تاريخ الاستلام: 24 أغسطس 2022

تاريخ القبول: 07 يناير 2023

مقالة بحثية

ما بعد ثنائيات الخطاب الاستشراقي المانوية الصلبة: اليقين الحضاري وعسكرة الهجنة الثقافية في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)

مولاي عبد الصادق أهل بن الطالب

أستاذ باحث مساعد، كلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية، أيت ملول، جامعة ابن زهر، المغرب

a.ahlbentaleb@uiz.ac.ma

ملخص

تتناول الدراسة سؤال الهجنة الثقافية، نظرًا لمركزية هذا المفهوم في الدراسات الما بعد كولونيالية كنتاج حتمي لجهة طمس الهوية على تماس الحضارات بفعل المؤثر الاستعماري، بحيث تمسي هوية الكائن الهجين فضاء للتفاوض لا يتيح بالضرورة إمكانية الرجوع إلى الأصول ولا العبور المكتمل إلى مواقع الذات المتجددة. خلال مقاربة منهجية بينية لرواية الأديب السوداني الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، ضِمْنَ سياقها التاريخي وبآليات استقرائيَّة واستنباطيَّة وتناصِّية، حاولت الدراسة استقصاء مقاربات الناقد الهندي هومي بابا الثقافية وتشخيص فرانز فانون السيكولوجي العصابي، واستشراقية إدوارد سعيد للحالتين الكولونيالية والما بعد كولونيالية في قراءة نقدية تتجاوز قراءات الثنائيات الحضارية التضادية بين الشرق والغرب. سعى البحث لرصد مدى تماسك أو ضمور أو تحييد الثنائيات المانوية المتضادة من منظور سعيد في الرواية، وحدود الرغبة لدى الشخصيات الرئيسة في الانزياح الهوياتي لاستكشاف بعد ثالث أكثر تركيبية وعمقًا في تشخيص التجربة الاستعمارية في سياقها الشرقي المتميز حضاريًا. وخَلُصَ البحث إلى أن الشخصية الرئيسة، موضوع الهجنة الثقافية، لم تبرح شرقيتها كاملًا رغم سعيها نحو ازدواجية الانتماء. كما أنها احتفظت بوعيها باللحظة التاريخية الفارقة والحمولة الحضارية للصراع بين الغرب والشرق اللذين أطرا مسارها. كل هذا يجعل منها كائنًا هجينًا متفردًا يفلت من تصنيفات كل من هومي بابا الخلالية، تابعية سبيفاك، سيكوباتية فانون، أو تقاطبات سعيد المانوية الصلبة؛ نظرًا للهوية المستمدة من سياق حضاري عربي مختلف.

 الكلمات المفتاحية: الخطاب الاستشراقي، ما بعد الكولونيالية، المانوية، الهجنة، اليقين الحضاري

للاقتباس: أهل بن الطالب، مولاي عبد الصادق. «ما بعد ثنائيات الخطاب الاستشراقي المانوية الصلبة: اليقين الحضاري وعسكرة الهجنة الثقافية في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)»، مجلة تجسير، المجلد الخامس، العدد 1 (2023)

© 2023، أهل بن الطالب، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.

 


 

Submitted: 24 August 2022

Accepted: 7 January 2023

 Research Article

Post-Manicheanism: Civilizational Certitude, and Militarized Hybridity in Season of Migration to the North

Moulay Abdessadek Ahl Ben Taleb

Assistant Research Professor, Faculty of Languages, Arts, and Human Sciences, Ait Melloul, Ibn Zohr University, Morocco

a.ahlbentaleb@uiz.ac.ma

Abstract

The study explores the issue of cultural hybridity, given its centrality in post-colonial studies as an inevitable outcome of identity erasure at the intersection of civilizations due to colonial influence. The hybrid identity becomes a negotiating space that does not necessarily allow for a return to origins or complete transition to renewed self-positions. Employing a binary approach to the narrative of Sudanese writer Tayeb Salih in "Season of Migration to the North," within its historical context and through inductive, deductive, and intertextual mechanisms, the study seeks to investigate the cultural approaches of Indian critic Homi Bhabha and the psychoanalytical diagnosis of Frantz Fanon, as well as Edward Said's Orientalism, in both colonial and post-colonial contexts, going beyond the dichotomous readings of conflicting Eastern and Western civilizations.

The research aims to examine the cohesion, deterioration, or neutralization of the opposing Manichean binaries from Said's perspective in the novel, and the limits of desire for the main characters in their identity shifts, exploring a third dimension that is more intricate and profound in diagnosing the colonial experience within its distinctive Eastern cultural context. The study concludes that the main character, as the subject of cultural hybridity, has not completely shed their Eastern identity despite their pursuit of dual belonging. They have retained their awareness of the pivotal historical moment and the civilizational significance of the conflict between the West and the East that shaped their trajectory. All of this makes them a unique hybrid entity that defies categorizations by Homi Bhabha's liminality, Spivak's subalternity, Fanon's psychopathology, or Said's rigid Manichean binaries, due to the identity derived from a distinct Arab cultural context.

Keywords: Postcolonialism; Manichaeanism; Hybridity; Civilizational certitude

Cite this article as: Ahl Ben Taleb, Moulay Abdessadek. "Post-Manicheanism: Civilizational Certitude, and Militarized Hybridity in Season of Migration to the North," Tajseer Journal, Vol. 5, Issue 1 (2023)

© 2023, Ahl Ben Taleb, licensee QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited.

 


 

مقدمة

متضادات الحالة الوجدانية التي طبعت نفسيات شخصيات رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للكاتب السوداني الطيب صالح، يجعلها حدثًا استثنائيًا في تاريخ الرواية العربية وأهم الأعمال الأدبية العالمية التي تقارب جدلية الهوية الثقافية والتواصل مع الآخر، وما ينتج عنها من استكشاف له وذوبان فيه، وبالتالي فقدان الهوية أو الوعي بالذات ومواجهته.

على ضوء تنظير إدوارد سعيد للحالة الاستشراقية بِقُطْبَيْهَا الرجل الشرقي مقابل المستعمِر الأوروبي في شكل ثنائيات صلبة، تأتي الاستعارات المجازية المانوية للكاتب الكيني عبد الرحمن جان محمد مُرَكِّزَة على التضارب بين التفوق الأوروبي المزعوم، والدونية المفترضة لمواطني البلدان المستعبَدة أو المحتلة في شكل نموذج ثنائي التمثلات[1]. ورواية (موسم الهجرة إلى الشمال) تعد علامة فارقة في الأدب العالمي؛ لنجاحها في التعبير عن خطاب ما بعد الكولونيالية، وما يحمله من ارتهان لماضٍ مؤلم، وتَوقٍ لمستقبل غير واضح المعالم، من زاوية هذه الاستقطابية الضدية الحادة وتَمَثُّلاَتِهَا، إلا أنّ الرواية توفر إمكانية استقصاء مفهوم آخر أكثر تركيبية وعمقًا، هو الهجنة الثقافية والعالم البيني، الذي انبرى للتنظير له الناقد الهندي هومي بابا، والتأثيرات النفسية العصابية المقترنة بلون البشرة من منظور الطبيب النفساني المارتيني فرانز فانون. في هذا السياق الصدامي تارة والاستكاني تارة أخرى، توفر البينية فضاءَ تهجين للهوية الثقافية، وطمس لنقاط تماس الأنا والآخر، عن طريق تَحَقُّقِ التجاوز المفترض لحدودهما. فتموقعُ الذات على تماس الحضارات يستدعي هُويات جديدة يطبعها التجاذب والسيولة، فتصبح معها هوية الكائن الهجين فضاءً لتفاوض لا يتيح إمكانية الرجوع إلى الأصول، ولا العبور إلى مواقع الذات المتجددة، مما يعني ضمور الثنائيات المانوية الضدية الصلبة دون إلغائها؛ حيث تتلاشى مركزية الهوية وتتشظى، بفعل المؤثر الاستعماري، فتمسي معها محاولة الانعتاق مريرة وعبثية ونتائجها عكسية.

من هنا، ارتأت الدراسة أن تستقصي تجليات هذه التموقعات البديلة وغير المكتملة للهوية المنزاحة في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)؛ سعيًا لبيان مدى تماسكها مقابل الثنائيات المانوية المتضادة؛ بل إمكانية تجاوزها من خلال التجارب المريرة لشخصيات الرواية الرئيسية، عبر استنطاق النص لرصد مدى التجاوز ومستوياته. فهي محاولة لكشف تجليات هذا التهجين في مراوحته الواعية والمدمرة بين ثنائيات الأنا والآخر من منظور إدوارد سعيد (Edward Said)، ومن زاوية كلٍّ من هومي بابا (Homi Bhabha)، وفرانز فانون (Frantz Fanon). يبقى القصد الإجابة عن السؤال المحوري العام: إلى أي حدٍّ نجحت التجربة الكولونيالية في مهمة التثقيف عبر سياسة التغريب الموجهة نحو مجتمعات أصيلة تحمل خطابًا حضاريًا نديًا بديلًا أو متكافئًا على أقل تقدير؟، وماهي نتائجها العكسية، خصوصا النفسية منها، على مجتمع ملون، غيريته مركبة؟

أولًا: الحالة الاستشراقية في بعدها الثالث

تشكل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) حقلًا خصبًا تتمثل فيه الظاهرة الاستشراقية التي رصدها إدوارد سعيد بكل أبعادها بشكلٍ جليّ، مفادها أن الغرب اختلق صورة خاصة ومتخيلة وذات أبعاد فانتازية عن "الشرق"، تتجاوز الواقع إلى حدّ التناقض، بل ذهب الخطاب الاستشراقي الغربي لتأسيس مشروع استعماري على أرض الواقع، أُطُرُهُ ثقافية وإيديولوجية، وُكِّل لمؤسسات إدارية، وهيئات دراسية، ومجــامع علميــة، وأجهزة بيروقراطية، أساليبها استعمارية صرفة؛ الشيء الذي أثبت العلاقة التآمرية بين المستشرِق والمستعمِر[2]. ما يفيد البحث هو الثنائيات الصلبة التي ابتدعها الخطاب الاستشراقي حسب إدوارد سعيد لتناول العلاقة الثنائية الضدية بين قطبيه الأوليين؛ الشرق والغرب وتمثلاتهما المتفرعة. ورغم دور سعيد المؤسس في وضع اللبنات الأولى لنظرية ما بعد الاستعمار، برز جيل جديد من المنظرين ناقشوا أطروحاته؛ بل كشفوا عن أوجه القصور فيها، وانبروا لتطويرها لتتناسل من خلالها نماذج بديلة أكثر تركيبية وعمقًا، تبلورت من خلال إسهامات، منها: مراجعات إدوارد سعيد نفسه تأسيس ما سُمي بنظرية ما بعد الاستعمار التي أعطت زخمًا للخطاب النقدي للعالم الثالث في تناوله للإرث الاستعماري الغربي برمته في امتداداته الحضارية؛ اجتماعيًا أو اقتصاديًا أو سياسيًا أو ثقافيًا أو لغويًا.

لعل أحسن توصيف للمرحلة هو ما ابتدعه كل من بيل أشكروفت (Bill Ashcroft) وغاريث غريفيث (Gareth Griffiths) وهيلين تيفين (Helen Tiffin)، على أنه عملية إبطال (Abrogation) ومصادرة (Appropriation) لخطاب المستعمِر؛ لإعادة كتابة التاريخ الكولونيالي في تجلياته الاجتماعية والسياسية والثقافية بعيدًا عن تحيزات الغرب المعرفية، ونزوعه التنميطي بلمسة عجائبية وغرائبية لكل ما هو خارج حدود الأنا[3].

تأتي اللغة في مقدمة هذا المشروع التصحيحي كحَمَّالة لازدواجية الخطاب الغربي، وتحيزه الإبستمولوجي، ووسيلته لترسيخ مركزيته في عالم مطبوع بحتمية غيرية بامتياز. وفي خضم ذلك، ظهرت مقولات جديدة توصِّف الحالة الاستعمارية، مقابل الثنائية القطبية التي طبعت نموذج الاستشراق عند إدوارد سعيد؛ حيث أصبحت معها العلاقة بين الشرق والغرب ثلاثية التَّمَثُّلاَتْ، كما رصدها هومي بابا في كتابه (موقع الثقافة) في شكل نموذج "الهجنة الثقافية والفضاء الثالث". فحالة الهجنة هذه تجد لها صدىً داخل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) رغم الثنائيات الطاغية في سردية الطيب صالح. فمن منظور هومي بابا، تتكشف الحالة الما بعد كولونيالية، كمنطقة رمادية تطغى على عالم صُوِّرَ بمصطلحات ثنائية بسيطة تختزل فكرة تطلعات الشعوب بالأبيض والأسود، متغافلة عن قصد أو غير قصد إمكانية التفاوض رغمًا عن التقاطب الحاد. لهذا، اعتمد هومي بابا استعارة السُلَّمْ لتسليط الضوء على سمات هذا الفضاء الحدي (liminal) التفاوضي الثالث الذي يبدو[4] "مساحة بين تحديدات الهوية أو عملية تفاعل رمزي، أو نسيجًا رابطًا يبني الاختلاف بين الأعلى والأسفل، الأسود والأبيض. فالتنقل جيئة وذهابًا بين طرفي السلم، وما يتيحه من حركة ومرور مؤقتين، يمنع الهويات الواقعة على طرفيه من التموضع في شكل تقاطبات أصلية. إن هذا الممر الخلالي بين التحديدات الثابتة للهوية يفتح إمكانية التهجين الثقافي الذي يحتفي بالاختلاف دون تراتبية مزعومة أو مفروضة"[5].

ركّز هومي بابا على استكشاف هذه الحالة البينية التي تُفلت نظريًا من قبضة ثنائيات الشرق والغرب، والأنا والآخر، السيد والعبد، والداخل والخارج، نحو فضاء جديد لا تنتسب فيه الهويات إلى سمات ثقافية معينة. فمثلًا، السيد والعبد، والمستعمِر والمستعمَر لا يمكن النظر إليهما في عُرف بابا على أنهما كيانان منفصلان، يُحدّد كل منهما ذاته على نحو مستقل؛ بل هناك تواجهٌ وتفاوضٌ وتبادل يُنْتِجُ موقعًا هجينًا يبرز الاختلاف الثقافي تنبثق من رَحِمِه معارف ومعاني جديدة. فالهجنة عند بابا تُبقي مجال الهوية والانتماء مفتوحين على التفاوض، بشكل يصبح معه صفاء هذه الهوية وهذا الانتماء متجاوزًا، بل مستحيلًا وغير قابل للاسترجاع.

من هنا، جاء اعتماد الدِراسة لمفاهيم التنكر عبر المحاكاة (Mimicry) والمراوحة أو التجاذب الوجداني ((Ambivalence وازدواجية التكوّن الثقافي للشخصية الإنسانية أو الهجنة الثقافية Hybridity))؛ نظرًا لمحوريتها في أدب الكولونيالية بموازاة نموذج الثنائية الاستقطابية الصلبة الأنا/الآخر، التي أثَّثَتْ الخطاب الكولونيالي والما بعد كولونيالي لعقود. فتأصيلًا لهذه المفاهيم المنبثقة من الخطاب والنظرية النقدية الما بعد الكولونيالية، يرى هومي بابا أن الحالة الاستعمارية تتيح إمكانية تنكر المستعمَر لهويته عبر محاكاته للمستعمِر من خلال تبني عاداته الثقافية وقيمه المستنسَخة؛ حيث يكون "التنكر الكولونيالي هو الرغبة في آخر مُعَدَّل أو مُصْلَح وقابل للمعرفة، بوصفه ذاتًا لا اختلاف. هو الشي ذاته تقريبًا إنما ليس تمامًا"[6]. وتستمد هذه المحاكاة فعاليتها من خلال إنتاجها المستمر لانزلاقها لفائضها ولاختلافها دون حسم. كما أن نجاح "التَمَلُّك الكولونيالي يتوقف على تكاثر موضوعات غير مُتَمَلَّكَة أن تضمن إخفاقه الاستراتيجي، بحيث يكون التنكر شبهًا وتهديدًا في آنٍ معًا"[7]. السؤال هنا، إلى أي حد يمكن الجزم بأن هذه الحالة تنطبق على شخصية مصطفى سعيد داخل رواية صالح؟ رواية الطيب صالح تعكس توظيف العامل الأول بوعي وذكاء؛ لتحقيق الهدف الثاني عن طريق إثبات الذات من زاوية الصراع الحضاري. فهي محاكاة وظيفية بدرجة كبيرة؛ لأن شخصية الرواية تجعل معترك الهجنة مطية لبلوغ المركز، فإمكانية الانتقام الحضاري متاحة مباشرة وبوفرة. هي أيضا محاكاة مجندة تمت عسكرتها بحمولة ويقين حضاريين، ولا تُعِير تفوق المستعمر المرحلي أي اهتمام ولا تحسّ بأي مُرَكب نقص تجاهه؛ بل يكسبها كل ذلك إحساسًا بالتفوق المضاد، رغم أنها تتشبَّه به ابتداء. في النهاية، يتيح التنكر عبر المحاكاة الرجوع إلى القواعد وتسجيل انتصار يستحضر مقولة إدوارد سعيد في توصيفه للحضارة الإسلامية كونها "صدمة نفسية متصلة الحلقات" لأوروبا[8]. ويبقى تحديد ما إذا كان الثناء على الذات وتشويه الآخر نزعة أوروبية خالصة أم ممارسة متحققة في خطاب الجانبين من خلال تجربة مصطفى سعيد.

تقدم رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) محاكاة معيبة وخاطئة بوعي وإدراك للحظة؛ لأنها لا تروم اكتساب الهوية المتملكة للمستعمِر (أو ليس تمامًا) أو استيعاب الذات موضع تلك المحاكاة داخل المركز كأهداف في حد ذاتها كما تصورها هومي بابا، لكنها محاكاة من أجل انتهاك وانتقام ليست بالضرورة معنية بعصابية فانون إلى حد بعيد كذلك. في هذا الصدد، يقدم مصطفى سعيد نموذجًا مختلفًا للهجنة الثقافية لكونه حاملًا لخطاب استعلائي أطره تاريخية وحضارية بامتياز تجاه المُستعمِرِ، مما يطرح إشكاليات عدة حول ما إذا كانت هذه الشخصية النموذج الأمثل التي تتمثل فيه الهجنة الثقافية كما رصدها هومي بابا في سياقات غير عربية. فمصطفى سعيد يتحرك بتؤدة وانضباط داخل الفضاء الاستعماري جيئة وذهابًا، كما أن تعاطيه مع تموقعه داخل المركز أو الهامش متحكم فيه إلى حد كبير. فبطل رواية الطيب صالح يُفلت نسبيًا من تصنيفات هومي بابا، بالنظر إلى المهمة التي وضعها نصب عينه في حملته الصليبية المضادة ذات الحمولة الحضارية، التي تتقبل الهجنة استراتيجيًا؛ لتكريس ذاك التعالي والتفوق في مواجهة الغرب وخطابه الحضاري بندية. هنا، تبرز ثنائيات الخطاب الاستشراقي المانوية الصلبة التي تتعزز مع توالي الأحداث داخل الرواية، لتُرسِّخ عدم مغادرتها كلية في الطريق الخلالي بين الشرق/ السودان/ الهامش والغرب/ إنجلترا/ المركز.

ثانيًا: حالة إنكار

تبدأ الرواية بعودة الراوي من أوروبا إلى قريته الصغيرة والمعزولة على ضفاف النيل بعد مدة قضاها في دراسة "حياة شاعر مغمور من شعراء الإنجليز"[9]. يوحي المكان بالثبات والتجذر والديمومة المعهودة قبل الرحيل وبعده على ما يبدو. أُولى تجلياته النخلة في فناء الدار التي تدل على الجذور الثابتة والهامة الممتدة، وما تحمله من حمولة رمزية تأخذ تجليات متعددة في النص. فالنخلة كرمز تحيل القارئ إلى أهمية مفاهيم ثقافية أصيلة طبعت مجتمعات ما قبل الاستعمار ورسخت اللُّحمة بين أفرادها وكفلت استمرارية ذاك الرسوخ والتأصل قُبيل وصول المستعمر. فرمزية النخلة كمَعِين لا ينضب من الوجود والحياة والعطاء والبقاء رغما عن قساوة الصحراء تكسبها دلالات إيحائية تسمو بها الشخصية العربية وتترسخ صلابتها في الِمخْيَالِ الجمعي. كون أصلها ثابت وفرعها في السماء[10]، يكسبها مناعة مقابل التلوث والتجاذب والتغريب والانشطار وما يعقبها من قلق وجودي مهووس بأسئلة الهوية الحضارية كما هو حال بطل الرواية الرئيسي. وكل هذه المفاهيم تظهر على المستوى الرمزي كما الحرفي في النص. في الظاهر، يتبين أن الذوات التي نالت منها لفحة التواصل مع المستعمِر استطاعت الرجوع إلى بلد الأصل وأعادت بناء حياة جديدة ملؤها الحب والعطاء. فرغم مغامراته الجنسية العنيفة التي طبعت ملاحمه اللندنية بين ظهراني المستعمِر، ها هو مصطفى سعيد يعود وقد "اشترى مزرعة وبنى بيتا وتزوج بنت محمود"[11]، وذاك الراوي العائد إلى أهله يسترد عالمه هو أيضًا بعد سبعة أعوام. فبمجرد العودة يترسخ الانتماء السرمدي للأرض في كنف العائلة وبين ظهراني أهل القرية، وتتجدد معها رمزية شموخ النخلة. هَا هُم "فرحوا بي وضجوا حولي ذاك دفء الحياة في العشيرة، فقدته زمانًا في بلاد (تموت من البرد حيتانها (... قام بيني وبينهم شيء مثل الضباب، أول وهلة رأيتهم. لكن الضباب راح"[12]. كل شيء يوحي بأن العودة إلى البلد الأم تجعل استعادة دفء البيت وطيب الحياة مع الأهل كما هي قبل الرحيل وبعده مُمْكِنَيْن "شأننا منذ تفتحت عيناي على الحياة. نعم، الحياة طيبة، والدنيا كحالها لم تتغير"[13]. لكن ثمة أشياء قد تغيرت فعلًا، وتحولت معها الأحاسيس، فأمست متضاربة ومنفعلة، قَضَّت معها الهواجس مضجع بطلي الرواية: الأنا/ الراوي والأنا الثانية/مصطفى سعيد عثمان، بصورة متفاوتة. كل ذلك يطرح إشكالية رحلة البحث عن أشلاء ذات لم تعد هي ذاتها في خضم هذا التجاذب، فتصبح معها الهوية بحثًا حثيثًا يستدعي التقاطع والتفاوض بين فضاءات مكانية ومواقع للذات متعددة لكن متناقضة، تناقض الشرق والغرب. وُثُوقُ الراوي الزائد في كون أوروبا والشرق سيان و"أن الأوروبيين، إذا استثنينا فوارق ضئيلة، مثلنا تمامًا"[14]، سرعان ما يتكشف زيفه مع توالي الأحداث عندما يتورط في تفاصيل حياة مصطفى سعيد.

رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) تعبيرٌ دقيقٌ وشاملٌ عن الحالة الاستعمارية من زاوية تقاطبيتها الحادة والتي تُهَيِّئُ القارئ لتقبل بديل الثنائية الطاغية التي لا تغيب على مجريات الأحداث. في مقابل التناظرات المتعددة التي يأتي بها مضمون الرواية كتعارض الشمال والجنوب الذي ينسخ تعارضات أخرى، نجد التناقض والغموض والتفرد أبرز السمات التي تطبع شخصيتي بطلي الرواية. كل هذا يُحيل القارئ إلى تلازم الشكل والمضمون للتعبير عن هذه الثنائية الكامنة والمنفصلة أحيانًا داخل النص. فالبناء السردي للرواية يعكس مضامينها الفكرية والثقافية والاجتماعية المزدوجة فـ"لعل الرواية بما فيها من تقنيات سردية، وميكانيزمات هيكلية أسهمت في بناء المبنى الحكائي وإنشاء هيكليته، قد جاهدت في تحديد هوية النص السردي، وتمثيل توجهه الفكري إبان العلاقة بين الأنا والآخر ثقافة/ جهلًا، واغترابًا/ وانتماء للبلد الذي يعيش فيه، وعادات وتقاليد ثابتة متجذرة/ وعادات وتقاليد متحولة ومتغيرة، وعشق للأرض/ عشق للسلطة، ثـم أثر المستشرقين في البلدان العربية وما تركوه من تراث بغض النظر عن الغاية التي كانت تكمن وراء استكشافه..."[15].

إن البناء الحكائي يتجاوز ترسيخ ثنائيات الخطاب الإستشراقي المانوية الصلبة إلى رمزية الأشخاص كذلك. فبطلا الرواية معًا يشكلان همزة الوصل بين المتناظرات السالفة الذكر التي تتحقق من خلال تحوّل كيانيهما من حالة النقاء إلى حال التجاذب. كونهما على خطوط تماس تلك التناظرات المتعددة لا يكسبهما مناعة ضد عدوى لوثة الهجنة الثقافية؛ بحيث ينتهي بهما الأمر مرحليًا إلى عالم اللاجنوب واللاشمال وبالتالي إلى الضياع في حالة الراوي والانتحار في حالة مصطفى سعيد. هذا التناظر الأخير الجديد يَتكشف من خلال عملية استنطاق النص بحثًا عن تقنيات سردية تتجاوز الثنائية الاستقطابية في هيكلية الرواية دون إقصائها معززة المبنى الحكائي بدعامة ثالثة تربط الشكل بالمضمون وتتيح قراءة جديدة للنص.

من تجليات هذه الهجنة الثقافية أيضًا، نجد الصراع الذاتي أو صراع الأفكار داخل شخصيات الرواية. هذا الصراع، لا شكّ، يمسّ اختيارات الشخصيات التي تعاني ليس من عسر الانتماء للشرق الذي ارتجّ واختلّ فحسب، بل من كونها حبيسة البشرة السوداء أيضًا، مما يؤثر على صيرورتها داخل الرواية بشكل مزدوج، فتنتج غيرية ذات بعدين تضطرب معها المحاكاة؛ بل وتتحول إلى تربص بالآخر وترصد لهفواته القاتلة. هنا، وجبت الإشارة إلى الحالة النفسية التي تصاحب هذا التموقع الجديد بين القطبين الأنا والآخر، التي يمكن وصفها بموقف عصابي مضطرب، حسب فرانز فانون، يُصيب الفرد المستعمَر حينما ينتقل إلى عالم المستعمِر. بخلفية المحلل النفسي في رصده العميق للظاهرة الاستعمارية من الداخل، يقف فانون عند التأثيرات التي يُحدثها الخضوع الطوعي للمستعمِر على نفسية المستعمَرين، والإمكانيات المتاحة لمسخ ذواتهم، وتفسير خضوعهم له بشكل يجعلهم يؤمنون بأهمية هذا المستعمِر، وحتمية ارتهانهم له. في قراءته للمشكلة الحدية للهوية الاستعمارية وتقلباتها من منظور فانون يرى هومي بابا أن: "مكان تحديد الهوية الذي تتجاذبه قوى الطلب والرغبة، هو فضاء انشطار بامتياز. فنزوع المواطن الأصلي الجامح لاحتلال مكان السيد على وجه التحديد يوازيه الإبقاء على جذوة غضب العبد المنتقم مشتعلة. "البشرة السوداء والأقنعة البيضاء" ليست تقسيمًا واضحا؛ بل تنطوي على ازدواجية ومحاولة إخفاء للتواجد في مكانين على الأقل في وقت واحد يكون من المستحيل على الفرد الدوني التوّاق للتجدد والمصاب بعُصاب الهَجْرِ، في عُرف فانون، أن يقبل دعوة المستعمِر للهوية"[16].

حسب فانون، تتحول الظاهرة في بعدها السيكولوجي إلى حالة عصابية ناتجة عن وضعية المستعمَر تحت رحمة الاستعمار، ما يبرر نزوعه الدائم نحو مواجهة العنف بالعنف كحل وحيد؛ لاسترداد بعض من إنسانية أُخضعت لعملية تملك وتعديل وتنميط. هكذا يتحقق معها قدر مزعوم من الثقة بالذات ويترسخ شيء من الإيمان بها في خضم هذه الحالة العصيبة. هذا التوصيف ينطبق على شخصيتين في الرواية، وهما مصطفى سعيد وزوجته حسنة بنت محمود. فالأول يحمل غيرية مزدوجة كونه الشرقي والأسود في آن، بينما حسنة تعاني حالة غيرية مركبة: كونها شرقية، سوداء، أنثى، وفوق كل ذلك زوجة مصطفى سعيد الشرقي الهجين بمحض إرادته. رغم أنها لم تبرح القرية إلا أنها اختارت التموقع في الجانب الآخر لتلقى حتفها كساتي على محرق زوجها الهالك بعد أن ساهم الجميع في دفعها في أتونه دفعًا.

 يبدو أن تزامن زنزانة اللون مع حالة الاستعمار يؤجج الحالة العصابية، ويُسَرِّعُ من وثيرة الانتقال إلى جوار المستعمِر الأبيض؛ بحيث تكون معها المحاكاة هروبًا إلى الأمام وذخيرة للحظة الانتقام. في خضم هذا الاحتقان الذي تنتجه هذه الحالة العصابية، تبقى غاية فانون رصد لحظة تماس الجنس الأبيض مع حاملي البشرة السوداء غير المتكافئة عندما يقول: "وعيًا مني بأن التالي سيثير استياء وغضب أخوتي في لون البشرة، يمكنني القول إن الرجل الأسود ليس إنسانًا. هي منطقة من اللاّكينونة، قاحلة وعقيمة؛ حيث الانحدار المكشوف والتام الذي يوَلِّدُ اضطرابًا حقيقيًا. في كل الأحوال يفتقر الرجل الأسود إلى ميزة القدرة على تحمل هذا النزول إلى هكذا جحيم حقيقي"[17].

حسب فانون، يبقى الرجل الأبيض مُحكم الإغلاق داخل لونه الأبيض بنفس الدرجة التي تُبْقي الرجل الأسود مختومًا في سواده بإحكام[18]. في خضم ذلك، يكتشف هذا الأخير، فجأة، أنه مرفوض من حضارة لم يتوانَ للحظة في استيعابها[19]. عادة، تترسخ هذه الأفكار عندما تخضع الأحداث في مراحل التعليم الأولي لكمٍّ هائل من المعارف تقدم الرجل الأبيض على أنه من الأسلاف، أو كمستكشف جالب للحضارة وحامل للحقيقة إلى المتوحشين؛ "بحيث تكون حقيقة بيضاء بالكامل"[20]. كلّ ذلك يُوجِد حالةَ انقسام وجدانية وإحساسًا عميقًا بالدونية، تَطْبَعُ كينونة الشعوب المستعمَرة من خلال ترسيخ تفوق الجنس الأبيض على تلك الشعوب في مستوى الثقافة عمومًا، وأيضا على مستوى اللغة لمِحْوَرِيَّتِهَا.

فعندما تحصل المقارنة بين قيم أُرِيدَ لها أن تكون كونية ومعيارًا للتفوق وأخرى دون ذلك، يتقوّى الإحساس بالعجز داخل ذات المستعمَر فيكون مدعاة للارتماء في أحضان المستعمِر لإيقاف نزيف الشعور بالدونية ذاك. هنا ينتهي به المطاف على طريق اللاعودة إلى عالم النقاء من جهة والعجز عن الوصول إلى عالم المستعمِر من جهة أخرى. في خضم هذه الحالة النفسية العصابية يشتد الصراع القائم على الضعف والرفض في آن، بحيث يكون الحسم في شكل شموخ زائف وحيرة مِلْؤُها العبث، تفضي إلى رفض العالمين والتحول إلى كائن كوني هجين، وهذا حال مصطفى سعيد ابتداء بمراحل تكوينه الأولي داخل الهامش الكولونيالي قُبَيْلَ مغادرته للمركز الاستعماري عبر القاهرة.

توصيف فانون للحالة الما بعد كولونيالية في جانبها السيكولوجي ينطبق في الحد الأدنى على حالة مصطفى سعيد الصغير وحديث العهد بالمدرسة. فمثلًا، حواره مع الفارس البريطاني الزائر وهو في وضعية الغازي على صهوة جواده له أبعاد رمزية. هذا الاتصال الأولي يحمل دلالاتٍ عميقة على درب مسيرة التشبه بالمستعمر، أو كما رصدها هومي بابا بظــاهرة المحاكــاة والنزوع نحو ازدواجية التكــّون الثقــافي للشخصــية المستعمرَة. يتضح هذا النزوع في قابلية مصطفى سعيد الصغير والساذج للمحاكاة عبر التنكر الذي تحدّث عنه فانون وجاهزيته المفرطة لاعتناق نموذج المستعمِر من زاوية هومي بابا: "قال لي: "هل تحب أن تتعلم في المدرسة؟" قلت له: "ما هي المدرسة؟" فقال لي: "بناء جميل من الحجر وسط حديقة كبيرة على شاطئ النيل. يدق الجرس وتدخل الفصل مع التلاميذ. تتعلم القراءة والكتابة والحساب". قلت للرجل: "هل ألبس عمامة كهذه؟"، وأشرت إلى شيء كالقبة فوق رأسه. فضحك الرجل وقال لي: "هذه ليست عمامة. هذه برنيطة. قبعة". وترجل عن فرسه ووضعها فوق رأسي فغاب وجهي كله فيها. ثم قال الرجل: "حين تكبر، وتخرج من المدرسة، وتصير موظفًا في الحكومة، تلبس قبعة كهذه"، قلت للرجل: "أذهب للمدرسة..."[21].

الظاهر، أن القبعة رغم أنها حمَّالة تغيير إلا أنها أيضًا حاجبة للهُوية الأصيلة والوجه الأسود كدالٍ عليها، مما يُحيل القارئ إلى اختزال مَلَكَةِ التعلم في مجرد تقليد سطحي للمستعمر، علامته القبعة أكثر مما تحتها. سذاجة مصطفى سعيد الصغير، وهو يَحْسَبُ قبعة المستعمر عمامة، يَنمُّ عن رؤية للأشياء من زاوية حالة النقاء وبساطة التقدير التي لم تختبر لوثة ثقافة الغازي بَعْد. كون العمامة ذات الحمولة الحضارية، ورمز للعلم والمعرفة في عرف الآخر المسلم، سيكتشف الصغير سريعًا أنها كذلك بالنسبة للمستعمِر، لكن مع زيادة؛ فقبعة الفارس الغازي على صهوة جوادة تُزاوج بين دلالة سلاح المدرسة الناعم، وحالة التأهب التي قدَّم فيها نفسه وهو في زينة المنتصر. اللقاء المثير بين الفارس والصبي مقدمة لمشروع يرمي لترسيخ منظومة قيم جديدة لا تعيها الدول المستعمَرة، وهي في مراحلها الطفولية، حسب تصنيفات فردريك هيغل الأنثروبولوجية لشعوب إفريقيا[22]. استغلال التعليم كسلاح في يد المستعمِر يحمل دلالاتٍ وعِبَرَ كما جاء في خطاب مصطفى سعيد التفكيكي للحالة الكولونيالية في امتداداتها التاريخية، وتراكماتها الحضارية ووقعها المدمر على نفسية المستعمَر. لكن، أليس مسار مصطفى سعيد العلمي المثالي وتدرجه في سلم التفوق لبلوغ المركز الاستعماري بمثابة استيعاب مضاد وإدراك ذكي للدرس نفسه؟

شخصية مصطفى سعيد قوة ضاربة في سردية الطيب صالح، كونها تمثلت الحالة الكولونيالية بكل تفاصيلها على درب الانتقام الحضاري. فتدرجه ابتداء من تنكره للذات عبر المحاكاة الساذجة، وتبنيه لمحاكاة واعية للمستعمِر، وتملكه لناصية المراوحة واللعب على تناقضاتها، يعطي أبعادًا أخرى لمسار مصطفى سعيد داخل سردية صالح، ينقلب معها مفهوم الهجنة الثقافية كما رصدها هومي بابا في سياق التجربة الاستعمارية في الهند، مما يبقي جذوة ثنائية الشرق والغرب متقدة مقابلها. إن وعيه المنقطع النظير بحيثيات الصراع ينزهه عن شخصيات الرواية الأخرى؛ فالرجل حَيَّدَ زنزانة اللون وخَبِرَ سيرورة الغرب الحضارية، وبلغ قدرًا كافيًا من الوعي باللحظة التاريخية وتسلح بترسانة الخطاب المضاد في التعاطي مع الجانب الآخر على طرف الصراع. فتابعيته - إن جاز التعبير- من نوع آخر بالنظر إلى خطابه المضاد المفوّه:

"إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل النبي وهي تطأ أرض القدس. البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد أُنشئت أصلًا لنقل الجنود. وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول "نعم" بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السُّومْ وفي ڤِرْدان، جرثومة مرضٍ فتّاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي. إنني جئتكم غازيًا في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ..."[23].

كل هذا يُسرّع من وتيرة الْمَيَلان الجنوني الواعي نحو الضفة الأخرى بأي ثمن، بحيث يسير مصطفى سعيد على دربها "باردًا كحقل جليد، لا يوجد في العالم شيء يهزه"[24]. الظاهر أن عملية التثقيف في السياق الشرقي التي تبناها الرجل الأبيض لم تثمر عملية محاكاة ناجحة من خلال الأسلحة الناعمة كما كان متوقعًا؛ بل أنتجت كيانات عصية على التطويع كما استنتج بروفسور ماكسور فستركين: "أنت يا مستر سعيد خير مثال على أنّ مهمّتنا الحضارية بإفريقيا عديمة الجدوى، فأنت بعد كلّ المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأوّل مرّة"[25]. الأكذوبة التي يفترض أن يصدقها الجميع، والتي تتبدى في جاهزية مصطفى سعيد لاعتناق كل ما هو غربي، ليكون أداؤه ذا كفاءة عالية تؤتي أُكلها في النهاية. فلقد فشلت جميع النساء سواء اللواتي واعدهن وقتلهن أو اللواتي حطم قلوبهن في رؤيته كواحد منهن. فهو يدرك تمامًا أنه مهما حاول أن يتمثل ذات المستعمر، سيظل دائمًا يُنظر إليه على أنه الآخر الدخيل والغامض. سلوك مصطفى سعيد المنحرف يترسخ مع تصور التجربة الاستعمارية على أنها اغتصاب للوطن في حين يكون النضال ضدها في شكل انتقام جنسي[26]. ترافع أستاذه أمام مجلس المحكمة، جازمًا أن مصطفى كان ضحية صدام الحضارات وانتصابه، نافيًا ذلك: "أنا صحراء الظمأ. أنا لست عطيلًا. أنا أكذوبة"[27]، ينمّ عن رفضه أن يُنظر إليه على أنه بمثابة استيعاب نبيل للغرب؛ بل لكونه نسخة مُفتعلة للمحاكاة؛ لتعزيز فرض نجاحها داخل المركز الاستعماري. عنفه ليس مدفوعًا بانتقام لفشل في رؤيته كآخر مُصْلَح ومُعَدَّل وقبوله كذاتية منزاحة، بل طلبًا لتموقع متقدم للمقاومة من داخل المركز، وخطًا متربصًا للهجوم من خلال الثغرات الرخوة فيه.

ثالثًا: وميض اليراعة والاحتراق المؤجل

يتناول الطيب صالح محنة التجاذب الذي طبع مسيرة مصطفى سعيد كفرع من دون أصل في بحثه الحثيث عن ذاتية جاهزة للانزياح الثقافي عنوة؛ إذ تستمر رحلة سعيد إلى القاهرة، ملؤها الأمل في غد أفضل، بمغادرة بيت الطفولة وهجران أم أرملة وبلا أولاد. كل كلام سعيد عنها ينم عن لامبالاة بها وتَوق للتحرر منها، فالإغراء على الجانب الآخر قوي. "كانت كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق. لعلني كنت مخلوقًا غريبًا، أو لعل أمي كانت غريبة. لا أدري. لم نكن نتحدث كثيرًا، وكنت، ولعلك تعجب، أحس إحساسًا دافئًا بأنني حُرّ، بأنه ليس ثمة مخلوق أب أو أم، يربطني كالوتد إلى بقعة معينة ومحيط معين"[28]. عدم قدرته على الانتماء عبر حياة أسرية مستقرة ومتماسكة يمتدّ من الأصول إلى الفروع. فمغادرته المفاجئة في يوم عاصف لحسنة وولديه "الأكبر محمود على اسم أبيها، والأصغر سعيد على اسم أبيه"[29]، الَّلذَيْنِ من خلال اسميهما يستمر الحاضر عبر الماضي، يؤكد فشله في أي ارتباط إنساني أكان حبًا عاطفيًا أو حبًّا بُنُوة لأمه أو أبوة لوَلَدَيهِ. فكما أن أمه ذات مرة قد استغنت عنه أو بالأحرى استغنى هو عنها، فجأة، يختفي في ليلة عاصفة أيضا تاركًا أطفاله للمجهول. في غياب سلوك اجتماعي سوي أو أي مشاعر رفقة طبيعية أو دفء عاطفي تظهر أم أخرى لتملأ الفراغ في شكل تقابل آخر بين فاطمة عبد الصادق واليزابيث روبنسن. من هنا، يبرز البديل المتاح الذي يُسرِّع من وتيرة الرغبة في المخاطرة والإنجاز السريع والانتقال الجارف نحو الضفة الأخرى حتى ولو كان الثمن خسارة الوطن /الأم. تترسخ رمزية هذا النزوع المُتَرَبِّص نحو كل ما هو غربي عندما يتنصل حاملو البشرة السوداء من كل ما يشير إلى رمزية المنشأ والانتماء التي تختزله فكرة الأم/ الوطن. عند فرانز فانون، يتجلّى هذا الميل الجارف السائد بين السود عندما يتمادون في إنكار كل ما يربطهم ببلدانهم ويذكرهم بأمهاتهم، بحيث يميلون إلى الزواج من أوروبيات، ليس بدافع الحب، لكن بداعي الانتشاء، كونهم أسيادًا على سيدات بيضاوات؛ ما يتيح لهم انتقامًا معنويًا وتباهٍ زائف، لون البشرة فيه أهم عامل محفز[30]. وهذا دأب مسيرة تحرر مصطفى سعيد التي تبدأ في القاهرة مع رديفة أم سعيد: ميسز روبنسن. رغم أن إليزابيث بَدِيل مرحلي يُعوّض مصطفى سعيد عن الأم الغائبة، إلا أنه ينظر إليها نظرته لعموم النساء الإنجليزيات. في ذهن الصبي تقترن القاهرة الكولونيالية بميسز روبنسن كما تقترن لندن بضحاياه من النساء الإنجليزيات. القاسم المشترك بين المحطتين هو رمزية إليزابيت كدلالة مُنذرة لما يلوح في الأفق:

"أحسست بذراعي المرأة تطوقانني، وبشفتيها على خدي. في تلك اللحظة، وأنا واقف على رصيف المحطة، وسط دوامة من الأصوات والأحاسيس... وأحسست كأنّ القاهرة، ذلك الجبل الكبير الذي حملني إليه بعيري، امرأة أوروبية، مثل مسز روبنسن تمامًا، تطوقني ذراعاها، يملأ عطرها ورائحة جسدها أنفي. كان لون عينيها كلون القاهرة في ذهني، رماديًا، أخضر، يتحول بالليل إلى وميض كوميض اليراعة"[31].

بالرغم من كون السيدة أحبت الفتى حبًّا إنسانيًّا خالصًا بدافع عاطفة الأمومة، إلا أن نظرته إليها هي فاتحة شهيته الشبقية كمنتقم من الغرب الذي لا ينظر إليه إلا من زاوية الغازي. فنظرته لها ليس كونها إنسانًا؛ بل كونها في طليعة غزاة الغرب، أمثال زوجها المستشرق المهتم بحضارات الشرق، ومحقق المخطوطات النادرة الذي اعتنق الإسلام، ودفن في تراب القاهرة. تبقى إليزابيت ثاني لحظة تماس وتربص بالغرب بعد مرحلة إثبات الذات عبر التفوق الدراسي التي أبان عنها سعيد قبل مغادرته للسودان. فهي آخر حاضنة أو عامل مساعدة خارجية يضع سعيد على سكة التطور الذاتي، ويسرّع وتيرة التهجين لديه، ويُيسِّر له ككائن متحول أداءً وظيفيًا أحسن داخل المركز.

تبدو فكرة ترسيخ ثنائية الأنا والآخر، واللعب على حبل تناقضاتها، داخل المركز الاستعماري نسقًا مكتملَ الأركان وناضجًا كفاية للتحقق. فانتقال مصطفى سعيد من حضن مسز روبنسن إلى أحضان ضحاياه الإنجليزيات هو انتقال من موقع استيطاني متقدم إلى قلب الاستعمار النابض ومركزه غير الحصين من كيانات هجينة من أمثال "موزي"[32]. بانتقاله إلى لندن، تكتمل حلقات التهجين الذي رضخ له طواعية منذ لقائه بالغازي على صهوة جواده في القرية، حتى قتله جين مورس ودخوله سجن "الأولد بيلي" لقضاء سبع سنوات.

متسلحًا بيقين حضاري ومتبنيًا خيار التصادم من خلال عسكرة هجنته الثقافية، يمضي مصطفى سعيد نحو المركز الاستعماري واثقًا من النصر. بيته في لندن وغرفة نومه بالذات تختزل سحر الشرق الأزلي الذي سُيِّرَتْ من أجله جيوش الغرب وأساطيله، وسخرت أقلام أعلامه وريشات فنانيه لترسيخ جاذبيته في مخيال الغزاة. في هذا الصدد، يستخدم إدوارد سعيد استعارات وتشبيهات مسرحية مثيرًة للدلالة على مرجعية الخطاب الاستشراقي التراكمية حول الشرق والتي وظفها مصطفى سعيد للإيقاع بضحاياه. في عُرف إدوارد سعيد، يبقى الشرق بالنسبة للغرب، ذخيرة ثقافية رائعة تلهب عناصرها الفردية عالمًا ثريًا لصيقًا بالآخر بشكل رائع، لا يراه إلا الأنا، بل ويضعف في حضرته. هذا العالم المفترض خليط من كل شيء؛ بحيث يضمّ بين ثناياه كل ما يرمز لسحر عالم شرقي، غيريته تجاوزها الزمن وحنين الغرب لإرثه البائد لا يزال مُسْتَعِرا. فأبو الهول، وكليوباترا، وعدن، وطروادة، وسادوم وعاموراء، وعشتار، وإيزيس وأوزوريس، وبلقيس، وبابل، فجني القمقم، وحكماء الشرق الثلاثة، فنينوى، والملك الكاهن يوحنا، ثم النبي محمد(ص)، فالوحوش، والشياطين، والأبطال، والملذات والرغبات كلها موروثات أزلية متأصلة حد التَّكَلُّس في المخيال الغربي حسب إدوارد سعيد. فقد تم توظيف هذا المرجع الضخم في تغذية الخيال الأوروبي على نطاق واسع، منذ العصور الوسطى حتى القرن الثامن عشر، على أيدي مؤلفين كبار أمثال ميلتون ومارلو وتاسو وشيكسبير وسيريفانتس، ومؤلفو ملاحم البطولات الصليبية التي أسست جميعها الخطوط العريضة للصور النمطية والأفكار المسبقة التي لازمت علم الاستشراق لقرون، فترسخت بعد ذلك كمكتسب معرفي من الأساطير والأيديولوجيا في يد أوروبا قابلًا للتوظيف، متى ما كان ذلك متاحا، حتى في زمن العلم والمعرفة[33]. لقد استوعب مصطفى سعيد لحظة انبهار الغرب بسحر الشرق، وخبر كيفية اللعب على تناقضاته، من أجل نقطة الهجوم الصفرية ولحظة الانتقام الحضاري. لقد حوّل بيته اللندني إلى عالم مصغر جمع فيه كل شيء بلمسة شرقية لجذب شابات إنكلترا لفراشه. فهذا "الصندل والند وريش النعام وتماثيل العاج، والأبنوس والصور والرسوم لغابات النخل على شطآن النيل، وقوارب على صفحة الماء أشرعتها كأجنحة الحمام وشموس تغرب على جبال البحر الأسود، وقوافل من الجِمال تخب السير على كثبان الرمل على حدود اليمن، وأشجار التبلدي في كردفان، وفتيات عاريات من قبائل الزاندي والنوير والشلك، حقول الموز والبن في خط الاستواء، والمعابد القديمة في منطقة النوبة، الكتب العربية المزخرفة بأغلفة مكتوبة بالخط الكوفي المنمق، السجاجيد العجمية والستائر الوردية، والمرايا الكبيرة على الجدران، والأضواء الملونة في الأركان"[34].

لم يكن توظيف مصطفى سعيد الذكي لهذه النمطية بهدف البحث عن أسس متينة لعلاقات عاطفية قوية ودائمة، ولا حتى للإشباع الجنسي المبتذل، بل على العكس من ذلك، هو تعبير عن ترصد للحظة امتداداتها تاريخية وتراكماتها حضارية، تستثمر بدهاء انتظارات الغرب المتوقعة من الشعوب المستَعْمَرة. عمليًّا، تأخذ العلاقة بين مصطفى سعيد والنساء الإنجليزيات الأربع أبعادًا فوق-شخصية. بمعنى آخر، بدلًا من أن تكون علاقته بين شخصين، يصبح انجذاب مصطفى القاتل لهؤلاء النساء حوارًا جنسيًا وعلاقة عدائية بين ثقافته السودانية المستعمَرة والثقافة الإنجليزية الاستعمارية. خلال هذه العلاقات، لا يمكن لمصطفى أن يتهرب من إدراك المظالم التاريخية التي راكمتها ثقافته من اتصالها بالثقافة الأوروبية البيضاء[35]. بنبرة بذيئة، لكن ساخرة، لا تخلو من فكاهة سوداء. ينقل أحد الوزراء للراوي كيف أن مصطفى سعيد، باعتباره رئيسًا لقسم الكفاح لتحرير إفريقيا "من أعظم الإفريقيين الذين عرفتهم، كانت له صلات واسعة، يا إلهي! ذلك الرجل كانت النساء تتساقط عليه كالذئاب،..."[36]. يبدو أن مصطفى سعيد قد استوعب الدرس الحضاري، مما مكّنه أن يبطن عكس ما يُظهر. هو بالنسبة لضحاياه "ليس إنسانًا يستحق علاقة عاطفية كاملة بكل أبعادها الروحية والمادية معًا، فهو كائن غريب، يحمل رائحة الشرق النفاذة، وهو حيوان إفريقي يستحق أن تلهو به هؤلاء الفتيات ويستمتعن به فقط"[37]. درجة وعيه بالذات، ونظرة الآخر المتناقضة له المبنية على الخرافة والوهم تسرع من وتيرة انتقامه، مستمدًا قوته من هجنته الثقافية الوظيفية. في نظرة بطل الرواية للأمور، تأخذ الصراعات التاريخية القديمة بين الشرق والغرب أبعادًا سيميائية وشبقية لتبرير غزواته الجنسية لنساء مستعمريه البريطانيين[38]. فعلاقته مع الناس من حوله لا تقوم على الرعاية والحب المتبادلين؛ لأنه خالٍ من المشاعر، ولكن على فائدتهم له كأدوات على وجه الحصر[39].

رابعًا: مسوخ وليام شكسبير وتحييد أخلاقيات بروسبيرو

في إطار التَّنَاصّ الجزئي المتجلي داخل الرواية في شكل جيولوجيا كتابات سابقة، يوظف الطيب صالح نسيجًا من الاقتباسات من كتابات وليام شكسبير (مسرحيتي عطيل والعاصفة)، وإحالات على قصص ألف ليلة وليلة، وبعض من أشعار أبي نواس وكذا رواية ألبير كامو )الغريب(، تتنوع أشكال التناص فيها وتتمايز درجاتها ما بين استمرار واتصال، أو انفصال وانقطاع، أو خليطًا من الاثنين[40]. توظيف صالح لعملية التناص، أو التعالق النصي كآلية أسلوبية تخدم التناظرات بين بعض هذه الأعمال ورواية (موسم الهجرة إلى الشمال) في تركيزها على تيمات أو شخصيات بعينها، التي يعطيها الطيب صالح أبعادًا تتماهى مع السياق الحضاري داخل الرواية؛ حيث يستثمر الطيب صالح تقنية التناص لربط الحاضر بالماضي السحيق؛ لترسيخ فكرة العود الأبدي لخطاب لم يغادر العلاقة بين الغرب والشرق قط، فتكون معها اللحظة دالة على الحاضر والماضي في الوقت ذاته. فما مصطفى سعيد إلا عطيل آخر يعاني من عسر الانتماء في فضاء لا يتقبله حتمًا. فأثناء سرد مصطفى سعيد فصول حياته للراوي يستثمر صالح رمزية عطيل، ككائن تتقاذفه صراعات نفسية، وأخرى اجتماعية بامتدادات ثقافية وحضارية مركبة. فمن خلال سؤال إيزبيلا سيمورله "ما جنسك؟ هل أنت إفريقي أم آسيوي؟"، يجيب مصطفى سعيد قائلًا "أنا مثل عطيل عربي إفريقي"[41]. هذا التوظيف يأخذ شكل تقابلات وأوجه شبه بين عطيل الأصلي وعطيل الرواية. فكلاهما هجين، وكلاهما عربي وإفريقي، وكلاهما سعى شمالًا نحو أوروبا؛ لإثبات الذات، ولا أحد منهما استطاع أن ينجو من لفحة الاتصال القاتلة مع الغرب إلا بالانتحار. لكن سعيد بارع في توظيف غرائبية وعجائبية وطنه الأم، لا ليُجَوِّدَ موقفه داخل المركز؛ لكن ليُسقط فرائسه في شراكه. فما أن "رويت لها حكايات ملفقة عن صحاري ذهبية الرمال، وأدغال تتصايح فيها حيوانات لا وجود لها و قلت لها: إن شوارع عاصمة بلادي تعج بالأفيال والأسود، وتزحف عليها التماسيح عند القيلولة"، حتى تهيأ هو "في نظرها مخلوقًا بدائيًا عاريًا، يمسك بيده رمحًا وبالأخرى نشابًا، يصيد الفيلة والأسود في الأدغال"[42]. فكما وظّف عطيل البندقية سردية حياته الأسطورية ليستدرج نبلاء البندقية وديدمونة إلى شراكه، كذلك فعل مصطفى سعيد. ويستمر الطيب صالح في تقابلاته بين العطيلين حين يثير إمكانية تحول سعيد إلى مخلوق الأنثروبوفاجي الذي وظفه عطيل شيكسبير، للتباهي أمام دوقات البندقية كسبًا لثقتهم وترافعًا لنيل استحقاق الشجاعة أمامهم[43]. سرعان ما تستدرك إيزبيلا سيمور: "هيئتك لا تدلّ على أنك من آكل لحوم البشر"[44]؛ لتأخذ صورة سعيد كمخلوق الأنثروبوفاجي شكلًا مجازيًا داخل الرواية. نهاية عطيل الدرامية هي بمثابة إشارة إلى استحالة العبور إلى الضفة الأخرى أو بالأحرى إمكانية العبور مع حتمية اللا عودة بسبب التلوث الثقافي. لكن يبقى اختراق متراس لون البشرة السرمدي، والولوج عنوة داخل حصن العرق الأبيض ممكنًا. هنا، تتخندق ذات الرجل الأسود أمام صلابة زنزانة البشرة السوداء، ويبقي معها الانعتاق رهين تقبل الجنس الأبيض المقابل. هذه الحالة العصابية تتكرر عند مصطفى سعيد ولسان حاله يقول كما فانون: "من أقتم جزء داخل روحي، وعبر أشرطة حمار الزرد في ذهني، فجأة تنطلق رغبتي الجامحة في أن أكون أبيض البشرة. أود أن يتم الاعتراف بي ليس كأسود ولكن كأبيض. الآن - وهذا شكل من أشكال الاعتراف ما كان لهيغل أن يتصوره - من يمكنه فعل ذلك من أجلي غير امرأة بيضاء؟ فبحبّها لي قد تثبت أنني أستحق حُبّ البِيضْ، مثلي مثل أي رجل أبيض. أنا الرجل الأبيض. حبها يأخذني في أسمى طريق نحو التحقق التام... عندها، سوف أعتنق ثقافة البيض، وحُسْنَ البيض، وبياض الأبيض..."[45].

من تجليات التناص داخل الرواية، توظيف الطيب صالح لمجموع من الرموز المشتركة بين نص شكسبير و(موسم الهجرة إلى الشمال)؛ إذ يبرز المنديل كدلالة على خيانة الأنثى دون الرجل، بالرغم من مغامرات سعيد الجنسية الجامحة. يقول مصطفى سعيد: "وجدت مرة منديل رجل، لم يكن منديلي...أنت تخونيني...صرخت فيها أقسم أنني سأقتلك... وضعت حد الخنجر بين نهديها. ضغطت ببطء"[46]. قرار مصطفى سعيد في إنهاء حياة إحدى ديدموناته بهذه السهولة تختزل شخصية الرجل الشرقي القاتل من أجل الشرف والملازم لخطابه الذكوري، مما يعطي فعلته أبعادًا ثقافية، كونه المسكون بهوس التوهم ورهاب الحرص في تملكه لجسد أنثاه. تتكرر هذه الحالة العصابية الوثيقة الصلة بلون البشرة حسب تقييم فانون عند الشخصية الرئيسية غير ما مرة داخل الرواية، خصوصا عندما خاطبه القاضي في محكمة الأولد بيلي: "إنّك يا مستر مصطفى سعيد، رغم تفوّقك العلمي، رجل غبي. إنّك في تكوينك الروحي بقعة مظلمة"[47]. فمغامراته الجنسية مع الهالكة جين موريس ستعيد تكرار خطيئة عطيل مع ديدمونة، فتنطلق على أثرها رصاصة الرحمة لتصيب ذاك الحلم الزائف المعبأ بحقد حضاري في مقتل. "هل تسببتَ في انتحار آن هموند؟ - لا أدري. - وشيلا غرينود؟ - لا أدري. - وإيزابيلا سيمور؟ - لا أدري. - هل قتلتَ جين مورس؟ - نعم قتلتها عمدًا؟ - نعم"[48]. مصطفى سعيد ليس بأحسن حظًا من عطيل شكسبير، فكلاهما أخفق بقدر في السير على أسمى طريق نحو التحقق التام حسب فانون. لكن رغم كل ذلك، نجح بطل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)، فيما أخفق فيه عطيل حين أخضع الجميع لرغباته الجامحة، فسقط الأخير ضحية تنكره لهويته من خلال مسار للاندماج، لم يكن يحمل أن بوادر نجاح في محيط مغاير. في المقابل، قدم مصطفى سعيد درجات عالية من الأداء كما رسم وخطط ونفد. فعوض أن يكون ضحية للدسائس كما هو حال عطيل، استثمر مصطفى سعيد ذكاءه المتقد لحياكة المكائد وإحكام المصائد لضحاياه والخروج منها بأقل الخسائر. سذاجة مغربي البندقية وهجنته شبه المكتملة وتبنيه لقيم وخطاب أسياده الجدد، وردته على حساب خلفيته الحضارية كانت كفيلة أن تقوده للإخفاق، الشيء الذي تجنبه "عطيل" الطيب صالح في اتصاله المباشر بالآخر داخل المركز وخارجه.

من جهة أخرى، يتيح نص الرواية أيضا قراءة هجنة مصطفى سعيد من خلال أحد أشهر مسوخ الدراما الإليزابيثية، كاليبان، بطل إحدى آخر مسرحيات شكسبير: العاصفة. فعلى الرغم من تصوير الأخير على أنه عبد أسود بسمات بهيمية، فإن شكسبير يُمنحه بلاغة وحِدَّةَ لسان عندما يدعي أنه الوريث الشرعي للجزيرة المسحورة في ترافعه الملحمي أمام الغازي بروسبيرو. مصطفى سعيد هو النسخة المعدلة التي قدمها الطيب صالح لكاليبان من خلال تصويره ليس كمسخ حقيقي بطبيعة حيوانية بل كمسخ مجازي يُسَخِّرُ شهواته ونزواته وأنانيته في سبيل الإشباع الذاتي في شكل انتقام حضاري. فكاليبان الطيب صالح مَلَكَ ناصية كل شيء، متجاوزًا قدرته على إبطال ومصادرة لغة المستعمر التي توقف عندها كاليبان شكسبير. كما عبر عن ذلك مصطفى سعيد وهو في المحكمة: "أنا أحس تجاههم بنوع من التفوق، فالاحتفال مقام أصلًا بسببي، وأنا فوق كل شيء مستعمَر، إنني الدخيل الذي يجب أن يبت في أمره"[49]. تجاوز سعيد مرحلة اللغة سوف يتكرر على مسامع الراوي حول حكايات نبوغ الفتى، ابتداء بحديثه مع القس على متن القطار و"الدهشة بدت على وجهه واتسعت حدقتا عينيه أول ما سمع" صوت سعيد، فأردف "إنك تتحدث اللغة الإنكليزية بطلاقة مذهلة"[50]، وانتهاء باعترافات جلاديه في المحكمة بتفوقه في كل شيء. لا شك أن نهم مصطفى سعيد في التهام المعرفة كان حلقة مميزة في مسيرة التربص بخطى ثابتة نحو لحظة الانتقام الحضاري.

"كان نابغة في كل شيء، لم يوجد شيء يستعصي على ذهنه العجيب. كان المدرسون يكلموننا بلهجة ويكلمونه هو بلهجة أخرى. خصوصًا مدرسو اللغة الإنجليزية، كانوا كأنما يلقون الدرس له وحده دون بقية التلاميذ ... قطع مصطفى سعيد مرحلة التعليم في السودان قفزًا كان بالفعل كأنه يسابق الزمنكان أول سوداني يُرسل في بعثة إلى الخارج. كان ابن الإنكليز المدلل. وكنا جميعًا نحسده، ونتوقع أن يصير له شأن عظيم وكنا نطلق عليه، بخليط من الإعجاب والحقد (الإنكليزي الأسود). وعلى أيامنا، كانت اللغة الإنكليزية هي مفتاح المستقبل لا تقوم لأحد قائمة بدونه"[51].

تجاوز سعيد لحاجز اللغة، أتاح له ما عجز عنه مسخ العاصفة لشيكسبير. فَعِوَضَ ميراندا التي استعصت على كاليبان، ها هو سعيد ينجح في إبطال مفعول كل ما يثبط غرائزه الجنسية، بعد تحييد أخلاقيات بروسبيرو المتسلطة على المتفوقين أمثاله لينال من ميرانداته الأربع - إن جاز التعبير - فهذه إيزابيلا سيمور تناجيه: "اقتلني أيها الغول الإفريقي، احرقني في نار معبدك، أيها الإله الأسود. دعني أتلوّى في طقوس صلواتك العربيدة المهيجة..."[52]. وهذه جين مورس "العنقاء التي افترست الغول" تسِمُه: "أنت ثور.. متوحش لا يفتر من الطراد"[53]. على خطى كاليبان، يسير مصطفى سعيد ثابـتًا في طريق التحول من إنسانُ جاك روسو الهمجي النَّبيل، في امتداداته البشرية الخيرة، إلى كائن هجين غير متوقع، وقد اكتسب مناعة ضد تأثيرات الحضارة الغربية بفعل موروثه الثقافي ويقينه الحضاري.

خامسًا: عوالم مصطفى سعيد المتوازية: جرح التاريخ وآنية الانتقام

من زاوية أخرى، هناك إشارات عديدة يلتقطها الراوي حول ازدواجية مصطفى سعيد التي تتحقق عبر النص على مراحل، لتصل إلى نقطة ثبات تحوله المتحققة. فالرجل ابتداء، حسب محجوب "رجل عميق"[54]، كما أنه "من عجينة أخرى[55] .ليتحول إلى "شخص آخر غير ما تزعم"[56]. كما جاء في مواجهة الراوي له. سرعان ما يتدارك سعيد" لعلني كنت مخلوقًا غريبًا... أحس إحساسًا دافئًا بأنني حرّ... ليس ثمة أحد يأمرني أو ينهاني"[57]، وينقلب إلى شخص "لا وجود له. إنه وهم، أكذوبة..."[58]. وقد تتبدى حربائيته في قدرته أن يلبس "لكل حالة لبوسها"[59]، منتحلًا أسماء غير اسمه، رغم أن معظمها لازال عربيًا "حسن، وتشارلز، وأمين، ومصطفى، ورتشارد"[60]. تستمر عملية انتقاله عبر المراحل؛ ليصبح معها "سعيد حزينًا، في تحول سرابي مع تحول الفصول" على امتداد ثلاثين عامًا من مغامراته مع اللندنيات[61]. في نهاية المطاف في نظر الراوي الملتبس: "مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقًا، وأنه فعلًا أكذوبة، أو طيف أو حلم، أو كابوس، ألمّ بأهل القرية تلك، ذات ليلة داكنة خانقة، ولما فتحوا أعينهم مع ضوء الشمس لم يروه"[62] في خضمّ هذا وذاك يُصِرُّ مصطفى سعيد على النسج على نفس المنوال في علاقته مع الآخر مادام التغيير المتأمل مستعصيًا. فإلى "أن يرث المستضعفون الأرض، وتسرح الجيوش، ويرعى الحمل آمنًا بجوار الذئب، ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر، إلى أن يأتي زمان السعادة والحب هذا، سأظل أنا أعبر عن نفسي بهذه الطريقة الملتوية"[63].

عوالم مصطفى سعيد المتوازية كما حربائيته وقدرته على التكيف تتشكل من بداية رحلة حياته بالتفوق الدراسي حتى نهايتها بالانتحار المزعوم. مع وعيه بالتنوع الذي يطبع شخصيته تتناسل العوالم المتوازية لذاتيته هي الأخرى، لتتكَشَّف مَدَيات عدوى الازدواجية الثقافية عنده. فالرجل لا انتماء، ولا ولاءات له، ولا حدود لطموحه الجامح، في اتجاه الإشباع اللحظي سواء بقرارات واعية أو غير واعية، ولا استقرار يلوح في الأفق قمين باستعادة ذاتية كانت خارج الأعراف الاجتماعية أو حتى الإنسانية. كل ذلك يجعله يقيم عالمًا شرقيًا في شقته في لندن وعالمًا آخر غريبًا في غرفته السرية في القرية متجاوزًا فكرة هنا والآن إلى أبعاد أكثر بلاغة في نقل ازدواجيته للقارئ، حتى "أن مفهوم الشمال يتجاوز استعارة الاتجاه والحيز المكاني؛ بل هو استعارة أيديولوجية تظهر في أشكال مختلفة من الخطاب: الجيوسياسي، والتاريخ، والمناخ، والتحرير والمركز، والهامش، والإثنية، والغرائبية/الإيروتيكية"[64]. فعالم سعيد الشرقي في لندن وظيفته ترسيخ فكرة سحر الشرق وتثبيتها في ذهن الغرب بل ترسيخ تنميطها بحيث تكون مقاومة الإغراء معها داخل هذا الفضاء شبه مستحيلة. ذاك الفضاء يتيح حالة يحول فيها الإرث الحضاري إلى مومس تحترف العهر الثقافي، وتختزل هذا الإرث في لحظة ضعف؛ بل وتوظفه في سبيل الإشباع الذاتي. هنا يوظف سعيد صفحة مجيدة من صفحات التاريخ الخالدة والمؤلمة في رحلة الانتقام الحضاري. فما أن تتكشف له هوية إيزابيلا سيمور الإسبانية، حتى يشرع في استثمار ماضي مجيد لخدمة لحظة آنية خادشة للحياء، لكن تختصر خسارة لها امتدادات عميقة، يمسي معها كل شيء مبررًا.

"لا بد أن جدي كان جنديًا في جيش طارق ابن زياد. ولا بد أنه قابل جدتك، وهي تجني العنب في بستان في إشبيلية. ولا بدّ أنه أحبّها من أول نظرة، وهي أيضًا أحبته، وعاش معها فترة ثم تركها وذهب إلى إفريقيا، وهناك تزوج. وخرجت أنا من سلالته في إفريقيا. وأنت جئت من سلالته في إسبانيا... وتخيلت برهة، لقاء الجنود العرب لإسبانيا مثلي في هذه اللحظة، أجلس قبالة إيزابيلا سيمور، ظمأ جنوني تبدد في شعاب التاريخ في الشمال، إنما أنا لا أطلب المجد، فمثلي لا يطلب المجد"[65].

إيزابيلا سيمور تصبح كلمة السر التي تختزل ثمانية قرون من الإرث الحضاري الضائع ومعه نفوس مثقلة بمرارات التقهقر والانكفاء بعد مجد وحضارة، وفي ذلك عملية تناص تاريخي مموّه تستمر رمزية اسم إيزابيلا سيمور/الملكة إيزابيلا ليعيد كتابة التاريخ وليحول الهزيمة إلى انتصار بواسطة الإسقاط كآليات دفاع. باستدراج إيزابيلا المتدينة "بعد شهر من حمى الرغبة، وهي إلى جانبي، أندلس خصب"[66]، ينتشي سعيد بنصر في أحد معاركه، امتداداتها تاريخية ولو بأثر رجعي، حتى ارتباطه بآن همند كزوجة لم يخلُ من توظيف تختلط فيه العوالم حين يقول: "غررتُ بها، وقلت لها نتزوج زواجًا يكون جسرًا بين الشمال والجنوب، وحولت جذوة التطلع في عينيها الخضراوين إلى رماد"[67]. في المحصلة النهائية، يبقى اللامجد ديدن مصطفى سعيد في محاولة يائسة منه لتوظيف انغماسه في حياة الترف واللهو التي بها أضاع أسلافه الأندلس للإيقاع بزوجته آن همند أو خليلته إيزابيلا ذات الاسم ذي الحمولة الحضارية. كل جرائمه تتعدى حدود الإشباع الذاتي الآني إلى كل ما هو بائد بنكهة الضياع، مما يحيل القارئ إلى فشل مشروع التثقيف والتغريب التي انتهجها المستعمر داخل المستعمرات؛ حيث كان رهانه إنتاج ذوات هجينة تأتمر بأوامره متغافلًا سياقها الحضاري الشرقي المختلف.

سادسًا: نسخ "أكذوبة" مصطفى سعيد

أشد ما يعانيه أبطال (موسم الهجرة إلى الشمال) هو حالة التحرر المنقوصة التي سمّمت كياناتهم قبيل رحيل المستعمر عنهم، فأنتجت "أكذوبة" كأكذوبة مصطفى سعيد، فكانوا أول من صدقها، رغم عللها المتناسلة. تتأكد الأكذوبة في حالة سعيد، وتظهر أعراضها على الراوي كوريثه الحتمي. ففي هذا، ينظر القارئ لمصطفى سعيد كظاهرة ثقافية هجينة؛ لأنه نتاج زواج قسري بين الاستعمار الأوروبي ودولة عربية إفريقية هي السودان. الراوي أيضًا هو نتاج لهذه العلاقة وهي حقيقة لم يكن - بداية - يرغب في تقبلها إلا عبر استقصائه لحياة وتجربة مصطفى سعيد. تبدأ رحلة الراوي في اكتشاف الحقيقة المؤلمة منذ عودته إلى القرية -السودان - الأصل حيث دفء العشيرة وحرارة الانتماء المنقطع لفترة. عبثًا يُطمئن الراوي نفسه بأن شيئًا لم يتغير في القرية منذ رحيله عنها، وعبثًا يحاول إقناع نفسه أنه لم يتغير، بقوله: "أحس أنني لست ريشة في مهب الريح، ولكني مثل تلك النخلة مخلوق له أصل، له جذور له هدف"[68]. لكن بمجرد لقائه مع مصطفى سعيد سيضطر إلى إعادة النظر في قناعاته تلك،على سذاجتها. رغم أن مصطفى سعيد هو بمثابة إشارة للراوي باستحالة عودة الأمور إلى نصابها إلا أنه يتمادى في التعلّق بحبال أكذوبته الذائبة، حين يُمني نفسه بحياة ما بعد العودة مدعيًا: "أحس أنني مهم، وأنني مستمر ومتكامل، لا لست أنا الحجر يلقى في الماء، لكنني البذرة تبذر في الحقل"[69].

 الثابت أن الكائن الهجين عقيم في الأصل، فكيف لكائن هجين مثل الراوي أن يكون بذرة تبذر في الأرض وتنتج ثمرة؟ الرواية في مجملها حبلى بتجليات هذا العقم المجازي الناتج عن الهجنة الثقافية، ولوثة الاتصال بثقافة المستعمر غير ما مرة داخل النص، فترسخ في ذهن القارئ حالة البين بين أو الهجنة الطاغية التي ابتلعت كياناي الراوي ورديفه مصطفى سعيد. فالراوي يتوق لرؤية نفسه كبذرة سوف تثمر وتؤتي أكلها لجميع من في القرية. لكن هذا الرجاء سرعان ما يصطدم بجدار الحقيقة المؤلمة على لسان مصطفى سعيد حين يقول: "نحن هنا، لا حاجة لنا بالشعر لو أنك درست علم الزارعة أو الهندسة أو الطب لكان خيرًا"[70]. فالحصول على دكتوراه في الشعر حولت حلم البذرة إلى عدم. هنا، يستعير الطيب صالح رمزية شجرة الليمون التي كان مصطفى سعيد يحفر حولها عندما زاره الراوي لتثبيت هذا العقم المجازي الذي دمغ كيانيهما معا. فعلى النقيض من الراوي وأوهامه حول إمكانية أن يكون مَجَازًا هو البذرة التي تنتج ثمرة، تظهر شجرة الليمون التي تحمل ثمرتين مختلفتين إلى جانب مصطفى سعيد هذه المرة. فشجرة الليمون التي "تثمر ليمونًا، وبعضها يثمر برتقالًا"[71]. ليست شجرة عقيمة، بل على العكس، يتوقف الإكثار الخُضَرِي فيها على تغيير صفات أو سلوكيات معينة في الشجرة عبر التَطعيم النباتي. يتبين من خلال رمزية الشجرة داخل الرواية أن مصطفى سعيد مثل شجرة الليمون يتمتع بإمكانيات هائلة ليكون إيجابيًا ومنتجًا مستفيدًا من هويته الأولى وهويته المكتسبة. لكن العكس هو الحاصل، فحالته العصابية ودافع الانتقام لديه من المستعمِر يدفعه ليكون مدمرًا من خلال مغامراته الجنسية مع إنجليزيات، فتطغى الليمونة بمرارتها في شجرته على حلاوة البرتقالة. أيضا تتكشف حالة عجز الراوي في أن يكون إيجابيًا عندما يفاجئه صديقه محجوب قائلًا: "وأنت ماذا تصنع في الخرطوم؟ ما الفائدة أن يكون لنا ابن في الحكومة ولا يفعل شيئًا "[72]. هنا، يلخص محجوب العقم والعجز عند الراوي كونه موظفًا يحضر اجتماعات في العاصمة تناقش فيها مشاكل الدول الحديثة العهد بالاستقلال دون إحداث تغيير يُذكَر. هكذا تتكشّف شخصية الراوي التي يَشلّها الشك؛ حيث تصبح عاجزة عن التصرف على أي نحو حاسم. فيتساءل الراوي: "قال إنه أكذوبة؟ فهل أنا أيضا أكذوبة؟ إنني من هنا، أليست هذه حقيقة كافية؟"[73]. أصبح الراوي متأكدًا أنه ضحية العدوى الثقافية التي أصابت مصطفى سعيد قبله، رغم اختلافهما في مآلاتها.

سابعًا: "إلى الذين يرون بعين واحدة"

عبثًا يحاول الراوي مراوغة المصير ذاته، لكن في كل مرة تزيد قناعته بحتمية هذا المآل، فرغمًا عن إرادة الراوي، يبقى مصطفى سعيد "جزء من عالمي، فكرة في ذهني، طيف لا يريد أن يمضي في حال سبيل"[74]. فبينما يتصفح ملفات مصطفى سعيد في الغرفة السرية، تقع عيناه على كراسة مكتوب على صفحتها الأولى قصة حياتي بقلم مصطفى سعيد. في الصفحة التالية الإهداء: "إلى الذين يرون بعين واحدة، ويتكلمون بلسان واحد، ويرون الأشياء، إما سوداء أو بيضاء، إما شرقية أو غربية"، وقلّبت بقية الصفحات فلم أجد شيئًا، ولا سطرًا واحدًا، ولا كلمة واحدة. هل هذا أيضًا له مدلول، أم أنه صدفة محضة؟"[75]. في الحقيقة، كراسة مصطفى سعيد البيضاء دعوة للراوي لكتابة حياة "أناه" الثانية، لكن الإهداء إلى حدٍّ ما ليس موجهًا للراوي؛ لأنه ببساطة هو أيضًا هجين، في حين أن الإهداء موجّه لآخرين لم تعرِف جرثومة الهجنة الثقافية طريقًا لهم بعد. لكن هل ينطبق توصيف مصطفى سعيد على أي من شخصيات الرواية؟ لا شكّ أن تجربة الكولونيالية وكذا الما بعد كولونيالية تطرح أسئلة كثيرة تتعلق بمدى إمكانية صمود المجتمعات المستعمرة أمام التغيير الناتج عن الاتصال الثقافي، وخاصة بعد اندحار المستعمر. الراوي - كما عودنا - متفائل حين يظن ألا تغيير سيقع، وأن الأمور سترجع إلى طبيعتها. "سنكون كما نحن، قوم عاديون، إذا كنا أكاذيب، فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا"[76]. لكن، إهداء مصطفى سعيد وتركته الثقيلة للراوي، أرجعاه إلى المربع الأول، وكشفا زيف إحساسه المتفائل. فلغز مصطفى سعيد لا يخاطب الراوي ولا مصطفى سعيد ذاته، فلا أحد منهما بقي كما هو، لا أحد منها بقي أسود، ولا استطاع أن يكون أبيض، لا شرقيًا ولا غربيًا، لا أوروبيًا ولا عربيًا. هما معًا رهينا منطقة رمادية، بل محاصران بين الثقافتين، وهذا وضع أفرزه المشروع الاستعماري.

ثامنًا: ساتي في السياق السوداني

تثير الرواية انتقال عدوى الهجنة الثقافية بحالتها العصابية العنيفة إلى شخصيات أخرى داخل النص، ليست بالضرورة مَعْنية بالصراع الدائر داخل بطلي الرواية. الناقل للعدوى هو مصطفى سعيد وحامل العدوى هذه المرة هي حسنة بنت محمود، والمحصلة جريمة مزدوجة. كانت هي وود الريس ضحاياها. بعد هذه الجريمة تحوّل هدوء القرية وطمأنينة أهلها إلى زلزال هز أركان المتعارف عليه من عادات وتقاليد وأدوار اجتماعية، كانت تضع المرأة في مكانها في المجتمع السوداني، رغم كلّ التحفظات. فالمفروض أن المرأة مصيرها إلى الزواج امتثالًا لرغبة أهلها. ود الريس لا يكشف سرًا حين يقول: "ستقبلني وأنفها صاغر ... الأرامل في هذا البلد أكثر من جوع البطن". ويردف قائلًا: "أبوها قبل وإخوتها قبلوا. الكلام الفارغ الذي تتعلمونه في المدارس لا يسير عندنا، هذا البلد فيه الرجال قوامون على النساء"[77]. امتثال النساء لأولياء أمورهن مسألة يكفلها العرف والتقاليد. فـــ"المرأة للرجل، والرجل رجل، ولو بلغ أرذل العمر"، وفوق كل هذا وذاك، "إنها قبلت الرجل الغريب، لماذا لم تقبل ود الريس؟"[78] لكن الجديد هو أن حسنة بنت محمود صممت على أنه "بعد مصطفى سعيد لن أدخل على رجل"[79]. لا، بل "إذا أجبروني على الزواج فإنني سأقتله وأقتل نفسي"[80]. عزم حسنة على قلب الأعراف في القرية يستمدّ قوته من زوجها الهالك الذي استطاع أن يقيم علاقة متميزة معها ملؤهها المساواة وحقّ الاختيار والاحترام المتبادل، وكلها صفات أصيلة غابت في علاقاته الجنسية المبتذلة في لندن. هو أيضا بادلها نفس العواطف وأخلص في حبها؛ حيث أثمرت علاقتهما طفلين. تأثيره في حسنة تحوّل من إخلاص لذكراه إلى تعنت مقابل إجبارية الأعراف والتقاليد. لقد نفث في روحها مبدأ رفض التقاليد الموروثة في مجتمع "متخلّف" لا يُقيم أي وزن للوفاء لشريك الحياة. الدنيا - كما قال محجوب - تغيرت، كذلك حسنة "تغيرت بعد زواجها من مصطفى سعيد. كل النسوان يتغيرن بعد الزواج "[81]. لكن التغيير الحاصل داخل حسنة تغير من نوع آخر فهو "تغير لا يوصف كأنها شخص آخر، حتى نحن أندادها الذين كنا نلعب معها في الحي، ننظر إليها اليوم فنراها شيئًا جديدًا. هل تعرف؟ كنساء المدن". يضيف الراوي، حسنة هي من "نساء آخر الزمن"[82]. وجريمتها فاقت كل التصورات، ولا أحد يريد مناقشة حقيقة ما جرى، فــ"أول مرة حصل شيء مثل ذلك في هذا البلد منذ خلقة الله، محن آخر زمن"[83]. كما قال الجد. وتضيف بنت مجذوب قائلة: "الفعل الذي فعلته بنت محمود لا يجري به اللسان، شيء ما رأينا ولا سمعنا بمثله، لا في الزمن السابق ولا اللاحق"[84]. ما قامت به حسنة جنون لكن الراوي يرفض الحكم عليها حماية لذكراها فيقول: "أنتم المجانين كانت أعقل امرأة في البلد وأجمل امرأة في البلد. حسنة لم تكن مجنونة"[85].

إذا كان مصطفى سعيد تابعًا من رحم الطبقة المثقفة المرتهنة للمستعمِر الذي أثبت أنه يستطيع التكلم في السياق الحضاري العربي، ليس بلسان قومه أو لسان العجم فحسب، لكن جسديًا عبر الاغتصاب والقتل والانتحار، فإن زوجته حسنة هي الساتي في كل تجلياتها السبيفاكية. فهي ضحية خطاب مزدوج: استعماري وذكوري في آنٍ واحد، يكون فيه صوت الأنوثة الأهم خافتًا في مقابل صوت الذكورة المزدوج الصارخ، أكان صوت المستعمِر الذي يدعي مهمته الحضارية المزعومة في انتشالها من البربرية أو ذاك الذي يصورها كبطلة أو زوجة وفية على مذبح الوفاء لزوجها الهالك[86]. وهكذا، تبدو حسنة امرأة مسلوبة الإرادة، لا تستطيع الخوض في مصيرها؛ لأن فعل التكلم لا يضمن لها تفاعلًا واستجابة، لكن هو أقرب ما يكون للمناجاة والمونولوج[87]. إن هجنتها عبر الارتباط بمصطفى سعيد تعزز رفضها الاستكانة والخضوع للأعراف المحلية التي تُخْرِصُ كل صوت يرفض الإقصاء والوصاية، لكن عوض أن تواجه هكذا محيط متحامل، تختار القتل والانتحار على طريقة الساتي؛ لقلة البدائل لديها. صمتها الحجاجي ولغة جسدها دليلٌ على تابعيتها المزدوجة؛ ليقينها بأن الكلام لا يجدي نفعًا. فلا سبيل إلى الكشف عن أفكارها أو حتى مشاعرها إلا عبر نظرات الراوي لها. صمتها المطبق أحيانًا دلالة على المشاعر الدفينة والأفكار التي تتنافى وتتصارع داخلها. فـهناك “التمايز بين الظاهر والباطن، بين السطح والأعماق، فلا يغرنك السطح المنبسط الهادئ، الساكن الذي يمثل الصمت، والذي قد تضطرب تحته عواصف الانفعالات والعنف المكبوت"[88]. صمت حسنة، حين يكون الصمت بلاغة، هو "تواصل بغير كلام، وبيان بغير لسان، وتوضيح بلا لغة"[89] يكون معه الإفصاح قاتلًا مُصَوَّبًا نحو الذات أو الآخر أو الاثنين معًا. هو أسمى تعبير عن رفضها المتعالي للأعراف العصية عن التغيير بحيث يكون معه الانعتاق في شكل دراما دموية هي أقرب لليأس والتضحية والفدائية منها للعنف الأعمى والمثلة بالمقتول. فالكلام في مثل هاته الحالة، "أصبح غير مفهوم ولا يحمل دلالة وعبثيًا"[90].

من جهة أخرى، ارتباط حسنة بمصطفى سعيد هو بمثابة استمرار لمغامراته التي بدأت في لندن؛ لكنها ستأخذ بعدًا آخر في غيابه هذه المرة. بنهاية حياتها وحياة ود الريس تدخل جرثومة التلوث الثقافي الآتي إلى القرية، ويبدأ التغيير. يحاول الراوي مقارنة ما حدث في لندن وما سيحدث لأرملة سعيد مع ود الريس، وهو يستحضر قول مصطفى سعيد الحاضر الغائب في خلفية الأحداث: "حبس الغضب لساني فلِذتُ بالصمت، وقفزت إلى ذهني صورتان فاضحتان في آن واحد. ولشدة عجبي، اتحدت الصورتان في ذهني، وتخيلت حسنة بنت محمود، أرملة مصطفى سعيد، هي المرأة نفسها في الحالتين ... في الثلاثين من العمر تبكي تحت ود الريس الذي بلغ السبعين، ويتحول بكاؤها إلى قصص من قصص ود الريس المشهور عن نسائه الكثيرات، يتندر بها رجال البلد..."[91].

إن حصل وتزوج ود الريس حسنة فستكتمل حلقة العبث وسيتذوق سعيد مرارة الكأس التي تجرعتها ميرانداته عبر زوجته بأثر رجعي. فالرجلان في نظر الراوي، يتقاسمان فرط جنسانية وشبقية لا حدود لهما، تمسي معها بنت محمود ضحية مثل ضحايا زوجها مصطفى سعيد. هذا التقابل يطارد الراوي قبيل الجريمة وبعدها؛ ليعيد محاكمة الأولد بيلي بصيغة مختلفة يكون فيها ود الريس الذي سار على خطى سعيد هو الضحية إلى جانب حسنة، رديفة الهالكات اللندنيات. إزاء كل هذا، يتحقق موت سعيد الذي لم يكن ممكنًا داخل المركز مرتين من خلال تسارع أحداث الجريمة المزدوجة؛ تارة من خلال تجرع حسنة للكأس التي أشربها سعيد لخليلاته غصبًا، وعبر موت ود الريس الذي يتقاسم معه أشياء كثيرة تارة أخرى. فحسنة استطاعت فعل ما عجزت ضحايا سعيد عن فعله، فيما لم يستطع ود الريس النفاذ بجلده كما فعل سعيد في كل سقطاته. وتبقى حلقه الوصل بين هذه الجرائم لفحة الهجنة القاتلة التي حملها سعيد معه وبقيت في الأرجاء حتى بعد موته.


خاتمة

حاولنا مقاربة رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) كنص أدبي رائد في تناوله للتجربة الما بعد كولونيالية بخلفيات متعددة، منها: التاريخي والنفسي والاجتماعي والوجودي في قالب درامي محبوك. لا شك أن التجربة الاستعمارية وما بعدها يسائلان مدى إمكانية قدرة المجتمعات المستعمرة على استيعاب الاتصال الثقافي مع المستعمِر. لكن هذا الاتصال يُثمِر قَطْعًا حيرة وجودية ترجمها الطيب صالح في شكل ثنائيات عديدة داخل نص الرواية، إن على مستوى الشخصيات، أو الفضاءات الزمكانية، أو الحبكات والثيمات الدرامية.

ضمن هذه الأطر، تطرح الرواية مستويات التقاطع بين الانتماء الهوياتي الأصيل والنزوع الجارف في بحث شخصيتيها الرئيسيتين عن هوية هجينة في إطار تثاقف إنساني مزعوم ما هو الا اغتراب وتحقير لتلك الهوية الأصيلة. فهي بذلك تروم موقع الأنا الغربي دون أن تغادر موقع الآخر الشرقي بل تراوح الحد الفاصل بينهما دون أي توق لتحقيق الانزياح الهوياتي المكتمل أو الاحتفاظ بالهوية الأصيلة. غير أن هذا التموقع يحتفظ لتلك الذوات بقدر من الوعي بمآلات محاكاة التابع للمستعمِر ليست كونها تتيح فضاءً ثالثًا للتعبير في قدرته الإنتاجية لمعانٍ جديدة داخل فضاء تعددي ثقافيًا، بل كفرصة ترصد وتربص، مما يبقي ثنائية الأنا والآخر متقدة بقدر متحكم فيه تتفاوت درجاته داخل شخصيتي الرواية. فلا الغربنة ولا الأصلانية ولا الإمكانيات الخلالية بينهما قمينة بإشباع نهم مصطفى سعيد لإثبات الذات مقابل المستعمر، مما يجعل منه فكرة تختزل لحظة الانتقام الحضاري التي تتعدى حدود الزمن والمكان أكثر منه شخصية واقعية. فبطل الراوية شخصية متخيلة لها أهمية تاريخية تتعدى ذاتيته وتعطي اندفاعه أبعادا تاريخية دون أن تكون بالضرورة ممثلة لذلك التاريخ[92].

شخصية مصطفى سعيد قوة ضاربة في سردية الطيب صالح تفوق ما ذهب إليه هومي بابا، كونها تمثلت الحالة الكولونيالية بكل تفاصيلها من زاوية اليقين الحضاري الشرقي الذي لم تبرحها أطيافه. فتدرجه ابتداء من تنكره للذات عبر المحاكاة الواعية للمستعمر، وتملكه لناصية المراوحة واللعب على تناقضاتها سواء داخل الهامش السوداني أو المركز الاستعماري، وسلاسة عودته إلى نقطة انطلاق رحلته، ميزت مساره من كينونة أصيلة إلى صيرورة مكتسبة ومزيفة لكن وظيفية. مصطفى سعيد بارع في محاكاته للمستعمِر في كل مراحل تمثله للانزياح الهوياتي المتحكم فيه. ففي تنكره ومراوحته استطاع أن يحتفظ بمقومات العالمين مما مكنه من التعافي من حمى الرحيل بالعودة الي أصلانيته محملًا بعالميه أينما حلَّ أو ارتحل. مصطفى سعيد أيضًا تابع من نوع آخر قادر على أن يتكلم ليس فقط عبر مساره الدراسي وتفوقه العلمي والمهني، ولكن من خلال كلام الجسد عبر الاغتصاب والقتل والانتحار أيضًا بعد أن أثبت ذاته داخل المركز. هو ساتي من نوع آخر لأنه ملك ناصيه كل شيء وتوفرت فيه قيم الفئات المهمشة أو التابعة التي عادة لا يمكنها أن تتكلم كما أنه استطاع أن يعبر عن وجهة نظر المثقفين التابعين في المجتمعات المستعمرة وكل هذا يجعل تصنيفه صعبًا داخل الحالة الكولونيالية وما بعدها. يبدو أنه أيضًا في منأى عن عصابية فانون المقترنة بغيرية اللون أو الإثنية، لنجاحه في تحييد قيم المستعمر تجاه أمثاله كأسود متصالح مع ذاته، لون بشرته لا يؤثر كثيرًا في مساره أو اختياراته وتقبل الآخر له. من ناحية أخرى، رمزية مصطفى سعيد تتجاوز سيرورته داخل السياق الاستعماري كذاتية منمطة إلى كونه حاملًا للخطاب الاستشراقي المضاد. ترسيخه التنميطي لسحر الشرق ولعبه على حبل تناقض العالمين يتجاوز اللحظة الإيروطيقية الآنية والإشباع الشبقي الزائل في توظيفه لتاريخ الشرق المُشْرق لا المتخيَّل وفي اختصاره لخسارة لها امتدادات حضارية عميقة. حربائيتة البادية للعيان تمنحه قدرة تكيف وكفاءة عالية في تدبير هوياته المتعددة أكان ذلك داخل المركز أم في الهامش في تحكم تام في مجريات الأمور. بطل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) يقدم نموذجًا للهجنة الثقافية المجندة متميزًا في تشكله، متفردًا في وعيه باللحظة التاريخية ومحملًا بيقين حضاري أنتج منظومة قيم كونية لا تخطئها العين رغم أفول نجم تلك الحضارة زمانيًا.


 

المراجع

أولًا: العربية

إبراهيم، أيمن إلياس (مترجم). "الكولونيالية الثقافية في ترجمة (موسم الهجرة إلى الشمال)"، للمياء خليل حماد، مجلة تجسير، مج4، ع1 (2022): 111-128.

بابا، هومي.ك. موقع الثقافة. ترجمة ثائر ديب. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2004.

حماد، حسن محمد. تداخل النصوص في الرواية العربية. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997.

رمضان، إبراهيم عبد الفتاح. "بلاغة الصمت". مجلة العلوم العربية والإنسانية، جامعة القصيم، مج12، ع4 )2019): 2293-2355.

شكسبير، وليام. عطيل. تعريب: خليل مطران. لبنان: دار نظير عبود، 1991.

صالح، الطيب. موسم الهجرة إلى الشمال. بيروت: دار الجيل، ط1، 1966.

قاسم، سيزا. "عن الصمت والأدب". مجلة فصول، ع81-82 (2012).

كريم، ياسين. "دراسات ما بعد الكولونيالية عند جماعة التابع الهندية". المدونة، مج6، ع3 (2019).

ميرو، بيداء محيي الدين. "البناء السردي في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح". مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، جامعة بابل، ع44 (2019): 651-684.

ثانيًا: الأجنبية

References:

Al-Halool, Musa. “The Nature of the Uncanny in Season of Migration to the North.” Arab Studies Quarterly. Vol. 30(1), (Winter 2008): 31-38.

Ashcroft, Bill. et al., The Empire Writes Back: Theory and Practice in Post-Colonial Literatures. 2nd Ed. London: Routledge, 2002.

Bābā, hwmy. K. Mawqiʻ al-Thaqāfah, (in Arabic) Trans Thāʼir Dīb. Al-Qāhirah: al-Majlis al-Aʻlá lil-Thaqāfah, 2004.

Bhabha, Homi. K. The Location of Culture. London and New York: Routledge, 1994.

Fanon, Frantz. Black Skin, White Masks. New York: Grove Press, 1967.

Ḥammād, Ḥasan Muḥammad. Tadākhul al-nuṣūṣ fī al-riwāyah al-ʻArabīyah. (in Arabic), Al-Qāhirah: al-Hayʼah al-Miṣrīyah al-ʻĀmmah lil-Kitāb, 1997.

Hegel, G.W.F. The Philosophy of History, Translator, J. Sibree, M.A. Kitchener: Batoche Books, 2001.

Ibrahim E.A. (translator), "Cultural Colonialism in the Translation of (Season of Migration to the North) by Lamia Khalil Hammad",)in Arabic) Tajseer, Vol. 4, Issue 1 (2022): 111-128

Jan Mohamed, A. R. “The Economy of Manichean Allegory: The Function of Racial Difference in Colonialist Literature.” Critical Inquiry, 12(1), (1985): 59-87.

Karīm, Yāsīn. "Dirāsāt mā baʻda al-kūlūniyālīyah ʻinda" Jamāʻat al-tābiʻ al-Hindīyah" (in Arabic), al-Mudawwanah, Vol. 6(3), (2019).

Mīrū, Baydāʼ Muḥyī al-Dīn. "al-bināʼ al-sardī fī riwāyah (Mawsim al-Hijrah ilá al-Shamāl) lil-ṭayyib Ṣāliḥ" (in Arabic), Majallat Kullīyat al-Tarbiyah al-asāsīyah lil-ʻUlūm al-Tarbawīyah wa-al-Insānīyah, Jāmiʻat Bābil, No 44, (2019): 651-684.

Murad, Rimun. Emotional Distance: Transnational Pleasure in Tayeb Salih's Season of Migration to the North. Arab Studies Quarterly. Vol. 40(3), (2018): 213-232.

Qāsim, Sīzā. "ʻan al-ṣamt wa-al-adab" (in Arabic), Majallat Fuṣūl, No 81-82 (2012).

Ramaḍān, Ibrāhīm ʻAbd al-Fattāḥ. "Balāghat al-ṣamt" (in Arabic), Majallat al-ʻUlūm al-ʻArabīyah wa-al-insānīyah, Jāmiʻat al-Qaṣīm, al-mujallad 12, al-ʻadad 4, (2019): 2293-2355.

Said, Edward. Orientalism. New York: Vintage, 1978.

Ṣāliḥ, al-Ṭayyib. Mawsim al-Hijrah ilá al-Shamāl. (in Arabic), Bayrūt: Dār al-Jīl, 1st Ed, 1966.

Shiksbīr, Wilyām. ʻUṭayl. (in Arabic), taʻrīb: Khalīl Muṭrān. Lubnān: Dār Naẓīr ʻAbbūd. 1991.

 



[1] A. R. Jan Mohamed, "The Economy of Manichean Allegory: The Function of Racial Difference in Colonialist Literature," Critical Inquiry, 12(1), (1985), p. 63.

[2] Edward. W Said, Orientalism. (New York: Vintage, 1978), p. 2.

[3] Bill Ashcroft, Gareth Griffiths & Helen Tiffin, The Empire Writes Back: Theory and Practice in Post-Colonial Literatures, 2nd Ed.) London: Routledge, 2002), p. 37.

[4] تنويه: ما لم يذكر خلاف ذلك، فإن الترجمات من المصادر الإنجليزية هي من الباحث.

[5] Homi. K Bhabh, The Location of Culture (London and New York: Routledge, 1994), p. 4.

[6] هومي. ك. بابا، موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2004)، ص166.

[7] بابا، ص167.

[8] Said, p. 59.

[9] الطيب صالح، موسم الهجرة إلى الشمال (بيروت: دار الجيل، ط1، 1966)، ص14.

[10] سورة إبراهيم، الآية: 24.

[11] صالح، ص7.

[12] السابق، ص5.

[13] السابق، ص6.

[14] السابق، ص7.

[15] بيداء محيي الدين ميرو، "البناء السردي في رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح"، مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية جامعة بابل، ع44 (2019)، ص668.

[16] Bhabha, pp. 63-64.

[17] Frantz Fanon, Black Skin, White Masks (New York: Grove Press, 1967), p. 8.

[18] Fanon, p. 11.

[19] Ibid, p. 69.

[20] Ibid, p. 114.

[21] صالح، ص28-29.

[22] G.W.F. Hegel, The Philosophy of History, Translator, J. Sibree, M.A. Kitchener (Batoche Books, 2001), p. 109.

[23] صالح، ص117.

[24] السابق، ص30.

[25] السابق، ص116.

[26] Musa Al-Halool, "The Nature of the Uncanny in Season of Migration to the North," Arab Studies Quarterly. Vol. 30(1), (Winter 2008). p. 31.

[27] صالح، ص43-44.

[28] السابق، ص27-28.

[29] السابق، ص109.

[30] Fanon, p. 69.

[31] صالح، ص35.

[32] السابق، ص175.

[33] Said, p. 63.

[34] صالح، ص174.

[35] Al-Halool, p. 32.

[36] صالح، ص146.

[37] السابق، ص131.

[38] Al-Halool, p. 31.

[39] Rimun Murad, "Emotional Distance: Transnational Pleasure in Tayeb Salih's Season of Migration to the North," Arab Studies Quarterly. Vol. 40(3), (2018), p. 215.

[40] حسن محمد حماد، تداخل النصوص في الرواية العربية (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1997)، ص43.

[41] صالح، ص50.

[42] السابق، ص40.

[43] عند استعراض مسار حياته المضطربة زعم عطيل شكسبير أنه عاين آكلي لحوم البشر الذين يأكلون بعضهم البعض أو ما يسمى الأنثروبوفاجي أو الرجال الذين تنمو رؤوسهم تحت أكتافهم. مسرحية عطيل لوليام شكسبير الفصل الأول، المشهد الثالث، وليام شكسبير، عطيل. تعريب خليل مطران (لبنان: دار نظير عبود. 1991)، ص37.

[44] صالح، ص52.

[45] Fanon, p. 63.

[46] يقول عطيل وهو على سرير ديدمونة: "وردتك النضرة أصابها الذبول متى استؤصلت... أريد أن أتنشقها في منبتها...قبلة، قبلة ثانية ثم ثالثة، البثي هكذا حتى تموتي، فأقتلك وأحبك بعدها، قبلة أخرى وهي الأخيرة، ما في سوابق الدهر قبلة أعذب من هذه...ذلك المنديل الذي كنت أحبه كثيرا وأعطيته إلى كاسيو، لقد رأيت منديلي في يديه، ويحك من امرأة خائنة...اهلكي... ويخنقها". شكسبير، عطيل، ص144-143..

[47] صالح، ص69.

[48] السابق، ص42

[49] السابق، ص117.

[50] السابق، ص33

[51] السابق، ص66-67.

[52] السابق، ص131.

[53] السابق، ص188.

[54] السابق، ص18.

[55] السابق، ص19.

[56] السابق، ص22.

[57] السابق، ص27-28.

[58] السابق، ص43.

[59] السابق، ص47.

[60] السابق ص47.

[61] السابق نفسه.

[62] السابق، ص59.

[63] السابق، ص53-54.

[64] أيمن إلياس إبراهيم (مترجم) "الكولونيالية الثقافية في ترجمة (موسم الهجرة إلى لشمال)، للمياء خليل حماد، مجلة تجسير، مج4، ع1 (2022)، ص117.

[65] صالح، ص54-55.

[66] السابق، 55.

[67] السابق، 86.

[68] صالح، ص6.

[69] لسابق، ص10.

[70] السابق، ص14.

[71] السابق، ص22.

[72] السابق، ص143.

[73] السابق، ص62.

[74] السابق، ص64.

[75] السابق، ص179-180.

[76] السابق، ص63.

[77] السابق، ص120-121.

[78] السابق، ص155.

[79] السابق، ص118

[80] السابق نفسه.

[81] السابق، ص142.

[82] السابق، ص148.

[83] السابق، ص149.

[84] السابق، ص150.

[85] السابق، ص159

[86] ياسين كريم "دراسات ما بعد الكولونيالية عند جماعة التابع الهندية"، المدونة، مج6، ع3 (2019)، ص742.

[87] كريم، ص742.

[88] سيزا قاسم، "عن الصمت والأدب"، مجلة فصول، ع81-82 (2012)، ص511.

[89] إبراهيم عبد الفتاح رمضان، "بلاغة الصمت"، مجلة العلوم العربية والإنسانية، جامعة القصيم، 12، ع4 )2019(، ص2303.

[90] قاسم، ص520.

[91] صالح، ص190-191.

[92] Al-Halool, p. 32.