تاريخ الاستلام: 25 ديسمبر 2022

تاريخ القبول: 08 فبراير 2023

مراجعة كتاب

«حركة الأفكار في العلوم الاجتماعية والإنسانية: تدويل النماذج والنظريات» لجيزيل سابيرو وماركو سانتورو وباتريك بيرت

مراجعة: عبيد الله محجوب عبيد الله

أستاذ مساعد باحث، مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة قطر

ebaidalla@qu.edu.qa

Book Review

Ideas on the Move in the Social Sciences and Humanities: The International Circulation of Paradigms and Theorists, by Sapiro, G., Santoro, M. & Baert, P.

Reviewed By: Ebaidalla Mahjoub Ebaidalla

Research Assistant Professor, Ibn Khaldon Center for Humanities and Social Sciences, Qatar University ebaidalla@qu.edu.qa

 

عنوان الكتاب: حركة الأفكار في العلوم الاجتماعية والإنسانية: تدويل النماذج والنظريات

عنوان الكتاب في لغته الأصلية: Ideas on the Move in the Social Sciences and Humanities: The International Circulation of Paradigms and Theorists

المؤلفون: جيزيل سابيرو وماركو سانتورو وباتريك بيرت

الناشر: بالجريف ماكميلان، لندن

مكان النشر: سويسرا

سنة النشر: 2020

عدد الصفحات: 405 صفحة

ISBN: 978-3-030-35023-9

 

للاقتباس: عبيد الله، عبيد الله محجوب. «مراجعة كتاب: "حركة الأفكار في العلوم الاجتماعية والإنسانية: تدويل النماذج والنظريات"، لجيزيل سابيرو وماركو سانتورو وباتريك بيرت»، مجلة تجسير، المجلد الخامس، العدد 1 (2023).

© 2023، عبيد الله، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.


 

يعبر هذا الكتاب عن عمل جماعي، شارك في إنجازه 19 باحثًا من مختلف تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ شملت علم الاجتماع، الأدب، الأنثروبولوجيا، التاريخ، الاقتصاد والعلوم السياسية، وغيرها من الأبعاد المعرفية المساهمة في إنتاج هذا العمل، باعتماد منهجيات علمية وخلفية معرفية مؤسسة على مجموعة متنوعة من مصادر المعرفة؛ كالمخطوطات والكتب والمقابلات والمقالات والمجلات العلمية، من مجموعة مختلفة من الدول، بهدف تأطير منظور دولي مقارن حول حركة وتداول الأفكار في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ حيث ركّز الكتاب على وسائل انتقال أفكار وأعمال مجموعة من المفكرين العالميين الذين أثروا الساحة الفكرية والفلسفية في القرن العشرين، بالتوازي مع تركيزه على بعض النماذج والنظريات والمدارس الفكرية التي لاقت رواجًا منذ عام 1945، على غرار المدرسة البنيوية والفرانكفورتية؛ إذ تُظهر فصول الكتاب واسع تركيزه على نظريات المعرفة، وممارسات البحث العلمي، وعبور الأفكار والنظريات للحدود السياسية، مثلما تمت دعوة واستقبال عدد من رواد الفكر فيما وراء الحدود الجغرافية بين الدول لإلقاء محاضرتهم في تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية المختلفة، أمثال؛ أنطونيو غرامشى (Antonio Gramsci)، حنّا أرندت (Hannah Arendtوميشيل فوكو (Michel Foucault) وإدوارد سعيد (Edward Said) وغيرهم. مما جعل هذا العمل مرجعًا مهمًا للمهتمين بالتاريخ الاجتماعي للأفكار وفلسفة العلوم الاجتماعية، وكذا الباحثين في مجالات النظرية الاجتماعية، والثقافية والأدبية.

تناول الجزء الأول من الكتاب كيفية انتقال النماذج والنظريات من مَواطنها الأصلية إلى فضاءات أخرى، بالتركيز على وسائل تدويل الأفكار والمفاهيم والنظريات؛ وجاء الفصل الأول على شكل مقدمة عرض فيها - ثلاثة محررين - لمحة عامة عن أهداف الكتاب، والمنهجيات المتبعة في مختلف فصوله، وآلية اختيار المفكرين والمدراس الفكرية موضوع الدراسة، وطريقة جمع وتحليل المعلومات[1]. فيما تناول جيزيل سابيرو (Gisčle Sapiro) ولوسيل دومون (Lucile Dumont) في الفصل الثاني قضية تدويل أفكار المدرسة البنيوية عن طريق ترجمة النصوص باللغة الفرنسية والإيطالية إلى اللغة الإنجليزية والإسبانية، بالإضافة إلى مساهمة تطور صناعة النشر، والتبادل الثقافي، والمؤتمرات العالمية، في تطوير المدرسة البنيوية إلى ما بعد البنيوية الحديثة[2]. وقد تناول الفصل الثالث مساهمة كل من إيزيكيل جريسندي (Ezequiel Grisendi) وأندريا نوفيلو (Andrea Novello) حول كيفية التصدي لاستقبال المدرسة البنيوية في الأرجنتين خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، خصوصًا بعد انهيار البيرونية في العام 1955، وما تمخضت عنه من تغير سياسي واجتماعي أفسح لانتعاش الحركة الأدبية والنقدية وتوسع الجامعات، بالإضافة إلى الحركة الكثيفة لترجمة الأفكار والمفاهيم البنيوية إلى اللغة الإسبانية[3]. كما تطرق ماركوس مورغان (Marcus Morgan) وباتريك بيرت (Patrick Baert) في الفصل الرابع إلى تأثير استقبال المدرسة البنيوية في الدراسات الإنجليزية في بريطانيا، الذي بلغ مداه حين تحول اهتمام الأدب الإنجليزي من القضايا الأخلاقية والإنسانية البحتة إلى مجال التحليل النفسي والأنثروبولوجي والأيديولوجي، ليكون استيعاب الأفكار البنيوية في الدراسات الأدبية والنقدية بمثابة إعلان عن بداية حقبة جديدة للأدب الإنجليزي.

في حين تصدى لويس بينتو (Louis Pinto) في الفصل الخامس لانتقال النظرية النقدية أو ما يسمى بالمدرسة الفرانكفورتية من ألمانية إلى فرنسا، باعتماد عدة عوامل، منها: إسهامات معهد فرانكفورت للبحوث الاجتماعية، وانتعاش حركة الترجمة، وأيضا بفضل صناعة النشر في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. أما الفصل السادس فقد كان من إسهام كل من؛ ماركو سانتورو (Marco Santoro)، وباربرا غرونينغ (Barbara Grüning) وجيراردو إينا (Gerardo Ienna)، الذين ركّزوا على انتقال العلوم الاجتماعية عبر الدول، من خلال دراسة حالة انتقال الدراسات الثقافية البريطانية إلى اللغة الإيطالية والفرنسية والألمانية؛ حيث انصب اهتمامهم على آليه انتقال الثقافة البريطانية إلى اللغات الأخرى عن طريق تبنى منهج الدراسات الثقافية، كنتيجة للانفتاح السياسي بعد الحرب العالمية، وظهور حركة اليسار الجديد التي قام بها بعض المثقفين والأكاديميين المناهضين لليسار الماركسي القديم، وإبراز دور بعض المؤسسات والجمعيات، مثل الاتحاد العالمي للدراسات الثقافية، في ظهور جيل جديد من العلماء الماركسيين الجدد - المنفتحين - الذين ولجوا الحياة الأكاديمية في ذلك الوقت، مثل؛ إيميل دوركايم وماكس فيبر وبيير بورديو (Pierre Bourdieu)[4]. وعمل ماتيو هاوتشكورن (Mathieu Hauchecorne) في الفصل السابع على رصد ظاهرة تأسيس التخصصات الفرعية بالاستناد إلى مؤتمر بياريتز عام 1966، ودوره في تأسيس تخصص الاقتصاد العام كحقل جديد بزغ في تسعينيات القرن الماضي؛ حيث جمع المؤتمر عددًا كبيرًا من المختصين في المالية العامة والمهتمين بتدخل الحكومات في الاقتصاد، ومشاركين من وجهات نظر مختلفة، مما مثّل فيما بعد نقطة بداية لتأسيس تخصص المالية العامة كحقل جديد في علم الاقتصاد[5].

شمل الجزء الثاني من الكتاب سبعة فصول، ركزت جلها على انتقال أعمال سبعة مفكرين ممن ذاع صيتهم في القرن العشرين، وكان لهم بالغ الأثر في تشكيل الحياة الثقافية والفلسفية في كثير من بلدان العالم المتقدم؛ ففي الفصل الثامن تطرق كل من ماركو سانتورو (Marco Santoro)، وأندريا جاليلي (Andrea Gallelli)، وماتيو جيرلي (Matteo Gerli) إلى حياة وأعمال الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشى (Antonio Gramsci) كمفكر ماركسي انطلق من حقل السياسة إلى حقول معرفية أخرى، مثل الفلسفة، والنقد الأدبي، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والعلاقات الدولية، واللغويات؛ حيث إن تخطي أفكاره للحدود الإيطالية باتجاه دول بعيدة جغرافيًا وفكريًا بلغ البرازيل والهند وكوريا وجنوب أفريقيا، جرّاء ترجمة أعماله إلى حوالي 70 لغة عالمية[6]. وقد كُشف عن تزايد الاهتمام بأفكار غرامشى في الأربعة قرون الماضية من خلال كمّ الاستشهاد بها في المجلات ذات الطابع اليساري، وكذلك تأسيس معهد باسم غرامشى عام 1950 في إيطاليا، وجمعية عالمية باسمه عام 1989، مما كان له بالغ الأثر في تصدير أفكاره خارج إيطاليا منذ الستينيات قبل أن تصل ذروتها في تسعينات القرن الماضي.

وتطرق جان-ميشال شهشيش (Jean-Michel Chahsiche) في الفصل التاسع إلى انتقال أفكار الفيلسوف وعالم الاجتماع الاقتصادي الفرنسي النمساوي الأصل كارل بولانى (Karl Polanyi)، والذي كانت لأفكاره الدور الفاعل في استيعاب طريقة عمل الاقتصادات الحديثة ولا سيما مع بداية انهيار الماركسية والبنيوية في سبعينيات القرن الماضي، باعتباره أول الباحثين الذين تصدوا لظاهرة التقلبات الاقتصادية؛ حيث عاصر فشل النظرية الاقتصادية الكينزية والماركسية في توفير حلول للدول النامية في تلك الفترة[7]. وجسّد هذا الفصل انتقال العلوم بين التخصصات المختلفة، ضاربًا المثال بانتقال أعمال بولانى من علم الاجتماع إلى الاقتصاد؛ فعلى الرغم من أن أبحاث بولاني بدأت في علم الأنثروبولوجيا والتاريخ، إلا أنها أصبحت مرجعًا مهما في فهم عمل الاقتصاديات الحديثة في بداية الألفية الثالثة، خصوصًا مع ظهور الأزمة المالية العالمية في العام 2007-2008. وجدير بالذكر أن بولاني تحدث عن انفصال علم الاقتصاد عن العلوم الاجتماعية الأخرى في الثمانينات، لا سيما بعد بزوغ جيل جديد من الاقتصاديين المهندسين، الذين حاولوا الاستفادة من علم الفيزياء والرياضيات ومن ثم ظهور ما يعرف بالاقتصاديين النيو كلاسيكيين.

في الفصل العاشر تمكنت باربرا غرونينغ (Barbara Grüning) من تتبع انتقال أعمال المفكرة الألمانية-الأمريكية حنا أرندت (Hannah Arendt) وكيفية تكريس أفكارها في ألمانيا وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية. فرغم ما لاقته أفكار أرندت من انتقادات حول عدم التزامها بالمنهج العلمي وتحريضها على الكراهية في الفضاء الفكري العام، إلا أنها تُعد اليوم من أشهر منظري السياسة. فيما عدّها المفكرون الليبراليون كواحدة من أكثر الفلاسفة السياسيين تأثيرًا في القرن العشرين. كما يبرز هذا الفصل كيف أن نهاية الحرب الباردة والأزمة الماركسية الأرثوذكسية مثّلت اتجاهًا إيجابيًا جديدًا لاستقبال أفكار أرندت، كنتيجة لحاجة مثقفي اليسار لحاضنة رمزية جديدة لإعادة شرعيتهم التي وهنت بفعل التغييرات السياسية والاجتماعية ذلك الوقت[8]. ومن خلال تحليل الاستشهادات عن بحوثها، أشار الفصل إلى أن معظم أعمال أرندت انتقلت بفعل الترجمة في مجالات الثقافة والسياسة.

أما في الفصل الحادي عشر، فقد تناول جيزيل سابيرو (Gisčle Sapiro) انتقال أفكار عالم الاجتماع والمفكر الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu)، من خلال تحليل أعماله التي تُرجمت إلى حوالي 34 لغة ونشرت في حوالي 42 دولة. وحسب بيانات ويب أوف سينس (Web of Science) خلال الفترة 1999-2007، بلغ مجموع الاستشهادات من أعمال بورديو أكثر من تلك التي لثلاثة علماء اجتماع معاصرين مثل (قيدين Gidden، قوفمان Goffman، هابرماس Hberma)[9]، ما يؤكد قوة إسهامات بورديو خاصة في الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع. أما أعماله المترجمة فقد زادت بحوالي 50 في المئة بحلول العام 1990، في كل من أمريكا، وبريطانيا، وألمانيا، وإسبانيا، وإيطاليا، والبرازيل. وأكد سابيرو على أن تعاون بورديو مع دور النشر الأمريكية كان له بالغ الأثر في انتشار أفكاره بسرعة هائلة[10]. وفي خضم اهتمام هذا المؤلف برواد المدرسة الفرنسية، قام بالاش بيركوفيتس (Balazs Berkovits) برصد حالة انتقال أفكار ميشال فوكو (Michel Foucault) إلى دولة هنغاريا، والتي بدأت مع تغيير نظام الحكم في العام 1989؛ حيث كان فوكو غائبًا عن الساحة الأكاديمية الهنغارية خلال الهيمنة الشيوعية الماركسية الرافضة للأفكار البنيوية أو أي غزو فكري ليبرالي. لكن التغيير السياسي في هنغاريا نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي، أفرز هامشا من الحريات الفكرية مهد الطريق لانتقال أفكار فوكو بين نخبة المثقفين والعامة، لتترجم معظم منشوراته إلى الهنغارية، رغم عدم الجرأة على تدريسها في الجامعات الرسمية في الهنغارية[11].

وحرص الفصلان الأخيران (الثالث عشر والرابع عشر)، بواسطة كل من كلاريس فوردان (Clarisse Fordant)، ومحمد أمين الإبراهيمي (Mohamed Amine Brahimi)، وتوماس بريسون (Thomas Brisson) على التوالي، على انتقال أعمال رواد دراسات ما بعد الاستعمار: إدوارد سعيد (Edward Said)، وغياتري سبيفاك (Gayatri Spivak) في السبعينيات من القرن الماضي؛ حيث ركز تحليل أعمالهم على الاستشهادات والإحالات على أبحاثهم المنشورة في المجلات والكتب. مع لفت الانتباه إلى أنه على الرغم من تباين خلفية سعيد كفلسطيني-أمريكي عن سيباك الهندية-الأمريكية، إلا أنهما تشابها في اهتمامهما بالأدب، وتركيز أفكارهما على انتقاد البني الاستعمارية، باعتبارها سببا في فشل الدول النامية. ففي الوقت الذي اشتهر فيه سعيد بكتابه المثير للجدل "الاستشراق"، والذي حظي باهتمام عالمي غير مسبوق، اشتهرت سيبفاك باهتماماتها النسوية ونضالها من أجل حقوق المرأة. إلا أن أفكار كليهما معا لقيت صدى في فرنسا بعد انهيار الإمبراطورية الفرنسية؛ حيث أضحت الأفكار المعادية للمنهج الاستعماري أكثر مقبولية[12].

تكمن القيمة المضافة في هذا الكتاب في تقديمه تفسيرات واقعية لانتقال المدارس الفكرية عبر مختلف الدول؛ حيث اعتبر أن التغييرات السياسية التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية كان لها الدور الحاسم في تداول الأفكار والمدارس الفكرية والنماذج بشكل دولي، كما ساهم انتهاء الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشرقي في بداية التسعينيات في إتاحة مزيد من الحريات الأدبية والفكرية، مما عبّد الطريق لقبول كثير من المدارس والأفكار المستوردة مثل البنيوية والفرانكفورتية في دول أمريكا اللاتينية وشرق أوروبا. وبيّن كيف أن أفكار المدرسة البنيوية التي كانت محرمة إبان الهيمنة الشيوعية وجدت طريقها إلى الانتشار، ما يدل على أهمية الحرية الفكرية والسياسية في تطوير وانتقال الأفكار عبر المجتمعات والدول، دون التغافل عن دور وسائط نقل الأفكار والنماذج؛ مثل الترجمة والمؤتمرات والتبادل الثقافي، إن سلمنا بأن إنشاء المراكز الثقافية في عدد من الدول النامية من قبل الدول المستعمرة الغربية كان بهدف نقل الثقافة والأفكار المعاصرة.

 إن تأكيد الكتاب على أهمية الترجمة، وتدريس اللغات، والنشر في المجلات والكتب، والمؤتمرات العلمية، وما خلّفه تبادل الزيارات العلمية بين المفكرين من تبادل للأفكار، يؤيد ما ذهب إليه عدد من الدراسات فيما يتعلق بدور الترجمة في نقل الأفكار الغربية إلى عالمنا العربي، كما يتضح ذلك من خلال ترجمة كتب الفلسفة والفكر من اللغات الأجنبية إلى العربية. كما تؤكد ذلك إشارة الكتاب إلى مساعدة النهضة العلمية بعد الحرب العالمية على تطوير سياسة النشر العلمي في جميع المجالات، التي كان لها الدور الحاسم في نقل كثير من الأفكار والمفاهيم. وإشارته (الكتاب) كذلك إلى أهمية التيارات الفكرية التي ظهرت بعد الحرب العالمية، مثل البنيوية واليسار الجديد، اللتان ساهمتا في تطوير كثير من العلوم الاجتماعية والإنسانية وتحرير الأفكار من التعصب الماركسي، لا سيما أنها جاءت خلال هيمنة الماركسية على مصادر الفكر والمعرفة.

لقد التزم الجزء الثاني من الكتاب في معظم فصوله بمنهجية علمية صارمة، قامت على تحليل الاستشهادات/الإحالات التي حصلت عليها أعمال المفكرين محل الدراسة؛ حيث اتفقت معظم فصول الكتاب على أهمية النشر العلمي في المجلات والكتب كوسيط مهم في نقل وتدويل الأفكار، كما اعتبر الاستشهاد مقياسا مهما يعكس أهمية المساهمة العلمية، مما يؤيد الواقع العملي القائم على توثيق المساهمات. كما تم التركيز على أهمية صناعة النشر وسمعة دور النشر في الترويج لبعض الأفكار؛ من حيث إعلاء قيمة المساهمة الفكرية أو توسيع رقعة انتشارها، مثلما حصل لمؤلفات بورديو، التي بمجرد تحولها إلى دور النشر الأمريكية انتشرت بشكل واسع وكان لها تأثير خاص.

أما فيما يتعلق بالفكر ما بعد الاستعماري، يكشف الكتاب عن أن منظّري هذا الحقل تبوأوا مواقعهم كمفكرين أكاديميين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية كأفارقه أو عرب أو آسيويين، مما أعطى لنقدهم صفة النقد الموضوعي وخلق لهم قبولًا في المجال الغربي. لكن هذا الجزء لم يتغافل عن رفض بعض البيئات الاجتماعية والسياسية (الدول) الأخرى لذات الأفكار، ومثال ذلك؛ رفض أفكار بورديو في ألمانيا وأمريكا بسبب تباين الواقع الذي تعالجه، وبذلك يبرز عامل الخصوصية باعتباره من أهم معوقات الانتقال والتكيف، والتي تفيد في ضرورة مراعاة قابلية خصوصية المكان، والزمان، والحاضنة المجتمعية في استيراد الأفكار والمفاهيم أو تصديرها.

رغم أهمية هذا المؤلف في تأطير تاريخ انتقال الأفكار في العلوم الإنسانية والاجتماعية، إلا أن ما يمكن أن نؤاخذه عليه، هو تركيزه الكبير على الدول المتقدمة أو ما يسمى بدول الشمال دون الاهتمام بالدول النامية، خصوصًا في دول آسيا وأفريقيا ممن تأثروا بالأفكار والمفكرين موضوع الدراسة، والذي يمكن إيعازه إلى انتماء مساهمي الكتاب إلى الجامعات الغربية والفكر الغربي. ومن المؤاخذ عليه أيضا، في تغطيته لفترة بعد العام 1945 وحتى تاريخ صدوره، هو صب جُل اهتمام فصوله على مدراس فكرية بعينها؛ كالمدرسة البنيوية والفرانكفورتية، وتحاشي مساهمات مدارس أخرى سادت في القرن العشرين، مثل مدرسة ما بعد البنيوية وما لاقته من اهتمام كبير جراء انتقادها الأسس الفلسفية للنظرية البنيوية. فرغم انحدار بعض مفكري ما بعد الحقبة الاستعمارية من أصول غير غربية أمثال سعيد وسيبفاك، إلا أن نشأتهم وتأثر خلفيتهم المعرفية والثقافية بالغرب غيبت طابع الخصوصية لديهم. وكذلك الكتاب لم يول أي اهتمام لمساهمات رواد الفكر خارج المركزية الغربية. وكل هذا يؤيد ادعاءنا بأن الخلفية الفكرية والثقافية لمساهمي الكتاب كان لها الدور الأبرز في انتقاء دراسات الحالة والمفكرين محل الدراسة.

في الختام، لا بد من القول إن الكتاب مساهمة معتبرة في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ إذ يسلط الضوء على نقاط مضيئة يمكن أن تنير الطريق وتلهم من أراد حركة انتقال بعض الأفكار بين الحقول المعرفية للعلوم الاجتماعية والإنسانية. كما يساعد على فهم سيرورة التطور التاريخي للمفاهيم والمدارس الفكرية عبر مختلف الدول، ومن ثم بيان قدرة المفاهيم والأفكار على اختراق الحدود التخصصية والسياسية إلى أفق بيني أرحب. كما يرسم الكتاب صورة متكاملة عن أدوات انتقال الأفكار بين الدول وتخطي حواجز الثقافات والحدود واللغة. ويؤكد على دور حرية الفكر، وأهمية الترجمة، والتحرير والنشر والثورة الرقمية الحديثة في حركة انتقال الأفكار.



[1] Sapiro, G., Santoro, M., & Baert, P. Ideas on the move in the social sciences and humanities: the international circulation of paradigms and theories, 1st Ed (Palgrave Macmillan, 2020), p. 14.

[2] Ibid, p. 35.

[3] Ibid, p. 57.

[4] Ibid, p. 138.

[5] Ibid, p. 182.

[6] Ibid, p. 213.

[7] Ibid, p. 255.

[8] Ibid, p. 287.

[9] Ibid, p. 299.

[10] Ibid, p. 303.

[11] Ibid, p. 327.

[12] Ibid, p. 377.