حصة بنت حمد آل ثاني[1]
يستند مفهوم التوافق البنائي إلى مبدأين متلازمين؛ هما البنائية في التعلّم وتناسق كلّ من أنشطة التعليم ومهامّ التقويم من جهة، ومخرجات التعلّم المنشودة من جهة أخرى؛ ومِن ثَمَّ، فإنّ التركيز على ما يتعلّمه الطلاب وطريقة تعلّمهم، بدل الاهتمام بماهية الموضوعات التي سيُدّرسها المعلّم، يتطلّب تحديد مخرجات التعلّم، وليس مجرّد ما يجب أن يتعلّمه الطلاب (الموضوع أو المحتوى)، بالإضافة إلى الكيفية التي سيجري بها تعلّم هذا المحتوى ووفقًا لمعايير محددة. تعرض هذه الدراسة تجربة صفية واقعية تعتمد على استخدام استراتيجية التوافق البنائيّ في عملية التعليم والتعلّم لتطوير طريقة التدريس الذاتي من جوانب نظرية وعملية لتحفيز أداء المتعلمين لبناء معارفهم. ويهدف هذا البحث إلى استكشاف أثر استخدام التعلم البنائيّ والتعلم المتمركز حول المتعلّم في البناء المعرفيّ، وبحث التحدّيات والفرص المتاحة لاستخدام منهجية التوافق البنائي المتمركز حول الطالب في فترة التعلم عن بعد، التي فرضها انتشار جائحة فيروس كورونا وما ارتبط به من انغلاق عام، شمل المؤسسات التعليمية المختلفة. أظهرت النتائج قدرة الطالبات على توظيف المعرفة من خلال تفعيل مخرجات التعلم المنشودة عبر الأنشطة المختلفة؛ ممّا مهّد للطالبات تحليلًا أعمق في التقويمات. كما أبرزت نتائج تقويم الطالبات، أنّ التعلم التعاوني عن بعد أوجد فرصًا للتعلم العميق في أوقات الانقطاع.
الكلمات المفتاحية: التوافق البنائي، التعليم المتمركز حول المتعلّم، مخرجات التعلّم، مهامّ التقويم، أنشطة التعليم/التعلّم، التعلّم الإلكتروني
للاقتباس: آل ثاني، حصة بنت حمد. «التوافق البنائيّ وفاعليته في التعلم المتمركز حول المتعلّم: تجربة التعلّم الإلكتروني لدى طالبات جامعة قطر»، مجلة العلوم التربوية، العدد 21 (2023)
© 2023، آل ثاني، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. تم نشر هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه؛ طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.
Hessa H. AL-Thani[2]
The concept of constructivist alignment is based on two concomitant principles: constructivism in learning, the coherence of teaching activities and assessment tasks on the one hand, and the intended learning outcomes on the other hand. Thus, focusing on what students learn and how they learn, rather than what topics the teacher will teach, requires defining learning outcomes, not just what students should learn (topic or content), as well as how that content will be learned according to specific standards. This study presents a realistic classroom experience that relies on the use of the constructivist strategy in the teaching and learning process to develop the method of self-teaching from theoretical and practical aspects to motivate learners' performance to build their knowledge. This research aims to explore the impact of using constructivist learning and learner-centered learning in building knowledge and examining the challenges and opportunities available for using the student-centered constructivist consensus methodology in the distance learning period, which was imposed by the spread of the Corona virus pandemic and its general closure, including different educational institutions. The results showed the students' ability to employ knowledge by activating the desired learning outcomes through various activities; this paved the way for the students to have a deeper analysis in the assessments. The results of the students' evaluation indicated that students’ engagement via online collaborative learning created opportunities for deep learning in times of disconnection.
Keywords: Constructive alignment; Student-centered learning; Intended learning outcomes; Assessment tasks; Teaching/learning activities; E-learning
Cite this article as AL-Thani H.,"Constructive Alignment Effectiveness in Learner- Centric Environment: The Experience of E-learning among Qatar University Female Students," Journal of Educational Sciences, Issue 21, 2023
© 2023, AL-Thani H., licensee QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited.
شهدت عملية التعليم والتعلم في كلية التربية بجامعة قطر تطورًا مهمًّا على مستوى طرق التعليم وأساليبه، فانتقلت انتقالا نوعيًّا من أسلوب الطرائق التقليدية التي تعرّضت لتحديات كثيرة أثبتت عدم فاعليتها في التعليم بسبب اعتمادها على الدور المركزيّ للمعلّم في البيئة التعليمية. وباتت الحاجة ملحّة إلى التغيير باستخدام التوافق البنائي من أجل إشراك الطلاب في رحلة تعلّمهم؛ لذلك جاء هذا البحث نموذجًا لطريقة التوافق البنائيّ وإظهار مدى فاعليّتها في التعلم المتمركز حول المتعلّم.
إنّ تزويد الطلاب بمهارات لازمة لتلبية متطلبات مستقبل غامض هو لبّ التعليم. هذا التغيير يتطلّب إعداد الطلاب لمهارات عالية تربط تعلمهم بالمطالب الاجتماعية والاقتصادية دائمة التغيّر. وقد أظهرت لنا موجة كوفيد-19 الفجوة الجذريّة العميقة لممارساتنا التعليمية في كيفية تدريس المعلمين وكيفية تعلم الطلاب.
إنّ أسلوب التدريس التقليديّ الذي يقوّم مهارات الطلاب على مستوى سطحيّ، ويتبع اختبارات موحّدة للقياس، قد فشل في ربط الطلاب باهتماماتهم الحقيقية، كما في ربط تعلمهم بالمهارات الشخصية، وهذا الفشل أثّر تأثيرًا مباشرًا في تكوين مواطن فعّال ومتمكّن من المهارات المطلوبة في سوق العمل، وأدّى إلى الإخفاق فيه. ومن هنا تسعى كلّية التربية، بصفتها مؤسسة تغيير في جامعة قطر، إلى تحسين استراتيجيات التعليم والتعلّم لتكوين طريقة تعلّم وتعليم ناجعة. ولتحقيق هذا الهدف، بدأ بعض أعضاء هيئة التدريس تطوير طرق التعلّم والتعليم عبر اتّباع منهجية التوافق البنائيّ في صياغة إعداد مواد دراسية، بحيث تكون مخرجات التعلم المنشودة بأفعال نشطة، وترتبط بشكل مباشر بالتقويمات والأنشطة التي تعزّز التفكير العلمي العميق.
شهد مجال البحث التربويّ خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين تحوّلًا رئيسًا في نظرته إلى عمليّتي التعليم والتعلّم، من التركيز على العوامل الخارجيّة التي تؤثر في تعلّم المتعلّم، مثل متغيّرات المعلّم، وبيئة التعلّم، والمنهج، ومخرجات التعلّم، وغيرها من العوامل، إلى التركيز على العوامل الداخليّة المؤثّرة، خصوصًا ما يجري في وعي المتعلّم، مثل معرفته السابقة، ونمط معالجته للمعلومات، ودافعيّته للتعلّم، وأنماط تفكيره، وأسلوبه المعرفيّ؛ ما أوجد نقلة نوعية من التعلم المتمركز حول المعلّم إلى التعليم المتمركز حول المتعلّم.
ترى ميرسر (Mercer) وآخرون أنّ "البنائيّة نظريّة تقوم على فكرة أنّ الطالب متعلّم نشط بطبعه، وقادر على تكوين بيئة معرفيّة من خلال ربط ما يتلقّاه من معلومات جديدة بما لديه من معرفة سابقة" (Mercer, et al., 1994, 290-306). وعرّفت نادية بكار ومنيرة البسام (2004، 23) البنائية بأنها: "نظرية تقوم على توجيه المعلّمين المتعلّمين إلى اكتساب المعرفة بيسر عن طريق طرح أسئلة ذات قيمة عالية ينظر المتعلمون إليها بصفتهم مفكّرين، تؤدّي إلى الاكتشاف، وبناء خطوات العمل، وتعميق معاني المفاهيم، واستخدام التقويم الأصيل، كما أنها تنبذ المعرفة التي تكتسب بالنقل المباشر من المعلم إلى المتعلم كالتلقين".
الشكل (1): نظرية جان بياجيه (Piaget) المعرفية، ونظرية ليف فيجوتسكي (Vygotsky) الاجتماعية
يعرض الشكل (1) نوعين من البنائية: البنائية المعرفية والبنائية الاجتماعية. فمن جانب، يشير بياجيه إلى أنّ التعلّم عملية نشطة إيجابية ترتكز على التعامل مع الآخرين، وأنّ الطفل يولد وهو مزوّد بمجموعة من التراكيب العقلية الفطرية أطلق عليها لفظ الصور، أو المخططات الإجمالية العامّة (Schema) مثل اسكيما الرضاعة والبكاء. وبسبب تلك المتغيرات المستمرة في الصور تتكون مسارات عقلية جديدة. (زيتون وزيتون، 2003). وتستند نظرية بياجيه إلى مفاهيم رئيسة في البناء المعرفي، وتلك المفاهيم هي:
- مفهوم التكيّف (assimilation): "وهو عمليّة مسؤولة عن استقبال المعلومات من البيئة ووضعها في تراكيب معرفيّة موجودة عند الفرد" (زيتون وزيتون، 2003، 90).
- مفهوم التناسق (accommodation): "وهو عملية عقليّة مسؤولة عن تعديل البنيات المعرفيّة لتناسب ما يستجدّ من مثيرات" (زيتون وزيتون، 2003، 90).
- مفهوم الموازنة (equilibrium): هو نشاط الذات باتجاه تجاوز الاضطراب، والتوازن هو غاية اتساقه (القاضي، 2015، 94).
أمّا النظرة الاجتماعية عند فيجوتسكي (Vygotsky)، فتتلخّص في أنّ التفاعل الاجتماعيّ يؤدّي دورًا مهمًّا في اكتساب الفرد للمعرفة، وما يؤكّد ذلك أنّ فيجوتسكي ركّز من خلال السمة الثانية للنظريّة على منطقة النموّ القريبة المركزيّة، التي يمكن تنميتها بالتفاعل الاجتماعيّ مع شخص بالغ أو قرين أكثر خبرة. لهذا يجب إلقاء الضوء على هذه المنطقة المركزيّة، التي يعرّفها فيجوتسكي بأنّها "المسافة بين مستوى التطوير الفعلي الذي ينشأ من حلّ المشكلة بصورة مستقلة وبين مستوى التطوّر المحتمل حدوثه خلال حلّ المشكلة بتوجيه بالغ أو التعاون مع الأقران" (Vygotsky, 1987, 68).
يركّز التعلم المتمركز حول المتعلّم على توفير بيئة ملائمة للتعلّم النشط واعتماد مناهج مرنة، مع استخدام فعال لمخرجات التعلّم من أجل فهم إنجازات الطلاب. ويُعرَّف بأنّه "نهج تعليمي يرتبط على نطاق واسع بالنظريات البنائية للتعلّم ويدعمها. ويتميّز بطرق التدريس المبتكرة التي تهدف إلى تعزيز التعلّم في التواصل مع المعلّمين والمتعلمين الآخرين، التي تأخذ الطلاب على محمل الجدّ بصفتهم مشاركين نشطين في تعلّمهم، وتعزيز المهارات القابلة للنقل مثل حلّ المشكلات والتفكير النقدي والتفكير التأمّلي" (Attard, 2010, 5).
من جهة أخرى، تحدّد وايمر (Weimer) خمسة مجالات رئيسة للتغيير عند التحوّل من الفصول الدراسيّة التي تتمحور حول المعلّم إلى الفصول الدراسية التي تتمحور حول المتعلم، هي: ميزان القوى، ووظيفة المحتوى، ودور المعلم، ومسؤولية المتعلم، والغرض من التقويم، وعملية التقويم. هذا الأسلوب ليس طريقةً أسهل للتدريس؛ فهو يتطلَّب مهاراتٍ متطورةً خاصة بالتصميم التعليمي، فحين يعتمد الطلاب على أنفسهم أكثر من أجل التَّعلُّم، يرتبط ما يتعلمونه وكيفية تعلُّمهم ارتباطًا مباشرًا بالأنشطة المستخدَمة لإشراكهم في عملية التَّعلُّم؛ ومن ثَمَّ سيتعلمون قدرًا أكبر وبطريقة أفضل إذا كانت هذه الأنشطة جيّدة التصميم، سواءٌ أكانوا داخل قاعة الدراسة أم في المنزل (وايمر، 2017، 32).
بالإضافة إلى ما يتطلَّبه التدريس المتمركز حول المتعلم من وقتٍ أكثر من أجل التخطيط السابق لجوانبه، فهو يتّسم بقدرٍ أكبر من الصعوبة؛ لأنّ المعلّم لا يَعتمد كثيرًا على وجود سيناريو محدَّد يجب اتباعه؛ فهو لا يدخل قاعة الدراسة - الفعلية أو الافتراضية - عبر الإنترنت ومعه محاضرة مُعدَّة بإتقان بحيث تحتوي على جميع الأمثلة والخطوات الانتقالية والأسئلة (وربما الإجابات)، والروابط الخاصة بالمادة العلمية السابقة، ونماذج المشكلات الجاهزة للعرض على شرائح برنامج باوربوينت الباهرة من الناحية البصرية؛ وإنّما يستعدُّ جيّدًا بمجموعةٍ كاملة من الموادّ العلميّة لتكون تحت تصرُّفه؛ إذ يكون تحت يدَيه مجموعة أدوات مُعدَّة جيدًا، وكأيّ خبير يعمل في الموقع مباشرةً، يعرف ما الذي سيحتاج إليه أغلب الوقت.
إنّ المعلّمين لا يعملون بمفردهم داخل قاعات الدراسة التي يتّبِعون فيها أسلوب التدريس المتمركز حول المتعلم، إذ إنّ الطلاب يصبحون شركاء في عملية التعلّم أيضًا؛ فهم يستكشفون مع المعلّمين ما سيساعدهم على فهم الموضوع أو النظرية أو المسألة على نحوٍ أفضل.
تقع العلاقة بين المتعلّمين والمحتوى في صميم هذه النظريّة التعليميّة الشهيرة حاليًّا؛ فإن المناهج البنائيّة توضح أنّ "المتعلّمين يَبنون معرفتهم الخاصّة على نحوٍ فعَّال ونَشط بدلًا من تلقِّيهم المعلومات في سلبية، منقولةً إليهم من المعلمين والكتب الدراسية المقررة. من منظورٍ بنائيّ، لا يُمكن منح المعرفة للطلاب وحسب، وإنّما يجب على الطلاب أن يَبنوا المعانيَ الخاصّة بهم" (Stage, Muller, Kinzie, & Simmons, 1998, 35).
يتطلب التَّعلُّم ابتكارًا وتنظيمًا ذاتيًّا من جانب المتعلّم؛ ولذا، "على المعلّمين أن يمنحوا المتعلّمين فرصًا لكي يُثيروا تساؤلاتهم الخاصة، ويضعوا واجباتهم ونماذجهم باعتبارها احتمالاتٍ قائمة، ثمّ يتحقَّقوا من صحّتها" (Fosnot, 1996, 29). وتَعتمد هذه النظرية في مجال التعليم والتَّعلُّم على أعمال عددٍ كبير من علماء النفس والفلاسفة، أشهرهم: بياجيه، وبرونر، وفيجوتسكي.
كثيرًا ما تتضمَّن أساليب التدريس المرتبطة بالنظرية البنائية عملًا جماعيًّا (Biggs, 2011) رغم أن تلك الكتابات التي تتناول النظرية تشير بانتظامٍ إلى ربط المتعلمين المستقلين للمعلومات الجديدة بما يعرفونه حاليًّا بطُرقٍ ذات مغزًى بالنسبة إليهم. إن التفريق بين الأمرين مسألةٌ محلُّ خلاف؛ لأنه عندما يتعاون الطلاب معًا في مجموعاتٍ يتعامل كل عضوٍ في المجموعة مع المحتوى على حِدَة، اعتمادًا على تَجارِبه وفهمه الخاصّ. الفرق هنا بين العمل الجماعي والعمل التعاوني، ففي العمل الجماعي ينجز كل شخص مهمةً محددة ولا يرتبط العمل إلى حدّ ما بمهام أعضاء الفريق الآخرين، في حين أنّ العمل التعاونيّ يستدعي من جميع الأفراد العمل المترابط بقصد استحداث معانٍ معرفية جديدة ومهارات أعمق.
وفي مرحلةٍ مبكرة، كان العمل الجماعي المرتبط عادةً بالنظريات البنائية عبارةً عن شكلٍ من أشكال التعلّم التعاونيّ، الذي "يقوم على استكشاف مجموعات طلابية مسائل معقّدة عبر تخصُّصاتٍ دراسيّة متعدّدة. ومع وجود معلّم أو معلّمين بين هذه المجموعات الطلابيّة باعتبارهم متعلّمين بارعين، تبحث هذه المجموعات عن حلول جديدة ومتكاملة ومبتكرة عادةً للمسائل" (وايمر، 2017، 42). وقد أنتج هذا العمل المبكر مجموعةً متنوعة من نماذج شبكة التَّعلُّم التي تستخدم نسقًا عامًّا للمادّة، يربط بين الطلاب والمحتوى والمعلّمين في مواقف تعليميّة استكشافيّة، وهذا ما قد يغيّر العلاقة المألوفة بين الطالب والمعلم، وينشئ تعريفًا جديدًا للمعلّم بأنّه "صديق ناقد" (Walsh, 2007, 83).
توجد اعتراضات على النظريّة البنائيّة من هذه الزاوية، ومن أوائل هذه الاعتراضات: "عدم فاعلية السماح للطلاب باستكشاف المعرفة بأنفسهم؛ فهذا الأمر يستغرق وقتًا، وغالبًا ما ينطوي على وقت مُهْدر في تعقّب الإجابات في مواضع لن يعثروا على إجابات فيها أبدًا" (وايمر، 2017، 43). الردّ هنا من قبل أصحاب النظريّة البنائيّة بأنّ الطلاب يُنمُّون مهارات تعلّم قيّمة في سياق استكشافهم الأمور بأنفسهم؛ فهم يتعلمون حلّ المشكلات عمليًّا وإن كانوا لا يفعلون ذلك بإتقان؛ وهم يتعلّمون طرح الأسئلة وتقويم الإجابات والتفكير النقدي عن طريق ممارسة هذا النوع من التفكير. "وهنا نشير إلى نظرية القيمة المتوقعة التي تنصّ على أنّ الطلاب يجب أن يروا أن التعلم مهمّ؛ أي إنه يجب أن توجد قيمة للمتعلم، وإنّه يجب أن يتوقّع أن يكون ناجحًا في المهام التي يتعين عليه القيام بها" (Walsh, 2007, 80).
أهمية الموازنة بين حاجة الطلاب إلى الاكتشاف وحاجة المعلّم إلى التلقين تستدعي "حشد جميع المهارات التربوية بصفةٍ يومية لاكتشاف المزيج المناسب للتفاعل النشط، والملاحظة السلبية من أجل موازنة الحاجة لتقديم طريقة التفكير الرائعة مع مراعاة أهمية تشجيع مَلكة الإبداع لدى الطلاب أيضًا" (Ditzier & Ricci, 1994, 687). وينبغي ألا يكون الأمر داخل قاعة الدراسة اختيارًا بين هذا أو ذاك، وإنّما يقتضي الأمر إيجاد موازنة بين كلا الخيارين. وأحيانًا يوضِّح المحتوى ذاته متى ينبغي أن يتلقَّى الطلاب الإجابة بكلّ بساطة، ومتى ينبغي لهم أن يعملوا على اكتشافها بأنفسهم.
ومن الاعتراضات أيضًا أنّ "الطلاب يتعلّمون القليل جدًّا من النهج البنائيّ، وينتهي الأمر بمعظم المعلّمين إلى إعطاء توجيهات كبيرة" (Kirschner, Sweller, & Clark, 2006, 79). ويمكن الردّ بأنّ بناء المعرفة لا يعني أنّ المتعلم يبتكر المعرفة؛ وإنّما هو شيء مقارب أكثر لاختيار الموضع المناسب للمعرفة الجديدة؛ بحيث يُربَط بينها وبين شيء يعرفه المتعلم بالفعل؛ ومن ثمّ يكون مفهومًا بالنسبة إليه، فعلى المعلّمين أن ينتبهوا إلى طرق الفهم والاستيعاب التي يتبنّاها الطلاب، ليس لكونها بدائل فعّالة للحقائق الراسخة، وإنما لأنّ الطريقة التي يفكّر بها الطلاب ينبغي أن تشكّل طريقة للتعلّم.
إنّ التوافق البنائيّ في نظرية (Biggs, 2011) هو نهج بناء للتعلّم، وهو أمر أساسي يعكس قضيّة التعلّم المتمركز حول الطالب، ويمكّن الطلاب من أن يصبحوا متعلّمين ومنظّمين ذاتيًّا إذا زُوِّدوا بمعلومات عن أهداف المحتوى، وماهيّة مخرجات التعلّم التي قد تساعدهم على تطوير أهداف التعلّم الخاصّة بهم، ويستخدمون جميعًا معايير التقويم بصفتها طريقة لتوجيه عمليّة التعلّم الخاصّة بهم. بهذه الطريقة يمكن تحفيز المتعلّمين ليكونوا أكثر استعدادًا للتعلّم بدلًا من أسلوب التعلّم السلبيّ، ويصبحوا في جوهرهم أكثر تحفيزًا لمتابعة أهدافهم التعلّمية.
تساءل Biggs في أثناء إعداده لإحدى الدورات: لماذا لا نحاول تطبيق أسلوب تقويم ملفّ إنجازات الطالب؟ ونظرًا لأنّ الطلاب كانوا معلّمين يمارسون التعليم خلال النهار، فقد كان لديهم العديد من الفرص لمراقبة كيفية تأثير معرفتهم بعلم النفس في قراراتهم التعليمية، وهو ما يتّفق مع غرض الدورة في الأساس. عندما أبلغ Biggs الطلاب أنه سيعتمد على هذا الأسلوب لتقويمهم، جاء ردّ فعلهم سلبيًّا، وتساءلوا: "كيف لي أن أعدّ ملفًّا جيّدًا في حين أني لست متأكّدًا مما يريد البروفيسور أن يجده فيه؟" (Biggs & Tang, 2011, 97).
اقترح بيغز على المعلّمين أنواعًا من الأشياء التي يمكنهم إدراجها في ملفّاتهم، ومن خلال عرض مثال عمليّ عليهم، اتّضحت الفكرة لهم. وبعد تسليم الطلاب لملفّاتهم في نهاية الدورة، كانت النتائج باهرة لبيغز. كلّ ما قاله (المعلّم) هو: "قدّم لي دليلًا يثبت أنك تعلّمت بالفعل" (Biggs & Tang, 2011, 96)؛ ومن ثمّ كان علينا أن نفكّر مليًّا ونتأمل ونطبّق النظريات التي تعلّمناها في ممارساتنا في مجال التعليم. رغم عدم معرفة بيغز بذلك في هذا الوقت، فإنه طبّق بالفعل مثالًا للتعليم والتعلّم القائم على المخرجات، الذي أطلق عليه مصطلح "التوافق البنائيّ".
عمّم بيغز (Biggs) تجربة ملفّ إنجازات الطالب لتشمل نموذجًا للتعليم أُطلق عليه اسم "التوافق البنائيّ". أمّا في ما يخصّ "التوافق" فهو مبدأ في نظرية المنهج التربوي، يقوم على فكرة المطابقة بين مهامّ التقويم وما يجب تعلّمه. وأمّا مصطلح "البنائية" فمأخوذ من النظرية البنائية التي تنصّ على أنّ المتعلّمين يعتمدون على الأنشطة الخاصة بهم لبناء معارفهم، التي يفسرونها في ضوء مخططاتهم الذهنية. ويعتبر مفهوم "التوافق البنائيّ" بمنزلة تطبيق عملي أوسع نطاقًا لمقولة شويل: "عندما يتعلّق الأمر بتحديد ما يتمّ تعلمه، فإنّ ما يقوم به الطالب أهمّ فعليًا ممّا يفعله المعلّم" (Shuell, 1986, 429). تحدّد المخرجات المنشودة النشاط الذي يجب أن يشارك فيه الطلاب من أجل تحقيق المخرجات المنشودة، وكذلك المحتوى ذا الصلة بهذا النشاط. وتتمثّل مهامّ المعلّم في إعداد بيئة تعلّم تشجع الطالب على ممارسة أنشطة التعلّم، وفي تقويم أداء الطلاب في ضوء مخرجات التعلّم المنشودة وتقويم مسار العملية التعلّمية كاملة للتطوير.
إنّ التركيز على ما يتعلّمه الطلاب وطريقة تعلّمهم، بدل التركيز على ماهية الموضوعات التي سيدرّسها المعلّم، يتطلّب ألا يقتصر تحديد مخرجات التعلّم المنشودة على ما يجب تعلّمه (أي الموضوع) فقط، بل يجب أن يشمل ذلك أيضًا طرائق تعلّمه ووفقًا لأيّ معايير؛ ومِن ثَمَّ يجب أن تتضمّن صيغة المخرجات فعلًا يوضّح للطلاب كيف يُتوقّع منهم أن يتغيروا نتيجةً لتعلّم هذا الموضوع.
عند صياغة مخرجات التعلّم المنشودة وفقًا لمبدأ التوافق البنائيّ، يجب أن تشمل الصياغة نشاطًا معيّنًا وألا تقتصر على موضوع فحسب، على سبيل المثال، تحديد هذا النشاط أو المشكلة المطروحة، ومن ثمّ التحليل في سياق التعليم بحيث يُفعَّل من أجل تحقيق المخرجات المنشودة. وبالمثل، يُحدَّد هذا النشاط في سياق التقويم للتأكّد من تحقيق المخرجات وقياس مدى تحقيقه. الفعل المستهدف "حدّد" طُبِّق في سياق التعليم/التعلّم وفي عملية التقويم أيضًا. وبالمثل في حالة التدريب على مهارةٍ ما، يكون الغرض تعلّم كيفية إتقان تلك المهارة، وليس إلقاء محاضرات عنها. كما يركّز التقويم على قياس مدى إجادة المتعلّم لهذه المهارة. يتحقّق التوافق من خلال التأكّد من أنّ الفعل المقصود، والمشار إليه في جملة صياغة عبارات المخرجات، ينعكس بالفعل في نشاط التعليم/التعلّم وفي مهامّ التقويم.
يمكننا القول إنّ التعليم القائم على التوافق البنائيّ قد يكون أكثر فعالية من النماذج الأخرى غير القائمة على التوافق؛ إذ تتميّز المنظومة بأعلى قدر من الاتساق. فكما هو الحال في جميع أنواع التعليم التقليدية، يحدّد المنهج موضوعات المحتوى التي تقرر أنّ الطلاب سيرغبون في تعلّمها، غير أنّ هذه الموضوعات تُترجم إلى عبارات خاصّة بالمخرجات، في الوقت الذي تستهدف فيه أنشطة التعليم/التعلّم توجيه تعلّم الطلاب نحو هذه المخرجات المنشودة، وتكون مهام التقويم والمعايير والقواعد بمنزلة علامات إرشادية خلال العملية (Biggs & Tang, 2011, 99). وتركّز جميع المكوّنات في هذه المنظومة على أهداف موحّدة تدعم بعضها، وعليه "يجب أن يُصمّم المقرّر بشكل يراعي أن تكون أنشطة التعلّم ومهام التقويم متوائمة مع مخرجات التعلّم المنشودة من المقرر؛ أي أن تكون المنظومة متسقة" (Hattie, 2009, 6).
الشكل (2): إطار التوافق البنائي.
يعرض الشكل رقم (2) إطار التوافق البنائي، وذلك بتوضيح التفاعل بين المكونات الثلاثة: الأهداف والمخرجات المنشودة، وأنشطة التدريس والتعلم، وعملية التقويم. وفي ضوء هذا الإطار، يشتمل التوافق في التعلّم المتمركز حول المتعلّم على أربع مراحل، كما يلي:
المرحلة الأولى: مخرجات التعلّم المنشودة (ILOs) Intended learning outcomes
هي عبارات يجري تشكّلها من وجهة نظر الطلاب، للإشارة إلى مستوى الفهم والأداء المتوقّع منهم تحقيقه نتيجةً لمشاركتهم في تجربة التعليم والتعلّم. وفي طبيعة التعليم والتعلّم، تكون مخرجات التعلّم المنشودة على النحو الآتي (مع الإشارة إلى أنشطة التعلّم أو الأفعال بالخط المائل): (Biggs, 2011, 101)
يعوّل كلّ فعل من الأفعال السابقة على "الفهم" بدرجة أو بأخرى؛ ولهذا السبب لن يفيد استخدام الفعل "يفهم" في صياغة مخرجات التعلّم المنشودة؛ نظرًا لأنّه لا يعطي أيّ إشارة عن مستوى الفهم المطلوب ولا كيفية القياس. وسنركز الآن على الأفعال: "فسِّر"، "طبِّق"، "تأمَّل"، "قوّم".
ما يلفت الانتباه هنا أنّ أول مخرجات التعلّم المنشودة "فسّر" تشير إلى المعرفة التوضيحية، في حين تشير باقي المخرجات: "طبِّق"، "تأمّل"، "قوّم"، إلى المعرفة الوظيفية. في تعاملهم مع المخرج الثاني "طبّق"، قد يختار الطلاب الموضوع نفسه كما في مخرج التعلّم (1)؛ أي نظرية القيمة المتوقعة، إلا أنهم في المخرج (1) يفسّرون لفظيًّا، أما في مخرج التعلّم (2) فإنّ عليهم تطبيق ذلك على تعليمهم. ويعتبر الفعل "تأمل" في مخرج التعلّم الثالث على مستوى معرفيّ أعلى يثير في الطلاب تطبيق الإطار الذي أنشؤوه خلال الدورة على تعليمهم بصفته ممارسة تأمليّة. أمّا المخرج الرابع، "قوّم وطبّق" فيتطلب من الطلاب تحديد المشكلة وتقويمها، ثم اقتراح كيف يمكن حلّها في ضوء المادة التي تُعلَّم خلال الدورة: وهذا أيضًا يجري في مستوى معرفيّ مرتفع. أمّا المخرج الأخير فهو مثال على تسلسل البحث الإجرائي "تأمّل، خطّط، قوّم، طبّق".
المرحلة الثانية: مهام التقويم Assessment tasks (ATs)
يتألف ملف التقويم من عدة عناصر يختارها الطلاب اعتقادًا منهم أنها تتعلق بمخرجات التعلّم المنشودة؛ فكان على الطلاب اختيار الدليل الذي يثبت تحقيقهم لتلك المخرجات، ومن ثم إضافته إلى ملفاتهم، مع توضيح أسباب اعتقادهم بأنّ الملفّ ككل يحقق مخرجات التعلّم المنشودة. وكانت المتطلبات، على وجه التحديد، ما يلي: (Biggs & Tang, 2011, 103)
أ. أربعة أدلّة يختارها الطالب بنفسه، ويرى أنها تدلّ على تحقيق معظم مخرجات التعلّم المنشودة.
ب. مفكّرة شخصية، تتضمّن إجابات عن الأسئلة الموجّهة إلى الذات.
ج. أسباب اختيار كلّ عنصر من عناصر الملفّ، وجميع المواد التي من المفروض أن تشكل "ملف التعلّم"، مع توضيح كيفية تحقيق كل مخرج من مخرجات التعلّم المنشودة بطريقة أو بأخرى. وقد كان ذلك دليلًا إضافيًّا على وعي الطلاب الذاتيّ بتعلمهم.
المرحلة الثالثة: أنشطة التعليم/التعلّم (TLAs) Teaching/learning activities
تظهر الأفعال التي وجب على الطلاب تنفيذها، بتنسيق مائل في قائمة مخرجات التعلّم المنشودة، أمّا أنشطة التعليم/التعلّم فقد كان التوصل إليها من خلال النقاش مع الطلاب عندما وجدوا أنّ اتباع المعلّم أسلوب المحاضرة والإلقاء لن يساعدهم على تحقيق المخرجات.
باختصار، بدلًا من أن يقوم المعلم بكلّ شيء تجاه طلابه، فإنّه يساعدهم على القيام بما يجب عليهم فعله من أجل تحقيق مخرجات التعلّم المنشودة. وتشمل أنشطة التعليمِ التعلّمَ المستقل مع القراءة القبلية وأسئلة موجهة للذات: (ما أهمّ فكرة في جلسة اليوم؟)، وتعلُّم المجموعة الصغيرة، والتعلّم التعاوني مع شركاء للتعلّم، والمفكرة الشخصية، والأهمّ من ذلك، بحكم أن جميع الطلاب كانوا مدرّسين ممارسين للمهنة؛ لذا فإن جميع أنشطة التعلّم المذكورة في مخرجات التعلّم المنشودة تشكل جزءًا من أنشطة التعليم/التعلّم بشكل أو بآخر.
المرحلة الرابعة: تقدير الدرجات Grading
تتمثل الخطوة الأخيرة في حصول الطالب على الدرجة النهائية استنادًا إلى الدليل الذي قدّمه في ملفّ الإنجاز الذي يحدّد مدى تمكّنه من تحقيق مخرجات التعلّم المنشودة. ويعتمد تقدير الدرجات عادةً على جانبين: تقويم مخرجات الطالب في ضوء المعايير المحددة، والنتائج التي جُمعت من العديد من مهام التقويم وتشكل الدرجة النهائية. ويمكن تحقيق ذلك كميًّا، كما هو الحال دائمًا، أو نوعيًّا. اعتمدت دورة "طبيعة التعليم والتعلّم" على النهج النوعي باعتباره الأكثر ملاءمةً للمهمّة والسياق؛ إذ أشارت كل درجة (وقد عُبّر عنها بحرف معيّن) إلى مستوى تفكير مختلف نوعيًّا، وذلك على النحو التالي (Biggs & Tang, 2011, 104):
(A) قادر على التأمل والتقويم الذاتي بواقعية، وعلى صياغة النظرية وتطبيقها على مشكلات في الصف الدراسي، مع إجادة واضحة لمحتوى المقرر.
(B) قادر على تطبيق النظرية عمليًا، مع فهم شامل للمقرر والمكونات، ويكاد لا يخفق في الحصول على الدرجة A.
(C) قادر على تفسير النظريات الأكثر أهمية، ويستطيع وصف الموضوعات الأخرى بشكل مقبول، ويكاد لا يخفق في الحصول على الدرجة B.
(D) قادر على تفسير بعض النظريات فقط، ويكاد لا يخفق في الحصول على الدرجة C.
(F) أقل من D، سرقة أدبية.
يعدّ نظام تقدير الدرجات المستخدم هنا عمليّة بسيطة؛ إذ إنه لا ينطوي على أي تصحيح كمّي أو قياس المتوسط لحساب الدرجة النهائية. قُوِّمت عناصر الملف لتحديد ما إذا كانت تقدّم "دليلًا" على توفر سمات الدرجة (A) أم (B)، وما إلى ذلك، والطالب لديه القدرة على التقويم الذاتي الواقعي، على سبيل المثال، لكنه كشف عن قدرته على صياغة نظرية عملية وتطبيقها في مواقف داخل الصف الدراسي، فإنه يحصل على (B).
تسعى كلّية التربية في جامعة قطر إلى تطوير التعليم من خلال اعتماد طريقة التوافق البنائي في عمليّة التعليم؛ وذلك لأهميتها في التدريس وأثرها في تزويد المتعلمين بطرق بناء المعارف والمهارات الفردية والجماعية. وقد أكّدت العديد من الدراسات، كدراسات (Ecclestone, 1994)، و(Harden, 2002)، و(Stenhouse, 1986)، و(Rees, 2004)، وأبو زيد (2003)، الحاجةَ الملحّة إلى استخدام استراتيجيات ومداخل وأساليب جديدة في التدريس، ومنها التعلم البنائيّ بهدف تمكين الطلبة من مهارات فردية وجماعية. وتكمن مشكلة الدراسة في إمكان التوأمة بين تطوير التعليم في كلية التربية بجامعة قطر وبين اعتماد منهج التوافق البنائي، وإظهار فاعلية تطبيق التوافق البنائيّ على تجربة التعلّم الإلكتروني، وبيان نتائج التحصيل الدراسي من وجهة نظر الطالبات من خلال اعتماد هذه الطريقة الحديثة.
انطلاقًا من المشكلة التي تتناولها الدراسة الحالية، فإنّ أهداف القسم العملي من هذه الدراسة تتجلّى في التعرّف إلى مدى فاعلية التعلّم البنائي والتعلم المتحور حول المتعلّم في البناء المعرفيّ لدى طالبات مقرّر "أساسيّات التعليم في قطر والإصلاح المدرسيّ". والتعرّف إلى تحديات وفرص استخدام منهجية التوافق البنائي من خلال التعلم عن بعد.
تفيد هذه الدراسة المعلّمين الذين يتّبعون نهج التعليم الإلكتروني عن بعد، لمحاولة تصميم بعض الموضوعات وفق التوافق البنائيّ، وتَمثُّل النظرة البنائيّة في عرض موضوعات التعليم استجابةً لما ينادي به التربويون في الوقت الحاضر من أهمية توظيف نظريات التعلّم الحديثة في التعليم. فضلًا عن أنّ هذه الدراسة تشكّل إثراءً للمنحى التربوي المحلّي بشكل خاص؛ إذ لم تتطرق أيّ من الدراسات العربيّة - في حدود علم الباحثة - إلى موضوع التعلّم الإلكتروني من منطلق التوافق البنائي رغم أهمّيته.
وتبرز الأهميّة النظريّة والتطبيقيّة لهذه لدراسة من خلال تسليط الضوء على مفهوم التوافق البنائيّ، وإبراز دور التعلّم المتمركز حول المتعلّم؛ ومن ثمّ الاستفادة من الأنشطة المصمّمة لاكتساب المهارات، للوصول إلى أعلى درجات التقويم، وأخيرًا الإفادة من تجربة التعلّم الإلكتروني لدى طالبات مادة مقرّر أساسيّات التعليم في قطر والإصلاح المدرسيّ.
استخدمت الباحثة المنهج الوصفي الذي يمكن تعريفه بأنّه: "أحد أشكال التحليل والتفسير العلمي المنظّم لوصف ظاهرة أو مشكلة محدّدة وتصويرها كميًّا، عن طريق جمع بيانات ومعلومات معيّنة عن الظاهرة أو المشكلة وتصنيفها وتحليلها وإخضاعها للدراسة الدقيقة" (عبد المؤمن، 2008، 287). ويكمن السبب كذلك في أنّ هذا المنهج يلائم طبيعة الدراسة، ولأنّ من خطواته تحديد أدوات جمع البيانات وبيان مصداقيتها؛ ومن ثمّ وصف النتائج التي توصل إليها الدراسة، وذلك بتحليلها بعبارات علمية دقيقة، وتفسير تلك النتائج المحلّلة بالاستدلال عليها، ووضع تعميم أو نظرية للدراسة، وذلك بالاستنباط المنطقي أو قاعدة يعتمد عليها في استشراف المستقبل، وضبط المشكلة فيها مع اجتراح الحلول الملائمة لها.
تضمّنت عيّنة الدراسة طالبات مادة مقرّر "أساسيات التعليم في قطر والإصلاح المدرسي"، وقد كان في حينه أحد المتطلّبات العامّة في كلية التربية بجامعة قطر، وهو اليوم متطلّب تخصّصي في كلية التربية. وكانت غالبيتهن من كلية التربية، وكان فيهنّ طالبات من كليات أخرى مثل كلية الهندسة، وكلية الاقتصاد، وكلية الشريعة. وقد قُسّمن إلى مجموعات، ثلاث منها تضمّ خمس فتيات، والرابعة تضمّ ستّ فتيات؛ أي ما مجموعه إحدى وعشرون طالبة وهو العدد الإجماليّ لطالبات الصفّ.
من أجل تحقيق أهداف الدراسة التي سعت إلى تعرّف أثر استخدام نموذج التوافق البنائيّ، استُخدمت الأدوات الأساسية التي تشكل نقطة انطلاق النظرية البنائية عند Biggs وهي مخرجات التعلم المنشودة، والركيزة الثانية هي تعزيز تلك المخرجات عن طريق ربطها بتقويم الطلبة والأنشطة خلال الفصل الدراسي. والجدول التالي يبيّن خارطة التوافق البنائي المتعلق بمقرر "أساسيّات التعليم في قطر والإصلاح المدرسيّ".
وكان على الطالبات الانطلاق من مشكلة واقعية في التعليم بدولة قطر، وربطها بتاريخ التعليم وتحليل مبادرة الإصلاح التعليمي في قطر لتقويم التحدّيات والفرص (الجدول 1). وقوَّم الطالبات عملهن في امتحان المنتصف من خلال اختبار منتصف الفصل الذي يتناول الجزء الأول منه مسألة التفكر في الميثاق القطري للمعلمين بتحليل نقاط القوّة والضعف فيه، في حين يتعرّض الجزء الثاني منه لتحليل مشكلة تربوية لها علاقة بالميثاق الأخلاقي للمعلمين. كذلك التقرير النهائيّ المتعلّق بفلسفاتهنّ الخاصّة في التعليم، ثمّ كتابة تقرير فريقيّ حول دراسة الحالة ويشمل خلفية التعليم في جامعة قطر: التاريخ والإصلاحات والممارسات الحالية.
جدول (1): مخرجات التعلم المستهدفة
الأهداف |
مخرجات التعلم المستهدفة |
الأنشطة |
التقويم |
الفلسفة |
صياغة فلسفة التعليم والتعلم |
كتابة فلسفة التعليم والتعلم الخاصة بك. (امتحان نهاية الفصل) |
فلسفتك الخاصة في التعليم والتعلم. |
التاريخ |
ارتباط بتاريخ التعليم في قطر للتفكير في ممارساتي المستقبلية |
اختر
مشكلة ملحة
في التعليم. |
اكتب دراسة حالة عن المشكلة الملحة في التعليم التي اخترتها. (عمل جماعي) |
الإصلاح التعليمي |
تحليل مبادرة الحكومة القطرية بشأن إصلاح التعليم ومقارنتها بالممارسات والاحتياجات الحالية |
اختر
مشكلة ملحة
في التعليم. |
اكتب
دراسة حالة
عن المشكلة
الملحة في
التعليم
التي
اخترتها. |
الأخلاقيات |
التفكر في أخلاقيات المهنة للمعلمين في قطر |
منتصف الفصل الدراسي |
اكتب تأملاتك الخاصة حول أخلاقيات المعلمين القطريين بناءً على قواعد السلوك المتبعة، وتأمل ما يجب أن تكون عليه أخلاقيات المعلم في الحاضر وفي المستقبل. |
العمل الجماعي |
تطوير مهارات العمل الجماعي |
على
صفحة أو
اثنتين،
اكتب كيف تم
العمل الجماعي. |
كتابة تأملك بالعمل الجماعي |
قامت هذه الدراسة بسلسلة من الإجراءات المنهجية تحت إطار التناسق البنائي (الشكل 3)، وذلك لتعزيز مفهوم التعلم المتمركز حول الطالب، والهدف مقاربة أهداف التعلم المنشودة عن طريق استخدام أفعال نشطة وتقويمها من خلال أساليب التقويم والأنشطة التعليمية التي يقوم بها الطلاب (Biggs, 2011).
الشكل (3): إجراءات تطبيق برنامج التعلم البنائي.
وكان في طليعة الإجراءات التي قامت بها هذه الدراسة اختيار أفراد العيّنة؛ ومن ثمّ تقسيم العيّنة إلى مجموعات، ثمّ تطبيق استراتيجية التوافق البنائي على طالبات المجموعات، وصولًا إلى استطلاع آراء الطالبات، وإعداد خارطة تقويم لفصل الربيع 2020، التي جاءت في الجدول (2) على الشكل التالي:
جدول (2): خارطة تقويم فصل الربيع 2020
الموضوعات |
نوع الدرجة |
الدرجة |
الجدول الزمني |
تقرير كتابي عن دراسة حالة |
للمجموعة |
40 |
نهاية الفصل |
عرض شفهي لدراسة الحالة |
للمجموعة |
20 |
نهاية الفصل |
الأخلاقيات المهنية للمعلم |
للفرد |
20 |
منتصف الفصل |
فلسفة التعليم |
للفرد |
20 |
نهاية الفصل |
تضبط هذه الدراسة حدودًا كمّية وزمانية ونوعية تشكّل إطارًا مرجعيًّا لها. فالحدّ الكمّي هو أنّها مادة واحدة فقط، هي: "مقرّر أساسيّات التعليم في قطر والإصلاح المدرسيّ" التي قُدّمت في اتباع منهج التوافق البنائي للتطوير التربوي. فطُرحت هذه المادة على مجموعة صغيرة من الطالبات (21 طالبة) بصفتِها تجربة لتطوير نهج التعلم والتعليم في كلّية التربية. والحدّ الآخر حدّ زماني، وهو فصل خريف 2019-2020 عبر استخدام برنامج مايكروسوفت تيمز (Teams) من خلال جامعة قطر. أمّا الحدّ النوعيّ فكان مرتبطًا بنوع الطالبات الملتحقات بتلك المادة. ولأنها مادة متطلبات عامة تكون المادة مفتوحة لشتّى أنواع المتعلمين على اختلاف تخصّصاتهم ومراحلهم التعليمية. هذا التنوّع قد يكون مثريًا في بعض الأحيان؛ بسبب الاختلاف الثقافي والتخصّصي لمجموعة الطالبات، وفي الوقت نفسه قد يحدّ من تجربة تعميق التعليم لتمكين الطالبات من مهارات عليا؛ بسبب تفاوت خبراتهن ومهاراتهن التعليمية.
خرجت الدراسة الحالية بعدّة مستويات من النتائج؛ فعلى مستوى المشكلة – في إمكان اعتماد منهج التوافق البنائيّ وإظهار فاعليته في تجربة التعلم الإلكتروني – فقد صممت الباحثة مخرجات التعليم والتقويم القائمين على التوافق البنائيّ، وذلك على أربع مراحل: تحديد الأهداف ومخرجات التعلّم المنشودة، وتصميم وتنفيذ أنشطة التعليم/التعلّم (TLAs) اللازمة، وتصميم مهامّ التقويم (ATs)، ثم تقدير الدرجات. وكلّ ذلك تمّ من خلال توفير مساحة تفاهم واضحة ومشتركة بين الباحثة والطالبات، هي منصّة تيمز الإلكترونية التي شكّلت مدار الموضوع المطروح.
انطلاقًا من هذه المراحل الأربع، كانت النتيجة أنّ انتهاج طريقة التوافق البنائيّ والتعلّم المتمركز حول الطالب (مراحل تطبيق التوافق البنائي عند Biggs) مكّن الطالبات من تنظيم أنفسهنّ ذاتيًّا، خصوصًا بعد أن زُوِّدن بمعلومات حول أهداف المحتوى، وماهيّة مخرجات التعلّم التي ساعدتهنّ على تطوير أهداف التعلّم الخاصّة بهنّ، كما استطعن بناء معارفهنّ بناءً ذاتيًّا، وتقويم أنفسهنّ، والعمل في مجموعات فريقيّة منظّمة.
وقد جُمعت البيانات من عينة البحث من خلال استقراء إجابات الطالبات في كلا الاختبارين: النصفي والأخير، ومن ثمّ تحليل ملاحظاتهنّ وتقويمهنّ، ومقابلة الآراء وتصنيفها للخروج بنتائج تمثّل أثر التعلّم البنائيّ فيهنّ.
أمّا على مستوى نتائج تأمّل الطالبات في التحصيل الدراسيّ، فقد كتبنَ تأمّلاتهنّ عن الموضوع، فكان التركيز على مجموعة من النقاط نوجزها في السطور الآتية:
من أهمّ مميزات هذا المنهج التدرّب على مهارات البحث، وعلى كيفية الاعتماد على النفس، وتفتّح القدرات العقليّة، والتعاون والتواصل مع الأخريات من الزميلات، وعدم الاحتفاظ بالمعلومة، والتعوّد على أسلوب المناقشة، وتقبّل النقد من الأخريات.
ولقد أسهم في زيادة فرص التفكير والإبداع، وساعد التعليم الإلكتروني على الحفاظ على التواصل الاجتماعيّ بين الطلاب والمعلّمين من دون التعرّض لأضرار صحّية في ظلّ الظروف التي يمرّ بها العالم.
بالإضافة إلى أنّ جلسات التعلّم القائم على حلّ المشكلات وعبر الهاتف أيضًا من خلال المجموعة في الواتساب وبرنامج تيمز كانت تشعر الطالبات بأنهنّ أسرة واحدة، ولديهنّ مكان للتواصل المرئي بين بعضهنّ، فيه يتناقشن عن كل أفكارهنّ في وقت الانقطاع الاجتماعي بسبب جائحة كوفيد-19.
وأمّا بالنسبة إلى طرق المشاركة، فكانت طرقًا مبتكرة غير تقليديّة، كالتعاون، والحوار، والمناقشة، وتبادل الأفكار مع الزميلات. في البداية ظهرت صعوبات في التأقلم مع هذا الوضع من خلال اختلاف العقليات وربما الثقافات، ولكن مع الممارسة العملية ذُلِّلت كثير من تلك الصعوبات، فقد "كان هناك خجل من روح التعاون، ولكن مع الممارسة أصبح ذلك أمرًا عاديًّا".
من جهة أخرى، صرّحت بعض الطالبات أنّ "الكاميرا كانت بالنسبة إليهنّ أمرًا مفاجئًا ومصدر خوف وقلق"؛ بسبب عدم اعتيادهنّ تفعيلَ تلك الخاصية كما هو الحال في جميع المواد، إلا أن هذا التواصل المرئي كان سببًا قويًا ساعدهن في التواصل.
أيضًا ظهرت فوائد عادت على الطالبات بالنفع مستقبلا نتيجة التعليم الإلكتروني، ومن أهمّها: أنّه يساعد على التعلّم في أيّ وقت، وفي أيّ مكان، ويقلل من نفقات الكتب ومستلزمات العملية التعلمية، كما أنّه يتيح التواصل بين المعلّمين والطلاب بسهولة كبيرة بسبب تنوّع وسائل الاتصال كالبريد الإلكتروني وغرف المناقشات. كذلك ساعد التعليم الإلكتروني الطالبات على اختيار الطريقة المناسبة في تلقّي الدروس، وهذا ما أسهم في تحقيق الأهداف التعليميّة/التعلّمية باختصار الوقت والجهد، وقدّم حلولًا عمليّة للقصور الدراسيّ من خلال التغذية الراجعة؛ ذلك أنّ التصحيح المستمرّ يختلف عن الطرائق التقليدية، التي فيها "كان المعلّم يأخذ البحوث أو الموضوعات وينتهي الأمر هنا، من دون متابعة ولا تغذية راجعة أو مستمرّة".
اكتشفت الطالبات في نهاية الفصل أنّ التعلّم البنائيّ من أهمّ الوسائل التي تعمل على إكساب الإنسانِ المهاراتِ والخبرات اللازمةَ من أجل الوصول إلى التنمية الفكرية والتعلمية له؛ إذ إنّه يدعم المهارات اللازمة من أجل استخدامها في الحياة العملية وكذلك زيادة الثقة بالنفس. علاوة على ذلك، فإنّ مسيرتهن التعلّمية كان لها دور كبير في تطوير مهارات التفكير الناقد وتحقيق العديد من الفوائد الخاصّة في المجالات الحياتية المختلفة. وتقول إحدى الطالبات إنّها "لم تصل إلى مستوى (10) ولكن فهمها للموضوع كان على مستوى (10)".
في مقابل تلك الإيجابيات وُجد تفاوت في مستويات المجموعات بسبب اختلاف الثقافات والقدرات؛ فقد كانت الطريقة التقليدية تعتمد على طرح موضوع معيّن وتوسيعه، وفي هذه النمطية التعليمية واجهن تحدّيًا آخر تمثّل في صعوبة كتابة المشكلة البحثية بطريقة عميقة.
وأمّا على مستوى نتائج استطلاع الرأي، فإنّ أهمّ نقاط استطلاعات الرأي التي قدّمتها الطالبات هي:
أن هذا الأسلوب من التعليم يعمل على الجمع بين التعلّم والاهتمام بالأسرة، كذلك توفير المال والوقت والطاقة في التنقّلات ما بين البيت والجامعة، خصوصًا لمن كان بيتها بعيدًا عن الحرم الجامعي، فاستُغِل الوقتُ لإنجاز المهامّ التي توكل إلى الطالبات بعد المحاضرة مباشرة، وإنهائها قبل المحاضرة التي تليها، دون أن يكون عليهنّ الذهاب من مكان إلى آخر للبحث عن الحصّة القادمة وموعدها.
من جهة ثانية أن العمل الجماعيّ يعدّ من أهمّ الأمور التي تؤدّي إلى زيادة تبادل المعلومات ووجهات النظر الخاصة بالدراسة وبالمقررات الدراسية. علاوة على ذلك، فإنّه يشكّل مساحة للتعاون المستمرّ بين المعلّمين والطالبات، وما أسهم في تعميق عملية التعلّم وجود لقاءات كانت تجري خارج الأوقات الرسمية للمحاضرة، وذلك على مدى الامتداد الزمنيّ للفصل؛ لأنّ البحث لا يمكن إنجازه خلال ثلاثة أو أربعة أشهر.
كما أنّ لعمليات التقويم دورًا كبيرًا في زيادة تطوّر أداء الطالبات؛ إذ أسهمت في الوقوف على أهمّ نقاط الضعف والقوّة، وبوجه خاصّ فإنّ دراسة الحالة والعرض التقديمي الشفويّ كان لهما أثر فاعل في تطوير مهارات العرض والتقديم. علاوة على ذلك، فإنّ العرض التقديمي اضطلع بدور كبير في زيادة الجرأة والشجاعة لعرض الأفكار، وكذلك الدفاع عن هذه الأفكار بكلّ الطرق الممكنة.
تبيّن من خلال عرض نتائج سؤال الإشكالية، أنّ التوافق البنائيّ كان له أثر في بناء المعرفة لدى الطالبات، وأنّ على المتعلّم أن يبذل جهدًا عقليًّا لاكتشاف المعرفة بنفسه؛ فهو ليس ناقلا للمعرفة، ولكنّها عمليّة إبداع؛ إذ يختار منها ما يستطيع إبداعه وتركيبه.
وقد طُبِّقت في هذا الفصل أطروحات بيغز (Biggs, 2011) ورؤيته البنائية في تفعيل التعلّم المتمركز حول المتعلّم، فكان الاعتماد على مجموعة من الأنشطة المترابطة في تحقيق المخرجات المنشودة التي مكّنت الطالبات من بناء معارفهنّ بأنفسهنّ، مما أسهم في "التركيز على العملية بدلًا من المحتوى؛ أي على تحقيق مستوى معيّن من الفهم بدلًا من تغطية قائمة الموضوعات" (Walsh, 2007, 80).
وقد زوّدت مخرجات التعلم الطالبات بالقدرة على التفاعل مع العملية التعلمية؛ فوجدت الطالبات على مختلف مستوياتهن عمقًا أكثر في البحث بسبب الاستمرارية الدائمة للتعمق في البحث من خلال التغذية المستمرة من قبل المعلمة، إلا أن هذا التفاعل يعتمد في الأصل على دافعية الطالبات في العمل الجماعي. نتج من ذلك أنّ المجموعة الأقوى كانت تساؤلاتها أدقّ، في حين آثرت المجموعات الأضعف الصمت أو الحياد، فكان على المعلّم بذل جهد أعلى مع الفئات الضعيفة، وهذا ربّما أثّر سلبًا في المجموعة الأقوى من حيث الحدّ من إبداعها في العمل التعاونيّ.
إنّ بيئة التعلّم النشطة هي التي يقدّمها المعلم للمتعلّم، ويطلب منه المشاركة الفعّالة، والتأمّل، والاستطلاع والاكتشاف، والتنظيم، والتجريب، بالإضافة إلى التحدّي والمثابرة في العمل. وذكر (Taylor & Znajda) أنّه "لكي تتعلم كيف تكون مدرّسًا فعالًا، فهذا لا يتطلّب فقط اكتساب خبرة التعليم، بل لا بدّ أيضًا من فهم كيفية تفاعل معتقداتنا الشخصية عن التعليم والتعلّم، بالإضافة إلى المعرفة في مجال تخصّصاتنا، والسياقات التنظيمية المنتجة لمناهجنا المحدّدة في التعليم" (Taylor, Znajda, 2015, 39). فلم يعد التعلّم قاصرًا على استقبال المعرفة وتخزينها واسترجاعها، ولكن يتطلّب من المتعلّم أيضًا مهارات ما بعد المعرفة؛ أي القدرة على رصد خطوات تفكيره، بالإضافة إلى تقويمها، وهذا يستدعي درجة عالية من الوعي والذهنية في الأداء، بالإضافة إلى قدرة المتعلّم على توظيف تلك المعرفة، وتوليد الجديد منها بالتفاعل بين ما لديه وبين المواقف المستجدّة.
وأظهرت نتائج امتحان المنتصف محاولة الطالبات إدراك بعض مخرجات التعلّم التي قيست، فمهّدت هذه المرحلة لفهم أعمق لتلك المهارات المنشودة، فكان فيها التفكّر في ميثاق المعلّم وتحليل ذلك الميثاق من جوانبه القوية والضعيفة، وكيف بإمكانهم تطبيق بعض قيم الميثاق في حلّ مشاكل تعليمية حرجة.
أمّا بالنسبة إلى نتائج تأمّل الطالبات واستطلاع آرائهنّ، فقد تبيّن من خلال مدوّناتهنّ أنّ تجربة التعلّم التعاوني عبر استخدام الوسائط التكنولوجية، أوجد فرصًا جديدة وتحدّيات جدّية على مستوى التعلّم العميق؛ فقد تبيّن أنّ استيعاب الطالبات لمنهجية التوافق البنائيّ متفاوت على قدر تفاعلهنّ في المادّة. فمخرج العمل التعاونيّ في هذه المادّة كان يضمّ المخرجات التعلّمية كافة التي نقوّم على أساسها مستويات الطالبات التحصيلية، فيتعاون طلاب المجموعة الواحدة لتحقيق الأهداف المشتركة من خلال دراسة الحالة.
وبعد إنجاز تقويم الحلول، كان على الطالبات عرض بحثهنّ وتقديمه، فظهر تحدٍّ آخر من حيث توصيل معلوماتهنّ عبر وسائل الاتصال الإلكتروني، ومن جهة أخرى كان على المعلّم تقدير أيّهن كانت الأكثر نجاحًا. فاعتمد التوافق البنائيّ على طريقة تدريجية لمخرجات التعلّم المنشودة، بدءًا بطريقة طرح الإشكالية ومن ثم اقتراح الحلول وتقويمها حتى يختم العمل الجماعي بالعرض والتقديم.
بالإضافة إلى أنّ مرحلة التقويم تحدّت قدرات الطالبات في إيجاد تقويمات مناسبة لما توصّلنَ إليه من حلول واستنتاجات، وإمكانية تعميم ما تعلّمنه في مواقف جديدة؛ ما يسمح لهذه المرحلة من مراحل نموذج التعلم البنائيّ بإتاحة الفرص أمام الطالبات للتفكير في تقويم أكبر عدد ممكن من الأفكار عن المواقف الجديدة، ونقل تلك المهارات إلى فصول جديدة لاحقة؛ ما يؤدّي إلى تكامل العملية التعلّمية حاضرًا ومستقبلا. إنّ العملية البنائية تتطلّب حالة مستدامة واستمرارًا في بناء الذهنية المعرفية، وإلا حصل تراجع في مستوى المتعلّم.
في خاتمة هذا البحث، وبناءً على ما تقدّم من أطروحات على مستوى التعلم البنائي ومدى فاعليته، نورد التوصيات الآتية:
حثّ كلّيات جامعة قطر كافّة على تبنِّي استراتيجية التعليم بالتوافق البنائيّ والمتمركز حول المتعلّم؛ وذلك بهدف تزويد المتعلمين بطرق بناء المعارف والمهارات الفردية والجماعية مهما كانت اختصاصاتهم.
كذلك تزويد المتعلّمين بمهارات التفكير العليا، وبثّ روح العمل الفريقيّ فيما بينهم، وحثّهم على تقويم الذات والعمل، والقدرة على العرض والخطاب والدفاع عن الآراء.
إلى جانب ذلك تنمية البحوث في مجال التعلم والتعليم، وذلك بتقييد الممارسات بين أعضاء هيئة التدريس لتقديم الدراسات التي تتناول مجالات التعلم والتعليم بحثيا، والكتابة عن مدى تقدّم عملية التعلم والتعليم.
وعلى مستوى المعلمين: ما التحدّيات التي تواجه تدريب المعلمين مع هذه النوعية الجديدة من التعليم؟ غالبًا ما يقاوم المعلّمون التغيير؛ ذلك أنّ تغيير المعتقدات يستغرق وقتًا، قد يُنظر إلى بعض المهامّ على أنها غير قابلة للتحقيق، إذن التغيير يحتاج إلى المجازفة. ومثل هذا التوجّه نحو التعلم المتمركز حول الطالب له آثار كبيرة في دور أعضاء هيئة التعليم. يتطلب هذا الدور الجديد عدم تركيز المعلّمين على كونهم اختصاصيين في دعم التعلم المتحور حول الطالب وتوسيع نطاقه؛ ومِن ثَمَّ يكون التركيز على العملية التعليمية أكثر من التركيز على محتوى الموضوع (Walsh, 2007).
إنّ تغيير المعتقدات بشكل عام يتطلب وقتًا وإقناعًا لتوضيح مدى جدوى تلك الممارسات الحديثة في التعلم والتعليم. وهذا التغيير لا يأتي إلا من بعد أن ينخرط المعلمون في التجربة الجديدة، وأن يكونوا على استعداد لتحمّل مخاطر تلك التجربة؛ لأنهم قد يفشلون فى بعض الجوانب التعليمية. وهذا ليس فشلا مطلقًا، بل يمكن اعتباره وسيلة بنائيّة تعتمد أطرها على مهارات عالية فى تكوين علاقات أجدى مع الطلاب في معرفتهم واكتشاف اهتمامهم وكيفية تحفيزهم، وهذه وسيلة دائمة في التطور بناءً على متطلبات الطلبة والمتغيرات الاجتماعية.
أولا: العربية
أبو زيد، أمة الكريم طه. (2003). أثر المعرفة المسبقة والاستدلال العلمي في التحصيل وعمليات العلم باستخدام نموذج التعلم البنائي في تدريس مادة البيولوجي لدي طلاب المرحلة الثانوية في الجمهورية اليمنية [رسالة دكتوراه]. كلية البنات، جامعة عين شمس، القاهرة.
بكار، نادية أحمد والبسام، منيرة محمد. (2004). المعلم كمطور لمحتوى الكتب المدرسية دراسة بين الواقع والتطوير من منظور البنائيين. مجلة رسالة الخليج العربي، مكتب التربية العربي لدول الخليج، الرياض، 25(91)، 13-63.
زيتون، حسن وزيتون، كمال عبد الحميد. (2003). التعلّم والتدريس من منظور النظرية البنائية. عالم الكتب، القاهرة، مصر.
السليم، ملاك محمد. (2004). فاعلية نموذج مقترح لتعليم البنائية في تنمية ممارسات التدريس البنائي لدى معلمات العلوم وأثرها في تعديل التصورات البديلة لمفاهيم التغيرات الكيميائية والحيوكيميائية لدى طالبات الصف الأول المتوسط بمدينة الرياض. مجلة جامعة الملك سعود، 16. كلية التربية، جامعة الملك سعود، الرياض، السعودية.
عبد المؤمن، علي معمر. (2008). مناهج البحث في العلوم الاجتماعية الأساسيات والتقنيات والأساليب. المجموعة العربية للتدريب والنشر، القاهرة، مصر.
القاضي، محمد يوسف. (2015). السلوك التنظيمي. الأكاديميون للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن.
الكسباني، محمد. (2008). نماذج وتطبيقات في العلوم والرياضيات واللغة العربية والدراسات الاجتماعية. دار الفكر العربي، القاهرة، مصر.
وايمر، ماريلين. (2017). التدريس المتمركز حول المتعلم. ترجمة رشا الدخاخني. مؤسسة هنداوي، القاهرة، مصر.
ثانيًا: الأجنبية
Abū Zāid, Amat al-Karῑm Ṭāhā. (2003). The effect of prior knowledge and scientific reasoning on achievement and science processes using the constructivist learning model (in Arabic). Cairo, ꜤAin Shams University.
Al-Kasbānῑ, Muḥammad. (2008). Models and applications in science, mathematics, Arabic language and social studies (in Arabic). Dār al-Fikr al_ꜤArabῑ, Cairo, Egypt.
Al-Qāḍῑ, Muḥammad Yusuf. (2015). Organizational Behavior (in Arabic). Academics for Publishing and Distribution, ꜤAmmān, Jordan.
Al-Saleem, Malāk Muḥammad. (2004). The effectiveness of a proposed model for constructivist education in developing the constructivist teaching practices of science teachers and its impact on modifying alternative perceptions of the concepts of chemical and biochemical changes among first-grade intermediate students in Riyādh (in Arabic). King Saūd University Journal, vol. 16. College of Education, King Saūd University, Riyādh, KSA.
Attard, A. (2010). Student-Centred Learning, Toolkit for students, staff and higher education institutions, Brussels, European Students’ Union.
Bakkār, Nādiā Aḥmed & Al-Bassām, Munῑrā Muḥammad. (2004). The teacher as a developer of textbook content, a study between reality and development from the constructivists' perspective (in Arabic). The Arabian Gulf Message Journal, Riyādh: Education Office for the Arab Gulf States, No. 91.
Biggs, J., & Tang, C. (2011). Teaching for Quality Learning at University. 4th edition, McGraw-Hill, Open University Press.
Colin, L., Simon L., & Åsa L. (2021). Reclaiming Constructive Alignment. European Journal of Higher Education, 11(2).
Ditzier, M. A., & Ricci, R. W. (1994). Discovery chemistry: Balancing creativity and structure. Journal of Chemical Education, 71(8), 685–688.
Duffy, T. M., & Raymer, P. L. (2010). A practical guide and a constructivist rationale for inquiry-based learning. Educational Technology, July-August.
Ecclestone, K. (1994). Democratic values and purposes: The overlooked challenge of competence. Journal of Educational Studies, 20 (2), 55– 66.
Fosnot, C. T. (ed.). (1996). Constructivism: Theory, perspectives, and practice. New York: Teachers College Press.
Harden, R. M. (2002). Developments in outcome-based education // Medical Teacher, 24, pp. 7–20.
Hattie, J. (2009). The Black Box of tertiary assessment: An impending revolution. in L.H. Meyer, S. Davidson, H. Anderson et al. (eds) Tertiary assessment and higher education student outcomes: Policy, practice and research. Wellington, New Zealand: Ako Aotearoa, 2009b.
Hussey, T. & Smith, P. (2002). The Trouble with learning Rezultatai // Active Learning in Higher Education, 3, 220–233.
Kirschner, P. A., John S., & Richard E. C. (2006). Why minimal guidance during instruction does not work: An analysis of the failure of constructivist, discovery, problem based, experiential, and inquiry-based teaching. Educational Psychologist, 41(2), 75–86.
Mercer, C. (1994). Implications of constructivism for teaching math to students with moderate to mild disabilities. The Journal of Special Education, 28(3).
Rees, C. E. (2004). The Problem with outcomes-based curricula in medical education: Insights from educational theory. Medical Education, 38, 593–598.
Shuell, T.J. (1986). Cognitive conceptions of learning: Review of educational research. vol. 56, 411–36.
Stage, F. K., Muller, P. A., Kinzie, J., & Simmons, A. (1998). Creating learner centered classrooms: What does learning theory have to say?. ASHEERIC Higher Education Report No. 4. Washington, DC: ERIC Clearinghouse on Higher Education and the Association for the Study of Higher Education.
Stenhouse, L. (1986). An introduction to curriculum research and development. Heinemann, London, UK.
Taylor, K. L., & Sandra K. Z. (2015). Demonstrating the impact of educational development: The case of a course design collaborative. Studies in Educational Evaluation, vol. 46, September, 39-46.
Vygotsky, L, S. (1987). The Collected Works of L. S. Vygotsky. Problems of General Psychology, 1. Plenum, New York, USA.
Walsh, A. (2007). An exploration of Biggs, constructive alignment in the context of work-based learning. Assessment & Evaluation in Higher Education, 32(1).
Weimer, M. (2017). Learner-Centered teaching (in Arabic). translated by Rashā Al-Dakhākhny, Cairo, Hendāwy Foundation.
Zaytoun, Ḥāssan & Zeitoun, Kāmāl ꜤAbd al-Ḥamῑd. (2003). Learning and teaching from the perspective of Constructivist Theory (in Arabic). ꜤĀlam Al-Kutub, Cairo, Egypt.
ꜤAbd Al-Momen, ꜤAlῑ MuꜤammar. (2008). Research methods in social sciences fundamentals, techniques, and methods (in Arabic). Arab Group for Training and Publishing, Cairo, Egypt.
تاريخ
التسليم: 1/2/2022
تاريخ استلام النسخة المعدلة: 24/2/2022
تاريخ القبول: 28/2/2022