للتخصصات المتعددة قد نشأ كحلّ لسلسلة من المشاكل الآنية، ولا سيما فحص هذه العلاقات، وتطوير المساءلة، والحاجة إلى تعزيز الابتكار في اقتصاد المعرفة. وجرى اقتراح أن الوضع الحالي ممكن أن يُفهم على أنه إشكالية، وكان النشر أحد المظاهر المؤثرة لهذه الإشكالية. وقد اتخذ الكتاب مدخل التركيز على إضفاء الطابع المؤسسي على المعرفة في ستار العلم، وسياسة البحث، وتمويل البحوث وتقييمها، وطبيعة الجامعة، أو ما يمكن أن نشمل به كل المؤسسات الأكاديمية، لإدخال طريقة جديدة في التفكير حول العلم، التي غالبًا ما توصف بعبارات منهجية صارمة. لذلك، حددت فصول الكتاب بعض سمات النمط الجديد لإنتاج المعرفة، التي يُعْتَقَد أنها واضحة تجريبيًا، من خلال تطبيق تعدد التخصصات، والتي جرت مناقشتها جميعًا بصورة متكاملة، أو متماسكة بما يكفي، لتركيب شكل جديد من أشكال إنتاج المعرفة، يبشر بعلاقات أوثق بين العلم والمجتمع.

في هذا السياق، فقد هدفت فكرة هذا الكتاب إلى جعل تعددية التخصصات أكثر شيوعًا، خاصة وأن "التعقيد" غير المسبوق للمشاكل البيئية واحترار المناخ، وما يطرأ عليه من تغيرات، أو الآثار الاجتماعية، التي تتطلب جهودًا علمية تجعل منهج هذا الكتاب مقاربة جديدة للتنظير، تدمج العلوم الاجتماعية والطبيعية وتوضح كيف يكون إعادة تشكيل الحدود بينها، ودراسة التحول في العلاقات بين العلم والتكنولوجيا والمجتمع، بما يتناول تعزيز التعاون بين العلوم الطبيعية والهندسة من جهة، والعلوم الاجتماعية والفنون والعلوم الإنسانية من جهة أخرى. ويعتمد هذا الكتاب على فكرة توسيع التخصصات من خلال تعددها، كما بينها المحرران المشاركان، في الفصل المحوري، الذي يمس خُمْس هذا الكتاب. فيما عالجت بقية الفصول العشرة بعض الأبعاد المحسوسة وغير المحسوسة، التي لا يستطيع الدارسون القيام بها، أو تطوير تعريف المشكلات، واستنباط استراتيجيات الحل المناسب. لذلك، جاءت هذه الفصول ليست كدراسات حالة، ولا مقالات عملية تكيفية، على الرغم من اعتماد العديد منها  على البحث التجريبي، وصيغ بعضها بعد مناقشات نظرية مبنية على الكتابات الحديثة حول تعددية التخصصات، التي جمعت العلوم البيئية وعلم الاجتماع.

استنتاجات

يقول بعض النقاد: إن الحديث عن تعددية التخصصات يخفي ممارسات تتميز غالبًا بأولوية بعض هذه التخصصات ذات القيمة الاجتماعية والتقليل من أهمية المعرفة الاجتماعية للتخصصات "الثانوية"، التي يمكن الافتراض أن استخدامها يعتمد على شاغلين رئيسين: الأول، كسب الوقت، والثاني، تعزيز اهتمام الدارسين وتحفيزهم من خلال المناهج، أو المشاريع الموضوعية، ولا تحظى الإسهامات المعرفية في النهاية إلا بالقليل من الاهتمام. ويرتبط هذا الفهم بالجانب العملي الإجرائي القادر على إنتاج ممارسات متماسكة جوهريًا. فيما يحيلنا هذا المنطق إلى ما نسميه بعالم الفطرة السليمة، الذي يمكن الاطمئنان إلى إمكانية إتقانه وتطبيقه وإدارته بسهولة، مما يتطلب القليل من الوقت والطاقة. لذلك، حتى عندما لوحظ أن تعدد التخصصات يكاد يصبح تخصصًا في حد ذاته، فما عاد من السهل تصور تحقيق النجاح بسهولة في مثل هذه المبادرات المنهجية، التي تستلزم مراعاة عدد من القضايا، بما في ذلك التفاعلات الشخصية، وعمليات الاتصال الجماعي، وإجراءات التعاون، وما إلى ذلك، مما تدعو إليه تعددية التخصصات. وفي تقديرنا ليس من الممكن، أو المرغوب فيه، تقديم مثل هذا الدليل، أو ما قد يخالفه في هذا الكتاب؛ لأن إجراء البحث متعدد التخصصات يتحصل بعدة طرق مختلفة، ويتحقق أساس نجاحه بوجود لغة مشتركة، ووضوح مفاهيمي، وفهم شامل لمنهجيات البحث، وخلق المعرفة في مختلف التخصصات[6].

في الختام، يمكن التأكيد مرة أخرى على ضرورة وجود إطار نظري لمجال يمثل الأرضية المشتركة، التي يمكن أن يُبنى عليها المزيد من الفهم، ويعتمد الكثير من هذا الفهم على وضوح المفاهيم والمصطلحات المستخدمة لها. لذلك، من الأهمية بمكان استيعاب المفاهيم المألوفة لكل تخصص، وأن تنقل المصطلحات المستخدمة للإشارة إلى هذه المفاهيم المعنى نفسه لجميع المعنيين؛ إذ إن فهم المفردات مهمة هو مستوى واحد من الكفاءة، وهو أن يكون المتلقي قادرًا على تطبيقه، وأن يُصبح مشاركًا في التعبير عنه؛ لأن تعدد التخصصات يفترض، في هذه الحالة، إنشاء تبعية متبادلة، خالية من الهيمنة أو الإهمال بين المواد والمساقات المختلفة. ويؤدي هذا الموقف المعرفي والاجتماعي والأيديولوجي، في التقدير العام، إلى قراءة مختلفة لمكونات المناهج الدراسية، بناءً على البحث عن الهوية المحددة لكل تخصص؛ أي مكانه ووظيفته على المستويين المعرفي والاجتماعي، بالإضافة إلى تكامل المحتويات، من حيث هي ضرورية لفهم الواقع الطبيعي والبشري والاجتماعي والتواصل معه. بينما يستدعي هذا الموقف أيضًا موقفًا حاسمًا تجاه التسلسل الهرمي للتخصصات المدرسية والوظيفة الناتجة عن الاختيار الاجتماعي[7]. وفي هذا المنظور، يحدونا الكثير من الأمل في الارتقاء بالتفكير الإداري والتنظيمي، الذي يمكن من استعارة تعددية التخصصات كلما أصبح العمل متخصصًا ومنفصلًا وروتينيًا، في محاولة للسعي نحو رؤية أكثر دقة، وانتظامًا، وموثوقية، وكفاءة. 

 

المراجع

References:

Raento, Pauliina. “Interdisciplinarity”. International Encyclopedia of Human Geography, Vol. 7, No 2 (2020): 357-363, accessed on: 11/5/2023, DOI:10.1016/B978-0-08-102295-5.10659-6

 

 



[1]- Andrew Barry & Georgina Born (eds.), Interdisciplinarity: Reconfigurations of the Social and Natural Sciences (London and New York: Routledge, 2013).

[2]-  Andrew Barry & Georgina Born, “Interdisciplinarity: Reconfigurations of the Social and Natural Sciences,“ In: Andrew Barry & Georgina Born (eds), Op. cit.,  p. 10.

[3]- Simon Schaffer, “How Disciplines look,” In: Andrew Barry & Georgina Born (eds.), Op. cit., p. 57.

[4]- Ibid, p. 59.

[5]-- Georgina Born and Andrew Barry, “Art-Science: From public understanding to public experiment,” In: Andrew Barry & Georgina Born (eds), Op. cit., p. 247.

[6]- Pauliina Raento, “Interdisciplinarity”, International Encyclopedia of Human Geography, Vol. 7, No 2 (2020), pp. 357-363, accessed on: 11/5/2023, DOI:10.1016/B978-0-08-102295-5.10659-6

[7]- Ibid.