النسخ في تفسير (كشف الأسرار وهتك الأستار)
للعلامة يوسف بن هلال الصفدي (696هـ)

سلام أحمد فريجات

أستاذ مساعد في التفسير وعلوم القرآن،
الجامعة الإسلامية، مينيسوتا، أمريكا

salamf2017@hotmail.com

تاريخ استلام البحث: 27/2/2022

تاريخ تحكيمه: 31/5/ 2022

تاريخ قبوله للنشر: 5/10/2022

ملخص البحث

أهداف البحث: هدف البحث إلى بيان موقف الصفدي من مسألة النسخ في القرآن الكريم، وبيان أدلته النقلية والعقلية فيما ذهب إليه.

منهج الدراسة: سلكَت الدراسة لتحقيق أهدافها المنهجَ الاستقرائيَّ لتفسير كشف الأسرار في هذا الشأن، والمنهجَ التحليلي لتحليل أدلَّة الصفدي وتطبيقاتِه في تفسيره.

النتائج: أظهرت هذه الدراسة عدَّة نتائج، منها: يرى الصفدي أن النسخ إنما يكون للأحكام المتقدّمة على القرآن بأحكام القرآن وأنه يكون في الكتب المتقدّمة لا في القرآن مع جواز أن يكون في القرآن أيضًا، لكن حمل النسخ على نسخ القرآن لما جاء في غيره من الكتب السماويّة أوْلى.

أصالة البحث: تكمن القيمة العلميّة لهذا البحث في أنّ تفسير الصفدي يُعَدُّ أول تفسيرٍ كامل تناوَلَ مسألة النسخ من جهةِ المانعين لوقوعهِ في القرآن الكريم، ويمكن أن تُعدّ الدراسة الحالية الأولى التي تتناول هذه المسألة في تفسير كشف الأسرار.

الكلمات المفتاحية: جمال الدين الصفدي، كشف الأسرار وهتك الأستار، النسخ في القرآن

للاقتباس: سلام أحمد فريجات، «النسخ في تفسير (كشف الأسرار وهتك الأستار) للعلامة يوسف بن هلال الصفدي (696هـ)»، مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، المجلد 41، العدد 2 (2023)

https://doi.org/10.29117/jcsis.2023.0359

©2023، سلام أحمد فريجات، مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، دار نشر جامعة قطر. نّشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0

 


 

Abrogation (naskh) in Yūsuf b. Hilāl al-Ṣafadī’s (696 AH)
Qurʾān commentary Kashf al-asrār wa-hatk al-astār

 

                                                            Salam Ahmad Freijat

Assistant Professor in Tafsīr and Qurʾānic Sciences

Islamic University of Minnesota - USA

salamf2017@hotmail.com

 

Received: February 27, 2022

Reviewed: May 31, 2022

Accepted: October 5, 2022

Abstract

Objective: This study aims to determine al-Ṣafadī’s position on the issue of abrogation (naskh) in the Holy Qurʾān and to present his textual and rational evidence for his position.

Methodology: The study used an inductive approach for selecting relevant material from al-Ṣafadī’s Kashf al-asrār and an analytical method for examining his evidence and interpretations.

Results: The study yielded several results: al-Ṣafadī believes that abrogation only applies to rulings found in texts antedating the Qurʾān by whose rulings they are replaced. Now even if al-Ṣafadī allows in principle for the abrogation of one Qurʾānic text by another, he finds its abrogation of rulings in other revealed books more relevant and appropriate.

Originality: The scientific value of this study lies in the fact that al-Ṣafadī’s commentary on the Qurʾān is considered the first integral commentary to address the issue of abrogation from the perspective of those who reject its occurrence in the Qurʾān. This study may also be regarded as the first to address this issue in the Kashf al-Asrār.

Keywords: Jamāl al-Dīn al-Ṣafadī; Kashf al-asrār wa-hatk al-astār; abrogation (naskh) in the Qurʾān

Cite this article as: Salam Ahmad Freijat, “Abrogation (naskh) in Yūsuf b. Hilāl al-Ṣafadī’s (696 AH) Qurʾān commentary Kashf al-asrār wa-hatk al-astār”, Journal of College of Sharia and Islamic Studies, Volume 41, Issue 2, (2023).

https://doi.org/10.29117/jcsis.2023.0359

© 2023, Salam Ahmad Freijat. Published in Journal of College of Sharia and Islamic Studies. Published by QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, trans.form, and build upon the material, provided the original work is properly cited. The full terms of this licence may be seen at: https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0

 


المقدّمة

إنَّ علوم القرآن العظيم من أجل العلوم وأرفعها شأنًا، ومن بينها علم الناسخ والمنسوخ، الذي يُعدّ من أهم العلوم المتعلقة بهذا الكتاب العزيز، لِما يترتب على معرفته في تفسير القرآن الكريم من نتائج مهمة، دعت العلماء والمفسّرين إلى الاهتمام به اهتمامًا كبيرًا، وأفردوا له مساحة في تفاسيرهم، وألّفوا فيه كُتبًا مستقلّة أو ضمّنوه في كتبهم.

وقد اختلف علماؤنا الأجلاء في النسخ قديمًا وحديثًا بين من يسمّيه باسمه ويقول بوقوعه في القرآن الكريم، وبين من يسمّيه بغير اسمه وينكر وقوعه فيه، وقد اختلفت مناهجهم فيه حسب المواد التي عالجوه على أنه بعض مادتها، ومن العلماء الذين نفوا وقوعه في القرآن الكريم العلامة جمال الدين يوسف بن هلال الصفدي (696هـ)، وقد تناولتُ في هذه الدراسة مسألة النسخ عنده.

مشكلة الدراسة وأسئلتها:

يمكن تلخيص مشكلة الدراسة في التساؤلات التالية:

-      من هو جمال الدين الصفدي؟ وما مكانته العلميّة؟

-      ما مفهوم النسخ عند الصفدي؟ وما الفرق بينه وبين البداء والتخصيص؟

-      ما الأدلة التي اعتمدها الصفدي في القول بعدم وقوع النسخ في القرآن الكريم؟

-      ما المنهج الذي سلكه الصفدي في تناول الآيات التي قيل فيها بالنسخ في تفسيره؟

أهداف الدراسة:

تتلخص أهداف الدراسة في الآتي:

-     التعريف بجمال الدين الصفدي، ومكانته العلميّة.

-     توضيح المكانة العلميّة التي يمتاز بها تفسير الصفدي المُسمّى (كشف الأسرار وهتك الأستار.

-     بيان منهجه ورأيه في مسألة النسخ في القرآن الكريم، وأدلته في ذلك.

-     إضافة لبنة جديدة على ما قدّمه الباحثون لخدمة هذا التفسير، بعد اللبنة الأولى التي تمثّلت في تحقيقه، إذ لم يسبق لأحد أن كتب عن العلامة الصفدي وبيان جهوده العلميّة خاصة في المسائل المتعلقة بعلوم القرآن.

أهمية الدراسة:

-     تأتي أهمية هذه الدراسة من التعريف بهذا التفسير، وكشف اللثام عن صاحبه وموقفه من قضية النسخ، وتقديمه للدارسين؛ كون تفسيره يُعدُّ أوّل تفسير كامل بين أيدينا تناول هذه المسألة ويُمثّل رأي أحد المفسّرين المتقدّمين من أهل السنّة والجماعة، وتعدّ الدراسة الحالية الدراسة الأولى التي تتناول هذا الموضوع عند الصفدي وهي من الدراسات القليلة التي بحثت في تفسيره رحمه الله.

-     إن تفسير الصفدي يُعَدُّ أوعَبَ تفسيرٍ تناوَلَ مسألة النسخ من جهةِ المانعين لوقوعهِ في القرآن الكريم. ويُمكن أن يُعدّ أيضًا من أهمّ الرُوّاد الذين عالجوا هذه المسألة خاصّةً في ظلِّ فقدان تفسير أبي مسلم الأصفهاني الذي يُعَدُّ سابقًا له فيها.

حدود الدراسة:

عُنيت الدراسة تحديدًا ببيان مفهوم النسخ عند جمال الدين الصفدي في تفسيره المُسمّى (كشف الأسرار وهتك الأستار) وموقفه منه وأدلته فيه.

الدراسات السابقة:

بعد التتبع والاستقصاء لموضوع هذه الدراسة، وسؤال ذوي الخبرة والاختصاص، ومن خلال البحث في قواعد البيانات في الجامعات الأردنيّة والعربيّة لم أقف - في حدود اطلاعي - على دراسة سابقة تناولت قضية النسخ عند جمال الدين الصفدي في تفسيره، فتفسير (كشف الأسرار) لم يحقّق وينشر كاملًا إلا عام (2019م)([1])، وهناك بعض الدراسات التحقيقيّة([2]) لأجزاء منه بدأت منذ عام 2015م.

منهج الدراسة:

اتبعتُ في هذه الدراسة المناهج الآتية:

-     المنهج الاستقرائيّ: وذلك من خلال تتبع الباحثة مسألة النسخ في تفسير الصفدي وموقفه منها، وأدلته التي ذكرها في هذه المسألة، فهي مبثوثة في تفسيره في الآيات التي قيل فيها بالنسخ عند العلماء.

-     المنهج التحليليّ: ويتمثل بمناقشة آراء الصفدي في مسألة النسخ وأدلته بموضوعية بما يبرز رأيه ووضوح مساره فيها.

المبحث الأول: تعريف موجز بالعلامة جمال الدين الصفدي

اسمه وكنيته:

هو يُوسُف بن هِلَال بن أبي البركات جمال الدّين، الْحلَبِي، الصَّفَدِي، الطَّبِيب([3]).

مولده ونشأته وحياته الخاصة:

بالرغم من طول البحث في المصادر وكتب التراجم والمعاجم، لم يُعثر على شيء عن مولده ونشأته وحياته الخاصة، سوى ما كتبه الصفدي نفسه في تفسيره، فيظهر أنه نشأ في مدينة حلب شمال سورية، ثم انتقل إلى مدينة دمشق وعاش فترة من حياته فيها، وذكر أنه بدأ بجمع تفسيره "كشف الأسرار وهتك الأستار" في الشام سنة 665هـ، ثمَّ انْتقل بعد هذا التاريخ إِلى مدينة صفد في شمال فلسطين، وَبهَا سمّي([4])، وأقام أيضًا - في مدينة القدس، وأخبر أنه انتقل بعدها إلى الديار المصرية سنة 673هـ، فأقام في القاهرة، وذكر أنه كان يطالع كتب التفسير في المدرسة الفاضلية فيها، وانتهى من تبييض تفسيره "كشف الأسرار وهتك الأستار" في جامع الحاكم بالقاهرة في منتصف رمضان سنة 686هـ([5])، وقد ذكر المؤرخون أنه كان يعتكف في شهر رمضان بجامع الحاكم في القاهرة([6])، ولم يذكر أنه بعد ذلك انتقل إلى مكان آخر، إلى أن توفي في القاهرة رحمه الله سنة 696هـ.

أمّا عن مهنته فتذكر كتب التراجم بأنه كان طبيبًا، وكذلك قد ذُكر في ترجمته أنه وابنه (أحمد) من جملة الأطباء الماهرين في القاهرة([7]).

وفاته:

توفي رحمه الله في شهر مُحَرَّم بالقاهرة سنة 696هـ([8]).

عقيدة الصفدي:

حبا الله U العلامة الصفدي رحمه الله سلامة العقيدة والاستقامة، وذلك يظهر في تفسيره من خلال دفاعه عن أهل السنّة والجماعة، وثنائه عليهم في أكثر من موضع، وتصدّيه لأهل الأهواء والبدع([9])، ولم يعثر في هذا التفسير على موضع يقدح في عقيدته، أو يظهر ميله إلى أي فرقة من الفرق.

مذهبه الفقهي:

تُجمِع كتب التراجم على أن الصفدي حنفيّ المذهب، ونُسب إليه، فقيل الصفدي الحَنَفِيّ([10]).

مكانته العلمية:

بتتبع ما كتبه الصفدي في تفسيره، يظهر اهتمامه ومحبته للعلم والرحلة في طلبه، فقد تنقل بين عدة مدن في بلاد الشام والديار المصرية؛ طلبًا للعلم والمعرفة. وممّا تميّز به الصفدي أيضًا - ما يظهر في تفسيره من إتقانه لبعض لغات الكتب المقدسة السابقة كالعبرية والسريانية، فضلًا عن العربية.

وقد أشاد أصحاب كتب التراجم والمعاجم ممّن ترجموا له جميعًا بتوقد ذهنه، وسمو أخلاقه ووقاره، وزهده وتقواه، ولم يعثر على نقد واحد وجّه له أو لعلمه أو كتبه، فقد ترك أثرًا طيبًا في أذهان العلماء. أخبر الصلاح الصفدي (764هـ) أن العَلامَة أبا حيان (745هـ) صاحب تفسير البحر المحيط أثنى عليه، فقال: "كَان فيه تعبد واعتكاف في شهر رمضان بجامع الحاكم وكان مؤثرًا للفُقراء يطبهم ويبرهم بالشرابِ والطَّعام الذي يواتيهم في مرضهم"([11]). وأثنى عليه الشيخ الذهبي (748هـ)([12]) "بأنه فقيه، وأديب، وعالم". وقال الزركلي: "طبيب، كانت له معرفة بالأدب والفقه([13]).

مؤلفاته وآثاره:

يظهر ممّا ذكره مؤلفو كتب التراجم والمعاجم عن الصفدي (696هـ) أن له مؤلفين، ومختصرًا لتفسيره:

-      كتاب "كشف الأسرار وهتك الأستار"([14])، قام بتحقيقه بهاء الدين دارْتْما من مركز البحوث الإسلامية في اسطنبول، عام 2019م. وهو موضوع هذه الدراسة.

-      "أُرجوزة في الخلاف بين أبي حنيفة والشافعيّ"([15])، ولم يعثر على هذه الأرجوزة، وإنما ذكرها المترجمون للمفسر الصفدي.

شيوخه وتلاميذه:

لم يذكر الصفدي في تفسيره اسمًا لمن تتلمذ على أيديهم من العلماء والمفسرين، إلا أنه أشار إليهم في مقدمة التفسير، وقد ترحّم عليهم في عدّة مواضع في تفسيره، وأثنى عليهم وشهد لهم بالعلم والتقوى([16])، ولم يذكروا أيضًا أن له تلاميذ سوى ابنه أَحْمد بن يُوسُف بن هِلَال([17]) الذي نحا نحوه في كل تفاصيل حياته.

المبحث الثاني: التعريف بالكتاب، وسبب التسمية، والباعث على تأليفه

لا شك أن اسم الكتاب (كشف الأسرار) جاء معبرًا عمّا تضمنه من بيان وإظهار لأسرار القرآن الكريم الذي لا تنقضي عجائبه، بسحر بيانه، وروعة معانيه، فكان أجلّ الكتب قدرًا وأغزرها علمًا، وأعذبها نظمًا، وأبلغها خطابًا. وهذا السبب قد ذكره الصفدي صراحة؛ إذ قال: "لقد بيّنت فيه وذكرتُ ما من أجله سميتُ هذا الكتاب كشف الأسرار وهتك الأستار"([18]).

فذكر فيه الصفدي ما فتح الله به عليه من الدلائل والاشارات على أسرار هذا الكتاب العزيز وما فيه من علوم وحِكَم وأحكام ولطائف، قال الصفدي: "تأمل كيف في كلّ موضع لا يخطر بالبال أن به سرًّا أو يرد عليه إشكال، إذا تأمّله ذو النظر ظهر له ما يتعجب منه، وأكثر من ذلك ما خفي عنه"([19]). وقال في موضع آخر: "إنما أدلكَ بألفاظ يسيرة إلى المعاني المقصودة"([20]).

واشترط للوصول إلى هذا الكشف هتك الأستار المانعة عن الفهم وإزالتها، والحاجبة لنور القلب عن فهم كلام الله تعالى، قال الصفدي: "فإن لم يكن في قلبك نور ترى به من كلام الله ما نبهتك عليه لم تنتفع بما قلته فضلًا عن أن تفهم به مثله، وهذا النور لا يحجبه إلا ظلمة الهوى وصدى التقليد"([21]).

فأراد باسم كتابه الكشف عن أسرار هذا الكتاب العظيم وهتك الحجب المانعة عن فهمه؛ وأبرز هذه الحجب: ظلمة الهوى، وملازمة المعاصي، والتقيد بالتقليد لذوي الآراء، والاقتصار على النقل دون إعمال العقل فيه وتحقيقه. ولعلّ الصفدي تأثّر بما ذكره الغزالي (505هـ) من الحجب المانعة للفهم في كتابه إحياء علوم الدين([22]).

المبحث الثالث: مسألة النسخ

المطلب الأول: مفهوم النسخ

أكّد الصفدي أن الاختلاف الذي وقع في النسخ مرّدّه إلى مفهوم هذا اللفظ، وما يتعلق به. لذا قبل أن يذكر رأيه في هذه المسألة وضّح المفهوم اللغويّ لهذا اللفظ، فقال: "النسخ في اللغة معناه الرفع، ونسخت الشمسُ الظلَّ، ونسخت الريحُ الأثر إذا أزالته ومحته، ونسخ الشيبُ الشباب، وقال أبو حاتم: النسخ أن يُحوّل ما في الخليّة من العسل والنحل إلى أخرى، ومنه نسخ الكتاب، وهو نقل ما فيه إلى كتاب آخر، ولا شك أن نسخ الكتاب غير مماثل لنسخ الخليّة من كلّ وجه وإن ماثله من بعض الوجوه؛ وذلك لأنّ المنسوخ منه موجود قائم بما يقوم به الكتاب المنسوخ، وليس الخلية كذلك. وأما نسخ الشمس للظل فإنه تبديل؛ إذ صار هذا بدل هذا في مكان معلوم، فهو ليس كنسخ الخليّة ولا كنسخ الكتاب وإن ماثل فالي بعض الأحوال، وأما نسخ الهواء للأثر فهو إذهابه ومحوه، فليس ذلك مثل شيء مما قدمناه. وكلّ من ذلك يقال له نسخ على ما نقل في كتب اللغة مع اختلاف ما يتصور من لفظ النسخ إذا أضيف لكلّ واحد ممّا تقدّم"([23]).

وأمام هذه المعاني رأى الصفدي ضرورة بيان معنى قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا [البقرة: 106]، وتخصيصه بما يستحقه من المعنى المراد به، فذكر أن قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا، ثم قوله: ﴿نَأۡتِ، والإتيان غير النسخ، فهذا يدلّ على رفع حكم الآية المنسوخة دون نقلها، فليس كنسخ الكتاب ولا الخليّة ولا الشمس، بل كنسخ الهواء للأثر. وأما قوله: ﴿نَأۡتِ، فالإتيان بمثل الشيء مع وجوده في كتاب واحد لا فائدة فيه؛ لأنّ في الأولى المماثلة كفاية، فإن كانت غير مماثلة فهي إمّا دونها ولم يقل كذلك، وإما خير منها وهو كلام الله تعالى، وقد لزم أن الآية التي قد أتي في القرآن بمثلها ليست موجودة في القرآن. وإنما هي في كتاب غيره، فأتي بمثلها فيه، وكذلك قوله: ﴿نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ، إن كان الجميع في القرآن فقد عاد حكم بعضه حكم الكتب المتقدّمة، إذ كان الحكم متعلقًا بزمن مخصوص، ثم أتى زمن غيره فبطل الحكم الأول. فذلك، وإن قيل: إنه جائز، فهو غير موجود في القرآن لما نبيّن من مفهوم كلّ آية وقيامها بنفسها من غير مناقضة. وهذا المعنى بعينه هو نسخ الأحكام المتقدّمة على القرآن بأحكام القرآن. فلزم أن يكون المنسوخ من هذا القبيل لا ممّا يلزم عنه البداء، وأن يكون في الكتب المتقدّمة لا في القرآن، وإن جاز أن يكون فيه أيضًا؛ لأنّ الجميع كلام الله، فقد جاز ما قلناه أيضًا من أن المراد نسخ غيره به، وهذا الجائز أوْلى ما اتّبع([24]).

ممّا سبق يتضح أنّ مفهوم النسخ عند الصفدي، هو نسخ الأحكام المتقدّمة على القرآن الكريم بأحكام القرآن برفعها دون نقل شيء من هذه الأحكام، فهو كنسخ الهواء للأثر، وأن النسخ يكون في الكتب المتقدّمة لا في القرآن مع جواز أن يكون في القرآن أيضًا؛ لأنّ الجميع كلام الله تعالى، لكن حَمْل النسخ على نسخ القرآن لما جاء في غيره من الكتب السماويّة أوْلى.

وعضّد الصفدي ما ذهب إليه في مفهوم النسخ بقوله تعالى: ﴿يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ[الرعد: 39]، فقال: "ويمحو الله ما يشاء، من الكتب المتقدّمة كالتّوراة والإنجيل، ويُثبت ما يشاء كالقرآن، والمعنى يمحو حكم الكتاب المتقدّم، أو ما يشاء من حكم الكتاب المتقدّم، ويُثبت المتأخّر، وهذا هو النّسخ بحسب المصلحة لأبناء الزمان"([25]).

وهو قول: قَتَادَةَ، وابنُ جُبَيرٍ، وابنُ زيدٍ قالوا: يمحو اللَّهُ ما يشاء من الشَّرائع والفرائض فيَنْسخُه ويُبَدّلُهُ، ويُثبتُ ما يشاء فلا يَنْسخُهُ([26]).

وقد قسّم الصفدي النسخ إلى قسمين، هما: ما يجوز وقوعه، وما لا يجوز، فما يجوز وقوعه إنّما يتصوّر في مكان من جهة الشارع، فيكون الشيء حسنًا بوقتٍ أو بشخصٍ قبيحًا في آخر؛ وذلك لحكمة أرادها الله U بحسب المصلحة والأشخاص بما علمهُ الله أزلًا. وأمّا ما لا يجوز نسخه، فهو ما كان حسنًا لعينه كالصدق والعدل، أو قبيحًا لعينه كالكذب والظلم، ومثل هذا لا يُتصوّر النسخ فيه، وهو المُشار إليه كما ذهب الصفدي في قوله تعالى: ﴿أَوۡ مِثۡلِهَآ، فقد أتى في القرآن الكريم بمثل ما في الكتب السابقة وخيرٍ منها، ثمّ أكّد الصفدي أنّ القرآن كتابٌ لا ناسخ لحكم من أحكامِهِ لا منه ولا من غيرهِ([27]).

وبناءً عليه ذهب الصفدي إلى أنّ من اعتقد أنّ النسخ لا جواز له في جميع هذه الأقسام مما يجوز وقوع النسخ فيه ومما لا يجوز، فقد غلُطَ في أحد القسمين وهو القسم الذي يجوز فيه النسخ كالعبادات والأحكام الشرعية، ومتى اعتقد آخر جواز النسخ في جميعه فقد غلُطَ في القِسم الآخر، وهو الذي لا يجوز وقوع النسخ فيه كالصدق والعدل، ومسائل التوحيد([28]).

المطلب الثاني: النسخ والبداء

فرّق الصفدي بين النسخ والبداء، فعرّف البداء بأنّه لفظ يُطلق على معنيين أحدهما الكشف والظهور، والثاني أن يُراد به ما يَعرِضُ من الندم وهو أيضًا يرجع إلى معنى الظهور، والفرق بينهما أن البداء بالمعنى الأوّل معناه الظهور فقط من غير أن يقتضي شيئًا متقدّمًا عليه، والثاني ظهور يتعلق بأمر تقدّم مع استتار وجه المصلحة فيه وظهورها في زمن تأخّر، وذلك هو النّدم([29]). ثم أوضح الصفدي أنه متى علمت أنّ النسخ لا يتعلق بالخَالِق المكلّف سبحانه، بل بالمخلوق المكلَّف لاختلاف وجه المصلحة، فقد تحقّقتَ أنّه لا يلزم عنه البداء؛ لأنّ النسخ لم يَعرِض لخفاء وجه المصلحة، بل للعلم بها. لذا، إنّ ما نسخ الله تعالى بالقرآن لما تقدّمه من الكتب لا يلزم عنه البداء، ولكنّهُ إنّما سُمّي بذلك؛ لأنّه تبيين انتهاء مُدّة حُكم تقدّم في زمن لمصلحة بحكم تأخّر إلى زمن لمصلحة([30]).

ثمّ أكّد الصفدي أنه لا يلزم من كوننا لا نعلم ما سيكون قبل أن يكون أن الله سبحانه غيرُ عالم، فبدا له ما لم يكن في علمه من قبلُ فغيّره بعدُ، بل هو سبحانه العليم اللطيف بخلقه يبدّل السياسات الناموسيّة على ما تقتضيه العناية الإلهيّة بحسب مصالح العالم بما هو الأليق بطباعهم، والأنجع في استنقاذهم من مُوبقات الدنيا إلى مُنجيات الآخرة([31]).

فالله سبحانه وتعالى حين نسخ بعض أحكامه ببعض ما ظهرَ له أمر كان خافيًا عليه، وما نشأ له رأي جديد كان يفقده من قبل، تعالى عن ذلك، وإنّما كان سبحانه يعلم الناسخ والمنسوخ أزلًا من قبل أن يشرعهما لعباده.

المطلب الثالث: النسخ والتخصيص

فرّق الصفدي بين النسخ والتخصيص في عِدّة مواضع من تفسيره، منها ما ذكره عند تفسيره قوله تعالى: ﴿فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱصۡفَحۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ[المائدة: 13]، بيّن أنّ هذا العفو والصفح إحسانٌ من الرسول e لا استحقاق لهم يعني بني إسرائيل فقال: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ فلا يجوز نسخ ما يحبّ الله عليه، فإن قيل: هذا كقوله: ﴿فَٱعۡفُواْ وَٱصۡفَحُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦٓۗ [البقرة: 109]، الجواب: أنّ ذلك تخصيص بمُدّة وليس بنسخ، وإن جاز أن يُسمّى نسخًا([32]).

وأضاف بيانًا آخر للفرق بين النسخ والتخصيص بأسلوب الفنقلات وافتراض الأسئلة والإجابة عنها، فقال: "فإن قيل: نزلت الآية - ويقصد أي آية في القرآن - في حقّ شخص معين أو أشخاص، ثم انقضى ذلك الأمر بانقضاء المأمور، قلنا هذا تخصيص لا نسخ؛ لأنّ النسخ عبارة عن رفع حكم والإتيان بخير منه عوضًا عنه، فهو غير ما قد قيل، ومع هذا فحكم الآية كلّه أو جلّه باقٍ كما سنبيّن في مثل ذلك، فتلك الآية مخصوصة بذلك الإنسان عامة لغيره من أمثاله متى وجدوا، والمتكلم سبحانه لا يخبر الناس في كلامه بقضية إخباريّة لا تعلق للسامع بشيء منها، فإن قيل في تلاوتها ثواب، قلنا: لزم من ذلك أن نضمّ إليه شيئًا من التّوراة والإنجيل ونتلوه رجاء الثواب، وهذا المجال تتسع فيه الأقوال وليس فيه إجماع، ويا ليت شعري إذا كان الإجماع منقولًا عن آحادِ مجتهدين، ومنهم المخطئ ومنهم المصيب، والناقلون عنهم لم ينقلوا دليلًا يقطع الحجّة بل قلدوهم، فهل هو إلاّ إجماع تقليدٍ بإجماع العقلاء، على أن من الآحاد من يخصّص جميع الآيات المنسوبة إلى أنها منسوخة، ويبيّن لها وجوهًا صحيحة، قد أجمع العلماء على إن الآية متى أمكن تخصيصها فليست منسوخة، ولم يجز نسخها، وهذا ظاهر عند أهل التحقيق لا التقليد"([33]).

يظهر ممّا سبق أن الصفدي فرّق بين النسخ والتخصيص، وذلك أن التخصيص بيان انتهاء لحكم وليس تبديل، ويكون التخصيص في آية نزلت في حقّ شخص معين أو أشخاص ثمّ انقضى ذلك الأمر بانقضاء المأمور فتكون الآية مخصوصة بذلك الإنسان عامة لغيره من أمثاله، متى وجدوا، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأمّا النسخ فهو رفع الحكم والإتيان بخير منه عوضًا عنه، وبيّن الصفدي أنه متى أمكن تخصيص الآية لم يجز نسخها.

والذي عليه جمهور العلماء التفريق بين النسخ والتخصيص؛ لذا نجد كثيرًا منهم يذكر الفروق بينهما، وأهم هذه الفروق أن التخصيص هو بيان المراد لا رفع لحكمه وهو قصر العام على بعض مسمياته، ولا يبطل حجية العام أبدًا، بل العمل به قائم فيما بقي من أفراده بعد تخصيصه، بينما النسخ رفع الحكم بدليل شرعي متراخ عنه، والإتيان بحكم آخر، وأن النسخ يبطل حجية المنسوخ بالنسبة إلى جميع أفراد العام([34]).

وفي المقابل، نجد أن بعض الأصوليين قد توسعوا في مدلول مصطلح النسخ فشمل النسخ بالمفهوم المتعارف عليه عند المتأخرين، وهو إلغاء حكم ما وإحلال غيره مكانه، بالإضافة إلى أي وصف يطرأ على الآية من تقييد، أو بيان، أو تخصيص، أو غير ذلك من الأوصاف التي تبيّن النصّ وتوضّحه. من هنا، يظهر جليّا أن الصفدي لم يختلط عليه مدلول المفهومين، بل فرّق بينهما، وضيق بذلك دائرة القول بالنسخ.

المطلب الرابع: نسخ القرآن الكريم بالسنّة النبويّة

يرى الصفدي عدم جواز نسخ القرآن الكريم بالسنّة النبويّة الشريفة، قال: "من العجب العجيب ظنُّ من ظن بكثير من الآيات التي تضمنت ما لا بدّ من العمل بمفهومه أنها منسوخة بآيات أخرى لا تغني الثانية عن الأولى، فاحتاج إلى أن يأخذ حكم الأولى من غير كتاب الله تعالى كفقه، أو حديث؛ فلزمه بذلك أن الله تعالى أنزل كتابًا ناقصًا تمّمه خلقه، تعالى الله عن ذلك، وأعجب من ذلك من نسخ القرآن بالحديث"([35]).

واستدلّ بقوله تعالى: ﴿قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا ٱئۡتِ بِقُرۡءَانٍ غَيۡرِ هَٰذَآ أَوۡ بَدِّلۡهُۚ قُلۡ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَآيِٕ نَفۡسِيٓۖ [يونس: 15]، على أن الله تعالى نفى أن يكون ذلك للرسول e، وردّ على من احتجّ عليه بقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ [النجم: 3]، فقال: "من ادّعى أن كلام الرسول e ليس من تلقاء نفسِهِ فإنّه لم يفهم ما قاله الله تعالى"([36]). فالمراد ما ينطِقُ من القرآن ليس عن هوى نفسه، بدليل الآية بعدها قوله تعالى: ﴿إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ [النجم: 4]، فليس كلّ ما يتكلم به النبي e وحيًا، فالوحي نُسّمهِ قُرآنًا، وليس كلامًا للرسول e([37]).

ثمّ ردّ جواز نسخ القرآن بالسنّة عقلًا بدليل أن الحديث الذي لم يفهمه الظانُّ فظنّ أنّه نسخ الكتاب، إمّا أنّه جاء قبل الكتاب أو بعده أو معه، فإن كان الحديث قبلُ فما كان لمجيء الكتاب فائدة، إذ الناسخ قد تقدّم وعليه الفتوى وبه الحكم؛ وإن كان الحديث تأخر، فلو أن ملكا أرسل رسولًا بكلام من عنده إلى قوم وجعل لهم دليلًا على صدق الرسول وصحة الكلام الذي جاء به أن لا يقدر أحد أن يأتي بمثله فأتى الرسول بمثله، لكان ممّا يبطل صدق الرسول لدعواه أولًا، فإن ادعى الرسول أنّه تكلّم بخير ممّا جاء به من الرسالة أبطل معنى كلام الملك ونقض حكمه ونهى عن العمل به، مع مجيئه بكتاب الملك ودعواه أن الملك أرسله بما لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، وبما ﴿لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ [فُصّلت: 42]، بقي أن يقال: إن الحديث والكتاب جاءا معًا، وذلك مستحيل([38]).

وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين، خُلاصتهما: القول الأول: عدم جواز نسخ القرآن بالسنّة، وبه قال الثوري والشافعي وأحمد في رواية وطائفة من أصحاب الإمام مالك. قال الإمام الشافعي: "وأبانَ الله لهم أنّه إنما نسخ ما نسخ من الكتاب بالكتاب، وأنّ السنّة لا ناسخة للكتاب وإنّما هي تبع للكتاب بمثل ما نزل نصًّا ومفسرة معنى ما أنزل الله منه مجملًا"([39]). وسُئل الإمام أحمد: تنسخ السنّة شيئًا من القرآن؟ قال: "لا يُنْسخُ القرآنُ إلاّ بالقرآن". ورجَّح هذا القول ابن قدامة وابن تيمية([40]). والقول الثاني: جواز نسخه، وهو رأي أبي حنيفة ومالك وأكثر أصحابه ورواية عن الإمام أحمد وهو قول الأكثر ورجّحه الشنقيطي بوحي غير نظم القرآن على لسان رسوله، ودليلهم أنّ الكُلّ من عند الله، والناسخ حقيقة هو الله([41]).

وعليه، يظهر أن الخلاف الذي دار في هذه المسألة يحتاج إلى الاستقراء التام للأدلة لحسم الخلاف، ولكن يمكن القول إنّ وظيفة السنّة الكبرى هي بيان لما جاء مجملًا في القرآن الكريم أو الإتيان بحكم لم يرد فيه، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ [النحل: 44]، فلو جاز نسخ القرآن بالسنّة لأدى ذلك إلى نقض وظيفتها ولجعلنا القرآن بيانًا للسنة وليس العكس. وأن ما ينطق به الرسول ﷺ بوحي هو قرآن وليس سنة، وأن السنّة ليست مثل القرآن، ولا إعجاز في لفظ السنّة كلفظ القرآن، وكل ذلك يدلّ على عدم مثلية السنّة للقرآن، حتّى يقال بجواز نسخه بها. ثمّ إنّ ما استدل به المجيزون من أمثلة تدلّ على وقوعه فإنّها لا تسلم مِن معارضٍ أقوى منها.

المبحث الرابع: أدلة الصفدي النقليّة والعقليّة في نفي وقوع النسخ في القرآن الكريم

لم يكتفِ الصفدي بتفسيره قوله تعالى: ﴿۞مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ[البقرة: 106]، حيث بيّن أن المقصود ما ننسخ من آية أو نُنِسها، الإشارة في هذه الآية هي إلى غير القرآن من المنزّل من قبلهِ، وقد بيّنتُ تفسيره للآية عند تناول مفهوم النسخ سابقًا؛ حيث ضمن تفسيره مجموعة من الأدلة التي تؤيّد رأيه في هذه المسألة، جرى استقراؤها من مواضع عدّة في تفسيره، هي:

أولًا: أنّ سياق الآية الكريمة من سورة البقرة (106) وسباقها تتحدّث عن اليهود بدليل قوله تعالى في الآية السابقة لها: ﴿مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَلَا ٱلۡمُشۡرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ خَيۡرٖ مِّن رَّبِّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِيمِ [البقرة: 105]، فهذا النسخ إشارة إلى التّوراة، وإلاّ أيُّ فائدةٍ لليهود إذا نسخ بعض القرآن لبعض وهم يجحدون الجميع وكذلك النصارى([42]).

ثانيًا: لولا أنّ هذا النسخ إشارة إلى التّوراة، فأيّ حجّةٍ لله عليهم إذا لم يكن ما جاء به الرسول e خيرًا ممّا عندهم أو مثله. وأوضح في تفسيره لقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَكۡثَرَ ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ [النمل: 76]، أنّ المراد فهلّا دلّهم ذلك على صدقه ووجوب اتّباعه، وذلك أن القرآن بيّن ما اختلف فيه بنو إسرائيل، الذي اختلفوا فيه ينقسم إلى قسمين؛ أحدهما: ما نُسِخَ بالقرآن فلا فائدة من بيانه بعد نسخه، والآخر: ما يلزم من القرآن وهو الأكثر، فجاء القرآن مبيّنًا للأكثر الذي في بيانه فائدة([43]). وهذا يكشف أهمية السياق في تفسير القرآن الكريم وتوجيه آياته؛ إذ إن للسياق أثرًا بارزًا في ترجيح المحتملات، وبيان المجملات، وفي عود الضمير والقراءات، ودفع ما يتوهم أنه تعارض بين الآيات، فالسياق أفضل قرينة تكشف عن حقيقة معنى اللفظ([44]).

ثالثًا: أن الخير الذي أنزله الله هو القرآن ومن قبله أنزل خيرًا هو التّوراة والإنجيل، فاختصّ هذه الأمة المحمديّة بخير مثل الخير الأوّل وخيرٍ منه([45]).

وباستقراء تفسير الصفدي أمكن التحقق من هذا الدليل، وذلك بأن الصفدي قد أشار إلى بعض آيات القرآن الكريم أنها جاءت بلفظها في التّوراة، ومثاله ما قاله عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَنَجَّيۡنَٰهُ وَلُوطًا إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَا لِلۡعَٰلَمِينَ [الأنبياء: 71]، "هذه كلفظ التّوراة"([46]). وقوله بعد تفسيره الآية: ﴿وَقَالَتۡ لِأُخۡتِهِۦ قُصِّيهِۖ فَبَصُرَتۡ بِهِۦ عَن جُنُبٖ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ [القصص: 11]، "وكذلك لفظ التّوراة"([47]). وكذلك قوله عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿فَأَصۡبَحَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ خَآئِفٗا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا ٱلَّذِي ٱسۡتَنصَرَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَسۡتَصۡرِخُهُۥۚ قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰٓ إِنَّكَ لَغَوِيّٞ مُّبِينٞ [القصص: 18]، "وهذا الكلام بعينه معناه في التّوراة"([48]). وقوله: "وهذا نطقت به التّوراة"([49]). وفي موضع آخر قال: "هذا صورة النصّ الذي بأيدي اليهود إلى يومنا هذا، وهو شاهد لما في القرآن وجاء القرآن مصدّقًا له"([50]). وقال عند تفسير قوله تعالى: ﴿بَلِ ٱللَّهَ فَٱعۡبُدۡ وَكُن مِّنَ ٱلشَّٰكِرِينَ [الزمر: 66]، "وتجد هذا المعنى في الكتاب الواحد يقصد التّوراة والإنجيل والزّبور في عِدّة مواضع خصوصًا في التّوراة"([51]).

وهذه الإشارات من الصفدي أراد بها التدليل على ما لا يتصوّر نسخه كالعدل والصدق، وما أتى من جنس ذلك في الكتب المتقدّمة، فقد أتى الله بمثله في القرآن الكريم، وهذا الدليل ممّا تفرّد به الصفدي وأعانه عليه معرفته بلغة التّوراة والإنجيل والزبور واطلاعه الواسع عليها بعدّة لغات (العربيّة والعبريّة والسريانيّة) فقد ذكر ذلك صراحة في أكثر من موضع من تفسيره([52]).

رابعًا: وذهب الصفدي إلى أن مَنْ جعل آية سورة البقرة دليلًا على نسخ القرآن بالقرآن فقد فَهِم العموم من لفظ محتمل للعموم، فقال: "ولا ينبغي أن نترك العقل وراء ظهورنا ونفهم أحد الممكنين والجائزين ونُوجبه على أنفسنا من غير دليل موجب مرجّح، إذ ظاهر الآية يحتمل أن يكون أشار بها إلى تخصيص التّوراة وإلى إطلاق على جميع ما أُنزل من القرآن وغيره. فإذا نظرنا إلى الأحق والأحسن من جهة العقل أعَدْنا لفظ الجائز إلى المخصوص لا إلى المطلق لما في ذلك من الأولوية باتباع الأحسن والميل إليه عن الحسن، فكيف لا نميل عمّا ليس بحسن، بل تكون به المناقضة وتحِلّ به الاختلاف. وأمّا ما قلناه فهو يحلّ الإشكال ويزيل الاختلاف"([53]).

"فكلّ رسول أرسله الله سبحانه كان يُجدّد ما خَلُق ويُثبت ما مُحِيَ، ويُصدّق ما كُذّبَ، ويأتي بما جاء به الرسول الذي قبله ويزيد عليه، إلى أن تمّ الأمر وظهر الحقّ الأتمّ، وقامت الحُجّة البالغة بسيّدنا محمد e خاتم النبيين فما أتى به لا خير منه ولا مثله فهو الأتمّ الأحسن"([54]).

وذكر الصفدي رأيًا آخر يؤيد ما ذهب إليه من دفع النسخ في القرآن الكريم عن النوبختي([55]) نقله أبو القاسم الصفار([56]) في تفسيره للقرآن، فبيّن النوبختي أنّ النسخ وقع على الأحكام التي كانت للأنبياء المتقدمة، ولم يقع في شيء من أحكام النبي e، وقال: "إن القرآن آخر الكتب المنزّلة وأحكامه آخر الأحكام فلا يجوز نسخه كما جاز نسخ الكتب المتقدّمة به؛ لأنّ المتقدّمة كانت مرتبة للقرآن، وكانت أحكام القرآن منتظرة بعدها كما نطقت التّوراة، ولا منتظر بعد القرآن وهذا كلام فيه لمن وعي إقناع"([57]). وهذا الرأي لم أعثر عليه في مصادر أُخرى غير تفسير الصفدي.

خامسًا: استدلاله بقوله تعالى: ﴿وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗ [الكهف: 27]، فقال: "فيها إشارة إلى أنّ كلمات الله لا تُنسخ فتُبدّل كما بُدّلت التّوراة والإنجيل بها"([58]).

سادسًا: استدلال الصفدي بقوله تعالى: ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ [الأنعام: 115]، على أن هذا القرآن لا ناسخ له، ولا مبدّل له بكتاب آخر، ولا بحديث ولا إجماع، فلا مبدّل لكلماته سبحانه بوجه([59]).

سابعًا: استدلاله بقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَۚ وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗ [النساء: 82]، فقال: "تدلك هذه الآية أن ليس في القرآن منسوخ كما قيل، وإن جاز أن يكون فيه منسوخ كما شرطنا؛ لأنه تعالى أشار إليه جميعه، ولا معنى للمنسوخ إلا أن يكون الناسخ مخالفًا له، فمتى كان فيه منسوخ وناسخ لزم أن يكون فيه اختلاف، والله تعالى قد نفى ذلك وتحدّى به، والذين وجدوا في الكتاب ذلك وجدوه لتقصير الأذهان فاضطروا إلى نسخ بعضه ببعض لئلا يلزم الاختلاف، واشتبه عليهم عدّة مواضع، ولهذا اختلفوا أيضًا في المنسوخ؛ وبعضهم يزعم أنه غير منسوخ، وبعضهم لا يوافقه، وإذا لم يكن معهم من رسول الله e نقلٌ فلا تقليد لغيره، فاختلفت الأقوال لاختلاف الأذهان، ومن تدبّر هذه الآية نجا من جميع ما قدمنا في الكلام عنها"([60]).

ثامنًا: "تشهد العقول الصحيحة أن كثيرًا من الناسخ والمنسوخ نزل جملة، ونقل من ظنّ المنسوخ ومن أثبت عنه يشهد بذلك، وربما كانت الآية المنسوخة بعد الآية الناسخة تارة، والخُلْفُ كثير من أقوامٍ سادةٍ لأمثالهم، وما ذلك إلا لاختلاف نظر المجتهدين، ومن أمعن النظرَ وكان أهلًا لذلك الحقّ مَهدِيًّا إليه وَجَد كلّ أمر تامًا محكمًا قائمًا أبدًا بحكمة إلهية بيّنًا في صدور الذين أوتوا العلم"([61]).

ومن مظاهر هذا الاختلاف الغلو في عدد الآيات التي دخلها النسخ أو دخل بعضها، وقد ذهب أكثر المتقدمين إلى أنّ الآيات المنسوخة يربو عددها على المائتي آية([62]). بينما نجد السيوطي أثبت النسخ في اثنتين وعشرين دعوى للنسخ فقط([63]).

ومن المعاصرين من جعلها عشر آيات وأقل([64]). وهذا ما حَمَل ابن الجوزي وهو من القائلين بالنسخ إلى توجيه النقد لهذه المبالغات وحمل عليهم حملًا شديدًا، فقال: "واضح بأن التحقيق في الناسخ والمنسوخ يُظهر أنّ هذا الحصر تخريفٌ من الذين حصروه"([65])، واستخدم عبارات قاسية في وصف القول بالنسخ في بعض الآيات منها: "بأنّه قبيح"، وأحيانًا "بأنّه مرذول"، وأحيانًا يصفُ القائلين بالنسخ في غير محلّه حسب رأيه "بأنّهم بعض المغفّلين من نقلة التفسير"([66]).

ومن الملاحظات المنهجية البارزة في هذه المسألة التي أجابت عن تساؤلات أُثيرت حول حقيقة قول أبي مسلم الأصفهاني في دفع نسخ القرآن، الذي يُذكر اسمه على ألسنة الباحثين وفي كُتبهم أينما ذُكِرَت هذه المسألة، أنّ الصفدي ساق رأي أبي مسلم وذكر أهم أدلّته في ذلك، فقال: "وقد نُقِل عن أبي مسلم وغيره ما لا مزيد عليه في دفع نسخ القرآن بحجج واضحة، بعضها ههنا. فمن ذلك قوله: لا يحسن في العقل أن يكون الكتاب الواحد من الملك بعضه ينقض بعضا أو يخالفه، وقد نفى الله تعالى أن يوجد في كتابه اختلاف، وإذا كان كذلك فالمتكلم إذا تكلّم في زمن لمقصود ثم تكلّم بعده في زمن آخر بكلامٍ آخر لأجل ذلك المقصود الأول كما جاء القرآن بعد ما تقدمه فلا يخلو من أحد ثلاثة أقسام: إمّا أن يتكلّم في الثاني كالأول بعينه وإن اختلفت العبارة أو اللغة، وإما بدونه، وإما بخير منه. فإن جاء في الثاني بما جاء به في الأول فهو هو بأيّ عبارة أو لغة تكلّم، إذ المعنى واحد، وهذا لا يُتصوّر نسخه كما قلناه. وإن أتى بدون ما في الأول فالإمساك عن ذلك الكلام أفضل في نيل المقصود. وإن أتى في الثاني بما هو خير من الأول فلا شك أنه أبلغ في نيل المقصود، فلزم أن يكون جملة الكلام الثاني إما مثل جملة الكلام الأول، أو خيرًا منه، أو بعض ما في الثاني كبعض ما في الأول. وبقية الثاني خير من بقية الأول، ولا معنى لقوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَايَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَيۡرٖ مِّنۡهَآ أَوۡ مِثۡلِهَآۗ إلا ما قلناه. فالإشارة بالمثل إلى ما لا يُتصوّر نسخه كالعدل والصدق، وما أتى من جنس ذلك في الكتب المتقدّمة أشار إلى أنه تعالى أتى بمثله في القرآن وإلى ما يجوز نسخه بحسب المصلحة والأشخاص، وأشار تعالى إلى أنه لما نسخه من الكتب المتقدمة أتى بخير منه في هذا الكتاب، فهذا كتاب لا ناسخ لحكم من أحكامه لا منه ولا من غيره. والدليل على ذلك فهم جميعها غير مناقض لشيء من جميعها"([67]).

وبالنظر إلى ما نقله الصفدي عن أبي مسلم يُمكن تسجيل الملاحظات الآتية:

-      أنّه نقل رأيًا كاملًا لأبي مسلم مع أدلّته، وقد تبنّى الصفدي بعض هذه الأدلة وأضاف إليها في بيان رأيه الذي يوافق رأي أبي مسلم الذي ذكره.

-      أنّ ما نقله الصفدي يُشكّل أهمية علميّة للباحثين في ظلّ غياب تفسير أبي مسلم وفقدانه واضطراب ما نُقِلَ عنه.

-      أنّ ما نقله الصفدي يدعو الباحثين إلى إعادة النظر في موقفهم من رأي أبي مسلم في هذه المسألة، فما نُقِلَ عنه كما قال اللكنَوي في فواتح الرحموت، أنّ فيه اضطرابًا وضبابية حول حقيقة رأيه، فقال: "قد أول بأنه لا ينكر حقيقة النسخ؛ لكنه يتحاشى عن إطلاق هذا اللفظ ويسميه تخصيصًا، فإن تخصيص الأزمان كتخصيص الأفراد، وقيل النسخ عنده الإبطال وينكره ويدل عليه استدلاله، وقيل ينكره في شريعة واحدة فقط، قيل في القرآن فقط"([68]).

-      أنّ الأدلة التي ذكرها الصفدي لأبي مُسلم غير الأدلة التي ذكرها الرازي في تفسيره نقلًا عن أبي مسلم([69]).

المبحث الخامس: منهج الصفدي في التعامل مع الآيات التي قيل بالنسخ فيها

يظهر أنّ الصفدي في مسألة النسخ أخذ بإحدى القواعد المقرّرة في أصول الفقه، أنه لا يُعدل إلى الترجيح إلا عند العجز عن الجمع؛ إذ العمل بالدليلين أوْلى من إهمال أحدهما؛ لأنّه أي الإهمال خلاف الأصل([70]). ومعلوم أن النسخ ترجيح بين نصين أحدهما يدعي المرجح رجحانه فيسميه ناسخًا، والآخر يدعي مرجوحيته فيسميه منسوخًا، فمبنى النسخ على التعارض ولا يكفي تقدّم زمان أحدهما على الآخر ليحكم بالنسخ، وهذا العمل من المفسّر ظني لا قطع فيه غالبًا، وهذا يعني أنّ مفسرًا آخر قد يستطيع الجمع بين ما عجز عنه الأول فيوفق بين الدليلين دون الحاجة إلى ترجيح أحدهما على الآخر بدعوى النسخ([71]).

وهذا ما رآه الصفدي أنّه الأوْلى؛ فالأصل عنده القول بعدم النسخ في القرآن الكريم. وهذا ما قد استحسنه أيضًا بعض كبار الأئمة والمفسّرين من القائلين بالنسخ، حيث ذهبوا إلى أن الأوْلى التوفيق والجمع بين بعض الآيات التي قيل إنها منسوخة والآيات التي قيل إنها نسختها، منهم، مكي بن أبي طالب وابن الجوزي والرازي وابن تيمية وابن كثير رحمهم الله تعالى([72]).

وهذا ما أكده الصفدي في تفسيره، فقال: "وقد علمت أن أكثر الأئمة والصحابة y اختلفوا في المنسوخ، فيرى أحدهم أن هذه الآية منسوخة بالآية الأخرى، فيأتي الآخر فيفهم لكلّ واحدة منهما معنى لا يناقض معنى الأخرى، فيصدر عنه ضدّ ما ادعاه من تقدّمه من النسخ، وذلك مثبوت في جُلّ كتب التفسير؛ لأنّ القول في ذلك عائد إلى نظر المجتهدين ومن باب الجائز، وما جاز فلا يُحكم عليه بنفي أو إثبات إلا بمرجّح، ولا مرجح أبلغ من تمشية جميع الآيات على ما يجب ويسوغ في العقول الصحيحة والنصوص غير خارج عن قواعد اللغة"([73]).

وهذا ما أخذ به الصفدي، وبيّن معنى كلّ آية نفى نسخها بيانًا لا يعارض ولا يشك فيه محقٌّ عالم كما وصفه الصفدي، ثمّ دعاه إلى النظر هل في الآيات شيء ينقض شيئا، أم فيه تكرار إلا لزيادة معنى يجب ذلك التكرار ليظهر المعنى، أم أنّ ما أثبته الصفدي غير مضمون لفظ الكتاب، وإذا طابق المعنى للفظ وصح في العقل وشهد له الكتاب بمثله في بقية المواضع ولم يبقَ إشكال فلا حاجة لنا إلى أن ننسخ بعض الكتاب ببعض، وكله كتاب أُحكمت آياته، والمحكم عبارة عمّا لا خلل فيه بوجه([74]).

وفي بعض المواضع كان يذكر قول مَن قالوا بنسخ الآية ثمّ يُعرض عن عرض رأيهم وأدلّتهم ومناقشتها ونقضها، ويكتفي ببيان المراد بالآية الكريمة بما ينفي أن يكون بينها وبين الآية التي قيل أنّها ناسخة لها أي تعارض([75]). ومثال ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ١ قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا٢ [المزمل: 1-2]، نفى أن يكون قيام الليل قد فرض أولًا على النبي ﷺ وأمته ثم نسخ بعد اثني عشر شهرًا فأصبح تطوعًا بعد أن كان فريضة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ...﴾ [المزمل: 20]، فبيّن أن الرسول ﷺ كان يقوم الليل تعبدًا وتقربًا بالنوافل بعد الفرائض هو وطائفة معه، وهذا القيام لم يكن فرضًا أولا ولا آخرًا، بل جاء قوله (قم) تخفيفًا وإباحة وتخييرًا، فقال الصفدي: "قم، من مرقدك إلى طاعة ربك. فجاء الخطاب للرسول مع جلالة قدره وقربه من ربه تحريضًا لأمته وإعلاما لهم أنه لا أحد منهم يصل إلى رتبته. فكيف لا يتصف بصفته من قول الله تعالی له: قم الليل، يريد اسم الجنس، ومعناه قم في الليل، إلا قليلا، أي من الليالي. وهذا لا يعطي أن يقول: كل ليلة ولا طول ليلة. فبين ذلك بقوله: نصفه، أي قم منه نصفه. وإذا لم نفهم من قوله أولًا: إلا قليلًا، ما قلناه لزم التناقض بقوله ثانيًا: أو انقص منه، أي من النصف، قليلًا، بدليل قوله بعده: أو زد عليه، فلا تكون الزيادة على الليل بل على نصفه"([76]). فخلص الصفدي إلى أن هذه الزيادة والنقصان عائدة إلى مراد الرسول ﷺ واجتهاده، فإن الله لا يمل من الثواب حتّى يملوا من العمل.. ثمّ رد الصفدي على من احتج على أن قيام الليل قد فرض عليهم أولا ثم نُسخ بدليل قوله تعالى في الآية ﴿فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ [المزمل: 20]، بأن ذلك يقتضي أن من عبد الله عبادة ثم تركها كان مستدعيًا لمقت الله إن لم يتب عليه، وهذه التوبة هنا ليس المقصود منها ذلك، بل هي كالتوبة في قوله تعالى﴿أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ [البقرة: 187].

ومن الدراسات المعاصرة التي تناولت النسخ في القرآن الكريم دراسة مصطفى زيد([77]) التي خلصت إلى وجود النسخ في خمس وقائع في ست آيات من القرآن الكريم فقط، منها هذه الواقعة المتصلة بقيام الليل، فنجد أن ما ذهب إليه مصطفى زيد من ترجيح القول بالنسخ في هذه الآيات اعتمد فيه على حديث صحيح عن عائشة رضي الله عنها أخرجه مسلم في صحيحه، ولم يعتمد في ذلك على تفسير الآيات نفسها والنظر في سياقها ومحاولة فهمها دون افتراض وجود تعارض بينها مستندًا إلى ما ورد في الحديث، وهذا ما قد يقوي ما ذهب إليه الصفدي من أن الأصل الذي ينبغي الاعتماد عليه في رد النسخ هو إمكانية التوفيق بين الآيات ونفي التعارض بينها، بل إن الشافعي رحمه الله قد ذكر الآيات وقال فيها بالنسخ لكنّه نسخ فرض قيام الليل بالآية (79) من سورة الإسراء، ولم يأخذ بالحديث كدليل على وجود النسخ، وهذا أيضا يقوي رأي الصفدي، ولو أن أصحاب الدراسات المعاصرة قدّر لهم أن يطلعوا على تفسير الصفدي وما جاء به في مسألة النسخ لربّما أعادوا النظر فيما ذهبوا إليه من القول بوجود النسخ في بعض الآيات.

وفي مواضع أخرى كان يذكر قول من قال بنسخ الآية وأصحاب هذا القول، ومن قال بضَدّه من الصّحابة والتابعينy، وفي هذا المسلك أراد الصفدي أن يُظهر أنّ الاختلاف في القول بالنسخ وعدمه وقع فيه كبار المفسّرين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.

ومثاله ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ﴾ [آل عمران: 102]، فقال: "ذكر قتادة والربيع والسُّدي وابن زيد أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ [التغابن: 16]، قال ابن عباس وطاوس: هذه الآية مُحكمة غير منسوخة، ثم قال ابن عباس: حاشا الله أن يأمر بالأعلى وينتقل إلى الأدنى، وتعالى أن يأمر بما لا يكون وهو أعلم بما يكون". وأضاف الصفدي: "يحتمل في لفظة "تقاته"، أي كحقّ القوم التُّقاة. ثم نسبهم في التقوى إليه فهم تقاتُه الذين يتقونه. والمعنى اتقوا الله كما يتقونه تقاته. وإن قلنا: إن هذه الكلمة بمعنى حقّ تقواه فهي كقوله تعالى ﴿حَقَّ تُقَاتِهِۦ﴾ [البقرة: 121]، وكقوله تعالى: ﴿وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ﴾ [الحج: 78]، ولا تكون هذه الآية منسوخة... وإذا كان المراد من (تقاته) تقواه فهو ما استطعتم لقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ [البقرة: 286]، ومَن بَذَل جهدَه واستطاعته فقد أتى بما عليه وهو حقّ الله"([78]). وعلّل الصفدي هذا الاختلاف في المنسوخ بأنه عائد إلى نظر المجتهدين وهو من باب الجائز، وقد بيّنت ذلك سابقًا([79]).

ومن الملامح المنهجية المهمّة في نفيهِ النسخ لبعض آيات القرآن الكريم اعتماده الأدلة النقليّة والعقليّة في ذلك، ومثاله ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ [المائدة: 15]، فقال: "وقوله تعالى: ﴿وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ، إشارة إلى أنه u يعفو عن كثير من جهتكم ومن جهة غيركم بيّنه أو لم يبيّنه، فهو وصف للرسول e بالعفو مطلقًا... فلا يجوز أن يُنسخ هذا العفو فإنّه صفةٌ للرسول e، ودليله قوله تعالى مطلقًا: ﴿خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ١٩٩ [الأعراف: 199]([80]).

ومن الملامح المنهجية المهمة أيضًا أنه يُبيّن العلة والسبب الذي دفع مَن قال بنسخ الآية إلى هذا القول، ومن هذه العِلَل والأسباب وقوع الإشكال في فهم الآية الكريمة الناتج عن التقديم والتأخير، ومثاله ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ [الأنعام: 141]، التي قيل فيها أنها منسوخة بآيات فرض الزكاة، وممّن اختار هذا القول: الطبري، والنحاس وابن أبي حاتم([81]). فقال الصفدي: "واتوا حقه يوم حصاده، أي الذي يجب في يوم حصاده، لا يلزم أن يُخرج في ذلك اليوم، وإنما عيّنه مقيّدًا بذلك اليوم لأمور، منها: أنه قد يُسرف منه فيما بعد، أو يُفسد، أو يَنقص، أو غير ذلك، ففي يوم حصاده وجب عليهم حقّه، فهذا معنى؛ وأيضًا إن المراد أن يعلمنا أنه قبل الحصاد لم يجب علينا حقٌّ، بل يؤكل منه بغير إسراف إلى أن يجب لئلا يحرم علينا قبل؛ ولهذا تقدم قوله: كُلُوا، فهذا هو الوجه الأوْلى. ثم قال: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، والإشارة بالحقّ إلى الزكاة، وليس في الزكاة إسراف وإنما الإسراف عائد على الأكل، وأخّر للوِزان. ولمّا لم يَفهم ما قلناه من اعتقد أن هذه الآية هي منسوخة بفرض الزكاة اضطر إلى نسخها، ولا نسخ ههنا لمن قرأ وتدبّر"([82]).

فنجد الصفدي في هذه الآية حَمَل (الحقّ) على الزكاة، وهذا قول جمهور العلماء والمفسّرين. وحلّ الإشكال في هذه الآية بالقول بالتقديم والتأخير، وأنّ الإسراف في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ يعود على الأكل من الثمر وليس على الحقّ الذي هو الزكاة فلا إسراف في الزكاة. وأضاف الصفدي أنّ تفصيل ما فُرِض في الزكاة هو ما قيل ونُقِل عن الرسول e؛ لأنّ الأمر بالزكاة جاء عامًا مُجملًا غير مُفَصّل في القرآن الكريم، وبيّن الصفدي الحكمة من ذلك وهي أن نفعل من الزكاة أكثر ممّا نُقِلَ، ولهذا لم يُعَيّنه في القرآن الكريم، وهذا بعض فوائده، قال تعالى: ﴿فَمَن تَطَوَّعَ خَيۡرٗا فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥۚ [البقرة: 184]([83]).

ومن الملامح المنهجية أيضًا أنّهُ يُفَسّر الآية التي قيل أنّها منسوخة والآية الناسخة لها دون أي إشارة إلى أنّه قيل فيها بالنسخ بحيث لا يُشعِر القارئ بأي تعارض بينهما، رغم أنّ بعض هذه الآيات هي ممّا قال العلماء بالنسخ فيها. ومثال ذلك ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةٗۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ١٢ ءَأَشۡفَقۡتُمۡ أَن تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَٰتٖۚ فَإِذۡ لَمۡ تَفۡعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ١٣ [المجادلة: 12-13]، فقال: "بعض الناس يتصدق قبل كلّ فريضة، والصدقات أنواع منها الكلمة الطيبة، ثم عرّفنا أن ذلك ليس بفرض فقال: ﴿ذَٰلِكَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ، لقلوبكم؛ لأنّ الصدقة تُكفّر الذنب فيطهر القلب، فإن لم تجدوا، فاستغفروا الله، فإن الله غفور رحيم، ولهذا لم يقل: فإن لم تجدوا فلا جناح عليكم أو مثل ذلك، ولهذا أكّد الأمر بقوله: ﴿ءَأَشۡفَقۡتُمۡ، على أموالكم مع القدرة أن تقدّموا بين يدي نجواكم صدقات، أي لا صدقة واحدة، بل صدقات مختلفات في أنواعها، فإذا لم تفعلوا وتاب، أي وقد تاب الله عليكم، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وهذا يدل على صدقة غير الزكاة، ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ"([84]).

ذهب العلماء إلى أنّ الآية الأولى منسوخة بالثانية التي تلتها([85])، بل عدّه بعضهم إجماعًا([86])، وذهبوا إلى أنّ في الآية الأولى أمرًا من الله لعباده المؤمنين إذا أرادوا مناجاة الرسول e في شيء من شؤونهم أن يُقدّموا بين يدي تلك النجوى صدقة، فشقّ ذلك على بعض المسلمين القادرين على تقديم الصدقة قبل النّجوى فأمسكوا عن مناجاة النبي e فأسقط الله وجوب هذه الصدقة بالآية التي بعدها([87]).

وقد أورد الرازي رأيًا لأبي مسلم الاصفهاني ذهب فيه إلى أن التكليف بتقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول كان مقدرًا بغاية مخصوصة، هي تمييز المنافقين من المؤمنين، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى هذه الغاية؛ فلا يكون ذلك نسخًا. وعقّب الرازي على قوله فقال: "وهذا الكلام حَسَنٌ ما به بأْس"([88]).

وقد ردّ مصطفى زيد([89]) في دراسته رأي أبي مسلم، عقليًّا، معتمدًا على الرواية المذكورة عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في بعض الكتب التي تناولت مسألة النسخ في القرآن الكريم([90])، حيث ذكروا بأن رجلًا واحدًا قدّم الصدقة هو علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه. وقد ردّ زياد الدغامين ([91]) في دراسته على من قال بالنسخ في هذه الآية، إذا كانت الآية الناسخة نزلت بعد عشرة أيام من أختها الآية المنسوخة، فهذا لا دليل عليه، ولا يصح أن يعتزلَ الرسولﷺ أصحابُه عشرة أيام بسبب إشفاق الأغنياء من دفع الصدقات؟ وهل يعقل أن يخلو المجتمع الإسلاميّ المعروف بالسخاء من هذا الفضل وهذه الفضيلة؟ عدا علي كرّم الله وجهه.

ومن المعاصرين أيضًا الذين قالوا بردّ النسخ في الآية، علي جمعة، حيث ذهب إلى أن الأمر في الآية الأولى للندب لا للوجوب، بقرينة قوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ [المجادلة: 12]، وفي الآية الثانية تخيير بين التصدق وعدم التصدق؛ ومن ثم فلا تعارض بين الآيتين، فلا وجه للقول بالنسخ([92]).

رحم الله الصفدي كيف أمكنه الجمع بين الآيتين في تفسيره من خلال النظر في سياق الآيات نفسها دون أن يُشعِر القارئ بأي تعارض بينهما، ولو قدر للدغامين وجمعة الاطلاع على تفسير الصفدي للآيتين وهذا ما لم يحصل لتأخر تحقيقه - لكفاهما مشقة الرد على القائلين بالنسخ فيهما.

ومن الأمثلة المشهورة التي قيل فيها بالنسخ ودفعه الصفدي ما يتعلق بأحكام العدّة للمتوفّى عنها زوجها عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ [البقرة: 234]، فقال: "وهذه الآية قيل: إنها ناسخة لقوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖۚ فَإِنۡ خَرَجۡنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِي مَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعۡرُوفٖۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ٢٤٠ [البقرة: 240]، وإن تقدمت عليها، إذ عدةُ كلّ من تُوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرٌ. فانظر إلى هذه الأفهام كأن الله تعالى قد جعل في أفهامهم المتاع إلى الحول عدّة، أو أجلا يدل على عدّة، ولم يعلموا أن الله تعالى قال في الثانية: ﴿وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا فرضنا عليهم أن يوصوا وصية لنسائهم كما يوصي من حضره الموتُ للوالدين والأقربين، فأمرَ المتوفّى عند وفاته أن يجعل من جملة الوصية وصيةً لزوجته أن تُمتّع متاعًا في بيتها بالبيت وآلاته ومَرافقه، وأن لا تُخرج منه إخراجًا بغير رضاها إلى الحول من مدة الوفاة، لجواز أنها تكون امرأة لا تريد الزواج، أو كبيرة عنه، أو لا يصح لها زوج، ثم بعد ذلك عرّفنا أن هذه الوصية للزوجة إنما هي متاع وليست أجلًا ولا عِدّة؛ إذ العدة والأجل أمرٌ لا يجوز تغييره، ومَن غيّره فعليه جناحٌ بل إثم، وفي هذه الآية قال غيرَ إخراجٍ، ولم يقل: غير خروج فافهم اللازم من المتعدي ثم قال: فإنْ خَرَجنَ فلا جُناح عليكم، فجعل ذلك الخروج إليها إن اختارت، ثم عقب بعد هذا البيان، بقوله: "فأيُّ شيء في هذه الآية ينسخ تلك أو في تلك ينسخ هذا؟ فافهم. وحسبنا الله"([93]).

فذهب الصفدي إلى أنّ الآية الأولى لا تدل على وجوب الاعتداد سنة حتّى تكون منسوخة بالآية الثانية، وإنّما دلّت على أنّ السنّة من باب الوصاة بالزوجات، أن يُمكنّ من السكنى في بيوت أزواجهنّ حولًا كاملًا إن اخترن ذلك، فلا تعارض إذن بين الآيتين؛ لأنّ في كلّ آية حكم غير حكم الأُخرى.

وما ذهب إليه الصفدي اتفق معه ما ذكره ابن كثير من أن هذا القول هو الذي عوَّل عليه مُجاهد وعطاء، وأنّ هذه الآية لم تدُلَّ على وجوب الاعتداد سنةً، كما ذهب إليه الجمهور، حتّى يكون ذلك منسوخًا بالأربعة الأشهر وعشر([94])، وهذا القول استحسنه الرازي، فقال: "وهو في غاية الصحَّة، وقال: "فكان المصيرُ إلى قول مُجاهد أَولى من التزام النَّسخ مِنْ غير دليلٍ"([95])، وقد اختاره جماعة منهم ابن تيمية، وعقب ابن كثير على هذا القول، فقال: "هذا القولُ له اتجاهٌ، وفي اللَّفظ مُساعدة له"([96]). ومن المعاصرين الذين قالوا بردّ النسخ في الآية، الدغامين([97]) معتمدًا على ما ورد عن مجاهد، وأن الآيتين تنزلان على حالين مختلفين لا تعارض بينهما.

بناء على ما تقدّم، يمكن القول إن تفسير الصفدي يُعَدُّ أول تفسيرٍ تناوَلَ مسألة النسخ من جهةِ المانعين لوقوعهِ في القرآن الكريم خاصّةً في ظلِّ فقدان تفسير أبي مسلم الأصفهاني الذي يُعَدُّ من أبرز المانعين له. إضافةً إلى ما تضمّنه تفسير الصفدي من أدلّةٍ واستدلالات في هذه المسألة من جهتين:

أولاهما: ما أثبته من أدلّةٍ وبراهين نقليّة وعقليّة جرى استقراؤها من تفسيره في مواضع متعدّدة.

ثانيهما: ما قام مقام البُرهان لما ذهب إليه من توفيقهِ بين الآيات التي قيل فيها بالنسخ من غير تكلّفٍ ولا تعسّف، وهو أيضًا مما يُسجّل له فلم يُسبق إليه، حيث استطاع إعمال كلّ الآيات التي يُستدل بها على وقوع النسخ والتوفيق بينها وبين ما قيل إنّه ناسخ لها.

لذا، قد يعدّ هذا إضافةً له في هذه المسألة يدعو الباحثين إلى إعادة دراسة ما كُتِب في مسألة النسخ بالنظر إلى ما جاء به الصفدي، فقد فتح الباب من جديد في هذه المسألة. وبالرغم من أهمية رأي الجمهور وإجماع العلماء ومكانته ودوره في تقوية ما ذهبوا إليه وترجيحه، إلا أنّ الناظر في تفسير الصفدي يجد أنّ ما جاء فيه يستحق الدّراسة والنظر لموافقته للنقل والعقل واللغة من غير تكلّفٍ ولا تعَسُّف. وعليه، أوصي بعدم الاستعجال في ردّ بعض ما جاء به، فالحكم ينبغي أن يكون للدليل والبرهان وليس للقِلّة والكثرة.

النتائج والتوصيات

من أهم النتائج التي يمكن استخلاصها من هذه الدراسة:

-      اختطّ الصفدي في تفسيره خطًّا يتّسم بالوضوح في أسلوبه، والجزالة في ألفاظه، وغالبًا ما يميل إلى الإيجاز والاختصار، حتّى يُخيّل للقارئ في القرن الحادي والعشرين أنّه نصٌّ معاصر.

-      اعتنى الصفدي بعلوم القرآن في تفسيره، وكان له آراؤه وتفرّداته فيها.

-      ركّز الصفدي على حريّة الفكر والرأي، ونبذ التقليد في تفسيره.

-      إنّ مخالفة الصفدي لجمهور العلماء في بعض المسائل كالنسخ والحروف المقطّعة والمحكم والمتشابه، وتفرّداته التفسيريّة والفقهيّة وغيرها لا تُقلّل من مكانة التفسير وقيمته العلميّة، بل يمكن أن تُحسب له كمؤشّر على نبوغه العلميّ وقدرته وشجاعته الفكريّة وجرأتِهِ المنهجيّة.

-      يرى الصفدي أن النسخ إنما يكون للأحكام المتقدّمة على القرآن بأحكام القرآن وأنه يكون في الكتب المتقدمة لا في القرآن مع جواز أن يكون في القرآن أيضًا.

-      إن تفسير الصفدي يُعَدُّ أول تفسير كامل تناوَلَ مسألة النسخ من جهةِ المانعين لوقوعهِ في القرآن الكريم. ويُمكن أن يُعدّ أيضًا من أهمّ الرُوّاد الذين عالجوا هذه المسألة خاصّةً في ظلِّ فقدان تفسير أبي مسلم الأصفهاني الذي يُعَدُّ سابقًا له فيها.

-      إنّ ما نقله الصفدي من أدلة لأبي مُسلم في مسألة النسخ التي لم يذكرها الرازي في تفسيره نقلًا عن أبي مسلم، يُشكّل أهمية وإضافة علميّة للباحثين.

-      دعوة الباحثين إلى دراسة تفسير الصفدي، الذي يُعدّ حقلًا خصبًا لدراسات التفسير وعلوم القرآن، ومن هذه الدراسات المقترحة؛ دراسة واستقصاء جميع الآيات التي قيل فيها بالنسخ، وكيف حَلّ الصفدي التعارض بينها.


المصادر والمراجع

أولًا: العربية

الأصفهاني، الراغب. المفردات في غريب القرآن. تحقيق صفوان الداودي. دمشق: دار القلم، 1412هـ.

ابن أمير حاج، محمد بن محمد. التقرير والتحبير. بيروت: دار الكتب العلميّة، 1983.

جمعة، علي. النسخ عند الأصوليين. القاهرة: دار نهضة مصر، 2005.

ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي. نواسخ القرآن. بيروت: المكتبة العصرية، 2004.

ابن أبي حاتم، عبد الرحمن. تفسير القرآن العظيم. تحقيق أسعد الطيب، مكة المكرمة: مكتبة نزار، 1997.

الحسين، عبد القادر. معايير القبول أو الرد لتفسير النصّ القرآنيّ. دمشق: دار الغوثاني للدراسات القرآنيّة، 2012.

أبو حيان، محمد بن يوسف. البحر المحيط في التفسير. تحقيق صدقي جميل. بيروت: دار الفكر، 1999.

الدغامين، زياد. دعوى النسخ في القرآن الكريم في ضوء واقعية الخطاب القرآني. عمان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2009.

الذهبي، شمس الدين. تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام. تحقيق بشار عوّاد معروف. بيروت: دار الغرب الإسلاميّ، 2003.

الرازي، فخر الدين. مفاتيح الغيب. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1999.

الزرقاني، محمد. مناهل العرفان في علوم القرآن. القاهرة: دار إحياء الكتب العربيّة، 1943.

الزركلي، خير الدين. الأعلام. بيروت: دار العلم للملايين، 2002.

زيد، مصطفى. النسخ في القرآن الكريم دراسة تشريعية تاريخية نقدية. الإسكندرية: دار الوفاء، 1987.

السيوطي، جلال الدين. الإتقان في علوم القرآن. بيروت: دار ابن حزم، 2015.

الشافعي، محمد بن إدريس. الرسالة. تحقيق أحمد شاكر. القاهرة: مكتبة الحلبي، 1940.

الشنقيطي، محمد الأمين. مذكرة في أصول الفقه. المدينة المنورة: مكتبة العلوم والحكم، 2001.

الشوكاني، محمد. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ من علم الأصول. تحقيق أحمد عناية. دمشق: دار الكتاب العربي، 1999.

الصفدي، جمال الدين يوسف بن هلال. كشف الأسرار وهتك الأستار. تحقيق بهاء الدين دارْتْما. اسطنبول: مكتبة الإرشاد، 2019.

الصفدي، صلاح الدين. الوافي بالوفيات. تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى. بيروت: دار إحياء التراث، 2000.

الطبري، محمد بن جرير. جامع البيان عن تأويل آي القرآن. تحقيق عبد الله التركي. القاهرة: دار هجر، 2001.

ابن عاشور، محمد الطاهر. التحرير والتنوير. تونس: الدار التونسية، 1984.

عباس، فضل. إتقان البرهان في علوم القرآن. عمان: دار النفائس، 2018.

ابن عطية، عبد الحقّ. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد. بيروت: دار الكتب العلميّة، 2001.

الغزالي، أبو حامد. إحياء علوم الدين. بيروت: دار المعرفة، 2000.

–––. المستصفى. تحقيق محمد عبد الشافي. بيروت: دار الكتب العلميّة، 1993.

القرشي، عبد القادر. الجواهر المضية في طبقات الحنفيّة. كراتشي: مير محمد كتب خانه، 2007.

ابن قدامة، عبد الله. روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد. مؤسسة الريّان، 2002.

ابن كثير، أبو الفداء. تفسير القرآن العظيم. بيروت: دار الكتب العلميّة، 1998. 

كحالة، عمر. معجم المؤلفين. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1957.

المري، سعيد. "التقييد والتخصيص في الحديث والفرق بينهما وبين زيادة الثقة والنسخ". مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية. جامعة قطر، مج40، ع1 (2022): 51-85.

اللكنوي، عبد العلي. فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت. بيروت: دار الكتب العلميّة، 2002.

ابن منظور، محمد. لسان العرب. بيروت: دار صادر، 2000.

النحاس، أحمد. الناسخ والمنسوخ في كتاب الله عز وجل واختلاف العلماء في ذلك. تحقيق سليمان اللاحم، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1991.

الواحدي، أبو الحسن علي. التفسير البسيط. الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود، 2009.

ثانيًا: الأجنبية

References:

Abbās, Fadl. Itqān al-burhān fī ʻulūm Al-Qurʼān (in Arabic), Amman: Dār Al- Nafāʼis, 2018.

Abdel Haleem, M.S.A., "The Role of Context in Interpreting and Translating the Qurʼān", Journal of Qur'anic Studies, UK,, vol. 20: Issue 1 (2018): 47-66.
https://doi.org/10.3366/jqs.2018.0320

Abū Ḥayyān, Muḥammad. Al-Baḥr Al-muḥīṭ (in Arabic), Ed. Ṣidqī Jamīl, Beirut: Dār al-Fikr, 1999.

Al-Aṣfahānī, al-Rāghib. al-Mufradāt fī Gharīb al-Qurʼān (in Arabic), Ed. Ṣafwān al-Dāwūdī. Dimashq: Dār al-Qalam, 1412h.

Al-Daghāmīn, Ziyād. Daʻwá al-naskh fī al-Qurʼān al-Karīm fī ḍawʼ wāqiʻīyah al-khiṭāb al-Qurʼānī (in Arabic), Ammān: al-Maʻhad al-ʻĀlamī lil-Fikr al-Islāmī, 2009.

Al-Dhahabī, Shams al-Dīn. Tārīkh Al-Islām wa-wafayāt al-mashāhīr wālʼʻlām. (in Arabic), Ed. Bashar Maʻrūf, Beirut: Dār Al-Gharb alʼslāmī, 2003.

Al-Ghazālī, Abū Hāmed. Al-Mustaṣfá (in Arabic), Ed. Muhammad ʻAbd al-Shāfī, Beirut: Dār al-Kutub alʻlmyyh, 1993.

Al-Ghazālī, Abū Hāmed. Ihyā ʿulūm al-dīn (in Arabic), Beirut: Dār Al-Maʻrifah, 2000.

Al-Ḥusayn, ʻAbd al-Qādir. Maʻāyīr al-qubūl aw al-radd li-tafsīr alnṣṣ alqrʼānī (in Arabic), Damascus: Dār al-Ghawthānī, 2012.

Al-Laknawī, ʻAbd al-ʻAlī. Fawātiḥ al-Raḥamūt (in Arabic), Beirut: Dār al-Kutub alʻlmyyh, 2002.

Al-Marri, Saeed Mohammed Hamad. "Restriction and Specification in Hadith: Difference, Authenticity, & Abrogatio" (in Arabic), Journal of Sharia and Islamic Studies, Qatar University, vol. 40, Issue 1 (2022):51-85. https://doi.org/10.29117/jcsis.2022.0315

Al-Naḥḥās, Aḥmad. al-Nāsikh wa-al-mansūkh fī Kitāb Allāh ʻIzz (in Arabic), Ed. Sulaymān al-Lāḥim, Beirut: Muʼassasat al-Risālah, 1991.

AL-Qurashī, ‘Abd al-Qādir. al-Jawāhir al-muḍīyah fī Ṭabaqāt alḥnfyyh (in Arabic), Karachi: Mīr Muḥammad kutub khānah, 2007.

Al-Rāzī, Muhammad. Mafātīḥ Al-ghayb (in Arabic), Bairut: Dār Iḥyāʼ al-Turāth al-ʻArabī, 1999.

Al-Ṣafadī, Ṣalāḥ Ed-Dīn. Al-Wāfi bi-al-Wafayāt (in Arabic), Ed. Ahmad al-Arnāʼūṭ. Torki Mustafa. Beirut: Dār Iḥyāʼ al-Turāth, 1998.

Al-Ṣafadī, Yūsuf ibn Hilāl. Kashf EL-asrār Wa-hatk EL-astār (in Arabic), Ed. Bahāʼ al-Dīn dārtmā, Istanbul: Maktabat al-Irshād, 2019.

Al-Shāfiʻī, Muḥammad ibn Idrīs. AL-Risālah (in Arabic), Ed. of Ahmed Shākir, Cairo: Maktabat al-Ḥalabī, 1940.

Al-Shawkānī, Muhammad. 'Iirshad al-fuḥūl ilá taḥqīq alḥqq min ʻilm al-uṣūl (in Arabic), Ed. Ahmed Inaya, Damascus: Dār al-Kitāb al-ʻArabī, 1999.

Al-Shinqīṭī, Muhammad. Mudhakkirah fī uṣūl al-fiqh (in Arabic), Al-Madīnah al-Munawwarah: Maktabat al-ʻUlūm wa-al-Ḥikam, 2001.

Al-Suyūṭī, Jalāl Al-Dīn. Al- Itqān fī ʿulūm al-Qurʼān (in Arabic), Beirut: Dār Ibn Ḥazm, 2015.

Al-Ṭabarī, Muhammad. Jāmiʿ al- bayān fī Taʾwīl āy al-Qurʾān (in Arabic), Bairut: Dār Hajar, 2001.

Al-Wāḥidī, Abū AL-Ḥasan. Tafsīr al-Basīṭ (in Arabic), Riyadh: Jāmiʻat al-Imām Muḥammad ibn Saʻūd, 2009.

Al-Ziriklī, Khayr al-Dīn. Al- a‘lām (in Arabic), Beirut: Dār al-ʻIlm lil-Malāyīn, 2002.

Al-Zurqānī, Muhammad. Manāhil Al-‘irfān fī ʿulūm AL- Qurʼān (in Arabic), Cairo: Dār Iḥyāʼ al-Kutub al-ʻArabīyah, 1943.

Ibn Abī Ḥātim, ʻAbd al-Raḥmān. tafsīr al-Qurʼān al-ʻAẓīm (in Arabic), taḥqīq Asʻad al-Ṭayyib, Makkah al-Mukarramah: Maktabat Nizār, 1997.

Ibn Al-Jawzī, Abd Al-Raḥmān. Nawāsikh Al-Qurʼān (in Arabic), Bairut: al-Maktabah al-ʻAṣrīyah, 2004.

Ibn Amīr Ḥājj, Muḥammad ibn Muḥammad. al-taqrīr wa-al-Taḥbīr (in Arabic), Beirut: Dār al-Kutub alʻlmyyh, 1983.

Ibn ʿAshūr, Muhammad. Al-Taḥrīr wa al-Tanwīr (in Arabic), Tunisia: al-Dār al- Tūnisīyah, 1984.

Ibn ʻAṭīyah, ʻAbd Al-Ḥaqq. Al-Muḥarrar Al-wajīz fī Tafsīr Al-Kitāb Al-ʻAzīz (in Arabic), Ed. ʻAbd al-Salām ʻAbd al-Shāfī, Beirut: Dār Al-Kutub alʻlmyyh, 2001.

Ibn Kathīr, Abū AL- Fidāʾ. Tafsīr al-Qurʼān al-ʻAẓīm (in Arabic), Beirut: Dār al-Kutub alʻlmyyh, 1980.

Ibn Manzūr, Muhammad. Lisān al-ʻArab (in Arabic), Bairut: Dār Ṣādir, 2000.

Ibn Qudāmah, ‘Abd Allāh. Rawdat AL- nāẓir wa-jannat AL- manāẓir fī uṣūl AL-fiqh ‘alá madhhab al-Imām Aḥmad (in Arabic), Muʼassasat al-Rayyān, 2002.

Jum‘ah, Ali. al-naskh ʻinda al-uṣūlīyīn (in Arabic), Cairo: Dār Nahḍat Miṣr, 2005.

Kaḥḥālah, ʿUmar. Muʻjam al-muʼallifīn (in Arabic), Beirut: Iḥyāʼ al-Turāth al-ʻArabī, 1957.

Wijaya, & Muzammil, S. "Maqāṣidi Tafsir: Uncovering and Presenting Maqāṣid Ilāhī-Qur’anī into Contemporary Context". Al-Jāmi‘ah Journal of Islamic Studies, vol. 59, Issue 2 (2021): 449-478.

Zayd, Muṣṭafá. al-naskh fī al-Qurʼān al-Karīm dirāsah tashrīʻīyah tārīkhīyah naqdīyah (in Arabic), al-Iskandarīyah: Dār al-Wafāʼ, 1987.

 



([1]) يوسف الصفدي، كشف الأسرار وهتك الأستار، تحقيق بهاء الدين دارْتْما (مكتبة الإرشاد، اسطنبول، 2019م).

([2]) يسرى سامي، تفسير كشف الأسرار وهتك الأستار للشيخ جمال الدين الصفدي من سورة المزمل إلى آخر سورة الناس دراسة وتحقيق (بغداد: جامعة الإمام الأعظم، 2015م)؛ عامر الفلاحي، تفسير كشف الأسرار وهتك الأستار للشيخ جمال الدين يوسف بن هلال الصفدي (ت696هـ) من الآية 130 من سورة الأنعام إلى نهاية سورة التوبة، دراسة وتحقيق (بغداد: جامعة الإمام الأعظم، 2016م)؛ أمل المطيري، تحقيق مخطوط كشف الأسرار وهتك الأسرار تأليف جمال الدين يوسف بن هلال الصفدي (696هـ) من أول سورة آل عمران إلى آخر سورة النساء (المنيا: جامعة المنيا، 2019م).

([3]) صلاح الدين الصفدي، الوافي بالوفيات، تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى (بيروت: دار إحياء التراث، 1420هـ)، ج29، ص16؛ شمس الدين الذهبي، تاريخ الإسلام، تحقيق بشار عوّاد معروف (بيروت: دار الغرب الإسلاميّ، 2003م)، ج15، ص848؛ خير الدين الزركلي، الأعلام (بيروت: دار العلم للملايين، ط15، 2002م)، ج ص256.

([4]) الصفدي، الوافي بالوفيات، ج8، ص193.

([5]) يوسف الصفدي، كشف الأسرار وهتك الأستار، تحقيق بهاء الدين دارْتْما (إسطنبول: مكتبة الإرشاد، 2019م)، ج4، ص654.

([6]) الصفدي، الوافي بالوفيات، ج29، ص193؛ الذهبي، تاريخ الإسلام، ج15، ص848.

([7]) الصفدي، الوافي بالوفيات، ج29، ص164؛ الذهبي، تاريخ الإسلام، ج15، ص848؛ الزركلي، الأعلام، ج8، ص256.

([8]) الصفدي، الوافي بالوفيات، ج29، ص164؛ الذهبي، تاريخ الإسلام، ج15، ص848.

([9]) الصفدي، كشف الأسرار، ج1، ص176، 358، 301،311؛ ج2، ص551، 559، 584، ج3، ص351؛ ج4، ص506، 457.

([10]) الصفدي، الوافي بالوفيات، ج29، ص164؛ الذهبي، تاريخ الإسلام، ج15، ص848.

([11]) الصفدي، الوافي بالوفيات، ج29، ص193.

([12]) الذهبي، تاريخ الإسلام، ج15، ص848.

([13]) نسبة إلى مهنته التي عمل بها. الزركلي، الأعلام، ج8، ص256.

([14]) الزركلي، الأعلام، ج8، ص256؛ عمر كحالة، معجم المؤلفين (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1957)، ج13، ص340.

([15]) الذهبي، تاريخ الإسلام، ج15، ص848؛ الصفدي، الوافي بالوفيات، ج29، ص164.

([16]) الصفدي، كشف الأسرار وهتك الأستار، ج2، ص189؛ ج3، ص114.

([17]) الصفدي، الوافي بالوفيات، ج8، ص192.

([18]) الصفدي: كشف الأسرار، ج4، ص651.

([19]) المرجع نفسه، ج1، ص154.

([20]) المرجع نفسه، ج2، ص66.

([21]) الصفدي: كشف الأسرار، ج2، ص66.

([22]) أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين (بيروت: دار المعرفة، 2000)، ج3، ص19.

([23]) الصفدي، كشف الأسرار، ج1، ص160؛ الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن (دار القلم، دمشق، 1412هـ)، ص801؛ محمد بن منظور، لسان العرب (بيروت: دار صادر، 2000م)، ج4، ص28.

([24]) الصفدي: كشف الأسرار، ج1، ص160-161.

([25]) المرجع نفسه، ج2، ص472.

([26]) محمد بن يوسف أبو حيان، البحر المحيط، تحقيق صدقي جميل (بيروت: دار الفكر، 1420هـ)، ج6، ص398.

([27]) الصفدي: كشف الأسرار، ج1، ص164.

([28]) المرجع نفسه، ج1، ص169.

([29]) المرجع نفسه، ج1، ص163.

([30]) المرجع نفسه، ج1، ص163.

([31]) المرجع نفسه، ج1، ص161.

([32]) المرجع نفسه، ج2، ص28.

([33]) المرجع نفسه، ج1، ص167.

([34]) سعيد المري، "التقييد والتخصيص في الحديث والفرق بينهما وبين زيادة الثقة والنسخ"، مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، مج40، ع1 (2022)، ص70؛ عبد القادر الحسين، معايير القبول أو الرد (دمشق: دار الغوثاني للدراسات القرآنيّة، 2012م)، ج2، ص640.

([35]) الصفدي: كشف الأسرار، ج1، ص164.

([36]) المرجع نفسه، ج1، ص165.

([37]) المرجع نفسه، ج2، ص343؛ ج4، ص191.

([38]) الصفدي، كشف الأسرار، ج1، ص165.

([39]) محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد شاكر (القاهرة: مكتبة الحلبي، 1940م)، ج1، ص106.

([40]) عبد الله ابن قُدامة، روضة الناظر (مؤسسة الريّان، 2002م)، ج1، ص257.

([41]) محمد الشنقيطي، مذكرة في أصول الفقه (المدينة المنورة: مكتبة العلوم والحكم، 2001م)، ص99؛ محمد الشوكاني، إرشاد الفحول، تحقيق أحمد عناية (دمشق: دار الكتاب العربي، 1999م)، ج1، ص386.

([42]) الصفدي، كشف الأسرار، ج1، ص158.

([43]) المرجع نفسه، ج3، ص318.

([44]( M. Abdel Haleem, "The Role of Context in Interpreting and Translating the Qur’an", Journal of Qur'anic Studies, UK, vol. 20: Issue 1 (2018): 47-66.

([45]) الصفدي، كشف الأسرار، ج1، ص159.

([46]) المرجع نفسه، ج3، ص149.

([47]) المرجع نفسه، ج3، ص329.

([48]) المرجع نفسه، ج3، ص332.

([49]) المرجع نفسه، ج3، ص337.

([50]) المرجع نفسه، ج3، ص365.

([51]) المرجع نفسه، ج3، ص580.

([52]) المرجع نفسه، ج1، ص194، 409؛ ج2، ص213، 396؛ ج3، ص100، 114، 356، ج4، ص381.

([53]) المرجع نفسه، ج1، ص159.

([54]) المرجع نفسه، ج1، ص249.

([55]) هو الحسن بن موسى بن الحسن بن محمد النوبختي، فلكي عارف بالفلسفة، وهو من أهل بغداد. نسبته إلى جده (نُوبخت). من كتبه الآراء والديانات، واختصار الكون والفساد، توفي سنة 310هـ. العسقلاني، لسان الميزان، ج2، ص258؛ الزركلي، الأعلام، ج2، ص224.

([56]) هو محمد بن يوسف بن محمد بن علي ابن محمد العلوي الحسنى أبو القاسم، ناصر الدين، المدني السمرقندي، فقيه حنفي، عالم بالتفسير والحديث والوعظ، له تصانيف منها: الفقه النافع، وجامع الفتاوى، توفي سنة 556هـ. عبد القادر القرشي، الجواهر المضية في طبقات الحنفية (كراتشي: مير محمد كتب خانه)، ج2، ص147؛ الزركلي، الأعلام، ج7، ص149.

([57]) الصفدي، كشف الأسرار، ج1، ص167.

([58]) المرجع نفسه، ج3، ص23.

([59]) المرجع نفسه، ج2، ص143.

([60]) المرجع نفسه، ج1، ص516.

([61]) المرجع نفسه، ج1، ص237.

([62]) فضل عباس، إتقان البرهان (عمان: دار النفائس، 2018م)، ج2، ص25.

([63]) جلال الدين السيوطي، الإتقان (بيروت: دار ابن حزم، 2015م)، ج4، ص1447.

([64]) محمد الزرقاني، مناهل العرفان (القاهرة: دار إحياء الكتب العربيّة، 1943م)، ج2، ص275؛ عباس، إتقان البرهان، ج2، ص25، ومصطفى زيد، النسخ في القرآن الكريم دراسة تشريعية تاريخية نقدية (الإسكندرية: دار الوفاء، 1987م)، ص805.

([65]) عبد الرحمن ابن الجوزي، نواسخ القرآن (بيروت: المكتبة العصرية، 2004م)، ص109.

([66]) ابن الجوزي، نواسخ القرآن، ص119، 198، 212.

([67]) الصفدي، كشف الأسرار، ج1، ص164.

([68]) عبد العلي اللكنوي، فواتح الرحموت (بيروت: دار الكتب العلميّة، 2002م)، ج2، ص65.

([69]) فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب (بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1420هـ)، ج3، ص207.

([70]) ابن أمير حاج، التقرير والتحبير (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1983م)، ج1، ص282.

([71]) أبو حامد الغزالي، المستصفى، تحقيق محمد عبد الشافي (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1993م)، ص254؛ عبد القادر الحسين، معايير القبول أو الرد (دمشق: دار الغوثاني للدراسات القرآنيّة، 2012م)، ج2، 644، 645.

([72]) الرازي، مفاتيح الغيب، ج5، ص53؛ أبو الفداء ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1998م)، ج2، ص168، 411؛ علي جمعة، النسخ عند الأصوليين (القاهرة: دار نهضة مصر، 2005م)، ص81.

([73]) الصفدي، كشف الأسرار، ج1، ص166.

([74]) المرجع نفسه، ج1، ص237.

([75]) المرجع نفسه، ج1، ص290.

([76]) المرجع نفسه، ج4، ص433.

([77]) زيد، النسخ في القرآن الكريم، ص808.

([78]) المرجع نفسه، ج1، ص365.

([79]) المرجع نفسه، ج1، ص166.

([80]) الصفدي، كشف الأسرار، ج2، ص29؛

Wijaya, & S. Muzammil, "Maqāṣidi Tafsir: Uncovering and Presenting Maqāṣid Ilāhī-Qur’anī into Contemporary Context", Al-Jāmi‘ah Journal of Islamic Studies, vol. 59, Issue 2 (2021): 449-478.

([81]) محمد بن جرير الطبري، جامع البيان، تحقيق عبد الله التركي (القاهرة: دار هجر، 2001م)، ج ص611 وأحمد النحاس، الناسخ والمنسوخ، تحقيق سليمان اللاحم (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1991م)، ج2، ص322؛ عبد الرحمن ابن أبي حاتم، تفسير القرآن العظيم، تحقيق أسعد الطيب (مكة المكرمة: مكتبة نزار، 1997م)، ج5، ص1398.

([82]) الصفدي، كشف الأسرار، ج2، ص157.

([83]) المرجع نفسه، ج1، ص118.

([84]) المرجع نفسه، ج4، ص283.

([85]) الطبري، جامع البيان، ج22، ص482؛ ابن كثير، تفسير القرآن العيظم، ج8، ص3462؛ محمد الطاهر ابن عاشور، التحرير والتنوير (الدار التونسية، تونس، 1984م)، ج28، ص46.

([86]) أبو الحسن الواحدي، البسيط (الرياض: جامعة الإمام محمد بن سعود، 1430هـ)، ج21، ص353.

([87]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، ج28، ص46.

([88]) الرازي، مفاتيح الغيب، ج29، ص496.

([89]) زيد، النسخ في القرآن الكريم، ص183.

([90]) ابن الجوزي، نواسخ القرآن، ص126؛ النحاس، الناسخ والمنسوخ، ص231.

([91]) زياد الدغامين، دعوى النسخ في القرآن الكريم في ضوء واقعية الخطاب القرآني (عمان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2009)، ص155.

([92]) جمعة، النسخ عند الأصوليين، ص81.

([93]) الصفدي، كشف الأسرار، ج1، ص273.

([94]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1، ص500.

([95]) الرازي، مفاتيح الغيب، ج6، ص493.

([96]) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1، ص501.

([97]) الدغامين، دعوى النسخ في القرآن الكريم، ص144.