تاريخ الاستلام: 11 أكتوبر 2022
تاريخ القبول: 10 يناير 2023
مقالة بحثية
هيثم سليمان
أستاذ مساعد في القانون، جامعة القدس، فلسطين
يعمل هذا البحث على استنطاق التاريخ القانوني والأخلاقي للدولة الحديثة، بهدف إلقاء الضوء على مفهومي القانون والأخلاق في سياق ما قبل الدولة الحديثة وما بعدها، ومناقشة جدلية اتصالهما وانفكاكهما، قبل الانتقال إلى تحديد نطاق الأخلاق والقانون في سياق الشريعة الإسلامية. في محاولة جادة لمقاربة إشكال: مدى توافق أو تنافر هذين المفهومين في مختلف السياقات؟ ويخلص البحث إلى أنه لا يمكن فصل القانون عن الأخلاق في التشريع، في ظل انتفاء وجود لتشريع عقلاني خالص، وأن اعتماد النص الشرعي في صياغة نظرية تشريعية متناسقة لا يتنافى مع العقلانية، بل من شأنه أن كَشَفَ عن أن الحرية المجتمعية بمفهوم القانون الحديث ليست من مقاصد الشريعة؛ على اعتبار أن تحقيق "العدل المجتمعي"، يجسد تلك المقاصد؛ حيث لا بدّ من أن تبقى المحكمات الشرعية ثابتة؛ لأن لها مقصودات تتعلق بالنظام الاجتماعي الإسلامي ككل، ولا يصح أن نلبس منظومة الحرية المجتمعية - كما يفهمها القانون الحديث - لباس مقاصد الشريعة؛ فالشريعة لها نظامها الخاص، ويُطبَّق وفق نسق وجودي ومعرفي أصلاني متكامل، دون تجزئة مخلّة بمقاصده وأهدافه.
الكلمات المفتاحية: الشريعة، القانون الوضعي، الدولة الحديثة، التشريع، الأخلاق
للاقتباس: سليمان، هيثم. «أخلاقية التشريع بين الشريعة وقوانين الدولة الحديثة»، مجلة تجسير، المجلد الخامس، العدد 1 (2023)
© 2023، اليوسف، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.
Submitted: 11 October 2022
Accepted: 10 January 2023
Research Article
Haitam Suleiman
Assistant Professor of Law, Al-Quds University, Palestine
The objective of this research is to investigate the legal and moral history of the modern state in order to shed light on the concepts of law and ethics in the context of pre-modern and post-modern states. Furthermore, the research aims to discuss the dialectic relationship and disengagement between these concepts before examining the scope of morals and law in the context of Sharia. This research endeavors to address the question of the compatibility or incompatibility of these two concepts in various contexts. The research concludes that it is impossible to separate law from morality in legislation, particularly in the absence of a purely rational legal system. Furthermore, reliance on the legal text in formulating a coherent legislative theory isn’t inconsistent with rationality. It also reveals that societal freedom, as understood in the modern legal sense, is not one of the objectives of Islamic law. Rather, achieving "social justice" embodies the objectives of Islamic law, and the Sharia courts must remain steadfast because they serve purposes that are integral to the Islamic social system as a whole. It is incorrect to try to reconcile the system of societal freedom, as understood by modern law, with the objectives of Sharia. This is because Sharia has its own system that is applied according to a comprehensive and foundational existential and epistemological structure, without fractionalization that undermines its objectives and purposes.
Keywords: Sharia; Positive Law; the Modern State; Legislation; Morals
Cite this article as: Suleiman, Haitam. "The Moral of Legislation between Sharia and Modern State Laws" Tajseer Journal, Vol. 5, Issue 1 (2023)
© 2023, Suleiman, licensee QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-Non Commercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited.
في الوقت الذي ضرب الفيلسوف الألماني نيتشه Nietzsche ضربته القاصمة والأخيرة لغيبيات ولاهوتيات الدين المسيحي، معلنًا "موت الإله"، ومستبدلًا إياه في سمو الإنسان وعقلانيته، كانت الدولة القومية الحديثة قد توغلت، وأحكمت قبضتها على المواطن، وسيطرت على كل ما يدور داخل حدودها (المبتدعة تاريخيًا)، متسلحةً بغيبياتها، وقدرتها على إلحاق الأذى فهي "الإله الجديد" بحسب كارل شميت Carl Schmitt. احتكرت، إذن، الدولة لوحدها، ولأول مرة في التاريخ عملية التشريع أو التقنين أو التنظيم للسلوك البشري بين الفرد والفرد، والفرد والمجتمع، تغيرت الآن المفاهيم جذريًا، لا الفرد هو ذاته قبل مفهوم الدولة، ولا المجتمع هو ذاته قبل الدولة. الفرد الآن قد يكون في مواجهة "قانونية" – إن صح التعبير – مع الدولة، والتي أيضًا هي "كيان قانوني معنوي" بالمفهوم الحديث للقانون[1]. لكن، يجب ألا نقع في فخ التعريف الحديث لمفهوم "القانون" فلعلّه تعريف حداثي مرتبط بمفهوم الدولة. إذن، في إطارنا المفاهيمي، وفي محاولة مناقشة موضوع البحث الدقيق "أخلاقية التشريع" يجب أن نحدد معاني وسياقات لمفاهيم مهمة؛ حتى يكون البحث متسقًا وانسيابيًا، وعلميًا، (وهي التشريع والأخلاق)، والعلاقة بينهما في سياق الشريعة والقانون. إنّ الحرية في التشريع تناقش من خلال اتجاهين؛ الحرية المجتمعية، ويقابلها الحرية الفردية، لكن أولًا عن أيّ حدٍ نتحدث بالنسبة لمفهوم الحرية؟ الحديث هنا، ليس عن الإرادة الداخلية بين الانتخاب والحتمية كمفاهيم فلسفية، الحديث عن الحرية كممارسة فردية، لكنها مرتبطة بالمجتمع. الحرية في أحد تعريفاتها، هي "التقييد من خلال القانون" بحسب منتسكيو Montesquieu في روح الشرائع[2]، وهي أيضًا عملية ضبط من خلال وقوعها ضمن مفهوم العقد الاجتماعي، بحسب جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau[3]، هذه المدرسة يمكن أن يُطلق عليها المدرسة القانونية للحريات، بالإضافة إلى مدارس أخرى مثل: الليبرالية المتطرفة التي أسسها جون ستيوارت مل John Stuart Mill، التي تقدم فيها المصلحة الفردية على الدولة، وتكون العدالة وسيلة إلى تحقيق الحرية وليس العكس[4]. مدرسة أخيرة، وهي مدرسة هيجل Hegel وماركس Marx، وفيها يُقدَم المجتمع على الفرد. هذا السياق المفاهيمي الغربي بالنسبة للحرية، لكن في السياق الإسلامي، هل أصلًا يمكن التطابق في معنى المصطلح. إنّ هذا المفهوم الحديث للحرية كمصطلح غير موجود في المراجع الرئيسة في الإسلام على الأقل لغويًا، أمّا مجازًا، فله سياقات ومعانٍ أخرى محددة.
نقطة الانطلاق ترتكز على حتمية أن هناك اتفاقًا في السياق الإسلامي والغربي، على أنّه لا يوجد مفهوم حرية مُطْلَقة، على الأقل بالمعنى القانوني، وهذا يندرج حتى على الليبرالية المتطرِفة، وباعتراف مِل نفسه أنّ هناك حالاتٍ يُقيَّد فيها الفرد، وفيها لا يضرّ الفرد إلا نفسه مثل لعب القمار. لذا يتجاوز البحث الحالي الجدل الفلسفي والاجتماعي، مَن يُشَكِّل مَن، هل الفرد يُشَكِّل المجتمع أم العكس؟ لكن يؤكد في السياق الغربي والإسلامي أن الفرد مقيدٌ بالمجتمع وتابعٌ له، نحن لا نتحدث عن سلوك داخلي كشعور الإنسان بالجوع، ولا على السياق أن كل فرد له حيزٌ خاص به منعزل عن الآخر (جزيرة صغرى لكل فرد أو كوكب صغير يعيش عليه)، ليس بحاجة لتنظيم علاقته مع غيره. في هذه الحالة، ينعدم معنى مفهوم حرية أو حرية مجتمعية، ولأنه ليس كذلك فهو كائن اجتماعي، فلا بدّ من وجود منظومة أو نسق يرتب وينظم هذه العلاقات. وكما سنرى لاحقًا، انحسر واقترن تعريف القانون في السياق الغربي بارتباطه بالدولة، ثم انتقل هذا الطرح إلى البلاد الإسلامية، فلا بدّ أن لا نستسلم لطرح أن الدولة فحسب؛ بل يجب أن تحتكر التشريع وبالتالي تحدد ما هو قانوني وما هو أخلاقي.
تُقرّ الدساتير العربية على أنّ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس (أو مصدر رئيس) في عملية التشريع، لكن الواقع عند تبني اتفاقيات دولية مثل اتفاقية إنهاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، نرى تخبطًا وعدم وضوح في عملية المواءمة بين الشريعة والقانون الدولي، بالنسبة للحريات وحقوق الإنسان. ومن الأمثلة على ذلك صدور قرارين متضادين من قبل المحكمة الدستورية في فلسطين. وتُفْهَم حقوق الإنسان، في معظم استخداماتها، على أنها حقوق كونية تشمل البشر جميعًا، في حين تُفْهَم الحقوق المدنية على أنها مرتبطة بأبناء دولة معيّنة أو مجتمع معين. فيدعم أنصار الحقوق المدنية مثل: آدم فيرغسون Adam Ferguson وآدم سميث آليات التنظيم الاجتماعي غير المرتبطة بالدولة. الحقيقة أن كثيرًا من المصطلحات في القوانين العربية متضاربة؛ قسم منها تم وضعه من الفقه الإسلامي، وقسم آخر تم استيراده من التشريعات الغربية، علمًا أنه وفق الأنثروبولوجي القانوني الألماني ارنست هيرش Ernst Hirsch عند استيراد القوانين يجب تبيئتها وتكييفها وفق النظام القانوني المستقبل[5]. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها مفاهيم، مثل: كرامة الإنسان وحريته، التي تراها الشريعة مختلفة (الاختلاف في مفهوم تعريف الجسد، والإشكاليات المتعلقة بالمثلية الجنسية). كذلك تعريف مفهوم "المساواة" التامة بين الجنسين يُحدث إشكالية في مسألة الميراث الثابتة نصًا والمرتبكة مدنيًا. كذلك مقترح قانونية الخمر في بعض الدول العربية، مثل تونس، يخالف الدستور والذي يُقرّ بعدم مخالفة القوانين للشريعة الإسلامية. لذلك شارح الدستور يجب أن يكون له باع في الفقه الإسلامي وأيضًا في اللغات التي تم استيراد المصطلحات أو المفاهيم منها، مثلا مصطلح "تنفيذ القانون" جاء من اللغة الإنجليزية، بينما في اللغة الفرنسية يسمى المصطلح "تطبيق القانون"، لذلك الآن هناك فجوه في فهم الدستور بين دارس القانون أو القاضي وبين المُشرّع الذي وضع التشريعات في خضم الدولة ما بعد الاستعمارية. نحن بحاجة إلى أن ننظر في السياق والزمان اللذين تم وضع الدستور فيه. فلا تنسف المجتمعات تقاليدها ومورثها العلمي، مثلًا المذهب التفسيري الأمريكي يستند إلى مقاصد واضعي الدستور.
وأهم ما في الأمر، أنه انتقلت صلاحية من له الحق في التشريع في العالم الإسلامي، وأيضًا لأول مرة في التاريخ، من فئة الفقهاء المتخصصين وغير الرسميين إلى مصادر رسمية، فقهاء في إطار مؤسسات الدولة (مثل وزارة الأوقاف) أو إلى الجهات التشريعية النمطية الأخرى مثل البرلمان. علمًا أنه في الحالة الإسلامية، القانون يجب أن ينشأ مستقلًا من خلال الفقهاء غير الرسميين؛ لكي يكون في خدمة الفرد، يحميه أولًا من سطوة الحكم السياسيّ، وثانيًا طبقة الوسط (المفتي) تضبط عملية التشريع، وتضمن سيادة "الدستور، أعلى مستوى تشريعي في الدولة الحديثة" على الحكم السياسي المؤدلج أو المبني على النسبية والأهواء.
يهدف البحث إلى مناقشة ومقاربة مفهوم حرية التشريع وأخلاقياته من منظور إسلامي وغربي وفي سياق الالتقاء والتعاند بين الشريعة والقانون والأخلاق. وذلك من خلال استقراء النظريات الشرعية والقانونية والمقارنة فيما بينها. محاولًا الإجابة عن الأسئلة الآتية:
- هل ينفك القانون عن الأخلاق في الشريعة الإسلامية؟
- هل انفصال الأخلاق عن القانون في السياق الغربي حتمي؟
- هل هناك ضوابط أخلاقية عند التقنين والتشريع؟
لا بدّ من الإشارة أن البحث يناقش جدلية الحرية في التشريع والتقنين، ليس بالمعنى الفلسفي أو المفاهيمي للمصطلح، لذا يندرج المنهج في إطار "مفهوم أخلاقية التشريع" وبناءً عليه، يعرض التاريخ القانوني والأخلاقي للدولة الحديثة، ويوضِّح مفهومي القانون والأخلاق في سياق الدولة الحديثة، وما قبل الدولة. ويناقش جدلية انفكاك أو اتصال هذه المفاهيم بعضها ببعض، ثم يحدد نطاق الأخلاق والقانون في سياق الشريعة الإسلامية، ويحاول الإجابة عن إشكالية وجود توافق أو تنافر بين هذه المفاهيم في السياقات المختلفة.
إن الموضوع محل الدراسة يناقش أخلاقية التشريع وفق النظرية القانونية (التشريعية) الإسلامية، ويقارنها مع النظرية القانونية الغربية من خلال تناول موضوع الشريعة، والقانون، والفلسفة في السياقين الإسلامي والغربي. ويرجى الملاحظة أن البحث لا يناقش النظريات المختلفة فحسب في سياق الدولة الحديثة، وإنما جوهر النقد يتجه نحو فلسفة وأخلاقية التشريع فيما قبل الدولة، وما بعد الدولة. كذلك النقد يتجه نحو الدولة القومية الحديثة عمومًا، ثم وبشكل أكثر تخصيصًا، ومن خلال أسئلة البحث، يناقش الآثار السلبية للدولة الحديثة على المنطقة العربية. ويبين البحث الفروقات الجذرية، والتناقضات في هدف التشريع، ودور الجهات التشريعية فيما قبل الدول وما بعدها. على سبيل المثال، اختلف دور الفقيه أو المفتي في سياق الدولة الحديثة عنه فيما قبلها. إن المفتي الآن تابع لمؤسسة الدولة، بغض النظر عن نواياه وصدقه، فهو خاضع لتعليمات (قانونية) رسمية مثله مثل القاضي، وكل المواطنين. مع العلم أن هناك قلة في الدراسات القانونية العربية التي تناقش هذه المسائل. لذلك كان لا بد من الرجوع إلى المصادر الأجنبية وهذا ما يضيف أصالة للبحث.
الإنسان كمخلوق اجتماعي عكف على تنظيم علاقته والآخر منذ القدم. فهو يتبع منظومة تحدد تلك العلاقات بدءًا من الدائرة الصغرى، الأسرة ثم القبيلة، والعشيرة، والدين، وأخيرًا الدولة. الإنسان لا يفعل ما يطيب له فهو مقيد، وحريته الفردية أيضًا مقيدة ومحدودة بالنسبة للآخرين. إن المجتمع الليبرالي المتطرف أيضًا لا يمكن أن يدّعي الحرية المطلقة. عندما أطلق الليبرالي لابنه اسمًا، وعندما أعطاه التطعيم الطبي من دون موافقته، فهو بذلك تعدٍ على حريته. إن أحد أضداد الحرية التقييد، وتختلف منظومات التقنين أو التقييد فيما بينها في التسميات أو المصطلحات وتختلف أيضًا في المرجعيات والآليات. ومنهم من يُسمّي ذلك ممنوع-مسموح، شرعي-غير شرعي، حلال-حرام، قانوني-غير قانوني، لكنها كلها ترمي إلى نفس الهدف، والذي يكمن في تنظيم العلاقات بين البشر.
بحسب ميشيل فوكو، الدولة الحديثة بتطبيقها لنظام الحوكمة كأسلوب قوة، وسلطة تتدخل بالأفراد في جميع مناحي الحياة، فهي ليست حاكمًا فحسب؛ بل معلم للمواطن. لذلك فعملية التشريع والتقنين من قبل فئة محددة تتبع فكرًا سياسيًا معينًا تحدد من هو المواطن الصالح. ووفق كارل شميت الدولة هي إله جديد تسلّحت بغيبياتها، وقدرتها على إلحاق الأذى[6]. ومع التغيير الجذري في أحقية وصلاحية المُشرِّع، انتحلت الدولة صفة المشرع وصارت هي من يحدد ما هو قانوني أو غير قانوني، غير مكترثة لأخلاقية هذا التقنين. والدولة العربية "القانونية" - إن صح التعبير - بشكل خاص، هي وليدة الاستعمار، فهي ضاربة عرض الحائط كثيرًا من التراث القانوني الذي له خصوصية مجتمعية أصيلة، وتتبنى نظرية القانون الوضعي الليبرالي الغربي.
في عملية التشريع وفي الحالة الجيدة، الدولة تُشرِّع وتكون منحازة وغير موضوعية؛ لأن الأمر لا يسمح أن تكون غير منحاز، لذا عملية تحديد الحرية نسبية، ومبنية على أساسين اثنين؛ مفهوم الدولة القومية الحديثة، وأن هذه الدولة تتبع نهجًا معينًا في الحكم مبنيًا على مذهب قانوني غربي مستورد، مما خلق، من جهة أولى، اضطرابًا في الطبيعة القانونية للحكم نفسه، ومن جهة أخرى، إشكالية في تطبيق القوانين المتضاربة مع الموروث والتقاليد الشرقية، وخصوصية المجتمع الشرقي. وانتقلت صلاحية من له الحق في التشريع في العالم الإسلامي، وأيضًا، لأول مرة في التاريخ، من فئة الفقهاء المتخصصين وغير الرسميين إلى مصادر رسمية، فقهاء في إطار مؤسسات الدولة (مثل وزارة الأوقاف) أو الجهات التشريعية النمطية الأخرى مثل البرلمان. الولايات المتحدة التي تطبق نظام قانوني هجين تعتمد منذ عام 1973 "مقياس ميلر" لتنظيم حرية التعبير، المعيار الأساسي هنا "إذا كان غالبية الأشخاص في المجتمع يرون طريقة التعبير مقبولة". لذلك المصلحة العامة تتقدم على المصلحة الخاصة إذا تعارضتا، وكذلك "الحرية المجتمعية" في كل المجتمعات تتقدم على الحرية الفردية. إذن، أين تكمن الإشكالية؟ كيف نحدد ما هو صالح للمجتمع، ما الأسس التي نرتكز عليها وهل هناك حقيقة كونية واحدة في هذا الإطار؟
يرى أتباع الوضعية القانونية أمثال جون أوستين وهوبز، المعيار الأساسي هو أن الفعل يبقى قانونيًّا ما لم يتأذى به الآخرين، لذا القمار عنده قانوني. طالما الأمر صدر من قبل الدولة صاحبة السيادة فيجب أن يطاع. لكن من الواضح أنه هنا أيضًا حصل تقييد للحريات من قبل الدولة التي فرضت نفسها وأيديولوجيتها الفكرية والسياسة من خلال القانون. إن عملية تشريع القوانين حسب الدولة الحديثة تكون من خلال المؤسسات الرسمية التابعة لها، والطريقة المثلى حاليًا تكون من خلال اقتراح نواب المجلس التشريعي للقوانين، الذي أعضائه منتخبون من قبل أفراد الدولة وهؤلاء النواب ينتمون لحزب معين يتبع أيدولوجية فكرية معينة. وغالبا" دولة سيادة القانون"؛ الحديثة والقومية، تتبع مذهبًا قانونيًا وحيدًا هو" الوضعية القانونية الليبيرالية" إذن، نحن أمام ضرورة مناقشة مفاهيم يعتقد أنها من المسلمات في آلية ونظام الحكم، مثل مفهوم، الدولة القومية، دولة سيادة القانون، النظرية القانونية لما بعد الاستعمار وأخيرا الاستشراق القانوني. إن مرحلة ما بعد الاستعمار هي الآن النهج الرئيس الذي يتم فيه مناقشة علاقة الغرب بـ "الآخر" بشكل نقدي، والدراسة النقدية للقانون في طليعة هذه العلاقة. تم وصف "الدراسات القانونية لما بعد الاستعمار" على أنها ممارسة تركز على القانون باعتباره "أداة للاستعمار". يشير الباحثون إلى أن المشروع القانوني الغربي، المضمن في تقاليده الوضعية الليبرالية، استبعد عمومًا (أو لم يعترف) أشكال القانون الأخرى. يستبعد هذا النظام القانوني المتحيز والعرقي إمكانية وجود قانون خارج نطاق حدوده وإطاره "الخاص"، لذلك، يستبعد من فكره أو مفهوم القانون أيّ قانون لا يتوافق مع النموذج الغربي؛ وهي - على سبيل المثال لا الحصر - النظرية القانونية الوضعية، والنظرية القانونية النسوية، ونظرية العرقية النقدية، والنظرية القانونية النقدية والواقعية القانونية[7]. أصبحت آثار الاستعمار والاستشراق القانوني جزءًا لا ينفصم من الثقافة القانونية والتعليمية والمؤسسية؛ بحيث لا تزال الدولة الاستعمارية بمثابة نقطة مرجعية في الخطاب المحلي[8].
إن أحد أهداف نظرية ما بعد الاستعمار هو تفكيك مصدر هذه النظريات الغربية، وإعادة بناء معانٍ جديدة في الخطاب والحوار. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن نظرية ما بعد الاستعمار تعرضت للنقد السلبيّ فيما يتعلق بنرجسيتها الواضحة؛ فقد اعتبرها البعض طريقة أخرى تواصل بها النظرية الأوروبية "المتفوقة" حوارها (مع نفسها) لتفسير “الآخر"، ولا هي بأي حال من الأحوال، نظرية متجانسة ووحدوية. بحسب تعريف ميشيل فوكو للحدود الشاملة للنظرية[9]. إن نظرية ما بعد الاستعمار تطورت من خلال مجموعة من "المصادر المفاهيمية"، دون وجود منهجية واحدة. علاوة على ذلك، تعتمد نظرية ما بعد الاستعمار على مجموعة واسعة – وغالبًا ما يتم الاختلاف عليها – من النظريات والممارسات من أجل تطوير نظرية المعرفة الخاصة بها[10]. وفي سياق إشكالية دولة سيادة القانون، يرى المفكر الإيطالي جورجو أغامبين Giorgio Agamben أننا هنا أمام حالة الاستثناء والتي تقع على الحدود الفاصلة بين السياسة والقانون، ومن ثَمَّ يصعب تعريفها، والتي تطبق في حالات الحرب الأهلية مثلًا، والانتفاضة والمقاومة. وهي تلك الحالة التي يسهل فيها تبرير أي أفعال يقوم بها صاحب السيادة، الذي يمتلك سلطة مطلقة (تكاد تكون إلهية)، حفاظًا على النظام القانوني، كأنها تعليق للقانون من أجل القانون. وفي هذا الإطار، يُعرّف أغامبين الشمولية الحديثة بأنها: "عملية تأسيس حرب أهلية قانونية من خلال تطبيق حالة الاستثناء، بما يسمح إمكانية التصفية الجسدية ليس فقط للخصوم السياسيين، بل لشرائح كاملة من المواطنين تعتبرهم السلطة، لسبب أو لآخر، غير قابلين للاندماج في النظام السياسي"[11]. وهناك دلالات واضحة أن حالة الاستثناء حالة دائمة ومتواصلة حتى في البلاد الديمقراطية. فإذا صح تأطير "حالة الاستثناء" ضمن تعريف نظري، لتبين أنها تلك الحالة "السائلة" التي تذوب فيها مادة القانون، بتعليقه أو غيابه، مع استخدام الأدوات الأمنية والشُرطية غير الاعتيادية، لتنتج في النهاية واقعًا قمعيًا يبدو مشروعًا تمامًا[12]. يشير أغامبين إلى أن طبيعة حالة الاستثناء تقدم نفسها كنموذج للحكم، أي اعتبارها قاعدة، وليست تدبيرًا استثنائيًا؛ بل هي ترغب في أن تغدو هي القاعدة والنموذج الأمثل للحكم، من خلال الذوبان الفاحش للسلطات المختلفة. إذن، حالة الاستثناء، حالة يصعب التمييز فيها بين حالات السلام وحالات الحرب، بين الطارئ والدائم، بين الاستثناء والقاعدة، بين الضرورة والحكمة، إنها ليست شرعنة لأمر غير قانوني؛ بل تُقدّم نفسها "كـضرورة" وجب خوضها ضد الخصوم السياسيين، لا أحد يعلم متى تنتهي ومتى بدأت، إنّ الجميع يكون ضمنها عاريًا تمامًا، عاريًا أمام آلة السُلطة القمعية، ومُجرّدًا من أية هوية قانونية. في هذه الحالة، يُثار جدل حول إمكانية الفرد العادي (كشخصية قانونية) أن يقاضي الدولة (ككيان قانوني معنوي) في عمل (مثلًا خوض الدولة حرب غير عادلة) غير أخلاقي. الدولة الحديثة امتلكت أدوات العنف والتشريع، وبذلك فرضت الدولة وقانونها الحديث نفسيهما على النظام الاجتماعي، لذا يجب علينا عند مناقشة موضوع البحث أن نأخذ بالحسبان واقع الدولة الحديثة التي هيمنت أيضًا على الثقافة القانونية، وفرضت نسقًا معينًا من البحث العلمي القانوني، وحددت معرفة قانونية كونية واحدة[13].
قامت حنة أردنت Hannah Arendt بنقد فكر هوبز الذي يرى أن المصدر الوحيد للتشريع هو إرادة السلطة. فالقانون يكون تشريعًا صحيحًا بفضل سلطة الإلزام التي تفرضها الدولة؛ لذا بحسب هوبز، إن معايير الأخلاق نابعة من الإنسان نفسه، وليس من نظام كوني، ولا من إرادة إلهية. القواعد الأخلاقية هي من ابتكار العقل البشري، وتتأثر باعتبارات مثل: سلامة النظام الاجتماعي، وأهمية الحفاظ على الحياة، واعتداء شخص على آخر. إن نظرية هوبز تقرر أن الأخلاق يجب أن تقوم على قوانين موضوعية يتوصل لها العقل البشري، وليس اعتمادًا على التقاليد أو السلطة الدينية للنصوص المقدسة[14]. وقد أدت إلى تأسيس مفهوم جديد وحديث عن العلاقة بين القانون والأخلاق في ذلك الوقت، وهذا المفهوم الحديث هو ما تُسلِّم به الدوائر الفلسفية الغربية[15]. أهم ما يتعلق بهذا التغيير الجذري أنه يعتبر نقطة تحوّل فاصلة في التاريخ. إن مصادر العقل، وبالتالي اللزوم والوجوب وغير ذلك من أفكار الضرورات الحتمية عند كانط Kant، صارت الآن تكمن في النفس، في القوى البشرية الداخلية ولم تعد نتاجًا فكريًا في النظام الكوني بالمفهوم الأرسطي أو الأفلاطوني، أو غيرهما، أو حقيقة ثقافية، أو تتخذ المثال الإنساني مقياسًا لها كما ذهب بروتاجوراس Protagoras الفيلسوف اليوناني. وبفعل ذلك، تقطع الحرية - كما فعل العقل - علاقتها مع العالم الخارجي وتصبح جزءًا من النفس البشرية، وتدور معها دائمًا في حدودها. إن الفيلسوف نيتشه قد أخذ ثنائية ديكارت Descartes إلى أكثر نتائجها تطرفًا، فهو في كثير من الأحوال قد قلب الأخلاق الأوروبية المسيحية التي أسسها القديس توما الإكويني Thomas Aquinas رأسًا على عقب؛ فالرابط المتداخل بين ما ينبغي أن يكون، وما هو قائم بالفعل في العالم المسيحي، قد تفرع عند ديكارت وكانط، في حين أزاله تمامًا نيتشه. مع العلم أن الوضعية القانونية عند أوستن Austen لم تذهب إلى ذلك الحد الذي ذهب إليه فكر نيتشه، لكنها بوضوح تشير أنه لا مكان للأخلاق في القانون وهو الموقف الذي اختلف عند هارت Hart الذي جادل بأن هناك تداخلات ٍأخلاقية كامنة في القانون. إذن، الانقسام بين القانون والأخلاق له مرجعية فلسفية في أوروبا، وأصبح لاحقًا مُسلَّمًا به، وشَكَّل حقيقة علمية، وأثَّر ذلك في القانون الإسلامي، حتى صار يدَّعي كثير من المستشرقين أن القانون الإسلامي لا يمتلك نظرية تعاقدية، أو أنه لا يفرق بين القانون الموضوعي والقانون الإجرائي، وأنه لا يميز بين الأخلاق والقانون ونقود أخرى[16]. وإذا كان مصطلح أخلاقي كما يفهم في عصر الحداثة لم يوجد في الإسلام قبل الحداثة، فإن التمايز بين الأخلاق والقانون لم يكن له وجود كذلك، لا في الشريعة عامة، ولا في القرآن خاصة. وقد أصبح مصطلح قانوني متأثرًا أيدلوجيًا بأفكار ميشيل فوكو عن المراقبة والعقاب والهيمنة على الأفراد الذين يخضعون للسلطة، وهذه كلها آليات للتحكم تجعل فهمنا الحديث للقانون ينسحب على فهمنا للأخلاق مختلفًا عن أيّ نظام قانوني سابق. وبناء عليه، مختلِف عن أيّ مفاهيم سابقة عن القانون، فما هو قانوني في القرآن، وهو كذلك أخلاقي، والعكس صحيح. ويرى حلّاق أنه "يمكننا حتى أن نقلب التحيزات الحديثة، ونقول: إن القانون كان في الأساس مشتق من الأخلاق، وبهذا تكون الأخلاق هي الأصل، إذا بحثنا عن مفهوم القانون الخالص وفصلناه عن المساحة الأخلاقية الواسعة، لا يعني مجرد سوء فهم لمقاصد القرآن فحسب؛ بل سيقودنا هذا أيضًا إلى تفكيك البنى المعرفية للشريعة كلها"[17].
أما بالنسبة إلى آلية التشريع وعلاقتها بالأخلاق في السياق الإسلامي بالطبع فإنها تختلف جذريًا عنها في السياق الغربي؛ فإن الفقهاء المتخصصين طبقة مكونة من علماء غير رسميين جعلت من دراسة الفقه أمرًا تعبديًّا، وهم لم يَنشَؤوا من الطبقة السياسية المتمايزة عن غيرها، كما كان الحال في الغالب بالنسبة إلى فقهاء الرومان خلال الفترة الجمهورية، كما أنهم لم يحصلوا على مقابل مادي لجهودهم في دراسة الفقه. كذلك لا يستقيم الفقه النظري إلا إذا عُمِل به؛ لذلك، فإن الاستقراء والاستنباط، وكل المنهجيات الفكرية، ومحاولة فهم ما ينبغي فعله في كل موقف (الإفتاء) كان نوعًا من التعبد بالنسبة إليهم. وعليه، فتقليد النظام المتبع في المؤسسة الرومانية لم يكن ليؤدي لنشأة هذه الظاهرة. وأهم ما في الأمر أن القادة السياسيين (ولاة الامر) لم يحاولوا أبدًا أن يشرعوا للدولة التي سرعان ما صارت إمبراطورية إسلامية، على الرغم من امتلاكهم لكل وسائل الإكراه والقوة السياسية، وإنهم على الرغم من اهتمامهم بدراسة الفقه، قد تركوا إصدار الأحكام الفقهية للعلماء غير الرسميين الذين لم يكونوا جزءًا من الجهاز التنفيذي على الإطلاق، ولم يفكِّروا يومًا في تشريع قانون للإمبراطورية كما فعل الأباطرة الرومان، أو البيزنطيون، أو الصينيون[18]. وكانت البنية الدستورية للإسلام تطبق سيادة القانون بصورة أكثر كفاءة من أي مثيلاتها المعاصرة، بما في ذلك النظام الأورو الأمريكي. ومن المعلوم أن النظام الإسلامي كان أيضًا غير مسبوق. فلم يكن في الثقافة السياسية للشرق الأدنى التي كان المسلمون المؤسسون الأوائل على اتصال بها قد طورت أيّ مفهوم مماثل عن سيادة القانون، وبالتالي أيّ نظام فعال للفصل بين السلطات[19]. لذلك تعد الحوكمة الحديثة هوية بسيطة بين الدولة وأفرادها؛ حيث يتداخل المجتمع والثقافة مع الحكومة والحكم. ويرى فوكو أن الفرد القومي الحديث والمواطن في الدولة الحديثة قد نشأ كنموذج مصغر للكيان الأكبر، وهو الدولة. وتأسيسًا على تلك الفكرة، جاء قول فوكو وما بعد البنيوية وغيرهم بأن الدولة في كل مكان، وأن من الخداع البحث عن انقسام ذي مغزى بين الدولة والثقافة، ما دامت الدولة تُشكِّل المواطن، ومادام المواطن بدوره كائنًا اجتماعيًا ونفسيًا وسياسيًا وثقافيًا شكّل الدولة[20]. وإذا كان الإحكام والقوة والمراقبة والحماية في أوروبا أدواتٍ لتدريب مواطن مطيع، وفي الوقت ذاته، كفء ومنتجٍ ماديًا، ويدين بالولاء السياسي للدولة القانونية. فإن الخضوع والحاكمية بمعناها الصحيح في القرآن إنما يكون للسلطة الإلهية من أجل إنتاج أنساق من الأجواء العامة الصالحة، والمحاسبة الأخلاقية، والمسؤولية الاجتماعية. وهذا كله من أجل العدالة التي هي مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية[21].
جادل كولسن Coulson أنّ الأحكام القرآنية بدأت تَعْدِل الممارسات المبنية على العادات والعرف، بصورة متدرجة ومستمرة خلال القرن الهجري الأول، لكنه غير مقتنع بحجم الآيات التشريعية في القرآن عند مقارنتها مع الوصايا الأخلاقية، فمن بين 500 آية تشريع أو أكثر، 80 آية فحسب، هي التي تتعلق بموضوعات قانونية خالصة، أمّا الآيات الأخرى فلا تدخل في التصنيف القانوني؛ لأنّها تتعلق بالفروض التكليفية، كالعبادات: الصلاة، والصوم، والحج. وعلى الرغم من، أن الآيات التشريعية تناولت تفاصيل كثيرة ألا أنها مازالت - من وجهة نظره - لا تمثل إلا حلولًا لمشكلات معينة، من كونها محاولة لمعالجة الموضوعات العامة معالجة كاملة شاملة، فهو ينظر للقرآن على أنه مدونة قانونية، ويزداد الأمر إشكالًا، عندما يظن كولسن وكثير من المستشرقين أن معظم القيم الأخلاقية في القرآن ليست لها آلية إلزامية واقعية في هذا العالم[22]. برأي حلاق، يفترض كولسن بأنه لا يكون لتلك القيم تأثير قانوني حقيقي إلا إذا كان لها مثل تلك الآلية. ومن ثم، فإن القانون لا يعتبر قانونًا في الحقيقة إلا إذا ارتبط مع أحد مفاهيم الإلزام والإكراه سواء في ذاتها أو بالتبعية، أما إذا كانت النصوص القرآنية لا تتوافق مع تلك المفاهيم، فهي لا تعدو أن تكون مجرد وصايا أخلاقية لا قوة لها شأنها شأن أي مواعظ دينية[23]. وهذا بالطبع تصوّر مغلوط في فهم أحكام الشريعة، فالطرح الحالي متأثرٌ في تعريف الأحكام الشريعة في سياق المعنى الحداثي القانوني للأحكام. هذا الطرح مجردٌ من معاني الأخلاق في الشريعة الإسلامية.
إن الأصل في القواعد أنها أخلاقية تحدد سلوك كل فرد بالنظر إلى ذاته ونفسه؛ من حيث كمالها والسمو بها، وفي هذا السبيل، تفرض الشريعة واجباتٍ أخلاقية شتى لسمو الإنسان؛ لأنّ ذلك من المهمة الأولى للشريعة، والجزاء على الإخلال بهذا الواجب عدم قبول الرأي العام، وجزاء في الدار الأخرى، وهذه السلطات تنافس بقوة سلطان الجزاء الدنيوي. على أنّ القاعدة الأخلاقية قد ترتقي إلى قاعدة شرعية فقهية تحدد سلوك الفرد بالنسبة لغيره؛ إذا ترتب على الإخلال بها الضرر بالناس، وذلك بترتيب جزاء دنيوي فتواجه أثر الإخلال بالواجبات إلى الغير وتقرّر للمضرور حقًا في الضمان أو التعويض عما لَحِق به من ضرر قضائيًّا. وفي الحقيقة أن القاعدة الشرعية، مثل: قاعدة منع الضرر، وقاعدة نفي الحرج، وقاعدة الأمور بمقاصدها؛ نجدها كلها قواعد أخلاقية في الأصل، أصبحت قواعد شرعية لحماية قيم الإنسانية في المجتمع والفقه الإسلامي، بما هو ديني الصبغة يتسق مع كل قاعده أخلاقية كانت أم فقهية؛ للتأكيد على الأصل العام الذي قامت عليه الشريعة، وهو جلب المصالح، ودرء المفاسد. وكل هذه الأحكام مرتبطة بالضرورات الخمس[24]. إنّ الحكم الشرعي هو مَنْشَأ الحق، وفي اعتبار الحق شرعيَّا من استناده إلى تقرير الشارع وتقريره، إنما يكون بحكم، ولما كانت الأحكام في الشريعة عند جمهور الأصوليين والفقهاء معلقة بمصالح العباد في الدارين جملة وتفصيلا. وبمعنى أن الحكم في الشريعة مندمج مع ما هو أخلاقي، ويمكن تعليله، عدا كلّ ما يتعلّق بالعبادات والمقادير الشرعية، مما لا يستقلّ العقل بإدراكه. يذكر الإمام الشاطبي أن الشارع وضع الأحكام في مصالح العباد في العاجل والآجل معًا، ودليله الاستقراء الذي يؤدي إلى القطعية، استقراء النصوص يُبيّن المقاصد التي تقع ضمن ثلاث منازل: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات[25]. وفيما يتعلق بالاستدلال القياسي، أصرّ الشافعي[26] على أنه لاستخدام أي علة - نسبة تشريعية بمفهوم القانون الحديث - يجب أن يتمّ تتبعها بشكل صريح إلى نص إلهي موثق من أجل أن تكون صالحة كأساس للقياس، ولا تُعزى إلى تقليد أهل المدينة، حسب رأي المالكية. واقترح الغزالي[27]، بصفته من أتباع الشافعية، تسوية بارزة؛ حيث يمكن أن يسمح الاجتهاد القائم على أغراض الشريعة الإسلامية بالاستدلال القانوني القياسي من مبدأ عام، ولا يرتبط بشكل خاص بنص معين، بشرط أن يحتفظ بواحد أو أكثر من أغراض المقاصد الخمسة. بهذه الطريقة، اقترح الغزالي استخدام النصّ والنظر في المقصد، من أجل استنباط القاعدة. يمكن القيام بذلك باستخدام مصادر غير نصية، وفي الوقت نفسه، عدم الوقوع في فخ الذاتية. في رأي غزالي، القانون هو مزيج بين النص المنزل، ومبادئه القانونية المتجذرة، والأغراض العليا للقانون. في هذا الصدد، تعتبر المالكية أن المصلحة هي نفسها قاعدة من قواعد الشريعة. نتيجة لذلك، ليس من العائق بالنسبة للمالكيين دمج المصالح التي ليس لها مصدر نصي في اجتهادهم. ومع ذلك، عندما تسكت الشريعة تمامًا عن أي أمر؛ هذه علامة أكيدة على أن المصلحة المعنية ليست أكثر من مصلحة خادعة لا تصلح للتشريع.
وأعرب الشاطبي عن وجهة نظر مفادها أن الطريقة الاستقرائية يمكن أن تخلق فكرة المصلحة في الشريعة، كموضوع عام ... وأيضًا في وصف العلة للأوامر المختلفة بالتفصيل. يؤكّد الشاطبي أن بلوغ المصالح غاية نهائية للشريعة الإسلامية على أساس الدراسة الاستقرائية للشريعة الإسلامية. ويلاحظ الشاطبي أن المقارنات الدالّة على الدلالة، ونقاط (الحكمة) الكامنة وراء أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالمعاملات الاجتماعية والاقتصادية (المعاملات)، غالبًا ما يتم تحديدها بوضوح في المصادر النصية للقانون، والتي يعتبرها مؤشرًا على أنه من المتوقع أن يهتم [الباحث الشرعي-القانوني] باتباع مقاصد تلك الأحكام عند تطبيقها وألا يهتم فقط بالتمسك بصيغة الحكم[28].
يعلق حلاق قائلًا: "هذه الطريقة الجديدة ليست كالطريقة التقليدية، فهي تتجاوز النظرة الوحدوية للقرآن لدى بعض الفقهاء. يقدم الشاطبي نظرية فريدة من نوعها يُنظر فيها إلى النص باعتباره وحدة متكاملة "[29]. في نظر الشاطبي، يمكن أن يخلق هذا نظرة ضيقة ومائلة للقانون، ويفتقد أهمية المصلحة بسبب عدم مراعاة مجمل المصادر الموثوقة.
وينتقد الشاطبي اعتماد الفقهاء المفرط على القياس الشكلي في استنباط الأحكام القانونية على أساس قضايا ثابتة معزولة. بالاعتماد على القياس ينحصر عمل الفقيه في الصيد، وإيجاد حالة واحدة واضحة يمكن أن يستمدّ منها العلة ومن ثم إصدار أحكام جديدة.
من ناحية، يمكن النظر إلى حجة الشاطبي على أنها إدانة لعقيدة الوحدوية التي تسود جميع مجالات الفكر الإسلامي الكلاسيكيّ. لقد أثرت الخاصية الوحدوية للتركيز على الخاص مقابل العالمي بشكل كبير على الفكر الإسلامي، بما في ذلك النظرية القانونية. هدف الشاطبي هو تخفيف سيطرة المذهب الوحدوي على النظرية القانونية من خلال إدخال مقاربة شاملة للقانون في التفكير القانوني، بدلًا من نهج خاص تمامًا. ويصنف الشاطبي إلى جانب الشافعي من حيث الأهمية؛ لأن عرضه لهدف وروح الشريعة الإسلامية أتاح للشريعة الإسلامية الخروج من الضيق الذي قاده التقيد الصارم بالحدود التي حددها البعض في أصول الفقه. مهّد أصول فقه الشافعي الطريق لعلم الفقه الذي حدّد الأصول من حيث المصادر، وحصر بعض الفقهاء أسلوب الاستنباط الشرعي في القياس. أدّت هذه الطريقة إلى طريق مسدود في حل المشاكل القانونية الحديثة في غياب السوابق. وسعى الشاطبي للخروج من هذا المأزق من خلال مذهبه في مقاصد الشريعة.
إن القاعدة القانونية تنظم الأفعال البشرية، بالإضافة إلى قواعد أخرى مثل قواعد الأخلاق وقواعد الدين وقواعد الشرف وحسب الوضعية القانونية ما يميز القاعدة القانونية عن غيرها من القواعد الأخرى أن المصدر الذي يضمن الجزاء في القاعدة القانونية السلطة العمومية[30]. لكن غارديس Gardis يقول: إن الفرق بين القانونيّ وغير القانونيّ هو فرق في الدرجة؛ ففي الضمير الجمعي يُحْدِث خرق القاعدة القانونية أثرًا أكبر من الأثر الذي خلق القاعدة الأخلاقية، لكن قد ينقض هذا القول مؤكدًا أنّ ثمة حالاتٍ يكون فيها أثر عدم احترام القاعدة الأخلاقية أشد وقعًا من أثر عدم تطبيق القاعدة القانونية، ويعرض غارديس للقارئ قول كوبتن Copton، ومضمون هذا القول أن ميدان القاعدة الأخلاقية أوسع من ميدان القاعدة القانونية؛ إذ إن الأولى تشمل زيادة على علاقة الفرد بأمثاله، علاقة الفرد بنفسه، وعلاقة الفرد بالله تعالى. ويجادل عبد المجيد، أنه يمكن أن نزيد ونقول إنه حتى في إطار علاقة الفرد بالفرد، هناك جوانب لا تغطيها القاعدة القانونية، بل القاعدة الأخلاقية تغطي ذلك، مثلًا، لا يعاقب القانون شخصًا لا يرد السلام، بينما تفعل الأخلاق ذلك على الأقل في حالات معينة. هذا قول البعض، لكن غارديس يرد أن هذا الكلام صالح في إطار القوانين الغربية المعاصرة، وهو ليس صحيحًا في أطر أخرى فكم من أنظمة، وكم من إمبراطوريات أَجبرت قانونيًّا الأفراد على عبادة إلهٍ معينٍ، ثم إنه لا توجد قوانين تناولت الانتحار/محاولة الانتحار؛ أي تناولت العلاقة بين الفرد ونفسه. في السياق الغربي، أين يكون، إذن، الفرق بين القاعدة القانونية والأخلاقية على مستوى البنية، فلا فرق على هذا المستوى عن القاعدة الأولى عن الثانية؛ لأنه يمكن ما يتعلق بالبنية أن نتحدث عن قاعده تنظم السلوك وحسب. ونصفها في الحالتين القانونية والأخلاقية؛ من حيث إننا نتحدث عن كون القاعدة توجب وتمنع وتبيح. وأما على مستوى الطبيعة، يوجد فرق يتمثل في أنّ القاعدة القانونية مرتبطة بالجزاء، إن غاب غابت، هل هذا يعني أنّ أدوات السلطة التنفيذية، هي العنصر الأساس في القاعدة القانونية؟ ينبغي القول إن الجزاء المرتبط بالقاعدة يكون عنيفًا، لكن أحكام قانون الكنيسة الكاثوليكية، مثلا، مرتبطة بعقوبات من دون عنف، وإن هذا المثال للقانون الكنسي يظهران القانون لا يفترض وجود دولة. إذن، الفرق بين القانون والأخلاق لا يكمن في أن العقوبة في القانون توقعها السلطة العمومية والعقوبة في الأخلاق لا توقعها هذه السلطة. بل الفرق أن الأخلاق ليس مرتبطًة ارتباطًا عضويًا بالعقوبة وإن كانت إلهية وهذا خلافٌ للقانون[31].
من هنا، نفهم قول أرسطو ومن بعده القديس توما الإكويني، بأن القانون يهدف إلى إصلاح الفعل الخارجي الذي يمكن للغير أن يتحكم فيه، ومن ثَمّ ما يمكن أن يعاقب عليه هذا الفارق في الطبيعة بين القانون والأخلاق. وهذا لم يمنع دولة كليانية من فرض قوانين تتعلق بالعقيدة، لكن هذه القوانين غير قابلة للتطبيق، وهكذا، فإن ما يمنع القانون من أن يوسّع في مجاله، ومن أن يتمدد إلى ما تمددت إليه الأخلاق أن القانون لا يستطيع أن يطبق في هذه الحالة. من كل ما تقدم، يُخْلَص إلى أن الأخلاق غير مرتبطة بالجزاء، وإن كان هذا الجزاء القانوني مرتبطًا ارتباطًا بالدولة أو غير الدولة. هذا عن الفرق، أما عن علاقة القانوني والأخلاقي، الأخلاق يمكن أيضًا أن نستثني الحالات النادرة التي يقرّ فيها القانون بقاعدة أخلاقية أو يأتي بقاعدة لا تتلاءم مع الأخلاق، أن تتمثل في أن يعاقب القانون ما هو منافٍ للأخلاق؛ بهذا يضيف القانون الجزاء، ويدعم بذلك الأخلاق، ويتجاهل القانون بعض القواعد الأخلاقية. مثلًا، ألا يتناول من قام بمحاولة الانتحار. يمكن أن نرى فارقًا آخر بين القانون والأخلاق من زاوية أخرى، القانون يعاقب المخالِف، ولا يثيب المحترم والمنفذ للقانون، أمّا في الأخلاق، فيمكن أن يكون الجزاء لا سلبيًا فحسب، بل إيجابيًا أيضًا[32].
في الحديث عن مفهوم الالتزام "القانوني" في سياق الوضعية القانونية يقول دوركين Dworkin أن لدينا فهمًا هشًا للغاية لهذه المفاهيم. ويمكن قول الشيء نفسه عن فكرة القانون نفسها؛ لأنه، كما يقول دوركين، "نحن معتادون على تلخيص مشاكلنا في مسألة الفقه الكلاسيكية: ما هو "القانون"؟[33] في الإجابة عن هذا السؤال ترى الوضعية القانونية النظرية العامة لما هو القانون – عام بمعنى أنه غير مرتبط بنظام قانوني معين، أو ثقافة قانونية، ولكن يسعى لإعطاء توضيح وتبيان معنى القانون[34]. ماذا تقول الوضعية القانونية عن القانون، إذن؟ التوصيف الذي قدمه دوركين، يؤكد أنّ الوضعية القانونية، أولًا: إنّ القوانين هي قواعد مدعومة من القوة العامة، التي يستخدمها مجتمع من الناس، لتنظيم أعمالهم والشؤون في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية. لكن الأكثر إثارة للاهتمام، "هذه ... القواعد يمكن تحديدها وتمييزها بمعايير محددة، عن طريق الاختبارات التي لا تتعلق بالمحتوى ولكن بنسبتها أو الطريقة التي بها اعتُمدت أو تطورت[35]. النظام القانوني لديه اختبار أساسي للقانون في شكل قاعدة تقريرية[36]. ثانيًا: إن مجموعة من هذه القواعد القانونية الصحيحة هي شاملة لكلٍّ من "القانون"؛ بحيث، إذا لا تغطي هذه القاعدة حالة شخص ما بشكل واضح ... ثم لا يمكن أن تقرر هذه القضية من خلال التطبيق الجاف للقانون، بل يجب أن يقرّرها بعض المسؤولين، مثل القاضي، عند ممارسة سلطته التقديرية، وهو ما يعني التخطي وراء القانون لجلب أنواع من المعايير لإرشاده في تصنيع قاعدة قانونية جديدة أو تكملة قاعدة قديمة.. ثالثًا: [يقول] دوركين إن شخصًا ما لديه التزام قانوني، هو القول إن قضيته تقع بموجب قاعدة قانونية صالحة تتطلب منه القيام به أو الامتناع عن القيام بشيء ما.... في غياب مثل هذه القاعدة القانونية الصحيحة، لا يوجد أي التزام قانوني. الجدل الذي يطرحه دوركين بعدم وجود تمييز نهائي بين القواعد القانونية والمعايير الأخلاقية هو بالضبط ما ينكره جون أوستن في هذه الكلمات الشهيرة: وجود القانون هو شيء بعينه؛ الفضل أو الجدارة والنقص هو آخر. سواء كان أو لا يكون هو استفسار واحد؛ سواء كان ذلك أو لا يكون متوافقًا مع معيار مفترض، فهو تحقيق مختلف. القانون، الموجود بالفعل، هو قانون، على الرغم من أننا نكرهه، أو أنه قد يختلف عن النص الذي ننظم بموجبه أنفسنا استحسنناه أو ورفضناه[37].
في السياق الإسلامي، جادلت المعتزلة بأن العدالة معروفة من خلال العقل البشري؛ وفي القطب الآخر، جادل (أهل الحديث) والأشاعرة أن السبب (العقلانية) هو بالضرورة نزوي ومتقلب، وأن العدالة لا تتحقق إلا من خلال الوحي. بالمقابل، على حد تعبير عبد الجبار، إن الوحي يكشف فقط جوانب في خصيصة هذه الأفعال التي يجب أن نتعرف على شرورها أو صلاحها من خلال التعقل؛ لأننا إذا عرفنا أن الصلاة ذات فائدة عظيمة لنا ... وأننا سنكافأ في الحياة الآخرة، كان ينبغي لنا أن نعرف طابعها الإلزامي [أيضًا] بسبب التعقل. لذلك نقول إن الوحي لا يستلزم وجوب الشر أو الخير من أي شيء، فإنه يكشف فقط عن خصيصة الفعل عن طريق الإشارة اليه. لكن من غير المقبول، عمومًا، الادعاء أن المعتزلة كانوا نفعيين. وفقًا لحوراني، اختار المعتزلة تحديد المصطلحات الأساسية للأخلاقيات بطرق تتفادى الغائية. أخلاقيات المعتزلة تحاول تحديد أن الفعل صحيح أم خاطئ؛ لأنها تفسر واجبًا (إلزاميًا) حسنًا وقبيحًا (سيئًا) ليس بالكامل، من خلال العلاقات مع المآلات، ولكن في بعض الأحيان على الأقل كخصيصة الأفعال نفسها[38].
تقرّ المدرسة الوضعية متمثلة بهارت أن للقانون مكنوناتٍ أخلاقيةً، ويؤكد دوركين أنّه في بعض المسائل نحتاج أن نذهب إلى ما وراء القانون؛ لنُقِرَّ قاعدة قانونية أو ننشئ قاعدة جديدة. إذن، لا يمكن فصل الأخلاق عن القانون بالتمام. بالمقابل تُقرّ المدارس القانونية الغربية باستخدام العقلانية في التشريع. وتقر بوجود أنساق ومنظومات قانونية موضوعية وضعية يتوصل لها العقل البشري من فعل الإنسان الحداثي العقلاني غير الموضوعي (النسبي). بالمقابل، فإنّ بناء نظرية معرفة قانونية بحسب منهجية متسقة، ترتكز على مرجعية النص الشرعي، يعتبرها البعض تنافي العقلانية. ولا يجدر بنا الانغلاق ضمن نسق وجودي أو ديني ما، الحقيقة أن نمط وأسلوب حياة العقلانية الحداثية مضبوطة ومقيدة بمنظومات وأنساق في جميع مجالات الحياة ومن ضمنها التقييدات القانونية. وفي هذا السياق، تجد أن مبادئ العقلانية يتم تَبَنِّيها، مع الزعم أنها ليست مبنية على أي مبدأ عقلي وأية أسس قبلية، والواقع أن هذا الزعم يظلّ مجرّد ادعاءٍ وهميٍ دون أي تحقق فعلي في سلوكه التفكري والعملي؛ لأن العقلانيّ حين يفكر وينتج معرفة قانونية ما ينطلق من نسق معرفي ما، أو نظرية قانونية معينة في البحث العلمي، ويعالج معطيات بحثه بمبادئ عقلية ومعارف قبلية ما، وإلا لما كانت هناك أي إمكانية لإنتاج معرفة عملية.
والسؤال المثير للجدل هنا، هل القانون قوالب جاهزة لتنظيم المجتمع أم أن المجتمع يضع القانون لتنظيمه؟ لا تنسف المجتمعات تقاليدها ومورثها العلمي، مثلًا، المذهب التفسيري يستند إلى نص ومرجعية، الذي يرجع إلى مقاصد واضعي الدستور الأمريكي. إذن، في تحديد أخلاقية التشريع في السياق الإسلامي نستند إلى مرجعية شرعية مبنية على نظرية معرفة إسلامية خاصة، مرتبطة بوجودية إيمان، وترتكز على منهجية تأسست من خلال علم أصول الفقه. العملية متشابكة ليست عامودية وتتضمن تحليل للأحكام الشريعة، وليست المسألة تقنية مجردة؛ إذ إن ربطها بالمقاصد الشرعية والمصالح يجعلها مختلطة بالأخلاق. لذلك في التقنين الشرعي، هناك وجود للمبادئ والسياسات والمعايير التي يفتقرها القانون الغربي الخالص. وصف أبو حنيفة الفقه بأنه معرفة الروح/النفس حقوقها وواجباتها. وفي الخطاب الفقهي، التقوى، والأخلاق، والقانون تتحد في رواية واحدة متماسكة. تتشابه المعتزلة مع أنصار القانون الطبيعي في السياق الغربي؛ حيث للعقل منزلة أولى، أما الأشعرية تتفق مع مدرسة الوضعية القانونية في أنّ المرجعية الأولى للنص، غير أن الاختلاف الجذري، هنا، أنّ ثوابت النص الشرعي وقطعياته لا تتبدل، وتتغير بمرور الزمان، إلا أنه بالنسبة للقانون الوضعي، فما هو لازم وضروري وقطعي في مرحلة ما من التاريخ قد يتغير ويتبدل بتطور المجتمع، والذي حاجته هي التي تتحكم بمشروعية القوانين، علمًا أنّ تقدير العامة لما هو مناسب لها مثار جدل في النظريات القانونية الغربية؛ فمنهم مَن يرى بتقيد العامة في تحديد مصلحة المجتمع، وهذا يقع في صلب نقد مفهوم الديمقراطية. مثلًا، كانت العلاقة الزوجية الشرعية لا تتم إلا من خلال عقد يقرّه القانون، وبطابع رسمي؛ بل حتى مكان انعقاد العلاقة (الكنيسة) كان شرطًا أساسيًّا، لكن بمرور الزمن، وبموت الكنيسة، صارت العلاقة الزوجية تعتبر شرعية في إطار خارج عقد زواج رسمي، مثلًا في إطار القانون العقلاني. ولمّا احتكرت الدولة صفة المُشَرِّع، وصارت هي مَن يحدد ما هو قانوني أو غير قانوني، غير مكترثة لأخلاقية هذا التقنين، ولطالما الأمر صدر من قبل الدولة صاحبة السيادة، فيجب أن يُطاع. مع أنّ، هنا أيضًا، حصل تقييد للحريات من قبل الدول التي فرضت نفسها، وأيديولوجيتها الفكرية والسياسية من خلال القانون. في عملية التقنين وفي الحالة الجيدة – ليس ليبيرالية متطرفة – الدولة تُشرِّع، وتكون منحازة، وغير موضوعية؛ لأنّ الأمر لا يسمح أن تكون غير منحاز، لذا عملية تحديد الحرية المجتمعية نسبية، وضابطها موافقة غالبية المجتمع. لكن، بما أنّ التشريعات تلك، بحسب تصنيف أبو حامد الغزالي في كتاب محك النظر تتعلق بالمشهورات، مثل تحديد أن الكذب قبيح، تعتمد على شهادة الكل أو الأكثر أو شهادة الجماهير. إذن، المشهورات لا تُضفي إلى يقين، وهي نسبية ومحل خلاف ونظر، بحسب الجهة المُشَرِّعة، وبما أنّ هذه الجهة تتبع توجهًا فكريًا معينًا، فعندما تُقنِّن، لا تأخذ بالحسبان الأخلاق. فقد تُلغِي هذه القوانين أحد الثوابت الأخلاقية. فلا غرابة، أن فرنسا سنت مؤخرًا قانونًا ووفق مبدأ الحرية المجتمعية، يحظر تسجيل كلمة أم أو أب في الاستمارات والأوراق الرسمية؛ بل أوجبت تسجيل "والد رقم 1" و"والد رقم 2". أما في الحالة الإسلامية فإن القانون ينشأ مستقلًا من خلال الفقهاء غير الرسميين، وكذلك هو في خدمة الفرد يحميه من سطوة الحكم السياسي؛ فطبقة الوسط المفتي-غير الرسمي تضمن سيادة القانون على الحكم السياسي المؤدلج. إنّ الحرية المجتمعية بمفهوم القانون الحديث ليست من مقاصد الشريعة؛ بل العدل المجتمعي، والقسط المجتمعي، هو المعنى المقاصدي السليم. الصورة الكلية، هي أنه لا بدّ من أن تبقى المحكّمات الشرعية ثابتة؛ لأن لها مقصودات تتعلق بالنظام الاجتماعي الإسلامي ككل، ولا يصح أن نلبس منظومة الحرية المجتمعية – كما يفهمها القانون الحديث – لباس مقاصد الشريعة؛ فالشريعة لها نظامها الخاص، ويُطبَّق وفق نسق وجودي ومعرفي أصلاني متكامل، دون تجزئة مخلّة بمقاصده وأهدافه.
أولًا: العربية
أغامبين، جورجو. حالة الاستثناء. ترجمة ناصر إسماعيل. القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2015.
حلاق، وائل. القرآن والشريعة: نحو دستورية إسلامية جديدة. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019.
روسّو، جان جاك. العقد الاجتماعي. ترجمة عادل زعيتر. بيروت: دار الرافدين، 2012.
الزروقي، عبد المجيد. أصول الفقه - مسار عملية استنباط القانون الإسلامي (منهجية الفقه) وفلسفته. بيروت: دار الكتب العلمية، 2017.
سعيد، إدوارد. الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق. القاهرة: دار رؤية للنشر والتوزيع، 1978.
الشاطبي. الموافقات في أصول الشريعة. دار ابن عفان، ط1، الأوقاف السعودية، 1997.
الشافعي، محمد بن إدريس. الرسالة. تحقيق أحمد محمد شاكر. القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، 1358هـ/1940م.
شميت، كارل. اللاهوت السياسي. ترجمة رانية الساحلي وياسر الصاروط. الدوحة/بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018.
الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد. المستصفى. تحقيق محمد عبد السلام عبد الشافي. القاهرة: دار الكتب العلمية، 1993.
مونتسكيو، شارل. روح الشرائع. ترجمة عادل زعيتر. الجزء 1-2. القاهرة: دار المعارف، 1953-1954.
ميل، جون ستيوارت. الحرية. تعريب طه السباعي، ط1. الإسكندرية: مكتبة ومطبعة الشعب، 1922.
ثانيًا: الأجنبية
Agamben, Giorgio. Aghāmbyn, jwrjw. ḥālat al-Istithnāʼ, (in Arabic), trans Nāṣir Ismāʻīl. al-Qāhirah: Madārāt lil-Abḥāth wa-al-Nashr, 2015.
Al-Zarrūqī, ʻAbd al-Majīd. uṣūl al-fiqh-masār ʻamalīyat istinbāṭ al-qānūn al-Islāmī (manhajīyah al-fiqh) wa-falsafatuhu. (in Arabic), Bayrūt: Dār al-Kutub al-ʻIlmīyah 2017.
Al-Shāṭibī. al-Muwāfaqāt fī uṣūl al-sharīʻah. (in Arabic), al-Awqāf al-Saʻūdīyah Ed., Dār Ibn ʻAffān, 1997.
Al-Shāfiʻī, Muḥammad ibn Idrīs. Al-Risālah. (in Arabic), taḥqīq Aḥmad Muḥammad Shākir. al-Qāhirah: Muṣṭafá al-Bābī al-Ḥalabī 1358 H-1940.
Al-Ghazālī, Abū Ḥāmid Muḥammad ibn Muḥammad. Al-Mustaṣfá. (in Arabic), taḥqīq Muḥammad ʻAbd al-Salām ʻAbd al-Shāfī. al-Qāhirah: Dār al-Kutub al-ʻIlmīyah 1993.
Arendt, Hannah. The Origins of Totalitarianism New ed. with added prefaces ed. San Diego New York London: Harcourt Brace Jovanovich, 1994.
Austin, John, and Wilfrid E Rumble, The Province of Jurisprudence Determined. Cambridge: Cambridge University Press 1995.
Bentham, Jeremy. An Introduction to the Principles of Morals and Legislation Dover ed. Mineola N.Y: Dover Publications, 2007.
Coulson, N. J. A. History of Islamic Law. Edinburgh University Press, 1964.
Dworkin, Ronald. Taking Rights Seriously. Cambridge, Mass... Cambridge University Press, 1978.
Foucault, Michel. Power: Essential Works of Foucault, 1954-1984, edited by James Faubion, New York: the New Press, 1973.
Foucault, Michel. The Archaeology of Knowledge and the Discourse on Language. New York: Barnes & Noble, 1972.
Galanter, Marc. “The Modernisation of Law” in: Myron Weiner, ed., Modernisation: The Dynamics of Growth. New York: Basic Books, 1966.
Ḥallāq, Wāʼil. Al-Qurʼān wa-al-sharīʻah: Naḥwa dustūrīyat Islāmīyah jadīdah. (in Arabic), Bayrūt: al-Shabakah al-ʻArabīyah lil-Abḥāth wa-al-Nashr, 2019.
Hallaq, Wael. The Impossible State: Islam, Politics, and Modernity's Moral Predicament. New York: Columbia University Press, 2013.
Hart, H. L. A. The Concept of Law. 2nd ed. Oxford New York: Clarendon Press; Oxford University Press, 1994.
Hourani, George. Reason and Tradition in Islamic Ethics. Cambridge: Cambridge University Press 1985.
Mill, John Stuart. Al-Ḥurrīyah (in Arabic), taʻrīb Ṭāhā al-Sibāʻī, al-Iskandarīyah: Maktabat wa-Maṭbaʻat al-Shaʻb, 1st Ed, 1922.
Montesquieu, Charles. Rūḥ al-sharāʼiʻ. (in Arabic), trans ʻĀdil Zuʻaytir. B 1-2. al-Qāhirah: Dār al-Maʻārif, 1953-1954.
Rousseau, Jean-Jacques. Al-ʻIqd al-ijtimāʻī. (in Arabic), trans ʻĀdil Zuʻaytir. Bayrūt: Dār al-Rāfidayn 2012.
Said, Edward. Al-Istishrāq: al-mafāhīm al-Gharbīyah lil-Sharq. (in Arabic), al-Qāhirah: Dār ruʼyah lil-Nashr wa-al-Tawzīʻ, 1978.
Schmitt,Carl. Al-Lāhūt al-siyāsī. (in Arabic), trans Rāniyah al-Sāḥilī wyāsr alṣārwṭ. al-Dawḥah/Bayrūt: al-Markaz al-ʻArabī lil-Abḥāth wa-dirāsat al-Siyāsāt, 2018.
Young, Robert. Post colonialism: An Historical Introduction. Oxford UK: Blackwell 2001.
[1] الدولة ككيان قانوني لها مركز قانوني معنوي، لها شخصيتها القانونية، تُقاِضي وتُقَاضَى، مثلها مثل الشخص (الفرد) القانوني العادي.
[2] شارل مونتسكيو، روح الشرائع، ترجمة عادل زعيتر، الجزء 1-2 (القاهرة: دار المعارف، 1953-1954).
[3] جان جاك روسّو، العقد الاجتماعي، ترجمة عادل زعيتر (بيروت: دار الرافدين، 2012).
[4] جون ستيوارت ميل، الحرية، تعريب طه السباعي، ط1 (الإسكندرية: مكتبة ومطبعة الشعب، 1922).
[5] E.D. Hirsch, Validity in Interpretation (New Haven: Yale Univ. Press, 1967).
[6] كارل شميت، اللاهوت السياسي، ترجمة رانية الساحلي وياسر الصاروط (الدوحة/بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018(، ص51.
[7] Young Robert, Postcolonialism: An Historical Introduction (Oxford UK: Blackwell, 2001).
[8] إدوارد سعيد، الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق (القاهرة: دار رؤية للنشر والتوزيع، 1978).
[9] Michel Foucault, The Archaeology of Knowledge and the Discourse on Language (New York: Barnes & Noble, 1972), p. 114.
[10] Robert, p. 64.
[11] جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2015) ص44.
[12] السابق نفسه.
[13] Marc Galanter, "The Modernisation of Law”, in: Myron Weiner, ed., Modernisation: The Dynamics of Growth (New York: Basic Books, 1966), pp. 153-165.
[14] Hannah Arendt, The Origins of Totalitarianism (San Diego: Harcourt, 1976), pp. 139-157.
[15] وائل حلاق، القرآن والشريعة: نحو دستورية إسلامية جديدة (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019)، ص32.
[16] السابق، ص35.
[17] السابق نفسه.
[18] Wael Hallaq, The Impossible State: Islam, Politics, and Modernity’s Moral Predicament, (U.S.A: Columbia University Press, 2013), pp. 48-70.
[19] Ibid. pp. 37-73.
[20] Michel Foucault, Power: Essential Works of Foucault, 1954-1984, edited by James Faubion, (New York: the New Press, 1973), pp. 207-220.
[21] Hallaq, pp. 89-79.
[22] N. J. Coulson, Introduction to Islamic Law (Edinburgh: Edinburgh University Press, 1964), p. 34.
[23] حلاق، ص25,
[24] الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة (دار ابن عفان، ط1، الأوقاف السعودية، 1997)، ص25.
[25] السابق، ص61.
[26] محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة. تحقيق أحمد محمد شاكر (القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، 1358هـ/1940م). ص39.
[27] أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، المستصفى. تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي (القاهرة: دار الكتب العلمية، 1993)، ص172.
[28] الشاطبي، ص61.
[29] حلاق، ص126.
[30] H. L. A. Hart, The Concept of Law (Oxford New York: Clarendon Press; Oxford University Press, 2nd ed, 1994), p. 24.
[32] السابق، ص34.
[33] Ronald Dworkin, Taking Rights Seriously (Cambridge, Mass. Cambridge University Press 1978), p. 14.
[34] Hart, p. 24.
[35] Dworkin, p. 17.
[36] Ibid. p. 59.
[37] John Austin, and Wilfrid E Rumble, The Province of Jurisprudence Determined (Cambridge: Cambridge University Press, 1995), p. 157.
[38] Fathi Hourani, Reason and Tradition in Islamic Ethics (Cambridge, UK: Cambridge University Press, 1985), p. 153.