تاريخ الاستلام: 26 مارس 2023

تاريخ القبول: 20أغسطس 2023

مقالة بحثية

النظرية الاجتماعية الخضراء بوصفها جسرًا بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية*

حسن احجيج

عالم اجتماع، المركز الأكاديمي للدراسات الاجتماعية، المغرب

 hassane.hjij@gmail.com

ملخص

يهدف المقال إلى إبراز الدور المركزي الذي يمكن أن تلعبه النظرية الاجتماعية الخضراء في تقديم إجابات ملائمة عن الأسئلة المتعلقة بالتفاعلات بين البشر ومجالهم الطبيعي، ودور التفاعلات في التدهور البيئي الخطير والمتسارع الذي يعرفه العالم اليوم. ويجادل المقال بأن النظرية الاجتماعية التقليدية تفشل في توفير تفسيرات ملائمة لهذه الظاهرة البيئية بالنظر إلى اعتمادها، إبستيمولوجيًّا، على الثنائيات الغربية التي تفصل أنطولوجيًّا بين المجتمع والطبيعة، بين الثقافة والطبيعة، بين الخارج والداخل. ومن ثمة فإن النظرية الاجتماعية الخضراء تُعدُّ مصفوفة مفاهيمية بديلة يمكنها أن تساعد على فهم التدهور البيئي الراهن من خلال إعادة التجسير بين الطبيعة والمجتمع، ومن ثم التجسير بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية من خلال تطوير مقاربة متعددة التخصصات مندمجة وتكاملية. لتحقيق هذا الهدف، يناقش المقال التقابلات المتفرعة عن ثنائية المجتمع والطبيعة، ويعرض السياق الفكري والسياسي الذي نشأت فيه النظرية الاجتماعية الخضراء، ثم يفحص المبادئ الرئيسة التي ترتكز عليها النظرية الاجتماعية الخضراء.

الكلمات المفتاحية: النظرية الاجتماعية الخضراء، ثنائية مجتمع/طبيعة، التجذر الطبيعي للبشر، التنمية المستديمة، البعد الأخلاقي للعلم، تعدد التخصصات.

للاقتباس: احجيج، حسن. «النظرية الاجتماعية الخضراء بوصفها جسرًا بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية»، مجلة تجسير، المجلد الخامس، العدد 2 (2023)

https://doi.org/10.29117/tis.2023.0137

© 2023، احجيج، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.


 

Submitted: 26 March 2023

Accepted: 20 August 2023

 Research Article

Green Social Theory as a Bridge Between the Social Sciences and Natural Sciences*

Hassan Hajij

Sociologist, Academic Center for Social Studies, Morocco

hassane.hjij@gmail.com

Abstract

This article aims to highlight the central role that green social theory can play in providing appropriate answers to questions related to interactions between humans and their natural sphere and the role of these interactions in the dangerous and accelerating environmental deterioration that the world is experiencing today. The article argues that traditional social theory, given its epistemological dependence on Western dichotomies that ontologically separate society from nature, culture from nature, and the outside from the inside, fails to provide valid explanations for this environmental phenomenon. Hence, green social theory is an alternative conceptual matrix that can help to understand the current environmental degradation by re-bridging nature and society, and then bridging between the natural sciences and social sciences by developing an integrated interdisciplinary approach. To this end, the article discusses the oppositions that derive from society/nature dichotomy, presents the intellectual and political context in which the green social theory arose, and then examines the main principles on which the green social theory is based.

Keywords: Green social theory; Society/nature dualism; Natural rooting of human beings; Sustainable development; Ethical dimension of science; Interdisciplinarity.

 

Cite this article as: Hajij, Hassan. "Green Social Theory as a Bridge Between the Social Sciences and Natural Sciences". Tajseer Journal, Vol. 5, Issue 2 (2023).

https://doi.org/10.29117/tis.2023.0137

© 2023, Hajij, licensee QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited.


 

مقدّمة

نحن نعيش في عصر نستشعر فيه حاجة ملحة للاستجابة للتحديات البيئية العالمية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأنشطة البشرية. فقد لوحظ أن "الأشكال المعاصرة للتدهور البيئي تمثل واحدة من أكثر معضلات الحداثة تعقيدًا وكارثية، إن لم تكن أكثرها"[1]. هناك اتفاق عام على أن التوسع الاقتصادي لمدة قرن ونصف كانت له عواقب تنذر بالخطر على البيئة العالمية. فاستنفاد طبقة الأوزون، وتلوث الهواء، وفقدان الغابات والتنوع البيولوجي، وانقراض الأنواع النباتية والحيوانية، وفقدان الحياة البحرية، وتلوث التربة والمياه، والمخاطر الصحية المرتبطة بصناعات التكنولوجيا الحيوية والتحول التقني للزراعة، كلها ظواهر حدثت بمعدل ينذر بالخطر. وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية على الخصوص، أصبح إطلاق المواد السامة في البيئة يشكل تهديدًا للحياة نفسها.

هذه الوضعية دفعت العلماء إلى توقع أن القرن الواحد والعشرين سيتميز بمزيد من تدهور البيئة الطبيعية. بل إنهم يتوقعون أن البعد البيئي للحياة المعاصرة سيهيمن على جميع السياسات العمومية والشؤون الخارجية وسياسات التنمية والتعليم والتكنولوجيا والبحث العلمي. ففيما أسماه إرنست فون فاتساكير (E. Von Weizsäcker) "قرن البيئة"، ستؤثر الإكراهات الإيكولوجية على القانون والإدارة وتخطيط المدن والفلاحة والفنون، والدين، والتكنولوجيا والاقتصاد. وإن التدخل من أجل تغيير جذري للوضعية المعاصرة، والذي يسميه "سياسة الأرض"، وحده يستطيع إنقاذ المستقبل[2].

حظيت القضايا البيئية في بداية سبعينات القرن العشرين باهتمام الرأي العام الدولي. وكان من نتائج ذلك أن بدأ عدد من علماء الاجتماع يدرسون مواضيع مثل الرأي العام المتعلق بالقضايا البيئية، والمحددات الاجتماعية لنشطاء البيئة، والخصائص التنظيمية للمنظمات البيئية واستراتيجياتها، والسياسات البيئية العمومية. وطبق هؤلاء الباحثون المنظورات السوسيولوجية التقليدية التي كانت تدرس الرأي العام والحركات الاجتماعية والتنظيمات الرسمية، لترتقي إلى "علم اجتماع القضايا البيئية". وبعد ذلك، بدأ بعض علماء الاجتماع تدريجيا يدرسون العلاقات بين المجتمعات الصناعية وبيئاتها البيوفيزيائية. ومع تزايد هذه التحليلات، انبثق مصطلح "علم الاجتماع البيئي" في منتصف السبعينيات[3].

رغم المكتسبات العلمية والسياسية الملحوظة التي راكمها علم الاجتماع البيئي منذ نشأته في سبعينات القرن العشرين، إلا أنه ظل يصطدم بالتقليد الغربي الطويل القائم على الثنائيات المنحدرة من الفكر الديكارتي التي تتجسد في سؤال "كيف يتفاعل المادي والرمزي؟"[4] كما أنه يصطدم بالازدواجية التي تهيمن على فلسفة العلم والمتمثلة في الفصل بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية. فقد غلب على النظرية الاجتماعية منذ نشأتها النظر إلى الطبيعة بوصفها موضوعًا، أي مجموعة من العمليات المحددة بصورة ميكانيكية التي تشتغل في استقلال عن الأفراد الذين يقيمون فيها. وكما يقول دوغلاس فاكوش (Vakoch) وفيرناندو كاستريون (Castrillion)، إن هذه المقاربة الوضعانية تنطلق من فكرة أننا نحن البشر "لسنا مخلوقات مُفكِّرة تتطور مع بقية الحياة الأرضية، بل عقول غير متجانسة تفكر في الواقع من موقع متعال يوجد خارج ذلك الواقع. ولذلك فإننا نحرّر أنفسنا من أي مسؤولية تجاه بقية المحيط الحيوي؛ ونمنح أنفسنا ترخيصًا لاعتبار الحيوانات والنباتات والتضاريس والعناصر الطبيعية الأخرى مجرد مصادر تنتظر استخدامها من قِبل النوع البشري، أي مجموعة من الكيانات الثابتة والنهائية التي تنتظر التلاعب بها وهندستها لتناسب أغراضنا. إن النظر إلى أي كائن فقط على أنه مجرد موضوع قابل للتحديد يعني إلغاء إمكانية وجود علاقة حقيقية مع هذا الكائن، ومن ثم إلغاء الحاجة إلى التفكير الأخلاقي"[5]. فالطبيعة حسب منظور الحداثة، الذي يشكل أساس المنظور الوضعاني، مجرد كيانات سلبية لا تسهم بأي شكل في ملحمة المجتمع الحديث. لمّا كانت العلوم الاجتماعية قد تأسست على دراسة انعكاسات الثورة السياسية (الثورة الفرنسية) والثورة الصناعية على الحياة الاجتماعية، فقد تبنت إيديولوجيا الحداثة التي كانت تسعى إلى معرفة الكيفية التي يمكن بها للبشر أن يفلتوا من الصراع الحيواني من أجل البقاء[6]. وكان من نتائج ذلك أن تأسست فكرة إخضاع الطبيعة للإرادة البشرية من أجل تحقيق رفاهية البشر باعتبارهم "أسمى الكائنات". فالتقسيم الشائع بين الطبيعة والثقافة ليس ظاهرة كونية وجدت في كل زمن ومكان، بل إنه نتاج الفكر الصناعي الحديث الذي تشكله الحاجة إلى السيطرة على الطبيعة وإدارتها.

كل هذه العوامل خلقت الحاجة إلى سياسة بحث جديدة تنظر إلى العلاقات بين البشر والطبيعة بطرق تفكير جديدة[7] ترتكز بالأساس على استبعاد الثنائية مجتمع/طبيعة. إذا كانت التحولات البيئية على المستوى العالمي تقوّض الفصل المفاهيمي الصارم بين المجتمع/الثقافة والبيئة/الطبيعة، فإنها بالمقابل لا تقوّض الحاجة إلى العلوم الاجتماعية. بيد أن دور العلوم الاجتماعية في محاربة التدهور البيئي لا يتعلق بتحديد ودراسة الظواهر التي يمكن تفسيرها من خلال العمل البشري وحده؛ بل يتعلق الأمر بتطبيق خيالنا السوسيولوجي على الروابط القائمة بين الأشخاص والمؤسسات والتقنيات والأنظمة البيئية التي تجعل المجتمع ممكنًا. على هذا الأساس، أصبح علماء الاجتماع والبيئة أكثر وعيًا بأهمية مقاربة متعددة التخصصات أو عابرة للتخصصات قادرة على تقريب أطرهم المفاهيمية ومناهجهم بهدف معالجة العلاقات المعقدة بين الإنسان وبيئته[8].

يبدو أن هذا السياق السياسي والفكري الجديد الذي أحدثه الوضع البيئي العالمي المتدهور بعث في حقل العلوم الاجتماعية البيئية الوعي بأن النظرية الاجتماعية تحتاج إلى "التخضير". يتمثل البعد الأيكولوجي للنظرية الاجتماعية في انشغال مزدوج: الانشغال بتأثير المجتمعات على البيئة الطبيعية، وفي الآن ذاته بتأثير البيئة الفيزيائية-الحيوية على السلوك البشري والمجتمع ككل. غير أن هذا المقاربة الجديدة لدراسة التحديات البيئية، رغم التراكم الذي حققته في المستوى النظري والمكتسبات التي حققتها في المستوى السياسي، لم تخل من التعقيد والجدل العنيف أحيانا في المستوى الأنطولوجي والإبستيمولوجي، لاسيما فيما يتعلق بالطبيعة الأنطولوجية للكيانات التي يمكن أن تشكل وحدات تحليل النظرية الاجتماعية الخضراء (Green Social Theory)[9]، وبمسألة الموضوعية والحياد الأخلاقي في النظرية الاجتماعية البيئية[10]. ولغاية تقديم فكرة متماسكة وواضحة للنظرية الاجتماعية الخضراء تعفي القارئ من الانغماس في تفريعاتها المتعددة وفي الخلافات والاختلافات النظرية والإبستيمولوجية القائمة بين مقارباتها المتعددة، نقترح عرضًا تخطيطيًّا يقدم تلك النظرية بأكبر قدر من الوضوح، وذلك من خلال الإجابة عن سؤال إشكالي مركزي هو: كيف يمكن للنظرية الاجتماعية المعاصرة أن تسهم في مواجهة التحديات البيئية من خلال تجاوز الأسس المعرفية التي تقوم عليها النظرية الاجتماعية الأرثوذوكسية؟

للإجابة عن هذا السؤال الإشكالي، نحاول الإجابة عن أربعة أسئلة بحثية، هي:

·      كيف أسهم الفصل بين المجتمع والطبيعة في تعطيل مشروع إدماج مفهوم الطبيعة/البيئة في تفسيرات العلوم الاجتماعية للديناميات الاجتماعية في عصر التدهور البيئي؟

·      ما أهم العوامل الفكرية والسياسية التي أسهمت في نشأة النظرية الاجتماعية الخضراء؟

·      ما الخصائص التي تميز النظرية الاجتماعية الخضراء عن النظرية الاجتماعية التقليدية؟

·      ما الشروط اللازم توفرها لتطوير مقاربة متعددة التخصصات يقوم فيها العالَمُ غير البشري بدور مركزي في تفسير الديناميات الاجتماعية ذات الصلة بالتدهور البيئي؟

تعود أهمية مناقشة النظرية الاجتماعية الخضراء إلى أنها تثير مسألة تأثير التدهور البيئي في قضايا العدالة الاجتماعية. فقد أظهرت دراسات عديدة أن المشكلات البيئية تؤثر بطرق مختلفة في الجماعات الاجتماعية المختلفة، وذلك على أربع مستويات: العرق، والجندر، والطبقة الاجتماعية، والحقوق البيئية للأجيال القادمة.

أولًا، أدت الأبحاث الشاملة، وعلم الأوبئة القائم على الجماعات، والتنظيم المحلي في الثمانينيات إلى ظهور مفهوم "العنصرية البيئية"[11]. وأظهرت هذه الدراسات تباينات عميقة في كيفية تعرض البيض والسود في الولايات المتحدة للمخاطر البيئية[12]. تشير العنصرية البيئية إلى عدم المساواة في الوصول إلى بيئة نظيفة والموارد البيئية الأساسية على أساس العرق.

ثانيًا، يعد عدم المساواة بين الجنسين المقترن بأزمة المناخ أحد أكبر التحديات في عصرنا. إنه يشكل تهديدات لأساليب الحياة وسبل العيش والصحة والسلامة والأمن للنساء والفتيات في جميع أنحاء العالم. نظرًا لأن بيانات وأبحاث متزايدة تكشف عن وجود روابط حيوية بين النوع الاجتماعي والعدالة الاجتماعية وتغير المناخ، فإن النظرية الاجتماعية الخضراء قادرة على إبراز التأثيرات المتباينة للتغير البيئي على تمكين المرأة وعلاقته بالنشاط البيئي العالمي الفعال.

ثالثًا، انطلاقًا من مناقشة عدم المساواة من حيث الدخل والفرص، استكشفت دراسات متعددة العلاقات القائمة بين عدم المساواة والبيئة الطبيعية في وقت يُنظر فيه بشكل متزايد إلى البيئة النظيفة والصحية على أنها حقّ من حقوق الإنسان. إذ أبرزت تزامن التفاوتات الاجتماعية مع الضرر الذي يلحق بالبيئة الطبيعية، وأظهرت لماذا وكيف يميل التدهور البيئي الناجم عن النشاط البشري إلى مفاقمة عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية من خلال إحداث تأثيرات مختلفة على الفقراء والفئات الضعيفة وعلى البلدان منخفضة الدخل. إن التأثيرات السلبية المتزايدة للأنظمة الاجتماعية على النظم البيئية، والتوزيع غير العادل لتأثيرات المشكلات البيئية على الفئات الاجتماعية المختلفة، تبرر الحاجة إلى نظرية اجتماعية تسلط الضوء على العلاقة بين غياب العدالة البيئية وغياب العدالة الاجتماعية.

رابعًا، مع نمو حجم التدخل البشري في النظم البيئية والمناخية للأرض، ومع تزايد وضوح حجم المخاطر المرتبطة بالتغير البيئي العالمي، يبدو أن تجاهل النظرية الاجتماعية للعلاقات بين البيئة والمجتمع موقف غير معقول. من البديهي أن عدم انخراطها في مشروع التغيير البيئي سيجعلها تُفوِّتُ إحدى النتائج الرئيسة للتغيير الاجتماعي ودوافعه. وبنفس القدر من الأهمية، إن عدم انخراط العلم الاجتماعي في التغيير البيئي من شأنه أن يحرمه من فرص المشاركة في الفعل الاجتماعي والسياسي التقدمي. إن المنظور القوي الذي توفره النظرية الاجتماعية الخضراء ليس مهمّا لفهم المشكلات والتحديات البيئية الحالية فحسب، ولكن أيضًا لابتكار حلول لأرض مستديمة، ومن ثمة المساعدة على حماية المجتمعات الحالية والمستقبلية من المخاطر البيئية التي تواجهها.

تقترح هذه المقالة مقاربة شاملة لمعالجة الأسئلة المطروحة أعلاه، بناءً على حجج إبستيمولوجية وبراغماتية بشكل أساسي. تبدأ الحجج بموضعة هذه الدراسة في سياقها الإمبيريقي والنظري العام. ثم تسلط الضوء على الثنائية مجتمع/طبيعة التي تُعدّ المشكلة الجوهرية التي تواجهها العلوم الاجتماعية في تقديم تفسيرات من شأنها أن تظهر كيف يسهم التشابك بين النظام الاجتماعي والنظام الطبيعي في مفاقمة الوضع البيئي المثير للقلق على المستوى العالمي. وبعد ذلك، تعرض المقالة بعض العوامل الرئيسة التي أدت إلى انبثاق النظرية الاجتماعية الخضراء، خاصة مقاومة الرومانسية لآثار الثورة الصناعية ونشأة النزعة الإيكولوجية والاعتراف العالمي بحقوق المجتمعات الأهلية. وبعد ذلك تركز على خصائص النظرية الاجتماعية الخضراء من خلال إبراز أهم المبادئ الأنطولوجية والإبستيمولوجية والسياسية التي تستند إليها. وبناءً على هذه المناقشة، تقدم المقالة الخطوط العريضة للمقاربة متعددة التخصصات المقترحة.

أولًا: ثنائيات محفوفة بالمخاطر

إذا كان تقسيم العالم (ببعديه الاجتماعي والطبيعي) إلى كيانات مستقلة قد أسهم في تطور المعارف العلمية الفيزيائية والاجتماعية بفضل الجهود التي بُذِلت لتحديد موضوع كل علم والمناهج الملائمة لاستكشافه، فإنه من جهة أخرى خلق هوة عميقة بين هذين العلمين، ومن ثمة فاقم الفصل بين أنطولوجيتيْن متمايزتيْن: الاجتماعي والطبيعي. يُعدّ هذا الفصل قاعدةً أساسيةً لأنماط الفكر الغربي الحديث التي تتسم بطبيعة ثنائية محايثة. يمكن أن نفكر على سبيل المثال في العقل/الجسد، الذات/الآخر، الداخل/الخارج، الذات/الموضوع، المجتمع/الطبيعة[13] تقوم هذه الثنائيات على علاقات تراتبية، حيث يكون أحد الطرفين مستقلا والآخر تابعًا. تجادل فال بلوموود (V. Plumwood)[14] بأن الفكر الحديث يمنح الامتياز للأطراف الأولى من هذه الثنائيات، ويعتبرها تتمتع بخصائص القصدية والفاعلية والعقلانية، بينما الأطراف الثانية تظل تابعة للأولى، ولا تتمتع بتلك الخصائص الإيجابية.

هذه الثنائية اكتست أشكالًا مختلفة عبر تاريخ تطور النظرية الاجتماعية منذ النصوص المؤسسة للعلم الاجتماعي إلى السجال الفكري المتأخر بين المنظور الواقعي والمنظور البنائي حول الوضع الأنطولوجي للطبيعة، مرورًا بالنقاشات حول الحتمية البيئية والحتمية الثقافية.

1.     الطبيعة في علم الاجتماع الكلاسيكي

يقيم ماكناغتن (P. Macnaghten) وأوري (J. Urry)[15] تمييزا بين إطارين ثقافيين رئيسيين للتفكير في علاقات البشر بالطبيعة، وهما ثقافتان كانتا منتشرتين في الثقافة الغربية منذ القرن السابع عشر. الإطار الأول هو منظور "الأنوار" الذي يرى أن حالة الطبيعة تمثل الصراع من أجل السلطة والبقاء، وتتسم فيها الحياة، حسب مصطلحات هوبز، بأنها "انعزالية، قذرة، وحشية، وقصيرة". تعد الطبيعة في هذا التقليد حالة بدائية يجب تجاوزها من خلال السيطرة على الطبيعة الخارجية بتطوير العلم والتكنولوجيا. والإطار الثاني هو المنظور "الرومانسي'' الذي يسلّم بوجود انسجام أصلي بين البشر والطبيعة، هذا الانسجام الذي تَعطَّل لاحقًا بسبب تنامي العقل العلمي والأداتي في علاقته بالطبيعة. لذلك فإن "تقدم" الحضارة هو الاغتراب الذي يجب الخروج منه بالعودة إلى الانسجام المفقود مع الطبيعة الداخلية والخارجية.

قامت نشأة العلوم الاجتماعية على المنظور الأنواري الذي أسس لما سماه كاتون (W. Catton) ودانلاب (R.E Dunlap)[16] نموذج "الاستثناء البشري" المتمركز حول البشر، والذي بموجبه انطلقت العلوم الاجتماعية في نشأتها من المسلمة القائلة إن المجتمع كيان مستقل عن الطبيعة. كان ماركس (K. Marx) ودوركايم (É. Durkheim) وفيبر (M. Weber) منشغلين بدراسة تطور المجتمع الصناعي الحديث وتأثيراته السلبية على البشر. رغم أنهم كانوا يعدّون الطبيعة شرطًا مسبقًا للحياة الاجتماعية، فإنهم لم يكونوا يَعدُّون هذه العلاقة مهمةً للتحليل السوسيولوجي للمجتمع. كان هذا السياق المعرفي يعرّف الطبيعة بطريقة سلبية، بمعنى أنها غير اجتماعية، خارجة أنطولوجيًّا عن المجتمع، وبالتالي لا يمكن أن تؤخذ بعين الاعتبار في التفسير السوسيولوجي. كانت الطبيعة إذن بقعة مظلمة وغير مرئية في النظرية الاجتماعية، حيث رفض علماء الاجتماع الأوائل أن يمنحوا للكيانات غير البشرية مكانا في التفسير السوسيولوجي وعدًّوا الأفراد والمجتمعات كيانات متحررة من ثقل قوى الطبيعة، على الرغم من اعترافهم بأن المجتمع يشكل جزءًا من الطبيعة[17].

إذا كان المجتمع جزءًا من الطبيعة، فإنه في الوقت نفسه واقع فريد من نوعه: "إن المجتمع هو أقوى مزيج من القوى المادية والمعنوية التي تمثل الطبيعة أقوى مثال له. لا يوجد في أي مكان آخر مثل هذا الثراء من المواد المتنوعة، التي بلغت مثل هذه الدرجة من التركيز"[18]. فالمجتمع، على هذا النحو، يحتل أعلى التسلسل الهرمي من بقية الطبيعة. إنه واقعة اجتماعية مبررة بشكل جماعي، تنشأ منطقيًا من نظام الاعتقاد ونظام التصنيف الخاص بالمجتمع. وفقًا لدوركايم، تتم شرعنة الوجود الاجتماعي من خلال الإيمان بالتوافق بين النظام الطبيعي والنظام الاجتماعي. تعكس هذه الفكرة قراره برفع "الوقائع الاجتماعية" فوق "وقائع النظام الأدنى" التي يقصد بها الظواهر النفسية والبيولوجية. هذا التصور الدوركايمي يشبه كثيرا وجهة نظر أوغست كونت (A. Comte) الهرمية للطبيعة التي يمكن فيها للأدنى أن يكون شرطًا للأعلى. ذلك أن التسلسل الهرمي، وفقا لكونت، ينتقل من أبسط الظواهر إلى أكثرها تعقيدًا، أي من الطبيعة غير العضوية إلى الطبيعة العضوية، وأخيرًا إلى الكائنات الحية والإنسان[19].

يشير ويليام كاتون ورايلي دانلاب[20] إلى أن الثنائية التي ما تزال راسخة في علم الاجتماع إلى اليوم دشَّنها إرثان سوسيولوجيان: الأول موروث عن دوركايم يشدد على أنه لا يمكن تفسير الوقائع الاجتماعية إلا من خلال ربطها بوقائع اجتماعية أخرى. فالمجتمع وفق هذا التقليد مجال مستقل، والطبيعة توجد خارج المجتمع ولا وجاهة لها في تفسير المجتمع. والتقليد الثاني موروث عن فيبر يشدد على أن جميع البشر يستجيبون للمعاني التي يسندونها إلى شروط بيئية متنوعة ويتصرفون وفقا لتمثلاتهم وتصوراتهم للبيئة المحيطة بهم. هكذا فإن الخصائص المادية لا تكون وجيهة إلا عندما يقوم الأفراد بإدراكها وتعريفها، أي إسناد معنى لها. يلخص كاتون ودانلاب هذا التقاطب بقوله: "يقترح التقليد الدوركايمي بأنه يجب تجاهل البيئة المادية، بينما يقترح التقليد الفيبري بأنه يمكن تجاهلها. وفي الحالتين اعتُبرت البيئة المادية غير ذات أهمية في الحياة الاجتماعية"[21]. ويشير رايموند مورفي (R. Murphy)[22] إلى أن موضوع دمج الفعل الاجتماعي في عمليات الطبيعة لا يزال ضعيفا في العلوم الاجتماعية. إذ لا تزال النظرية الاجتماعية تشتغل "كما لو أن الطبيعة غير مهمة. هذا النوع من الممارسة السوسيولوجية جعلنا نخطئ إدراك السمة المميزة لعصرنا، وهي التلاعب بالطبيعة عن طريق العلم والتكنولوجيا من أجل تحقيق أهدافنا المادية، وبالتالي تعطيل التوازن الطبيعي الذي بدوره يؤثر في بناءاتنا الاجتماعية ويهددها[23].

2.     الحتمية البيئية والحتمية الثقافية

تطور نوعان من الحتمية: الحتمية البيئية والحتمية الثقافية. تدّعي الحتمية البيئية أن الخصائص العامة للثقافات والمجتمعات البشرية والاختلافات داخل المجتمع الواحد تحددها الأشكال الفيزيائية والبيولوجية التي تتكون منها الأرض. تقوم الحتمية البيئية على الاعتقاد بأن البيئة، خاصة عواملها المادية مثل التضاريس والمناخ، تحدد أنماط الثقافة البشرية والتنمية المجتمعية. إذ يعتقد الحتميون البيئيون أن العوامل البيئية والمناخية والجغرافية وحدها هي المسؤولة عن الثقافات البشرية والقرارات الفردية وأن الظروف الاجتماعية ليس لها أي تأثير فعلي على التطور الثقافي. ويستدلون على ذلك بأن الخصائص الفيزيائية لمنطقة معينة مثل المناخ لها تأثير كبير على المنظور النفسي لسكانها. ثم ينتشر هذا المنظور بين السكان ويسهم في تحديد السلوك العام وثقافة المجتمع.

وبالمقابل، تطورت الحتمية الثقافية، بوصفها ردَّ فعلٍ ضد الحتمية البيئية، على أساس أن الطبيعة البشرية تحددها بشكل كبير المعتقدات والأفكار والقيم والمعاني التي يكتسبها الناس بما أنهم أعضاء في مجتمع معين. يفترض عدد من علماء الأنثروبولوجيا أن الطبيعة البشرية ليست لها "طريق صحيحة" واحدة مشتركة بين جميع البشر. واقترحوا بدلًا من ذلك أن "الطريق الصحيحة" تتوقف على المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، وأن التشكيلة الثقافية لمجتمع معين تكون دائمًا فريدة ومختلفة عن تشكيلة أي مجتمع آخر. تلتزم الحتمية الثقافية بنموذج الطبيعة البشرية الذي يحدد نقطة يمكن عندها فصل البشر عن الطبيعة وجعلهم قادرين على الابتكار خارج الإكراهات البيئية. يحمل هذا النموذج افتراضًا ضمنيًا، وإن كان غير معلن، بأن البشر لديهم إرادة حرة، وإن الأمر يتعلق فقط بتحديد في أي نقطة تصبح هذه السمة الفريدة فاعلة. هكذا قيل إن الحتمية الثقافية تحرر الناس من الحتمية البيولوجية، ويصبح المجتمع البشري إذن "كائنًا عضويّا خارقًا" من خلال تطوير نموذج للنظام الاجتماعي يكون حتميًا تمامًا.

3.     المقاربة الواقعية والمقاربة البنائية للبيئة

اتخذت هذه الثنائية أشكالًا وتسمياتٍ مختلفة في العلوم الاجتماعية. وتمظهرت إحدى أهم الاستعادات المتأخرة لتلك الثنائية في المقاربة البنائية والمقاربة الواقعية للطبيعة. والحال أن المقاربتين معًا تقومان على منظور الفصل بين المجتمع والطبيعة بوصفهما كيانين مستقلين عن بعضهما البعض، ويتميز كل واحد منهما بأنطولوجيا متفردة.

ينطلق النموذج البنائي من إصرار ما بعد الحداثة على أنه لا توجد حقائق أو خطابات مطلقة، ومن ثمة فإن البيئة (وعلاقاتنا بها) بناء اجتماعي خالص. فالبيئة/الطبيعة مبنية اجتماعيًّا، بمعنى أن الطبيعة ليست معطاة موضوعيًّا في استقلال عن البناء الرمزي الذي توفره الثقافة. هكذا فإن الطبيعة وفقًا لهذا المنظور ليست سوى مرآة للمجتمع أو مجالًا للإسقاط الثقافي. إنها مجرد نتاج للغة والخطاب وألعاب السلطة، مما يعني أن وصفنا للبيئة لا يشير إلى عمليات حقيقية ومادية تحدث في العالم الخارجي، بل إلى "ما يريد المجتمع أن يفعله بها"[24]، بمعنى أنها ما يبنيه البشر بهدف إضفاء معنى منطقي على أنفسهم. وفي المحصلة، إن شكل بنائه سيختلف حسب نوع المشكلة التي يواجهها أعضاء المجتمع. يقول تيستر (K. Tester): "لا تكون السمكةُ سمكةً إلا إذا صُنِّفَتْ اجتماعيًا بأنها سمكة، وهذا التصنيف لا يهتم بالأسماك إلا إذا كانت القشريات التي تعيش في البحر تساعد المجتمع على تعريف نفسه. وعلى كل حال، إن كلمة 'سمكة' نتاج لفرض فئات أنتجها المجتمع على الطبيعة ... إن الحيوانات بالفعل ورقة بيضاء يمكن أن تُكتَبَ عليها أي رسالة، والمعنى الرمزي للرغبات الاجتماعية"[25].

ومن الناحية الأخرى، تدافع الواقعية على أن هناك بالفعل إواليات وعمليات وعلاقات سببية حقيقية موجودة في "العالم الخارجي" في استقلال عن فهمنا ولغتنا وبنياتنا النظرية رغم أن الأشكال الملاحظة التي تتخذها تعتمد على الظروف الاجتماعية والطبيعية الطارئة. يرى بينتون (T. Benton) مثلًا أن هذا الموقف البنائي سخيف تمامًا. إنه يميل إلى محاكاة تعليقات ماركس (Marx) عن الشخص الذي "اعتقادًا منه أن الجاذبية نتاج للوعي البشري، شعر بأنه دليل عظيم على مقاومته للغرق. إذا فرضنا فئة الأسماك التي أنتجها المجتمع على الأفعى هل ستكون عضتها غير سامة؟ بطبيعة الحال، رغم سخف وجهات النظر مثل وجهة نظر تيستر، فقد أصبحت اليوم موضة شائعة للغاية بين المثقفين"[26].

ثانيًا: جذور النظرية الاجتماعية الخضراء

1.     الرومانسية وتمجيد الطبيعة

كانت الرومانسية ولا تزال نقيضًا للعديد من الأشياء المرتبطة بالعلم الكلاسيكي، مثل السلوكيات القائمة على المنطق والعقلانية، والنظام، والسيطرة، والفصل بين الطبيعة والمجتمع. كما أوضح وايتهيد (A.N. Whitehead)[27]، رفض الرومانسيون الطريقة التي يجرد بها العلمُ أبعادَ الطبيعة من الكلّ، وعبروا على رفضهم للنظرة العضوية إلى الطبيعة. كانت الرومانسية ثورة ضد العقلانية وفكر الأنوار، أكّد أنصارها بمقتضاها على أن العلم ليس قادرًا لوحده على تفسير جميع الظواهر التي يواجهها البشر. وعدُّوا أبعاد الحياة التي يتم إدراكها بالحدس والغريزة والعاطفة، والتي تعرضت للتشويه على يد العلماء، هي الأكثر نبلًا. وكانت المعرفة الذاتية للطبيعة والاتحاد معها، كما يُعبَّرُ عنهما بشكل خاص من خلال الفن، شكلًا معرفيًّا متفوقًا على العلم الكلاسيكي الموضوعي والإمبيريقي وثنائيته الديكارتية.

ظهرت الرومانسية بمثابة رد فعل ضد التغيرات المادية التي مست المجتمع، والتي رافقت الرأسمالية الصناعية الناشئة والمتوسعة في أواخر القرن الثامن عشر. فقد تمركز الإنتاج في المدينة، وتمحور نظام الإنتاج الصناعي حول عمليات السيطرة على قوى الطبيعة مثل المياه والرياح، وزادت نسبة استهلاكها للطاقة من خلال الاستخدام المتزايد للوقود الأحفوري. هذه العمليات، فضلًا عن دافع الربح، أدَّت حسب الرومانسيين إلى "تدهور وفساد" البيئة (رغم أنهم لم يكونوا يستخدمون مصطلح "البيئة"). وفقًا للحركة الرومانسية، أدت هجرة السكان من الريف والبحث العقلاني عن طرق إنتاج فعالة اقتصاديًّا (بما في ذلك تقسيم العمل وضبط الوقت والمكننة) إلى الاغتراب الروحي للجماهير عن الأرض والطبيعة.

غَذَّت الرومانسية المقاربات الحديثة المتمركزة حول البيئة من ناحيتين. أولًا، إنها استعداد عقلي خاص يتضمن اليوم خيالًا متحررًا، وعواطف، وانفعالات، ولاعقلانية، وذاتية[28]؛ وثانيًّا، يشكل إضفاء الرومانسية للطابع المثالي على الطبيعة والريف والمجتمعات الشعبية تقليدًا طويلًا في الفن والثقافة الشعبية، يمتد من العصور الكلاسيكية إلى اليوم. يعبر العديد من دعاة هذا المذهب عن رفضهم لهذه الثنائية: فعلى سبيل المثال، يرى روبيرت بيرسيغ (R. Pirsig) أن "الخطأ في التكنولوجيا هو أنها لا ترتبط بأي شكل من الأشكال بأمور الروح والقلب... وهي بذلك تفعل أشياء عمياء وقبيحة"[29]. ويؤكد فريتجوف كابرا (F. Capra)[30] أن الثنائية هي العقبة الكأداء التي يجب التغلب عليها من أجل تشكيل مجتمع بيئي. ويحمّل سكوليموفسكي (H. Skolimowski)[31] مبدأ فصل المعرفة العقلانية عن القيم (الرومانسية) مسؤولية الأزمات البيئية والاجتماعية.

2.     النزعة الإيكولوجية ومراعاة الطبيعة

إن كلمة إيكولوجيا مشتقة من الكلمة اليونانية (Oikos) التي تعني "الموطن أو المسكن"، وهي دراسة العلاقات بين الكائنات الحية ومحيطها. ابتكر هذه التسمية في ستينيات القرن التاسع عشر عالم البيولوجيا الألماني إرنست هيكل (E. Haekel) الذي شكّلت أعماله مصدر إلهام لآخرين لتطوير هذا العلم[32]. عرّف هيكل الإيكولوجيا بأنها دراسة الظروف العضوية وغير العضوية التي تعتمد عليها الحياة.؛ إنها بعبارة أخرى العلم الذي يدرس علاقات الكائن الحي بالبيئة التي يقصد بها جميع "شروط الوجود". واستخدم هيكل فكرة الطبيعة بوصفها مسكنًا، مشيرًا إلى أن علماء البيولوجيا أهملوا علاقات الكائن الحي بالبيئة، المكان الذي يشغله كل كائن في موطن الطبيعة، في اقتصاد الطبيعة كلها[33].

على إثر ترجمة أعمال هيكل إلى اللغة الإنجليزية، نشأت في الحقل الأكاديمي الغربي عدة مقاربات إيكولوجية. طورت عالمة الكيمياء إلين سوالو (E. Sxallow) "الإيكولوجيا البشرية" وطبقتها على المسكن البشري ومحيطه. بالنسبة لسوالو، إن "الإيكولوجيا البشرية هي دراسة محيط البشر من حيث تأثيراته في حياة البشر"[34]. وإن مصدر خصائص البيئة هو المناخ الذي له سمة طبيعية، والنشاط البشري الذي له سمة مصطنعة ومتراكب مع البيئة. وطور فريديريك كليمنتس (F. Clements) في العقد الأول من القرن العشرين "الإيكولوجيا العضوية". وانبثقت "المقاربة الاقتصادية" من علم الديناميكا الحرارية في القرن التاسع عشر كما صاغه عالما الإيكولوجيا البريطانيان تشارلز إلتون (C. Elton) وآرثر تانسلي (A. Tansley) والعديد من الإيكولوجيين الأمريكيين من أربعينات إلى ستينات القرن العشرين. وانبجست "المقاربة الفوضوية" من دراسات الإيكولوجيا السكانية المتأثرة بنظرية الفوضى في الرياضيات من سبعينات إلى تسعينات القرن الماضي، وهي المقاربة التي أشاعها علماء أمثال روبرت ماي (R. May) ستيوارد بيكيت (S. Pickett)، وبيتر وايت (P. White). تختلف هذه المقاربات من حيث المسلمات المتعلقة بالطبيعة نفسها وإدارتها والعلاقة الأخلاقية التي ينبغي أن يقيمها الإنسان معها. ففي الإيكولوجيا البشرية، يشكّل الناس جزءًا من الطبيعة ويعملون فيها. بينما تقدم المقاربة العضوية البشر ككائنات منفصلة عن الطبيعة يجب أن يتخذوا من الطبيعة مرشدًا ينبغي اتباعه. أما المقاربة الاقتصادية، فإنها تنظر إلى البشر على أنهم من يسيّر الطبيعة ويتحكم فيها، بينما تؤكد المقاربة الفوضوية على أن البشر بحاجة إلى التخلي عن الغطرسة التي تتضمنها محاولاتهم السيطرة على العالم الطبيعي، وقبول النظام الفوضوي للطبيعة، والعمل ضمن حدود الطبيعة[35].

3.     البيئوية والدفاع عن الثقافات الأصلانية

تضاعف اهتمام المجتمع الدولي بالموارد الطبيعية بعد الحرب العالمية الثانية، وكان الدافع إلى ذلك هو سباق مختلف البلدان لإظهار قدرتها على الاستغلال الهائل للطبيعة. لكن هذا التدهور البيئي في جميع البلدان، بغض النظر عما إذا كانت اشتراكية أو رأسمالية، تضاعف في السنوات التي تلت عام 1960، دون مراعاة لحقوق الأجيال القادمة. وبما أن الناس كانوا أكثر قلقًا بشأن كوكبهم الحي وأدركوا التهديد المحتمل للبشرية إذا استمر الوضع دون تغيير، اندلعت الاحتجاجات مرة أخرى من أجل حماية البيئة[36]. وفي النصف الثاني من القرن العشرين، نشأت حركة جديدة أصبحت تحمل اسم "البيئوية". إذ تحولت حركة الحفاظ على الموارد الداعية إلى الاستخدام الفعال للموارد الطبيعية إلى حركة بيئية معنية بنوعية الحياة والحفاظ على الأنواع والنمو السكاني وتأثيرات البشر في العالم الطبيعي والحفاظ على المناطق البرية المتبقية.

مر خطاب التنمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بمراحل مختلفة، بدءًا من التركيز على النمو الاقتصادي، والنمو مع الإنصاف، والحاجات الأساسية، والتنمية التشاركية، وانتهاء بالتركيز على التنمية المستدامة[37]. لكن عبارة جديدة بدأت منذ منتصف تسعينات القرن العشرين تهيمن على بلاغة التنمية، وهي "المعرفة الأصلانية". ففي الوقت الذي بدا أن نماذج التنمية الغربية فشلت في ربح المعركة القديمة ضد الجوع والفقر والتخلف، انبرت أصوات علمية جديدة[38] إلى الدفاع عن المعرفة والتكنولوجيا المحلية، التي أصبحت تحمل نعت "الأصلانية"، بوصفها أفضل استراتيجية محورية بشكل خاص في المناقشات حول الاستخدام المستديم للموارد نظرًا لأن المعرفة الأصلانية سمحت لأصحابها بالعيش في "انسجام" مع الطبيعة.

ترى البيئوية أن الثقافات الأصلانية مؤهلة لتعليم الثقافات الحديثة أن العلاقة الملائمة مع الطبيعة لصيانتها من الدمار تقوم على عدم تسليعها أو امتلاكها أو التخلص منها كممتلكات، وكذلك على الاحتفاظ بها كأمانة نيابة عن الأجيال القادمة. فالمعرفة الأصلانية مورد طبيعي مهم يمكن أن يسهل عملية التنمية بطرق فعالة من حيث التكلفة والتشارك والاستدامة. إن المعرفة الأصلانية "معرفة محلية، بمعنى أنها معرفة تنفرد بها ثقافة معينة أو مجتمع معين. تتعارض المعرفة الأصلانية مع النظام المعرفي العالمي الذي أنشأته الجامعات ومؤسسات البحث والشركات الخاصة. إنها تمثل الأساس لاتخاذ القرار على المستوى المحلي في الزراعة، والرعاية الصحية، وإعداد الطعام، والتعليم، وإدارة الموارد الطبيعية، ومجموعة من الأنشطة الأخرى في الجماعات الأهلية الريفية. تنتقل هذه المعرفة في العديد من المجتمعات من جيل إلى جيل عن طريق الكلام الشفهي. ليس للمعارف الأصلانية قيمة بالنسبة إلى الثقافة التي تتطور فيها فحسب، ولكن أيضًا بالنسبة للعلماء والمخططين الذين يسعون جاهدين لتحسين الظروف في المناطق الريفية"[39].

أصبحت خطابات الزعماء الأصلانيين محطّ إنصاتٍ من قبل عدد مهم من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والسياسيين والمنظمات البيئية الوطنية والدولية. إذ وجه هؤلاء القادة المحليون، أمثال بلاك إلك (Black Elk) وشيف سياتل (Chief Seattle)، توبيخًا إلى الغرب على تجاهله المتواصل للطبيعة وأبرزوا علاقة الوحدة التي كانت تربط ذات يوم بين الأصلانيين وطبيعتهم. كانت هذه التحذيرات في الوقت نفسه دعوة إلى تجديد المضمون الروحي لعلاقاتنا مع العالم الطبيعي، التي طبقتها حرفيًا جماعات دينية مختلفة في العصر الجديد وممارسات روحية أخرى مثل النسوية البيئية[40].

ثالثًا: المبادئ الأساسية للنظرية الاجتماعية الخضراء

وفرت التهديدات البيئية والحركات الفكرية والسياسية والأخلاقية المذكورة أعلاه سياقات جديدة يمكن من خلالها إعادة النظر في النظرية الاجتماعية السائدة، وقدّمت مجالًا غير مسبوق لاستكشاف ظواهر اجتماعية جديدة. وبالفعل، فرضت هذه المخاطر الطبيعية مراجعات نظرية وإبستيمولوجية جريئة على الدراسات الاجتماعية للصحة والتعليم والأسرة، والنوع الاجتماعي والسكن والعمل. إذ دفعت العلوم الاجتماعية إلى إعادة النظر في نماذجها التفسيرية التقليدية لعلاقة الإنسان بمجاله البيئي، وأقنعت ممارسي العلم الاجتماعي بأهمية السياقات والشروط والقيود البيئية الطبيعية المفروضة على النشاط البشري، وبالمكانة المركزية للطبيعة البشرية الداخلية، وأهمية اعتبار البشر كائنات طبيعية ذات أنماط محددة من النمو، مثل الكائنات الطبيعية الأخرى. شكّل مطلب ردم الفجوة بين الطبيعي والاجتماعي، ومن ثم التجسير بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، والاعتراف بالتجذر البيولوجي للبشر، والمطلب الحقوقي المدافع عن حقوق الأجيال القادمة في أرض صالحة للعيش، وعن حقوق الأرض والحيوان، أهم التنبيهات التي أثارتها النظرية العلمية والسياسية الإيكولوجية.

1.     تجاوز التعارض بين الطبيعة والمجتمع

أدّى انفتاح حقل العلوم الاجتماعية على دراسة القضايا البيئية إلى زعزعة العديد من أسسها الإبستيمولوجية والأنطولوجية التقليدية[41]. وأسهم هذا الانفتاح في تخضير[42] النظرية الاجتماعية من خلال تجاوز ثنائية المجتمع والطبيعة التي شكّلت عائقًا أمام تطوير مقاربة اجتماعية ناجعة للوضع البيئي المتدهور. إن النظرية الاجتماعية الخضراء مقاربة شاملة ترفض التفكير في علاقة إنسان/بيئة انطلاقًا من الفصل الصارم بين الطبيعة والمجتمع ومنح أسبقية كشفية لأحدهما على حساب الآخر. بل إنها تنطلق من فكرة مفادها أن الخصائص الفيزيائية والحياة الاجتماعية نتاج لما يسميه فرودينبورغ (Freudenburg) وزميلاه "التكوين المشترك" الذي بمقتضاه تعمل إحداهما على بناء الأخرى[43]. إن الملاحظة الفارقة التي يقدمها هؤلاء المفكرون هي أنه "قد يكون من الضروري... الاعتراف أو الإيمان بإمكانية وجود علاقات عرضية متبادلة أو تكوين مشترك بين المادي والاجتماعي، قبل أن يكون من الممكن رؤية كيفيات ارتباطهما ببعضهما البعض. وبدون إحراز تقدم في تحقيق مثل هذه الأفكار... سنخاطر بتشويه رؤيتنا بواسطة تعريفاتنا البديهية المتفق عليها اجتماعيًّا، وبالتالي سنخاطر بتعريض أنفسنا؛ لأن نكون سجناء منظوراتنا الخاصة"[44]. على نفس المنوال، تعتقد النظرية الاجتماعية الخضراء أن "ما اعتُبر عادةً 'وقائع مادية' من المحتمل أن يكون في كثير من الحالات قد تشكل بقوة من خلال عمليات البناء الاجتماعي، وفي ذات الوقت، إن ما يبدو ظواهر 'اجتماعية خالصة' من المحتمل أن تكون قد تشكلت... من خلال واقع أن السلوكيات الاجتماعية غالبًا ما تستجيب لمثيرات وإكراهات العالم البيو-فيزيائي"[45].

تتساوق فكرة البناء المتبادل بين الطبيعة والمجتمع مع فكرة "التطور المشترك" التي اقترحها ريشارد نورغارد (R. Noorgard) ، والتي تعني عملية تغيير مقترن بين الممارسات والقيم والبيئة البيوفيزيائية[46]. فالناس يغيرون بيئتهم ماديًّا ومعرفيًّا، أي من خلال أفعالهم الاجتماعية ومعارفهم وتمثلاتهم، وبالمقابل تعمل البيئة الجديدة التي ينتجونها على تغيير ممارساتهم وأفكارهم. وفقًا لنورغارد، يتطور النظام البيئي والنظام الاجتماعي بشكل مشترك؛ نظرًا لأنهما يمارسان قوة سببية متبادلة على تطورهما، أي على حالاتهما اللاحقة. ويشمل هذا التطور المشترك العلاقات القائمة بين النظامين والتي تؤثر على تطورهما، وكذا المعلومات المتدفقة بين النظامين على شكل تغذية راجعة[47]. فمن الواضح أن الطبيعة والثقافة تلتقيان عند العديد من المستويات التي تغطي أنظمة المعتقدات والتنظيمات الاجتماعية والمؤسسية والمعايير والمعرفة والسلوكيات واللغات، مما يُحدث دائمًا تغذيات راجعة متبادلة بين النظم الثقافية والبيئة، حيث إن حدوث تغييرات في إحداهما يؤدي إلى تغييرات في الأخرى[48].

2.     التجذر الطبيعي للبشر

أبرز الباحثون البيئيون المعاصرون أن تطوير نظرية اجتماعية إيكولوجية مشروط بمراعاة الأبعاد البيولوجية للإنسان والتخلص من الفكرة الأنوارية التي تضع الانسان فوق الطبيعة. فقد أعادت الإيكولوجيا الإنسان إلى الأرض، وحاججت بأنه ليس مثل الحيوانات، وإنما هو حيوان أيضًا، مطمورٌ في الطبيعة، ويقيم مع الأنواع الأخرى علاقات تبادل معقدة. فالبشر نوع من الكائنات الطبيعية، لهم مثل الأنواع الأخرى خصائصهم وحاجاتهم وأنماط تطورهم الخاصة.

يذهب هايوارد (T. Hayward) مثلًا إلى "إن الفكرة الإيكولوجية الأكثر تميزًا هي فكرة العلاقات الطبيعية. وهذه الأخيرة أنواع عديدة: هناك علاقات طبيعية للقرابة البيولوجية بين البشر، تتأثر بها العلاقات الأسرية والاجتماعية؛ ويتم التوسط بشكل طبيعي في العلاقات بين البشر غير الأقارب أيضًا، مثلًا بمعنى أن الأنشطة الإنجابية والإنتاجية تحدث في وسط طبيعي؛ عادة ما تتضمن هذه الأنشطة تغيير البيئة الطبيعية بطريقة ما، ويقيم جميع البشر، أفرادًا وجماعاتٍ، علاقات مع بيئتهم".[49] إن الاعتراف بالمشاكل المتعلقة بالفصل بين "المجتمع" و"البيئة" والتمييزات الأخرى ذات الصلة بين "العقل" و"الجسد" و"البشري" و"غير البشري" يقتضي دمج علوم الحياة القائمة على أساس بيولوجي والعلوم الاجتماعية. وفقا لتيد بينتون، "يمكن الآن اعتبار أن مهمة إعادة تجميع العلوم الاجتماعية البشرية وعلوم الحياة توفر مساحة مفاهيمية تحظى فيها الجوانب والأبعاد العضوية والجسدية والبيئية للحياة الاجتماعية البشرية بمكانها المناسب''.[50]

إن من شأن دمج الرؤى البيولوجية والإيكولوجية في النظرية الاجتماعية أن ينتج شكلًا من النظرية الاجتماعية التي تعترف بالتجسد البيولوجي البشري والانطمار الإيكولوجي. تركز النظرية الاجتماعية الخضراء على الاعتراف الصريح بجسم الإنسان وحاجاته العضوية، وتعترف بحدود البشر وتبعيتهم لمجالهم الطبيعي. تستخدم هذه النظرية الاجتماعية الإيكولوجية الهشاشة الجسدية للبشر سياقًا أساسيًّا يمكن من خلاله تقييم الإنجازات والعمليات العقلية والمفاهيمية وغير الجسدية للبشر. فبدلاً من النظر إلى البشر بالأساس على أنهم مراكز عقل وتفكير وفعل مجردة وغير مجسدة، يتطلب تخضير النظرية الاجتماعية إعادة تجسيد الذات البشرية ككيان بيولوجي، لها دوافع وحاجات وغرائز ومشاعر غير طوعية.

فيما يتعلق بالانطمار الإيكولوجي، يستلزم تخضير النظرية الاجتماعية قبول الحدود البيئية للنشاط البشري الجماعي. على حد تعبير لي (K. Lee)، بالنظر إلى الوقائع البيئية للعالم وعلاقة التبعية التي نقيمها معها، "يجب على أي نظرية اجتماعية/أخلاقية مناسبة أن تتعامل مع هذه الخصائص [للعالم] وطبيعة التبادل [بين البشر والطبيعة]. بدون ذلك لن يكون لأي حل تقدمه النظرية الاجتماعية أي وجاهة أو أهمية لانشغالاتنا ومشاكلنا".[51]

3.     التنمية المستديمة والالتزام الأخلاقي بحقوق الأجيال القادمة

لكي تكون النظرية الاجتماعية نظريةً خضراء ينبغي أن تستند إلى مجموعة من المعايير الأخلاقية البيئية والبشرية. إذا كان لصيغ أولى من الأنثروبولوجيا الإيكولوجية الفضل في إثارة الانتباه إلى أن السكان الأصليين أداروا بنجاح مواردهم الطبيعية وحافظوا على نظمهم البيئية، فإن النقاد عابوا عليها كونها أقامت تصوراتها على معيار النسبية الثقافية وظلت بذلك محايدة قيميًّا. هذا الحياد هو ما دفع أنثروبولوجيين آخرين إلى تطوير مقاربة مختلفة تمزج بين النظرية والتحليل والوعي السياسي والاهتمامات السياسية، مما أدى إلى ظهور تخصصات خضراء فرعية جديدة، مثل الأنثروبولوجيا البيئية التطبيقية والإيكولوجيا السياسية.[52] هذه المقاربة الجديدة لعلاقة المجتمع بالطبيعة رفضت فكرة الحياد القيمي للعلماء واكتفائهم بالتحليل العلمي لاستخدامات البشر للموارد الطبيعية، بينما تتعرض المجتمعات المحلية والنظم البيئية لخطر متزايد من قبل البشر الذين يقطعون الأشجار لأغراض تجارية، ويلوثون البيئة، ويسببون النشاط الإشعاعي، ويعمقون التفاوتات البيئية والطبقية، ويطبقون أساليب تدبير غير حساسة ثقافيًا على النظم البيئية المحلية التي أدارها السكان الأصليون بشكل مناسب لعدة قرون.

شكلت "الاستدامة" اهتماما أساسيا في النظرية الاجتماعية الإيكولوجية، وهي ما يمثل جزءًا مهمّا من التزامها القيمي. لن ننسى أن انتقال الخطاب الإيكولوجي من الاستدامة إلى التنمية المستديمة كان من بين دوافعه السماح للبشر اليوم باستخدام الموارد البشرية من أجل تحقيق رفاهيتهم دون نسيان حق بشر المستقبل. يقول ميكائيل جاكوبس (M. Jacobs): "إن مفهوم 'الاستدامة' مفهوم بسيط بالأساس. إنه يعتمد على الاعتراف... بأن البيئة الطبيعية تؤدي وظيفة مخزون رأس المال للاقتصاد البشري... والحال أن النشاط الاقتصادي يقلص هذا المخزون ​​في الوقت الحاضر... لكن هذا النشاط يُقلّل من قدرة البيئة على توفير هذه الموارد والخدمات على الإطلاق. وبالتالي فإن الاستدامة هي هدف 'العيش ضمن إمكانياتنا البيئية'. وبعبارة أخرى، ينبغي ألا نجعل الأجيال القادمة تتحمل تكاليف الأنشطة الحالية".[53]

إن الالتزام الأخلاقي بحق سكان الحاضر والمستقبل في إشباع حاجاتهم باستخدام الطبيعة ومواردها يشكل مُكوِّنًا جوهريّا في النظرية الاجتماعية الخضراء. فهي محمَّلة بالقيم؛ لأنها تراهن على أن يسهم العلم في إرشاد "سياسة الأرض". إذا كان فقهاء القانون ورجال السياسة هم من يكتبون الدساتير السياسية، وإذا كان العلماء هم من يكتبون دستور الطبيعة، "من سيكتب الدستور الكامل الذي ينطبق على البشر وغير البشر وممتلكاتهم، وعلاقاتهم وقدراتهم وتجمعاتهم؟"، يتساءل برينو لاتور (B. Latour)[54]. لكتابة هذا "الدستور الكامل"، يعوّل العلماء الخضر على ملئ الفجوة بين العلم والأخلاق، بين البحث عن الحقيقة والسعي وراء الخير. وفقًا لهؤلاء العلماء، إن بناء نظام بيئي عالمي بديل للنظام الذي يمر اليوم بأزمة خطيرة مشروط بالتعامل في الآن ذاته وبشكل لا ينفصم مع قضايا الحقيقة والخير.

4.     تجاوز حاجز الأنواع

تؤكد النظرية الاجتماعية الخضراء على أنها قائمة على الإنسان، ولكنها ليست متمركزة حول الإنسان. لذلك فإن تجاوز "حاجز الأنواع" شرط أساسي لتلك النظرية التي أصبحت، على النقيض من المقاربات الاجتماعية التقليدية، مقتنعةً بأنه إذا كانت غاية النظرية الاجتماعية هي تحليل المجتمع البشري، فإن ذلك لا يعني بالضرورة الاهتمام بالشؤون، والمصالح والأحداث البشرية وحدها. على سبيل المثال، بالنظر إلى التاريخ التطوري المشترك للإنسان والحيوان، فضلًا عن مختلف العلاقات التي تقيمها المجتمعات البشرية مع الحيوانات، يمكن للنظرية الاجتماعية إعادة توجيه أهدافها وأغراض دراساتها لتشمل غير البشر كأعضاء في "المجتمع". وفقًا لبرايان باكستر (B. Baxter)، "من غير المقبول فكريا الآن تطوير نظريات سياسية يكون التركيز فيها فقط على رفاهية الإنسان وقيمه، وتجاهل القضايا التي دفعها الخضر إلى الواجهة والمتعلقة برفاهية الأنواع الأخرى، والمحيط البيولوجي بشكل عام"[55]. يدعي باكستر ذلك على أساس أن هناك حججًا أخلاقية مقنِعة (من داخل النظرية الإيكولوجية) تقول إنه من غير المستساغ ألا نوسع الاعتبارات الأخلاقية بما يتجاوز البشر ليشمل (على الأقل أجزاء من) البيئة غير البشرية (الحيوانات والنباتات، الأنظمة البيئية). هناك أسباب أخرى تدعو إلى جعل العالم غير البشري جزءًا من جدول أعمال النظرية الاجتماعية على أسس أكثر واقعية، وهي أن العلاقات الاجتماعية-البيئية من مكونات المجتمعات البشرية، أي إننا لا نستطيع استيعاب أو فهم أي مجتمع بشري بشكل كامل دون أن نفهم المعاني التي ينظر من خلالها المجتمع إلى بيئته الطبيعية ويقيّمها ويعاملها ويستخدمها[56].

تقترح كاي ميلتون (K. Milton) أن النظرية الاجتماعية، على الأقل ذلك الجزء منها الذي يفكر في الثقافة، لا يمكن أن تظل مهتمة بالثقافة البشرية وحدها: "بينما نعرف المزيد عن الحيوانات البشرية وغير البشرية، يصبح من الصعب بشكل متزايد الحفاظ على وجهة النظر القائلة إن الثقافة خاصة حصرًا بالبشر"[57]. انضم إليها في هذا الجهد بعض الفلاسفة الأخلاقيين المعاصرين، أمثال بيتر سينجر[58]، الذين يؤمنون بأن الأخلاق، بمعنى التصرف وفقًا للمبادئ الأخلاقية، مثل "الثقافة ''، ليست شيئًا خاصًا حصرًا بالبشر.

يرتبط هذا الادعاء بمسألة "الفاعلية" (agency) التي اعتاد الفكر المنحدر من الحداثة على إسنادها بشكل حصري إلى البشر، وبرر بها منح الامتياز للبشر في سلم ترتيب الأنواع على أساس أنهم المتغير المستقل بينما تمثل الكائنات الطبيعية البشرية المتغير التابع[59]. بحكم تنشئتنا في سياق فكر الحداثة، فإننا نتصور الفاعلية من منظور متمركز حول البشر، أي أنها لا تنتمي إلى النظام الطبيعي. لكن يمكن أن يتسع مفهوما القصدية والفاعلية ليشملا أي تقاطع للوسائل لتحقيق غاية معينة، ومن ثم إعادة الاعتبار إلى فكرة "الهدف النهائي" الأرسطية؛ إذ يمكن أن يشمل المعنى الموسع للفاعلية والقصدية تكيفات الكائنات الحية مع بيئاتها. هكذا، فإن الدماغ فاعل عقلي، حتى عندما يُنظر إليه على أنه نظام فيزيائي. فرغم أن الروابط الداخلية بداخله تؤدي دورًا سببيًّا، يمكن أيضًا وصفها بأنها قصدية. ذلك أنها تتجه نحو غايات وغالبًا ما تتضمن نوعًا من "التوجيه" المرتبط عادةً بالقصد. إذا كان من الممكن النظر إلى الدماغ من منظور سببي وقصدي، فلماذا لا يمكن النظر بنفس الطريقة إلى أنظمة فيزيائية معقدة أخرى؟ لقد تم للأسف إهمال مفهوم الفاعلية في الطبيعة ببساطة من خلال التحيز الذي نشأ في العلوم الفيزيائية. بيد أن مفهوم التنظيم الذاتي مثلًا، الذي تُفسَّرُ به الظواهر الطبيعية، يتضمن فكرة قريبة من الوسائل الموجهة نحو غايات، وينطبق على العالم غير الحي أيضًا. والنتيجة العادية هي أن العالم الطبيعي يمكن أن يكون صاحب حقوق قانونية في عالم البشر دون أن يُعتبَرَ فاعلًا بشريًّا.

سبق لأفلاطون (Plato) أن أشار في محاورة فايدوس إلى أن "الناس كانوا في القديم... يقدرون أنهم يكفيهم سماع الحقيقة حتى من خشب البلوط أو الصخر"[60]. هذا الشعور المرهف بحكمة الطبيعة انبعث مع الحركات الإيكولوجية وعبر عنه كثير من المؤرخين البيئيين، أمثال وارين دين (W. Dean) الذي عامل الغابات الأطلسية البرازيلية وكأنها "ذات طبيعية"[61]، وتولى دونالد وورستر (D. Worster) المهمة الصعبة المتمثلة في "أن يفكر مثل نهر"[62]. هذه الحساسية البيئوية التي أسهمت في إحيائها الثقافات الأصلانية حفّزت العلماء على إعادة النظر في التوزيع غير المتكافئ للقصدية والفاعلية. تنظر معظم الشعوب الأصلانية، إن لم يكن كلها، إلى الطبيعة على أنها جوهر إلهي، بل جوهر الحياة نفسها. يقول جيمس كوان (J.G. Cowan) الذي درس ثقافات السكان الأصليين الأستراليين: "لقد درسوا الطبيعة، واستخلصوا استنتاجاتهم منها، ووجدوا أنها تجسيد لمبدأ ميتافيزيقي عميق يتعلق بكل الوجود. ذلك أنهم رأوا في الطبيعة أكثر بكثير من كونها تزود الناس بجمالها المرئي والأخوة والأغراض العملية. لقد رأوا فيها رمزًا لواقع عميق يجب فهمه على أنه مقدس إذا أرادوا بلوغ الحكمة الحقيقية"[63]. على سبيل المثال، يعتقد شعب نافاهو (Navaho) أنه من الحكمة محاولة التأثير على الطبيعة بالطقوس والغناء، ولكن من الغباء الاعتقاد أن الإنسان يمكنه السيطرة عليها. وفقًا لعالم الأنثروبولوجيا كلايد كلوكهون (C. Cluckhohn)، بخلاف البشر البيض الذين يعتقدون أن "الطبيعة ستدمرهم ما لم يمنعوها، يعتقد شعب نافاهو أن الطبيعة ستعتني بهم إذا تصرفوا كما ينبغي وفعلوا ما تأمرهم به"[64]. وكما يقول جيوتي براكاش ساهي (J. Sahi): "هذه إذن هي أرواح الأشجار، التي ترتبط فحولتها بقدرتها على التدمير. فالشجرة، مثلها مثل أي رمز مهم آخر، هي لقاء بين الأضداد. إنها من ناحية المكان الذي فيه تسكن الأرواحُ الجائعةُ الموتى، مطالبةً بقربان الحياة، ولكنها من ناحية أخرى جوهر الحياة نفسها. إن المعنى المركزي للشجرة هو الانبعاث. وهذا الانبعاث يتطلب أيضًا الموت"[65]. يمكن أن نستحضر في هذا الصدد "الإنسان الأخضر" (The Green Man) الذي أبدعته الحساسية البيئية لأسلافنا منذ آلاف السنين في شكل وجه أسطوري تنبت فيه أوراق الشجر من العينين والفم والأنف، ويتكون شعره ولحيته أيضًا من الأوراق والأغصان، والذي يزين أبواب الكنائس والبنايات العلمانية على حدّ سواء[66]. يمثل هذا الوجه خلق كل الحياة النباتية وتجديدها المستمر، ويرتبط أيضًا بالقدرة على صنع المطر وإنشاء مروج خضراء، وهذا ما عبر عنه ويليام أندرسون (W. Anderson) بقوله: "يشير الرجل الأخضر إلى الحياة التي تتعذر السيطرة عليها (...) إنه صورة من أعماق عصور ما قبل التاريخ؛ إنه يظهر ويبدو أنه يموت، ثم يعود مرة أخرى بعد نسيان طويل في فترات عديدة في الألفي عام الماضية (...) إنه في كل مظاهره رمز للتجديد والبعث"[67].

استنادًا إلى هذه الحساسية البيئوية، سعى عديد من علماء الاجتماع أمثال برونو لاتور وميشيل كالون (M. Callon)، وعلماء الأنثروبولوجيا أمثال فيليب ديكولا (P. descola) وتيم إنغولد (T. Ingold) إلى منح الكيانات غير البشرية شكلاً من الفاعلية التي يجب على الباحثين السعي إلى تفسيرها. عندما طُبِّقَت هذه الكفاءة على الكيفية التي يرتبط بها البشر بالحيوانات، أدت إعادة توزيع القدرة على الفعل بين البشر وغير البشر إلى الانتقال من المقاربة الرمزية إلى ما يمكن تسميته المقاربة "القائمة على الفاعلية". تنظر المقاربة الأولى إلى الحيوانات أساسًا على أنها "دعائم" مادية ورمزية للمجتمعات البشرية توضح كيف تشتغل هذه الأخيرة، أو حوامل للسلطة الاجتماعية والسياسية. بينما لا تنظر المقاربة الثانية إلى الحيوانات بوصفها مجرد أشياء شكلتها المجتمعات البشرية، ومن ثم فإن الهدف هو فهم الدور الفعال الذي تلعبه في الديناميكيات الاجتماعية.

رابعًا: النظرية الاجتماعية الخضراء: مقاربة متعددة التخصصات

تحمل النظرية الاجتماعية الخضراء وعودًا معرفية وسياسية: على المستوى السياسي، إعادة تأسيس التفكير في المجتمع على قاعدة أخلاقية بيئية، وهو موضوع عالجناه آنفا؛ وعلى المستوى المعرفي، اقتراح سبل لبناء جسور بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية، وهي الخاصية التي سنناقشها الآن. ليست النظرية الاجتماعية الخضراء دعوة إلى صهر العلم الطبيعي والعلم الاجتماعي في علم موحد ومتجانس وفريد، وإنما هي دعوة إلى إضعاف الحدود التي فصلت العلمين منذ عقود طويلة بتجاوز الثنائية التي تضع الإنسان/الثقافة في تعارض مع الطبيعة/البيئة. صحيح أن التناظر الأنطولوجي، أي التشاكل بين الطبيعي والاجتماعي، غير وارد اليوم في جدول النظرية الاجتماعية الإيكولوجية، لكن تناظرًا منهجيًّا بين العلمين ليس ممكنًا فحسب، وإنما حصل على مشروعيته من خلال دراسات علماء كثر وحقول علمية إيكولوجية فرعية، مثل: الإيكولوجيا البشرية، والأنثروبولوجيا البيئية، وعلم اجتماع البيئة، والبيئوية، والاقتصاد الإيكولوجي، والاقتصاد السياسي الإيكولوجي، والتنمية المستديمة، وغيرها.

في ظل التحولات البيئية المعاصرة المثيرة للقلق، لم يعد الواقع الاجتماعي قابلًا للتفسير بالاجتماعي وحده؛ نظرًا إلى أن العلاقات بين الاجتماعي والبيئي والسياقات الطبيعية للحياة الاجتماعية البشرية معقدة للغاية وتنطوي على قضايا واقعية بالإضافة إلى قضايا معيارية، لذلك لم يعد أي تخصص معرفي يأمل في احتكار تفسيرها. لهذا السبب يتطلب تخضير النظرية الاجتماعية تعزيز التعاون بين العلوم والتخصصات الفرعية في إطار مقاربات ومنهجيات متعددة التخصصات أو بين التخصصات أو عابرة للتخصصات، علمًا أن هدف المقاربات والمنهجيات البينية ليس تحليل التفاعل بين الاجتماعي والبيئي فحسب، وإنما تقديم تفسيرات أفضل وأعمق لما يسمى اليوم "الأنساق الاجتماعية-البيئية". تقوم النظرية الاجتماعية الخضراء على فكرة أن "ترسيم الحدود بين الأنظمة الاجتماعية والأنظمة الطبيعية مصطنع وتعسفي"[68]، وأن المجتمع البشري والطبيعة متشابكان. لم تعد الطبيعة مجرد مجال تحدث فيها التفاعلات الاجتماعية؛ وبالمثل، ليس الناس مجرد محرك خارجي لديناميكيات النظام البيئي[69]. فالنظام الاجتماعي والنظام البيئي مندمجان ويقيمان بينهما روابط قوية وتفاعلات بين المكونات الاجتماعية والبيئية التي تحدد دينامياتهما الإجمالية.

هذه الانشغالات البيئية الحالية دفعت كثيرين إلى المطالبة بتحدي الحدود الصارمة بين التخصصات، ليس بين العلوم الاجتماعية وحسب، ولكن أيضًا بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية. يقول بيتر ديكنز (P. Dickens): "أود أن أزعم أن بارايغما جديدًا يفرض نفسه اليوم بسبب القضايا البيئية والمسائل ذات الصلة مثل صحة الإنسان ورعاية الحيوان وتطبيق تقنيات الإنجاب الجديدة على الأنواع البشرية. يرفض هذا النموذج الفصل بين علوم الحياة والعلوم الفيزيائية والعلوم الاجتماعية. إنه بالأحرى مزيج من هذه الطرق البديلة للنظر إلى العالمين الاجتماعي والطبيعي، ضمن إطار معرفي متماسك"[70]. هذا الإطار المعرفي المندمج ظل لما يقارب قرنين من الزمن مهملا ولم ينتبه المعاصرون إلا مؤخرًا إلى أن أعمالًا تأسيسية للعلم الاجتماعي كانت تتضمنه وإن لم يكن بالوضوح المناسب. إذ يمكن العثور على فكرة الإطار المعرفي المندمج للبشر والطبيعة في فكر ماركس: "إن فكرة وجود أساس للحياة وآخر للعلم كذبة منذ البداية. إن الطبيعة في صنع التاريخ البشري- شهادة ميلاد المجتمع البشري- هي الطبيعة الواقعية للإنسان، وبالتالي فإن الطبيعة كما تصنعها الصناعة، وإن كانت في شكل اغتراب، هي الطبيعة الأنثروبولوجية الواقعية (...) لن يكون العلم علمًا واقعيًّا إن لم ينطلق من النظر إلى هذه الأخيرة في شكلها المزدوج، أي بوصفها الوعي الحساس والحاجة الملموسة- أي إن لم ينطلق من الطبيعة... فمع مرور الوقت، ستستوعب العلوم الطبيعية علم الإنسان تمامًا كما سيستوعب علم الإنسان العلوم الطبيعية: سيكون هناك علم واحد"[71].

خاتمة

قطعت النظرية الاجتماعية الخضراء ردحًا طويلًا من الزمن قبل أن ترسخ نفسها مقاربةً معترفًا بها في الحقل المعرفي برمته. ورغم أن باحثين ومنظرين في العلوم الاجتماعية ما يزالون يدافعون عن أهمية الحدود الفاصلة بين العلم الاجتماعي والعلم الطبيعي، فإن النظرية الاجتماعية أثبتت نفسها بوصفها "إطارًا بحثيّا شاملًا" أو "مجموعة من المبادئ النظرية" التي تساعد على فهم العلاقات المتبادلة بين العوامل البيئية والعوامل البشرية، وتأثيراتها المتنوعة في التدهور البيئي، والتنمية الاقتصادية، والروابط الاجتماعية، والهجرة الداخلية والخارجية، والعلاقات الدولية، والتعليم، والصحة والمرض، الخ. ومن شأن تركيز النظرية الإيكولوجية على فهم العلاقات المتبادلة بين الاجتماعي والبيئي أن يوفر أداة لبلوغ فهم أنسب لتلك الظواهر الاجتماعية بدمج مستوييْ التحليل الاجتماعي/الثقافي والطبيعي/البيئي، مما يتيح للنظرية الاجتماعية الخضراء الاهتمام في الآن ذاته بالسياقات الاجتماعية والمؤسسية والثقافية للعلاقات بين البشر والبيئة، وبالعمليات البيولوجية والبيئة الجغرافية التي تحدث فيها.

لا يمكن زعم أن الثنائية طبيعة/مجتمع، الموروثة عن فكر الحداثة، قد تم التغلب عليها بالنظر إلى تجذرها في العادات الفكرية لعديد من علماء الاجتماع والطبيعة. لكن "الأصوات الخضراء" التي بدأ صداها يتردد في العلوم الاجتماعية منذ سبعينيات القرن الماضي، مع تطور علم اجتماع وأنثروبولوجيا وعلم اقتصاد وعلم سياسة البيئة، وسّعت أفق النظر العلمي إلى التشابك الذي لا ينفصم بين الإنسان وبيئته، بين المجتمع وعشه الطبيعي. وتمظهر هذا الأفق في انفتاح النظرية الاجتماعية الخضراء على العلوم الطبيعية الذي أقنع الباحثين بأن الاستخدام العقلاني لأنواع مختلفة من المعرفة سيؤدي إلى أنموذج ما بعد وضعاني يحتفظ بالأسس الإمبيريقية والواقعية للنظرية الاجتماعية، وتلعب فيه المعرفة العلمية الطبيعية دورًا رائدًا، ولكن ليس حصريًا، في فهم الفاعلية الطبيعية.

يجب أن نعترف بأن إيجاد أرضية ملائمة للجمع بين الموضوعية والأخلاق في البحث العلمي ما زال يثير سجالات قوية بين علماء الاجتماع وعلماء الطبيعة على حد سواء. لكن ذلك لا يمنع من الإقرار بأن النظرية الاجتماعية الخضراء لها مزية تعميق النقاش وتحويله من تحليل علاقة النظرية العلمية بالقيم من أجل الموضوعية إلى تحليلها من أجل ضمان بقاء الأرض، ومن ثمة بقاء الإنسان.

تقتضي أجندة النظرية الاجتماعية الخضراء التفكير في أجرأتها، أي تفعيلها في بحث إمبيريقي، بما يتلاءم مع طبيعتها بوصفها مقاربة متعددة التخصصات. إن طبيعتها التعددية، وحاجتها المتنامية إلى أن تكون أكثر من مجرد "الجمع" بين البحث الاجتماعي والبحث الإيكولوجي، وضرورة التركيز على الديناميات الداخلية للأنساق الاجتماعية والطبيعية، تستلزم درجة عالية من التعددية المنهجية. يجب أن تتجاوز المناهج المستخدمة في دراسة الأنساق السوسيو-بيئية مناهج العلم الاجتماعي أو مناهج العلم الطبيعي منفصلة. وكما أوضح دي فوس (De Vos) وزميلاه، يتطلب دراسة الأنساق السوسيو-بيئية تكييف المناهج بطريقة تسمح بفهمها وفهم دينامياتها المتبادلة[72]. ومن شأن ذلك أن ينتج عددًا من النماذج التفسيرية للتنفيذ العملي لأبحاث النظرية الاجتماعية الخضراء، تأخذ بعين الاعتبار الطبائع الأنطولوجية المختلفة للأنساق الاجتماعية والأنساق الطبيعية.

المراجع

References:

Abram, D. “Foreword: The Experience of Nature: Phenomenologies of the Earth,” In D.A. Vakoch and F. Castrillion, Ecopsychology, Phenomenology, and the Environment: The Experience of Nature.New York: Springer, 2014.

Agrawal, A. “Dismantling the Divide Between Indigenous and Scientific Knowledge,” Development and Change, Vol. 26, N° 3 (1995).

Anderson, W. The Green Man: The Archetype of Our Oneness with the Earth. London: Harper Collins, 1990.

Aron, R. Les étapes de la pensée sociologique. Paris: Gallimard, 1967.

Barry, J. Environment and Social Theory. London: Routledge, 1999.

Baxter, B. “Must Political Theory Now Be Green?” In I. Hampsher-Monk and J. Stanyer, Contemporary Political Studies 1996, vols. 1-3. Belfast: Political Studies Association, 1996.

Benford, R. “The Half-Life of the Environmental Justice Frame: Innovation, Diffusion, and Stagnation,” In D. Pellowand R. Brulle, Power, Justice and Pollution: A Critical Appraisal of the Environmental Justice Movement.Cambridge: MIT Press, 2005.

Benton, T. “Biology and Social Science: Why the Return of the Repressed Should be Givena (Cautious) Welcome, Sociology, Vol. 25, N° 1 (1991).

–––. Natural Relations. Ecology, Animal Rights and Social Justice. London: Verso, 1993.

Berkes, F. & Folke, C. (eds), Linking Social and Ecological Systems: Management Practices and Social Mechanisms for Building Resilience. Cambridge: Cambridge University Press, 1998.

Berkes, F. Sacred Ecology. New York: Routledge, 2008.

Bullard, R. Dumping in Dixie: Race, Class, and Environmental Quality. Boulder, CO: Westview Press, 1990.

Capra, F. The Turning Point: Science, Society, and the Rising Culture. London: Wildwood House, 1982.

Catton, W. and Dunlap, R.E. “A New Ecological Paradigm for Post-Exhuberant Sociology,” American Behavioral Scientist, Vol. 24, 1 (1980).

Cowan, J.G. The Elements of the Aborigine Tradition. Shaftsbury: Element Books Limited, 1992.

De Vos, A. Biggs, R. & Preiser, R. “Methods for Understanding Social-Ecological Systems: A Review of Place-based Studies,” Ecology and Society, Vol. 24, N° 4 (2019).

Dean, W. With Broadax and Firebrand: The Destruction of the Brazilian Atlantic Forest. Berkeley: University of California Press, 1995.

Díaz, S. et al. “The IPBES Conceptual Framework- Connecting Nature and People,” Current Opinion in Environment Sustainability, Vol. 14 (2015).

Dickens, P. Society and Nature: Towards a Green Social Theory. London: Harvester Wheatsheaf, 1992.

Dizard, J. Going Wild: Hunting, Animal Rights, and the Contested Meaning of Nature. Massachusetts: University of Massachusetts Press, 1994.

Dunlap, R.E & Catton, W. “What Environmental Sociologists Have in Common (Whether Concerned with ‘Built’ or ‘Natural’ Environments),” Vol. 53, N° 2-3, Sociological Inquiry (1983).

Dunlap, R.E. & Mertig, A.G. American Environmentalism: The U.S. Environmental Movement, 1970-1990. Washington, DC: Taylor and Francis, 1992.

Dunlap, R.E. “Paradigms, Theories, and Environmental Sociology”, In R.E. Dunlap, et al, Sociological Theory and the environment. Classicals Foundations, Contemporary Insights. Lanham: Rowan and Littlefield Publishers, 2001.

Durkheim, É. Les formes élémentaires de la vie religieuse. Paris : Presses Universitaires de France, 2003.

Freudenburg, W.R. Frickel, S & Gramling, R. “Beyond the Nature/Society Devide: Learning to Think About a Mountain,” Sociological Forum, Vol. 10, N° 3 (1995).

Geertz, C. The Interpretation of Cultures: Selected Essays. New York: Basic Books, 1973.

Goldblatt, D. Social theory and the environment. Cambridge: Polity Press, 1996.

Greenberg, J.B. & Park, T.K. “Political Ecology,” Journal of Political Ecology, Vol. 1, N° 1 (1994).

Hayward, T. “What Is Green Political Theory?” In I. Hampsher-Monk and J. Stanyer, Contemporary Political Studies 1996, vols. 1-3. Belfast: Political Studies Association, 1996.

Hobart M. (ed). An Anthropological Critique of Development: The Growth of Ignorance. London: Routledge, 1993.

Jacobs, M. The Politics of the Real World. London: Earthscan, 1996.

Kluckhohn, C. & Leighton, D. The Navaho. Garden City: Doubleday and Company Inc., 1962.

Lander, E. “Eurocentrism, Modern Knowledges, and the ‘Natural’ Order of Global Capitalism,Nepantla: Views from South, Vol. 3, N° 2 (2002).

Latour, B. Nous n’avons jamais été modernes. Essai d’anthropologie symétrique. Paris : La Découverte, 1997.

–––. We Have Never Been Modern.Cambridge: Harvard University Press, 1991.

Lee, K. Social Philosophy and Ecological Scarcity. London: Routledge, 1989.

Macnaghten, P. and Urry, J. Contested Natures.London: Sage, 1998.

Marx, K. Manuscrits de 1844. Trad. E. Bottigelli. Paris: Éditions Sociales, 1968.

Merchant, C. The Columbia Guide to American Environmental History. New York: Columbia University Press, 2002.

Milton, K. Environmentalism and Cultural Theory: Exploring the Role of Anthropology in Environmental Discourse. London: Routledge, 1996.

Murphy, R. Sociology and Nature, Social Action in Context. Oxford: Westview Press, 1997.

Nelson, M.K. & Shilling, D. Traditional Ecological Knowledge: Learning from Indigenous Practices for Environmental Sustainability. Cambridge: Cambridge University Press, 2018.

Norgaard, R.B. Development Betrayed: The End of Progress and the Ecoevolutionary Revisioning of the Future. London and New York: Routledge, 1994.

Pirsig, R. Zen and the Art of Motor Cycle Maintenance. London: Transworld Publishers, 1974.

Plato, The Dialogues of Plato. Translated by B. Jowett. Oxford: Oxford University Press, 1924.

Plumwood, V. Feminism and the Mastery of Nature. London: Routledge, 1993.

Rose D.B. et al., “Thinking Through the Environment, Unsettling the Humanities,” Environmental Humanities, Vol. 1, N° 1 (2012).

Sahi, J. The Child and the Serpent. London: Arkana, 1980.

Sahlins, M.D. The Use and Abuse of Biology. An Anthropological Critique of Sociobiology. Ann Arbor, MI: University of Michigan Press, 1976.

Schoon, M.L. & Leeuw, S. van der. “The Shift Toward Social-Ecological Systems Perspectives: Insights into the Human-Nature Relationship,” Natures Sciences Society, Vol. 23, N° 2 (2015).

Singer, P. Ethics. Oxford: Oxford University Press, 1994.

Skolimowski, H. Living Philosophy. Eco-Philosophy as a Tree of Life. London: Arkana, 1992.

Stauffer, R.C. “Haeckel, Darwin, and Ecology,” The Quarterly Review of Biology, Vol. 32, N° 2 (1957).

Swallow, E. Sanitation in Daily Life. Boston: Whitcomb and Barrows, 1910.

Szerszynski, B., Lash, S. & Wynne, B. “Introduction: Ecology, Realism and the Social Sciences,” In S. Lash, B. Szerszynski and B. Wynne (eds). Risk, Environment and Modernity. Towards a New Ecology. London: Sage, 1996.

Tester, K. Animals and Society. The Humanity of Animal Rights. Routledge: London, 1991.

Warren, D.M. “Linking Scientific and Indigenous Agricultural Systems,” In J. Lin Compton, The Transformation of International Agricultural Research and Development. Boulder, CO: Lynne Rienner, 1989.

Weizsäcker, E.U. Von. Earth politics. London and New Jersey: Zed books, 1994.

White, L. The Science of Culture. New York: Farrar, Strauss, 1949.

Whitehead, A.N. Science and the Modern World. Cambridge: Cambridge University Press, 1926.

Williams, R. Keywords: A Vocabulary of Culture and Society. New York: Oxford University Press, 1985.

Worster, D. The Wealth of Nature: Environmental History and the Ecological Imagination. New York: Oxford University Press, 1993.



*  قُدم في: مؤتمر مركز ابن خلدون السنوي للتجسير (30 سبتمبر-1 أكتوبر 2023).

* Submitted for: The Annual Conference of Ibn Khaldon Center on Interdisciplinary Research (September 30th-October 1st , 2023).

[1]- D. Goldblatt, Social theory and the environment (Cambridge: Polity Press, 1996), Preface.

[2]- E.U. Von Weizsäcker, Earth politics (London and New Jersey: Zed books, 1994), p. 10.

[3]- R.E. Dunlap, “Paradigms, Theories, and Environmental Sociology”, In R.E. Dunlap, F.H. Buttel, P. Dickens, and A. Giswijt, Sociological Theory and the environment. Classicals Foundations, Contemporary Insights (Lanham: Rowan and Littlefield Publishers, 2002), p. 329.

[4]- باختصار، نشأت مشكلة الثنائية الديكارتية من منظور ميكانيكي للعالم يتصور أن الكون يتكون من جسيمات صغيرة غير مرئية لها خصائص كمية فقط. المشكلة إذن هي كيف يمكن تفسير الظواهر النوعية، مثل الانطباعات الحسية (اللون أو الألم مثلا) والظواهر النفسية. لحل هذه المعضلة اقترح ديكارت أن هناك عالمين يقصيان بعضهما البعض بشكل متبادل، أحدهما هو عالم المواد (res extensa) الذي يعمل وفقًا لقوانين الميكانيكا ويوجد في المكان، ولكنه غير واعٍ، والآخر هو عالم المعاني غير المادي والرمزي (res coginta) الذي يتمتع بالوعي لكنه غير موجود في المكان. هذا التصور هو ما يؤدي مباشرة إلى مشكلة الثنائية الديكارتية: كيف يمكن للمادي والرمزي أن يتفاعلا؟

[5]- D. Abram, “Foreword: The Experience of Nature: Phenomenologies of the Earth,” In D.A. Vakoch and F. Castrillion, Ecopsychology, Phenomenology, and the Environment: The Experience of Nature (New York: Springer, 2014), p. vii.

[6]- انظر الفصل الأول من كتاب:

B. Latour, Nous n’avons jamais été modernes. Essai d’anthropologie symétrique (Paris : La Découverte, 1997).

[7]- S. Díaz et al., “The IPBES Conceptual Framework- Connecting Nature and People,” Current Opinion in Environment Sustainability, Vol. 14 (2015).

[8]- E. Ostrom, “A General Framework for Analyzing Sustainability of Social-Ecological Systems,” Vol. 325, N° 5939, Science (2009).

[9]- تحمل هذه النظرية أيضا اسم "النظرية الاجتماعية الإيكولوجية". أستخدم العبارتين كمترادفين في هذه الورقة.

[10]- B. Szerszynski, S. Lash, and B. Wynne, “Introduction: Ecology, Realism and the Social Sciences,” In S. Lash, B. Szerszynski and B. Wynne, Risk, Environment and Modernity. Towards a New Ecology (London: Sage, 1996).

[11]- R. Benford, “The Half-Life of the Environmental Justice Frame: Innovation, Diffusion, and Stagnation,” In D. Pellowand R. Brulle, People, Power, and Pollution: A Critical Appraisal of the Environmental Justice Movement (Boston: MIT Press, 2005).

[12]- R. Bullard, Dumping in Dixie: Race, Class, and Environmental Quality (Boulder, CO: Westview Press, 1990).

[13]- E. Lander, “Eurocentrism, Modern Knowledges, and the ‘Natural’ Order of Global Capitalism,” Vol. 3, N° 2, Nepantla: Views from South (2002).

[14]- V. Plumwood, Feminism and the Mastery of Nature (London: Routledge, 1993), pp. 41 et seq.

[15]- P. Macnaghten, and J. Urry, Contested Natures (London: Sage, 1998), p. 11.

[16]- W. Catton, and R.E. Dunlap, “A New Ecological Paradigm for Post-Exhuberant Sociology,” American Behavioral Scientist, Vol. 24, N° 1 (1980).

[17]- يقول دوركايم: "يشكل المجتمع جزءا من الطبيعة، إنه أسمى تجل لها. إن المملكة الاجتماعية مملكة طبيعية لا تختلف عن المملكات الأخرى سوى بتعقدها الأكبر. وبالتالي فمن المستحيل أن تكون الطبيعة، في جوهرها، مختلفة جذريا عن ذاتها، هنا والآن".

É. Durkheim, Les formes élémentaires de la vie religieuse (Paris : Presses Universitaires de France, 2003), p. 25.

[18]- Durkheim, p. 592.

[19]- R. Aron, Les étapes de la pensée sociologique (Paris : Gallimard, 1967), p. 120.

[20]- R. Dunlap, and W. Catton, “What Environmental Sociologists Have in Common (Whether Concerned with ‘Built’ or ‘Natural’ Environments),” N° 53, Sociological Inquiry (1983).

[21]- Dunlap and Catton, p. 118.

[22]- R. Murphy, Sociology and Nature, Social Action in Context (Oxford: Westview Press, 1997), p. 19.

[23]- Murphy, pp. 8-9.

[24]- K. Tester, Animals and Society. The Humanity of Animal Rights (Routledge: London, 1991).

[25]- Tester, p. 45.

[26]- T. Benton, Natural Relations. Ecology, Animal Rights and Social Justice (London: Verso, 1993), pp. 65-66.

[27]- A.N. Whitehead, Science and the Modern World (Cambridge: Cambridge University Press, 1926), pp. 106-108.

[28]- R. Williams, Keywords: A Vocabulary of Culture and Society (New York: Oxford University Press, 1985), pp. 274-276.

[29]- R. Pirsig, Zen and the Art of Motor Cycle Maintenance (London: Transworld Publishers, 1974).

[30]- F. Capra, The Turning Point: Science, Society, and the Rising Culture (London: Wildwood House, 1982), p. 399.

[31]- H. Skolimowski, Living Philosophy. Eco-Philosophy as a Tree of Life (London: Arkana, 1992).

[32]- R.C. Stauffer, “Haeckel, Darwin, and Ecology,” Vol. 32, N° 2, The Quarterly Review of Biology (1957).

[33]- Stauffer, pp. 140-141.

[34]- E. Swallow, Sanitation in Daily Life (Boston: Whitcomb and Barrows, 1910), p. v.

[35]- C. Merchant, The Columbia Guide to American Environmental History (New York: Columbia University Press, 2002), pp. 161-162.

[36]- Merchant, p. 18.

[37]- M. Hobart (ed.), An Anthropological Critique of Development: The Growth of Ignorance (London: Routledge, 1993).

[38]- A. Agrawal, “Dismantling the Divide Between Indigenous and Scientific Knowledge,” Vol. 26, N° 3, Development and Change (1995); M.K. Nelson, and D. Shilling, Traditional Ecological Knowledge: Learning from Indigenous Practices for Environmental Sustainability (Cambridge: Cambridge University Press, 2018).

[39]- D.M. Warren, “Linking Scientific and Indigenous Agricultural Systems,” In J. Lin Compton, The Transformation of International Agricultural Research and Development (Boulder, CO: Lynne Rienner, 1989), p. 162.

[40]- J. Barry, Environment and Social Theory (London: Routledge, 1999), p. 112.

[41]- D.B. Rose et al., “Thinking Through the Environment, Unsettling the Humanities,” Vol. 1, N° 1, Environmental Humanities (2012).

[42]- في مقابل الكلمتين الإنجليزيتين greening، وecologizing.

[43]- W.R. Freudenburg, S. Frickel, and R. Gramling, “Beyond the Nature/Society Devide: Learning to Think About a Mountain,” Vol. 10, N° 3, Sociological Forum (1995), pp. 366-392.

[44]- Freudenburg et al., p. 388.

[45]- Freudenburg et al., p. 366.

[46]- R.B. Norgaard, Development Betrayed: The End of Progress and the Ecoevolutionary Revisioning of the Future (London and New York: Routledge, 1994), p. 26.

[47]- يقول نورغارد: "العلاقات بين الكيانات التي تؤثر على تطور هذه الكيانات" و"التغذيات الارتجاعية الإيجابية المستمرة بين مكونات الأنظمة التي تتطور". Norgaard, p. 82.

[48]- F. Berkes, Sacred Ecology (New York: Routledge, 2008).

[49]- T. Hayward, “What Is Green Political Theory?” In I. Hampsher-Monk and J. Stanyer, Contemporary Political Studies 1996, vols. 1-3 (Belfast: Political Studies Association, 1996), p. 80.

[50]- T. Benton, “Biology and Social Science: Why the Return of the Repressed Should be Given a (Cautious) Welcome,” Sociology, Vol. 25, N° 1 (1991), p. 25.

[51]- K. Lee, Social Philosophy and Ecological Scarcity (London: Routledge, 1989), p. 9.

[52]- J.B. Greenberg, and T.K. Park, “Political Ecology,” Vol. 1, N° 1, Journal of Political Ecology (1994).

[53]- M. Jacobs, The Politics of the Real World (London: Earthscan, 1996), p. 17.

[54]- B. Latour, We Have Never Been Modern (Cambridge: Harvard University Press, 1991), p. 14.

[55]- B. Baxter, “Must Political Theory Now Be Green?” In I. Hampsher-Monk and J. Stanyer, Contemporary Political Studies 1996, vols. 1-3 (Belfast: Political Studies Association, 1996), p. 68.

[56]- Baxter, p. 68.

[57]- K. Milton, Environmentalism and Cultural Theory: Exploring the Role of Anthropology in Environmental Discourse (London: Routledge, 1996), p. 64.

[58]- P. Singer, Ethics (Oxford: Oxford University Press), 1994.

[59]- V. Plumwood, Feminism and the Mastery of Nature (London: Routledge, 1993), pp. 41 et seq.

[60]- Plato, The Dialogues of Plato. Translated by B. Jowett (Oxford: Oxford University Press, 1924), p. 1111.

[61]- W. Dean, With Broadax and Firebrand: The Destruction of the Brazilian Atlantic Forest (Berkeley: University of California Press, 1995), p. 9.

[62]- D. Worster, The Wealth of Nature: Environmental History and the Ecological Imagination (New York: Oxford University Press, 1993), pp. 123-134.

[63]- J.G. Cowan, The Elements of the Aborigine Tradition (Shaftsbury: Element Books Limited, 1992), p. 2.

[64]- C. Kluckhohn, and D. Leighton, The Navaho (Garden City: Doubleday and Company Inc., 1962), p. 308.

[65]- J. Sahi, The Child and the Serpent (London: Arkana 1980), p. 153.

[66]- للاطلاع على "الرجل الأخضر"، يمكن الرجوع إلى:

W. Anderson, The Green Man: The Archetype of Our Oneness with the Earth (London: Harper Collins, 1990).

[67]- Anderson, p. 14.

[68]- F. Berkes, and C. Folke (eds), Linking Social and Ecological Systems: Management Practices and Social Mechanisms for Building Resilience (Cambridge: Cambridge University Press, 1998).

[69]- M.L. Schoon, and S. van der Leeuw, “The Shift Toward Social-Ecological Systems Perspectives: Insights into the Human-Nature Relationship,” Vol. 23, N° 2, Natures Sciences Society (2015).

[70]- P. Dickens, Society and Nature: Towards a Green Social Theory (London: Harvester Wheatsheaf, 1992), p. 2.

[71]- K. Marx, Manuscrits de 1844. Trad. E. Bottigelli (Paris : Éditions Sociales, 1968), pp. 95-96.

[72]- A. De Vos, R. Biggs, and R. Preiser, “Methods for Understanding Social-Ecological Systems: A Review of Place-based Studies,” Ecology and Society, Vol. 24, N° 4 (2019).