أنســــــــاق
في الآداب والعلوم الإنسانية
تاريخ الاستلام: 7 ديسمبر 2024 تاريخ التحكيم: 12 يناير 2025 تاريخ القبول: 8 أبريل 2025
التصنيفُ السرديُّ لمقامات الهمذاني
هادي شعلان البطحاويّ
أستاذ النقد الأدبي الحديث والسرديات، كلية الآداب، جامعة ذي قار–العراق
hadishaalan@utq.edu.iq
https://orcid.org/0009-0007-0090-0892
يهدف البحثُ إلى الكشف عن طبيعة البناء السرديّ الذي يتوارى خلف مقامات الهمذانيّ، من خلال عدد من التصنيفات السرديَّة التي صاغتْ نصَّه، وقد وجد البحثُ أنَّها ثلاث تصنيفات: التصنيفُ الأوَّليّ في أنَّ النصوص تتوزَّع بين الحكائية وشبه الحكائية وغير الحكائية. فيما يميز التصنيفُ الثانويُّ، الذي يتتبع مستوى تعقيد المقامة، بين التي حَوَتْ حكايةً واحدةً وبين التي حوتْ أكثرَ من حكاية. أما التصنيفُ الثالثُ الكيفيُّ فقد تقصّى أهمَّ الدلالاتِ والموضوعاتِ السرديَّة التي شُغلتْ بها المقاماتُ، وفي مقدمتها الوصفُ وما شمله من موضوعات.
لقد اتبع البحثُ منها سرديّا حاول أن يجعله مناسبًا للنصّ التراثي، مقدّما الوفاء للنصّ على الوفاء للنظرية، وهو في ذلك ينطلق من سؤالٍ مركزيٍّ: ما مستوى التعقيد الفني في الحكاية العربيَّة، وكيف صاغتْ المقاماتُ حبكتَها وشخصياتِها وما فيها من عمق درامي؟ وما يتفرَّع عن ذلك من أسئلةٍ شكَّلت عمادَ البحث ومادتَه. وكان من نتائج البحث أنَّ المقامات نصٌّ على قدر من التعقيد يجعله محلَّا لدراسةٍ نقديةٍ تبرزُ ذلك بشكلٍ جليٍّ، وهو ما يعتقد البحثُ أنَّ أصالته تكمن في المبادر إليه.
الكلمات المفتاحية: الهمذانيّ، المقامات، الحكائيّة، الوحدات، الوصف، السخرية
للاقتباس: البطحاوي، هادي شعلان. »التصنيفُ السرديُّ لمقامات الهمذاني». مجلة أنساق في الآداب والعلوم الإنسانية، المجلد التاسع، العدد 1، 2025. https://doi.org/10.29117/Ansaq.2025.0220
© 2025، البطحاوي، الجهة المرخص لها: كلية الآداب والعلوم الإنسانية، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وتنبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0
Ansaq
in Arts and Humanities
Received: 07 December 2025 Peer-reviewed: 12 January 2025 Accepted: 08 April 2025
The Narrative Classification of Al-Hamadhānī's Maqāmāt
Hadi Shaalan Al-bathawi
Professor of Modern Literary Criticism and Narratives, Faculty of Arts, University of Thi-Qar–Iraq
https://orcid.org/0009-0007-0090-0892
The research aims to reveal the nature of the narrative structure that hides behind the Maqamat al-Hamadani, through a number of narrative classifications that formulated his text, and the research found that they are three classifications: the initial classification in that the texts are distributed between: anecdotal, semi-anecdotal and non-anecdotal. The secondary classification, which tracks the level of complexity of the plot, distinguishes between one whale tale and more than one whale tale. As for the third qualitative classification, it investigated the most important semantics and narrative topics with which the premises were occupied, foremost of which was the description and its topics.
The research followed a narrative approach that tried to make it suitable for the heritage text, introducing the fulfillment of the text over the fulfillment of the theory, and in doing so, it proceeds from a central question: What is the level of artistic complexity in the Arabic Tale, and how the Maqamat formulated its plot and characters and the dramatic depth The questions that follow from this formed the basis of the research and its material. One of the results of the research was that the Maqamat text has a degree of complexity that makes it the subject of a critical study that highlights this clearly, which the research believes that its originality lies in the initiator.
Keywords: Al-Hamadhānī; The Maqāmāt; Narrativity; Units; Description; Irony
Cite this article as: Al-bathawi, H.S. "The Narrative Classification of Al-Hamadhānī's Maqāmāt". Ansaq in Arts and Humanities, Vol. 9, No. 9, 2025, https://doi.org/10.29117/Ansaq.2025.0220
© 2025, Al-bathawi, H.S, licensee, College of Arts and Sciences & QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0
يحاول البحث أن يتجنب إسقاط أيّ شكل فنّيّ على بناء المقامة العربيَّة، وعوضا عن ذلك يجتهد في أن يستنطق المقامات نفسها من أجل أن يكشف عن أنماطها البنائيَّة. ليس من المجدي حشر النصوص التراثيَّة في أي نظريَّة حديثة؛ بسبب التفاوت الكبير بين نمط النصّ التراثي ونمط النصّ الحديث. لا تمثّل أعمال الكتَّاب المحدثين، الذين استخلصتْ النظريات الحديثة منها، سبيلا لاستكشاف نصوص الكتَّاب القدامى. إذا لم يكن الهمذانيّ قد صرَّح بالأسلوب السرديّ الذي اعتمده في بناء مقاماته، فالمقامات نفسها تكفي للإفصاح عن ذلك.
من المهمّ، في مثل هذه المهمَّة، وضع النظرية الحديثة بين قوسين أو تناسيها عند مواجهة النصّ التراثي؛ لأنَّ هذه النظرية قد تكون حائلا بين الناقد والنصّ، حين تشترط ما ليس فيه، فيبدو النصُّ فقيرا في ضوئها. لا يعني هذا أنَّ العدَّة النظريَّة غير ضروريَّة، غير أنَّنا يمكن أن نميّز بين ما هو ضروري للناقد وما هو ضروري للنصّ المدروس. النظريَّة مهمَّة للناقد، لكنَّها ليست كذلك للنصّ. يتيح هذا التناسي النظرَ بعين النصّ نفسه لا بعيون غريبة عنه.
يتجنَّب البحثُ أيضا، لإتمام هذه المهمَّة النصيَّة، السياقَ التاريخيّ للمقامات، كما يبتعد عن النصوص المؤثّرة التي مهَّدتْ لها. قضايا النشأة والتطور والجذور المؤسّسة وعلاقات التأثُّر ليست المسؤولة عمَّا يمكن أن ننتهي إليه من تصنيفات سرديَّة ذات طبيعة تزامنيّة وليست زمنيَّة. لقد عرفتْ القضايا التاريخيَّة عددا من الدراسات المهمَّة التي توسَّعتْ في الكشف عن تلك الجذور، كما في دراسة زكي مبارك (مبارك 200-202) التي فتحتْ بابا واسعا لردود مختلفة، بين من يتابعه في عدّ أحاديث ابن دريد نصوصا مؤسّسة وبين من يرفض ذلك.
لم تكن قضية التصنيف شاغلا من شواغل الدراسات الأولى التي عرضتْ للمقامة؛ لأنَّها كانت منصرفةً إلى قضايا ذات أهمّيَّة في التأسيس لهذا الجنس الأدبي، فكانت تغلب عليها موضوعاتٌ ذات طبيعة تاريخيَّة. التمييز الذي يمكن أن نظفر به هو أنَّ عددا منها فرَّق بين النصوص القصصية وبين غيرها (الشكعة 390؛ مرتاض 477). من دون أن تكون هنالك محدّدات واضحة تتدرَّج على أساسها مقامات أيّ مؤلّفٍ. التصنيف الذي نطالعه جاء في دراسات متأخّرة، هي دراسة عبد الله إبراهيم الذي ميَّز بين أربع طبقات ابتداءً من القرن الثالث وانتهاءً بالقرن السادس. يأتي النوري الصوفيّ وغيره في الطبقة الأولى أو المرحلة الأولى، وفي الثانية يقع الهمذانيّ وغيره، وفي الثالثة ابن بطلان وابن ناقيا، ثمَّ يأتي الغزالي والحريريّ والزمخشريّ في الرابعة (إبراهيم 183). وهو تصنيف يغلب عليه الطابع التاريخي؛ إذ يتتبَّع المراحل التي تطوَّرت فيها المقامةُ. كما أنَّه لا يميّز بين ما هو سرديٌّ في المقامات وما هو وعظيٌّ، فجعل الحريريَّ والغزاليَّ والزمخشريَّ في طبقة واحدة. وهناك من ميَّز بين نوعين من السرد في القرن الرابع: السرد الشفاهي والسرد النصي (جمعة 42-43). وهذا تصنيف بعيد عما ننشده؛ لأنَّه يوسع الدائرة ولا يضيقها، فما نريده هو أن نعاين تنويعا من داخل المقامات لا من خارجها. وبالجملة فإن الدراسات السابقة، على قلتها في هذا الصدد، لم تضع مقامات الهمذانيّ نصبها وتعاين محتواها السرديّ، فتضع ما يناسبه من تصورات أو تقسيمات تميّز بين شكل وآخر، وهو ما حاول البحث أن يتداركه، وينظر إليها بعين سرديَّة تسعى إلى أن تقترب من هذا النصّ فتميّز بين ما كان سرديًا وما لم يكن كذلك، إضافة الى تصنيفات أخرى تتصل بذلك ولم تكن موضع عناية الدراسات السابقة.
يجد المتابعُ تفاوتا في التلقِّي النقديّ للمقامات؛ منشؤه الاختلافُ بين من عدَّها نصوصا تعليميَّة، مفسِّرا في ضوء ذلك كلَّ ما جاء فيها (ضيف 250)، أو أنكر عليها الطابع القصصي، وقف عندها الدارسون (كاظم 178)، إذ خرجوا عنها بصورة سلبية. لا يختلف هنا موقف النقَّاد كأحمد حسن الزيات ومحمَّد يوسف نجم (الزيَّات 398؛ نجم 230)، والأدباء كمحمود تيمور (كاظم 366)[1]. وبين من دفعه هذا الموقفُ المتطرفُ إلى تطرف آخر، افترض في المقامات قصصا فنّيَّه تامَّة، يسمّيها زكي مبارك القصص القصير (مبارك 204)، تمييزًا لها عن القصص المعقَّد الذي عرفه اليونان، ويسمِّيها مرتاض أقاصيص (مرتاض 500). لكنَّ هذا التطرُّف لم يمنع من ظهور مواقف معتدلة تلتقط النصوص القصصية، وتدلُّ على خلوّ غيرها (الشكعة 390؛ عبُّود 37؛ الغانميّ 278). لكن تبقى ظلال آثار الوصاية السرديَّة للقصَّة والرواية واضحة في هذه المواقف جميعا. المشكلة هنا في إزاحة المقامة إزاحة تاريخيَّة وثقافيَّة ووضعها إلى جانب القصَّة والرواية لتستمد منهما شرعيَّة سرديَّة تتقوى بقدر ما تقترب منهما، لا بقدر ما تؤسّس لنفسها ضمن سياقها التاريخي والثقافي. إنَّ الموقف من قصصيّة المقامات سواء المؤيّد أو الرافض، ليس صحيحا، كما أنَّه ليس خاطئا؛ لأنَّ فيها ما يسمح بأيٍّ من الحُكمين (القبول والرفض)، بنحو جزئي لا كلّيّ. ولذلك، تتطلب المعالجة الموضوعيَّة النظرَ إلى كلّ الأجزاء على اختلافها لتمييز بعضها عن بعض.
تنقسم مقامات البديع، وفق أساس سرديّ، إلى ثلاثة أنواع: مقامات حكائيَّة، ومقامات شبه حكائيَّة، ومقامات غير حكائيَّة.
المقامات الحكائيَّة هي التي تعرض لحادثة واحدة في الغالب، وتنتهي بانتهاء الموقف. أي أنَّها هي الحكاية التي تتوفَّر على حبكة. وهذا يجعل منها ذات حكاية تامَّة، بما تشتمل عليه من عناصر الشخصيَّة والزمان والمكان والحدث المتطور. والنصوص في هذا النوع ليستْ كثيرة؛ إذ لا تتجاوز أربع عشرة مقامة: (الأسديَّة، الأصفهانيَّة، البغداذية، الموصليَّة، المَضِيريَّة، المجاعيَّة، الرصافيَّة، الحُلوانيَّة، النهيديَّة، الأرمنيَّة، الصيمريَّة، البِشريّة). وهذه المقامات لا ترد متتابعة، إنَّما تتفرَّق بين مجموع النصوص المقامية، ابتداءً من السادسة (الأسديَّة) وانتهاءً بالأخيرة (البِشريَّة).
تتميَّز (المَضِيريَّة) عن كلّ مقامات البديع بجودتها الفنّيّة التي جعلتها محلَّ اتفاق بين الدارسين، على أنَّها أهمّ واحدة على المستوى السرديّ، كما يرشح عن هذا الإجماع (الشكعة 374-381؛ نجم 230؛ عبَّود 37؛ مرتاض 297-306؛ حسن 28؛ دوجلاس 103؛ بكر 186-190؛ صمُّود، 37-54 وغيرهم).
لقد حشد البديعُ في (المضِيريَّة) كلَّ الأدوات الفنّية التي استعملها متفرِّقة في غيرها، وهذا ما جعل منها حكايةً على درجة من التعقيد والتوالد. كلُّ ذلك قائم على أساس ما يمكن أن نسمِّيه حكاية التداعي، التي تتوالد فيها الأحداثُ والحكاياتُ الجانبية؛ بسببٍ من ثرثرة التاجر. إنَّ الوقوف على هذا القدر من التعقيد يدفعُنا إلى وضع مخطَّطٍ يُمكِّن من معاينة بناء هذه المقامة مرةً واحدةً، وإن بشكل تجريدي، لكنَّه مهمٌّ لما سيعقبه من تحليل لاحق.
تنطوي المقامة على حكايتين: الحكاية الإطار والحكاية الداخليَّة. من المهم أن نميّز فيهما بين الوحدات الحدثيَّة والوحدات الوصفيَّة. تنطوي كلُّ حكاية على كيان حدثي ثلاثي الأجزاء، نجده في القصَّة الإطار من خلال: حضور دعوة الطعام، وتقديم المضيرة ورفعها بسبب الإسكندريّ، ثمَّ تفسير السبب الذي دعاه إلى تحريمها على نفسه. عند هذا الحدّ تقف القصَّةُ الإطار، وتكون الوحدةُ الثالثة سببا للدخول في القصَّة الداخليَّة التي تتكوَّن من الوحدات التالية: دعوة التاجر لتناول المضيريَّة، الذهاب معه إلى بيته، ثمَّ الهروب وما تبعه من سجنٍ لعامين. وتُختم المقامةُ بالعودة إلى القصَّة الإطار، حيث يتمُّ تأكيد سبب الامتناع عن تناولها. وهذا لا يمثِّل وحدةً حدثيَّةً؛ إذ لا يضيف جديدًا على هذا المستوى أكثر من تأكيد الوحدة الثالثة في القصَّة الإطار. لكنَّ أهمّيته تعود إلى قطع القصَّة الداخليَّة التي ترجع إلى زمن ماضٍ، والعودة الى الزمن الحاضر؛ لتحقيق شيء من التناظر السردي بين الاستهلال والختام:
|
الشكل (1): الوحدات الحدثية.
إنَّ هذا الشكل كثيرًا ما اعتمده السردُ الحديث، وكذلك السينما. فالتفكير في بناء نصٍّ يقوم على هذا الشكل يعدُّ مؤشرا على مستوى الوعي السرديّ الذي كان البديع يتمتَّع به. وما يؤكد ذلك أنَّ هذا التناظر كان قد ظهر في أكثر من مقامة أخرى، كما في (الأسديَّة) التي تبدأ برغبة لقاء الإسكندري وتنتهي باللقاء، وبينهما مجموعةُ حوادث. وكذلك في (البغداديَّة) التي تبدأ بمشهد يظهر فيه سواديٌّ يسوقُ حمارَه، وتنتهي بذلك أيضا. أما (المارستانيَّة) فتبدأ بدخول المارستان وتنتهي بالخروج منه، وغيرها. ولم يكن هذا التنظيم عفويَّا أو غيرَ مقصود.
الوحـــــــــــــــــدات الوصفــــــــــــــية |
|||||||||||
1. الزوجة |
2. الدار |
3. شراء اللؤلؤ |
4. الحصير |
5. الغلام |
6. الإبريق |
7. المنديل |
8. الخوان |
|
|
|
9. الكنيف |
|
2-1 النجار |
|
|
1. الخبز والقمح |
2. الأواني |
3. 3 الخلُّ والبقل |
|
||||
2-2 الطرائفي |
|
||||||||||
2-3 محتوياتها |
|||||||||||
2-4 شراؤها |
2-4-1حكاية الجار |
2-4-2الاحتيال لشرائها |
الشكل (2): توزيع الوحدات الوصفيَّة.
في المقابل، ما تمكن تسميته بالوحدات الوصفيَّة التي تتماشى، بقدر من التنظيم، مع الوحدات الحدثيَّة في القصَّة الداخليَّة. وتُشكِّل الوحداتُ الوصفيَّة ظاهرةً في هذه القصَّة. وهي السبب في الطول النسبيّ لهذه المقامة، لكنَّ ذلك لا يعني أنَّها غير موجودة في القصَّة الإطار، إلا أنَّ وجودها محدودٌ ولا يتسبَّب في إطالتها؛ لذلك نجد أنَّ الحكاية الإطار تتكوَّن من وحدات حدثيَّة تنفتح بها على الحكاية الداخليَّة، التي تتكوَّن من نوعين من الوحدات: الحدثيَّة والوصفيَّة
تتولى الوحدةُ الوصفيَّة القيام بوصف شخصٍ أو شيءٍ من أجل إدماجه في الحكاية. تتجمع الوحداتُ الوصفيَّة في الوحدة الحدثيَّة الثانية، بالنسبة للحكاية الداخليَّة (الذهاب مع التاجر إلى داره)، وتنتهي بنهاية هذه الوحدة. وهنا قبل أن ندخل فيما تنقسم إليه من وحدات جانبيَّة وما يتضمَّنه بعضُها من تقسيم فرعي آخر، لا بدَّ أن نشير الى أنَّ الوحدات الوصفيَّة، على مستوى التبئير، تنقسم إلى قسمين: الوصف من منظور التاجر الذي يستأثر بأكثرها، والوصف من منظور الإسكندريّ. وأهميَّة الفرق لا تعود إلى اختلاف المنظور بين هذا وذاك، وإنَّما إلى وصف فِعلي يقوم به التاجرُ وهو يواصل ثرثرته، أو كما تقول فدوة دوجلاس: «إنَّ التاجر وليس محاوره هو الذي يُملي اتجاه الحديث إلى حدّ وضع الأسئلة في فم ضيفه» (دوجلاس 116). الاستطراد المتواصل من التاجر يدفع الإسكندريَّ إلى أن يُكمل ما لم يذكره مضيِّفُه على نحو الافتراض، فينطلق في وصف أشياء أخرى تتَّصل بالمأدبة الموعودة.
يشرع التاجر في وصف زوجته في الوحدة الحدثيَّة الثانية، ثمَّ ينتقلُ إلى وصف الدار، يستهله بالحديث عن المحلَّة ومكانتها في بغداد. ثمَّ يتفرَّعُ الحديثُ في هذه الوحدة إلى وحدات متفرِّعة عنها، وهي وصف النجَّار الذي صنع بابَ الدار، ثم وصف الطرائفيّ الذي صنع حلقة الباب. بعد ذلك يدخل الدارَ، فيمتدحُ حيطانها وبنيانها ومعارجها (السلالم). ثمَّ يقصُّ حكاية شرائِها من ذلك الجار الذي كان يملكها. وحين مات خاف التاجرُ أن يضيّعها ورثتُه في اللهو؛ فاحتال في بيع أحدهم قماشا نسيئةً، حتَّى كثُرتْ عليه الديونُ، فاقتضاه، وحين لم يكن معه مالٌ اضطرَّ الوارثُ إلى التنازل عن الدار مقابل إسقاط تلك الديون.
تتفرَّعُ الوحدة الأخيرة من وحدات الدار إلى وحدتين جديدتين: حكاية الجار، والاحتيال لشراء الدار. ثمَّ يواصل الانتقالَ إلى وحدات أخرى: شراء عقد اللؤلؤ، الحصير، الغلام، الإبريق، المنديل، الخوان. عند نهاية هذه الوحدة التي تصف الخوانَ يتوقف التاجر، ليواصل الإسكندريُّ وصفَ أشياء تتصل بالمائدة على نحو الافتراض: وصف الخبز والحنطة، والخبَّاز، الأواني التي توضع فيها المضيريَّةُ، والخلُّ والبقل. يعاود بعد ذلك التاجرُ ثرثرته، ليصل به المطافُ إلى وصف الكنيف، وأنَّ الأكل فيه خيرٌ من بيت الوزير. يؤذن ذلك بنهاية الوحدات الوصفيَّة؛ لأنَّ وصف الكنيف دفع الإسكندريَّ إلى الهرب. لم يكن تأخير وصف الكنيف اعتباطيَّا، إنَّما تُرك آخرا حتَّى يُؤذن بالانتقال إلى وحدةٍ حدثيَّةٍ جديدةٍ (الهرب) وما يتَّصل بها، حين رمى حجرا فأصاب رجلا مارَّا، بعد أن تراكض خلفه الأطفالُ وهم يصيحون، فأراد أن يفرِّقهم برمي الحجر، فقضى بسببه عامين في السجن. بعد ذلك، تنتهي الحكايةُ الداخليَّة، فتُطلُّ الحكايةُ الإطارُ: «فنذرتُ أن لا آكلَ مَضِيرةً ما عِشتُ. فهل أنا في ذا يا آل همذان ظالم» (الهمذانيّ 136). لكنَّ ما يلفت في هذا الختام أنَّه وجَّه الحديثَ فيه لأهل همدان، مع أنَّه في مستهلّ الحكاية كان في البصرة!
في الختام، لا بدّ أن نشير إلى أمرين: الأول أنَّ هذه المقامة خلتْ من الشعر تماما، وهي في هذا تصطفُّ إلى جانب عدد قليل من المقامات: (النهيديَّة، الشيرازيَّة، السجستانيَّة، الصيمريَّة، الديناريَّة). وهذا يعزز ما نذهبُ إليه من أنَّ العلاقة عكسيَّة بين المكوِّن الشعريّ والمكوِّن السرديّ، وأنَّ الصراع بينهما ظلَّ مستمرا من واحدة إلى أخرى. يؤكّد ذلك أنَّ مرحلة البديع هي مرحلة انتقاليَّة، إذ أنَّها حين أسَّستْ لجنس جديد (المقامة) عَلق فيها شيءٌ غيرُ قليل من الميراث الشعريّ الموغل في الوجدان العربيّ. فكان التجاذبُ واضحا، يظهر كثيرا ويختفي قليلا. ولا سببَ لاختفائه إلا امتلاءُ الحكاية بتفاصيلها (مجموعة الوحدات الحدثيَّة والوصفيَّة). الأمر الآخر: أنَّها أطول مقامة عند الهمذانيّ؛ إذ بلغتْ (1273) كلمة.
اعتمد البديعُ في بناء (المضيريَّة) على شكلٍ من التناظر السرديّ، وأعاد توظيفه في (الأرمنيَّة) وفي غيرها. يعود عيسى بن هشام قافلا من تجارة إلى أرمينيا، وفي عرض الصحراء يخرج عليهم قطَّاعُ الطرق، فيسلبون كلَّ ما عليهم، حتَّى إذا أصبح الصباح لم يجدوا شيئا بقي لهم. مكثوا يوما في أيدي اللصوص، وحين تركوهم ليلا ساروا حتَّى الفجر. وكان مع ابن هشام الشابُّ الإسكندريُّ. قصدا قريةً ليحصلوا على رغيف من الخبز. وهنا يحتال الإسكندريُّ على الخبَّاز، فيأخذ بعضا من الأرغفة. ثمَّ يفعل الأمر نفسه مع اللبَّان فيحصل منه على وعاءٍ من اللبن. سارا بعدها إلى قريةٍ أخرى يستطعمان أهلها، فجاءهما فتى بصحيفةٍ ممتلئةٍ لبنا، وحين سألاهم الخبز أبَوا عليهم. فسألهم الإسكندريُّ: لماذا تجودون باللبن وتمنعون الخبزَ، فقال الغلام: إنَّ هذا اللبن وقعتْ فيه فأرةٌ، فنحن نتصدَّق به على السيَّارة، فأخذ الإسكندريُّ الصحيفة فكسرها، ثمَّ انقلبتْ معدتاهما ونفضا ما أكلاه. وقال ابن هشام: «هذا جزاء ما بالأمس فعلناه» (الهمذانيّ 216).
يمكن تقسيم الحكاية هنا إلى ثلاث وحدات حدثيَّة: الأولى انطلاق القافلة ثمَّ تعرُّضها للسلب. الثانية قصدهما القريةَ الأولى طلبا للزاد، الثالثة دخول القرية الأخرى. ويمكن أن تكون الوحدة الأولى سببا للثانية، لكنَّ الثانية ليستْ سببا للثالثة. إلا أنه يمكن أيضا أن تكون الأولى سببا للثالثة، كما يمكن أن تمتدَّ سببيَّةُِ الوحدة الأولى من الثانية إلى الثالثة:
الشكل (3): تناظر الوحدات.
كثيرًا ما تنتهي المقامات بالظفر الذي يكون مناظرا ونتيجة للسفر الذي تنطلق به الأحداث في أول المقامة إلا أن المقامة المضيرية تأخذ منحى آخر، إذ تبدأ بخيبةٍ (السلب) وتنتهي بخيبةٍ أخرى (إفراغ المعدة). يمكن أن يكون طرفا حكاية الخيبة الوحدتين الأولى والثالثة. ولا تقف الحكاية عند هذا التناظر، فثمَّة تناظر آخر بين الوحدتين الثانية والثالثة، مؤدَّاه الفوزُ بالثانية والخسارةُ بالثالثة. وإذا كانتْ العلاقة السببيَّةُ معدومةً بينهما، فإنَّ علاقةً أخرى تسوّغ هذا التجاور، هي علاقة التناظر التي تؤدّي إلى تقابل بينهما. تبدو الوحدة الثالثة نقطة الارتكاز في التناظرين، لأنَّها حاضرةٌ فيهما معا، خلافا للأولى والثانية، إذ تحضر في كلِّ تناظرٍ واحدةٌ منهما. حركة التنظيم التناظريّ معاكسة لحركة التنظيم السببيّ، فالأخيرة تتحرك من اليمين إلى اليسار، والأولى تتحرك من اليسار إلى اليمين. وهذا ما يمنح الحكايةَ قدرا من التعقيد البنائي الذي يستحقُّ الالتفاتَ إليه.
لا بدَّ للمقامة، حتَّى تحقّق حكايتها، من شيء من التطويق الذي يُحيلها إلى وحدة تامَّة. ويُنتج هذا التطويق الحدثيّ حبكة معقَّدة من ثلاث وحدات أو أكثر، أو ثلاث وحدات تتفرَّع منها وحداتٌ أخرى، كما مرَّ معنا في (المضيريَّة)، أو حبكة بسيطة تتكوَّن من وحدتين. لا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ وحدة الشكل السرديّ تتطلَّب، من حيث المبدأ، ثلاث وحدات: بداية ووسط ونهاية، بينما الشكل البسيط، (ثنائي الوحدات) وليس المعقَّد (ثلاثي الوحدات) يحقّق وحدتَه السرديَّةَ من خلال وجود الوحدة الأولى والوحدة الثالثة، أي الابتداء والانتهاء، مع إمكانية الاستغناء عن الوحدة الوسطى. إنَّ الحبكة المعقَّدة أكثر ثراءً من الحبكة البسيطة، فهي أكثر تشويقا وجذبا. لكنَّ المهارة السرديَّة قادرةٌ على تحويل الحبكة البسيطة إلى وحدةٍ سرديَّةٍ تامَّةٍ. وهذا كثيرا ما يفعله السردُ الحديثُ. وقد حقَّقتْ مقامات البديع مثلَ ذلك كما مرَّ في (الأرمنيَّة)، وكذلك جاءتْ (الناجميَّة) على وحدتين، الأولى والثالثة: السفر ولقاء جماعة على حالٍ من الفقر، ثمَّ العودة إليهم بعد زمن من سفر آخر، في حالٍ من الغنى، فغياب أسباب الغنى فيها، يمثِّل غيابا للوحدة الثانية، وغيرهما.
يدلُّنا المثالان (المضيريَّة والأرمنيَّة) على أنَّ البديع اعتمد نوعين مختلفين من التحبيك في بناء حكايتيه. وفيه حقَّقتْ الحبكةُ المعقَّدةُ (ثلاثيَّة الوحدات) أهمَّ النجاحات الفنيَّة في (الأسديَّة، والمضيريَّة، والبغداديَّة، والبِشريَّة). ولم يكن هذا المعمار هو الوحيد، وإنَّما هناك تنظيم آخر وسَّع دائرة التحبيك عنده، سنقف عليه لاحقا.
تتحوَّل الجملة عند البديع إلى جملةٍ سرديَّةٍ، يوفِّر تلاحقُها انتقالاتٍ سريعةً من تفصيل إلى آخر، بلا تطويل أو إضافات فائضة عن الحاجة، بشكل يجعل نصَّها الكثيف يلمّح ولا يفصّل في أحيان كثيرة. التناسب واضحٌ بين قصر نصّ المقامة وكثافة جمله. وإذا كانتْ المقامات لاحقا تُكثِر من عطف المتماثلات والمترادفات، كما نجد عند الحريريّ، مما يثقل النصَّ، فإنَّ جُمل البديع في الحكائيَّة تخلو من ذلك. يقول في (القريضيَّة): «طَرَحَتْني النَّوى مَطَارِحَهَا حتَّى إذا وَطِئتُ جُرجان الأقصى، فاسْتَظهرتُ على الأيَّام بضِيَاعٍ أجلْتُ فيها يدَ العِمارة وأموالٍ وَقَفْتُها على التِّجارة وحانُوتٍ جَعلتُه مَثَابةً ورُفْقَةٍ اتَّخذتُها صَحَابةً». أو قوله في (البغداديَّة): «مِن أينَ أقْبَلتَ، وأينَ نَزَلتَ، ومتى وافَيتَ؟ وهَلُمَّ إلى البيت» (الهمذانيّ 7 و17). من الواضح أنَّ العطف لا غنى عنه في استقصاء التفاصيل أو توالي الأحداث القصيرة. وهو في أقصاه لا يزيد على أربع جُمل تصل بينها حروفُ العطف. لم يتم توظيف الجُمل القصيرة هنا بدواعٍ شعريَّة، كما ستجري العادة بعده، إنَّما هي جُملٌ سرديَّة، لما فيها من إيجاز وتكثيف، حتَّى أنَّنا لا نغالي إذا قلنا إنَّ كثافة اللغة هنا تتفوَّق على كثافة اللغة في القصَّة الحديثة.
هي المقامات التي حوتْ حكايتُها وحدتين فقط هما الأولى والثانية، وسقطتْ عنها الوحدة الثالثة. نجد هذا النوع في إحدى عشرة مقامة: (الكوفيَّة، والغيلانيَّة، والأهوازيَّة، والجاحظيَّة، والمكفوفيَّة، والحرزيَّة، والمارستانيَّة، والشيرازيَّة، والإبليسيَّة، والناجميَّة، والمطلبيَّة). وفي هذا النوع هناك خرمٌ في الحكاية يؤدي إلى إسقاط جزء منها بالبتر أو الحذف أو القفز إلى ما بعده.
يقرّر ابن هشام في (الحِرزيَّة) العودةَ والرضا من الغنيمة بالإياب، فتكون عودتُه في سفينة، ويمكن عدُّ هذا الجزء الوحدة الأولى. بعد ذلك، تتعرَّض السفينة لعاصفة وخطر، وتهطل الأمطار بغزارة، فيجد الركاب أنفسهم في قبضة الخطر، ويهددهم الموت. لكنَّ رجلا قويَّ الفؤاد بينهم لم ينكسر مثلهم، فسألوه عن سرِّ ثباته، فقال: «حرزٌ لا يغرقُ صاحبُه». وعرض عليهم أن يصنع لكلِّ واحد منهم حرزا مثله، على أن يعطيه كلٌّ منهم دينارا عند الاتفاق، ودينارا آخر حين الوصول، فوافقوا: «فلمَّا سلمتْ السفينةُ وأحلَّتْنا المدينةُ اقتضى الناسَ ما وعدوه، فنقدُوهُ». عند هذه الجملة تنتهي رحلة السفينة وتنتهي معها المخاطر بالوصول.
من المحتمل أن تأخذ الحكايةُ أحد مسارين: إمَّا أن يكون صعود الحدث إلى الذروة ثمَّ الهبوط قد تمَّ في السفينة، فتتحقَّق بذلك الوحدات الثلاث. أو يكون الهبوط أو الحدث النازل بعد الوصول إلى المدينة مكملا للحوار القصير الذي دار بين ابن هشام والإسكندريّ. لكنَّ الحكاية لا تحقِّق أيَّا من هذين المسارين، إذ ينتهي الصعود فجأة: «فلما سلمت السفينة». لقد تمَّتْ مقابلة تفصيل نسق الصعود، بإيجاز نسق الهبوط المبهم، في الاحتمال الأول. وفي الاحتمال الآخر لم يحدث شيء بين الشخصيَّتين أبعد من استعادة ما حدث في الصعود: «كيف نصرك الصبرُ وخذلنا». تغلق الحكايةُ الطريق أمام أيٍّ من الخيارين، مكتفية بلحظة الصعود المتوترة، فتخفق في تحقيق ختام سرديّ واضح.
في استهلال (الكوفيَّة) يعرض ابن هشام لمحاً لما كان عليه في شبابه، حين كان يشدُّ الرحال لكلّ رغبة، لكنَّه اليوم وقد علاه الشيبُ، جمع للمعاد ذيله وذهب لأداء الحجّ، يصحبه في طريق عودته كوفيٌّ، فيسيران حتَّى يحلّا بالكوفة، ويميلا إلى دار رفيقه. يطرق الباب سائلٌ. وهنا تنتقل المقامة من الشخصيتين، أو تطوي حكايتهما التي لم تكتمل، لتنشغل بخطبة ذلك السائل حتَّى ختامها. إذا افترضنا أنَّ ماضي الشباب لابن هشام هو الوحدة الأولى، والتكفير عن الذنب بأداء الحجّ ورفقة الكوفيّ هو الوحدة الثانية، فلا وجود للوحدة الثالثة بعد ذلك. وهكذا تنقل المقامة من حكاية غير تامَّة إلى حاشية حكاية أخرى تتمثَّل في سؤال الإسكندريّ، مما يجعلها مقامة شبه حكائيَّة.
تختلف (الناجميَّة) عن مثيلاتها في أنَّها تقوم على وحدتين: الأولى الفقر، ويتصل به استطرادٌ بيانيٌّ يشكو فيه الإسكندريُّ حاله. الوحدة الأخرى الغِنى، حيث إنَّه لم يرضَ أن يستقرَّ به مقامٌ حتَّى يصل الأميرَ خلف بن أحمد. وبعد ضيافته عنده، يعود الإسكندري وقد ظهرت عليه مظاهر الغنى، نتيجة صلته بذلك الأمير. في هذه الحكاية استهلال بالفقر وختام بالغنى، دون وجود تحوُّلٌ يمثّل ذروةَ الحبكة، لذلك فهي تفتقد الوحدة الثانية، التي تشدُّ إليها الوحدتين (الأولى والثالثة) معا لتكوِّنَ حكايةً تامَّةً. الفرق بين هذه والقمامات شبه الحكائية الأخرى أنَّها حوتْ الوحدتين الطرفيتين (الأولى والثالثة) أي الاستهلال والختام، فيما كانت العادة في الأخريات وجود الوحدتين الأولى والثانية.
يأتي التعرُّف في كثير من هذه المقامات ختاما. وهو يمكن أن يكون الوحدة الثالثة التي تتمُّ بها الحكايةُ، بعد أن كان التنكُّر جزءا من الوحدتين الأولى والثانية. التكرار المستمر له من واحدة إلى أخرى أفقده ما يجعله عنصرا أصيلا في كلّ واحدة؛ لأنَّه صار بعد أوَّل تكرار له عنصرا مفضوحا ومتوقَّعَ الورود ختاما. لا تكسر المقاماتُ أفقَ التوقُّع هذا، وإنَّما تعزّزه. إنَّ القارئ حين يستصحب الحالةَ السابقةَ التي طالعها، يدرك أنَّ المتنكّر أو الشخص الذي لم يتمّ التعرُّفُ عليه هو الإسكندريُّ نفسُهُ؛ لوجود مجموعة من الدلائل، في مقدمتها بيانه العالي واقتحامه مجالسَ الآخرين وتطوافه.
إنَّ التعرُّف حين يخسر امتيازَ المفاجأة، يخسر عضويَّته في الحكاية، ولا يكون وحدةً من وحداتها. لا تعني مجهوليَّةُ البطل في النصّ أنَّه مجهول عند القارئ. لذلك فإنَّ هناك تفاوتا واضحا بين ما يكون عليه الحالُ في النصّ، وما عليه القارئُ. إنَّ تحوّله من التنكّر إلى التعرُّف في الجزء الأخير من النصّ، يقابله تعرُّفٌ يساوق التنكُّرَ عند القارئ، فلا يكون القارئ منتظرا للوحدة الثالثة أو جزء النصّ الأخير ليتعرَّف عليه. أي أنَّ تعرُّف القارئ يسبق تعرُّفَ النصّ في كلّ تكرار. بالنتيجة نحن أمام ما أسميناه في مكان آخر بالمفارقة الشعريَّة، في مقابل المفارقة السرديَّة.
هي المقامات التي تحوي وحدةً حكائيَّةً واحدةً (الاستهلال) أو لا تحوي أيَّا منها. نشهد، في هذا النوع، غلبةَ النزعةِ البيانيَّة على ما سواها، ولا يكون الاستهلال السرديُّ إلَّا ذريعةً للدخول في استطراد بيانيّ يكون فيه الإسكندريُّ خطيبا. وتكاد تكون الغلبة لهذا النوع، إذ يشغل نصفَ عدد المقامات (26 مقامة)، فيما كانتْ الحكائيَّة وشبهُ الحكائيَّة تشغلان النصفَ الآخر. وهو أمرٌ لا غرابةَ فيه، حين نتذكر أنَّ البديع – وهو رائد الحكاية الأدبيَّة – لم يرث تراثا واسعا يمهِّد له الطريق، سوى ما يُروى، على نحوٍ من الظن، في أحاديث ابن دريد وغيره ( الحُصريّ 1/305)[2]. المقامات غير الحكائيَّة هي (القريضيَّة، الآزاذيَّة، البلخيَّة، الأذربيجانيَّة، الجُرجانيَّة، البصريَّة، الفزاريَّة، البُخاريَّة، القزوينيَّة، الساسانيَّة، القِرديَّة، الوَعظيَّة، العراقيَّة، الأسوديَّة، الحمدانيَّة، المِغزليَّة، الخَلفيَّة، النيسابوريَّة، العِلميَّة، الوصيَّة، الديناريَّة، الشِعريَّة، المُلوكيَّة، الصِفريَّة، الساريَّة، التميميَّة). كان البديع يقصد شيئا من التنويع بين الحكاية والأحاجي والخطابة وغيرها. لم يكن ذلك ضعفا في أدواته، فقد برزتْ بوضوح في (البغداديَّة، والمضيريَّة) وغيرهما، لكنَّ التنويع في الكتابة الإنشائيَّة كان من متطلبات ذلك العصر (كيليطو 74)؛ حتَّى لا تملّها الأسماع.
نطالع المقاماتِ الخمس الأولى المكتفية بالاستهلال السرديّ الذي يوفِّر سببا كافيا لما هو مألوف في الذائقة العربيَّة، وهو البيان. ليس هناك سوى رجل فصيح يخطب في قوم، فيأخذ بألبابهم وجيوبهم. لا يبدو هذا بعيدا عن قصديَّة تريد الابتداء بالمألوف، ثمَّ تنتقل منه إلى المختلف. أي من الشعر إلى السرد. لا نطالع مقامةً حكائيَّةً إلا في السادسة (الأسديَّة)، فما قبلها ليس كذلك. كأن قصديَّة التدرُّجِ من الشعر إلى السرد قد فرضتْ هذا التأخُّرَ. بعد ذلك تبدأ المناوبة بين ما هو حكائيٌّ وما هو شبه حكائيٍ وما هو غير حكائيٍّ. ويكون الختام بمقامةٍ حكائيَّةٍ (البِشريَّة).
المقاماتُ غير الحكائيَّة موضوعةٌ كلُّها ضمن إطارٍ حكائيّ، تُنتدبُ له شخصيَّتان، إلا في واحدة (الوصيَّة)، لكنَّها لا تخلو من شخصيَّتين إحداهما حاضرةٌ (الأب) وأخرى مفترضةٌ (الابن). أي أنَّ المقامات تنطوي جميعا على عناصر سرديَّة ثابتة. وفيها استهلالٌ سرديٌّ، لكنَّ العناصر والاستهلال غير موظَّفة سرديَّا، وإنَّما لتكون علَّةً أو مقدّمةً لبيان الإسكندريّ. أمَّا الشخصيَّة، فتَظهرُ بيانيَّتُها أكثر مما تَظهرُ شخصيَّتُها، وتشغل الخطابةُ فيها المساحة الأوسع من النصّ.
من الواضح أنَّ العلاقة العكسيَّة بين الباعث الشِعريّ والباعث السرديّ تبدو بارزةً في هذا النوع، الذي تراجعتْ فيه الغاياتُ السرديَّة لصالح الشعريَّة، فكانتْ فرصةً يُظهِر من خلالها البديعُ علوَّ كعبِهِ وسلطتِهِ الأدبيَّةِ، فكان يدبِّجُ الخطبةَ تلو الأخرى. ابتداءً من المقامة الثانية (الآزاديَّه) نجد رجلا يستجدي الناسَ بشِعرٍ بليغٍ، ثمَّ في (البلخيَّة) يزاوجُ بين الشعر والنثر، بعدها في (السجستانيَّة) بنثرٍ خالصٍ يسترقُّ القلوبَ، ومثلها (الكوفيَّةُ) التي كانتْ خطبة تضمَّنتْ أبياتا قليلة من الشعر.
إنَّ المقامات الخمس الأولى أشبهُ ما تكون بالمقدّمة أو التمرين الذي يُعلنُ نجاحَ البديعِ في أصعب الاختبارات الأدبيَّة. ونجاحه في ذلك هو ما يمنحُهُ اعترافا أدبيَّا يسوّغُ الاستمرارَ في كتابة مقامات أخرى والتنويعَ فيها، من خلال ابتداع الحكايات أحيانا، والعودة إلى المضمار الأدبيّ أحيانا أخرى. قد لا يكون الفوز بصفة كاتب الحكايات العربيَّة الأوَّل مغريا كثيرا للبديع إلى الدرجة التي تُنسيه الفوزَ في سباق كبار القوم في مضمار البيان وكسب الاعتراف البيانيّ. لا بأس أن تكون إلى جنب هذه الغاية الكبرى غايةٌ أخرى، أو مضمارٌ آخر يُكتب له سبقٌ فيه، هو مضمار الحكاية الذي يجوّد فيه أحيانا حتَّى ينسى مضمار البيان. لكن ما إن تنتهي المقامة الحكائيَّة أو شبه الحكائيَّة حتَّى يعاود فرشَ أدواته البيانيَّة مجدَّدا؛ خشيةً من اتهام محتمل، هو أن يكون قد سلك دربَ الحكاية لعجز في درب البيان. وشبح هذا الاتهام يطلُّ بين مقامة وأخرى، فيُنتجُ خطبةً بعد أخرى، حتَّى بلغتْ المقاماتُ غير الحكائيَّة – التي هي المقامات البيانيَّة – نصفَ العدد. حين تكون الأسباب الثقافيَّة قد حسمتْ الأمر فوضعتْ الشعرَ أوَّلا ثمَّ غيرَه ثانيا، فلن نتوقع غيرَ الخضوع للعرف الثقافيّ الذي لا يبدو مجرَّد تفضيلٍ أو مفاضلة بين اختيارين، وإنَّما امتلاك الفضيلة العربية أو عدمه.
ينصرف هذا التصنيف إلى تَعدّد الحكايات داخل المقامة الواحدة أو قِلَّتها. لقد تنوَّعتْ النصوص بين مقامات الحكاية الواحدة والحكايات المتعددة، التي كانتْ بدورها متفاوتةً بين التعقيد الناشئ عن التعدُّد وبين التجاور الذي يشير إلى معنى كمّيّ.
المقامات ثنائيَّة الحكاية، وإن كانتْ غيرَ كثيرةٍ، لكنَّها على قدر من الأهميَّة؛ لأنَّها وردتْ في عدد من المقامات ذات الحكايات التامَّة، وهي: (الأسديَّة، الموصليَّة، المضيريَّة، الحُلوانيَّة، الأرمنيَّة). البطل فيها إمَّا عيسى بن هشام: (الأسديَّة، الحُلوانيَّة)، أو الإسكندريُّ: (المضيريَّة)، أو كلاهما: (الموصليَّة، الأرمنيَّة). الباعث في أكثر المقامات المتعدّدة هو السفرُ. فالانتقال من مكان إلى آخر يقود إلى حكاية أخرى، أحيانا.
تتميز (الأسديَّة) بوجود ثلاث حكايات منفصلة: حكايتا سفر وحكاية حضر بعد الوصول إلى حِمص. تتعرض قافلة عيسى بن هشام، لخطرين في مكانين متباعدين. الخطر الأوَّل هجوم الأسد، ومصرع أحد أفرادها، ثمَّ مقتل الأسد. في حكاية السفر الأخرى يعترضهم متوسلًا فارسٌ حين ينتهون إلى صحراء قاحلة. وحين يُقيّلون في الظلّ بجوار الماء يهجم عليهم ذلك الغلامُ التركيُّ فيُردي منهم قتيلا ويأمرهم أن يشدَّ كلٌّ منهم يدي رفيقه، إلا ابن هشام لم يجد من يشدُّه، فيأمره الغلام أن ينزع خفَّه فيتعلَّل بصعوبة فكِّه فيدنو منه الغلامُ ليفكَّه فيعاجله هذا بسكّين يشقُّ بطنه فيرديه. ثمَّ يفكُّ وثاق القوم ويجهزون رفيقهم الذي مات. تنتهي الحكاية بمواصلة القافلة مسيرها، فيدخلون مدينة حمص ويجدون الإسكندريَّ. ثمَّ تُختم بحوار بينهما عن العطية ومقدارها.
لقد جاءت حكايةُ السفر بتفصيل، افتقدته حكاية الحضر التي قُدّمتْ على عجل، لا يليق باللقاء الأوَّل بين ابن هشام والإسكندريّ، وبداية التعرّف عليه، إذ يعلن النصُّ في بدايته أنَّ الشخصيتين لم يلتقيا من قبلُ. لا يختلف كثيرا ما دار فيه عن أيّ حوارٍ جرى في اللقاءات اللاحقة. لم يتميَّز شيءٌ في حكاية اللقاء الأوَّل إلا الحساب الرياضيّ للعطيَّة التي قدَّمها للإسكندريّ.
يعاود هذا النسقُ البنائي الظهورَ في: (الموصليَّة، الأرمنيَّة) بطريقة فيها شيءٌ من التنويع عن السابقة. فبينما الإسكندريُّ وصاحبه في قافلة، يعترضها لصوصٌ يسلبون ما عليهم. يهيمُ بعد ذلك كلُّ اثنين على حدة. في (الموصليَّة) يباشر الإسكندريُّ حيلته حين يدخلون إحدى القرى، فيجدون دارا مات صاحبها؛ فيدَّعي القدرة على إحيائه. تنكشف حيلته حين يدخل القوم فيجدونه ميّتا منذ فارقوه، فتنهال عليه الأكفُّ. ويولّي هو وصاحبه هاربين إلى قرية جديدة وحيلة أخرى. القرية على شفير الغرق، وفي ذلك يُعمِل حيلَتَه، ثمَّ يهرب قبل أن يُفتضح أمرُهُ. لا تتعدَّى الحيلةُ في (الأرمنيَّة) الحصولَ على الخبز واللبن من القريتين، على ما تقدَّم. رحلةُ القافلة والتعرَّض للسلب هي الحكاية الأولى. ودخولُ القرية الأولى الحكايةُ الثانية، ودخولُ القرية الأخرى الحكايةُ الثالثة، في المقامتين بلا اختلاف. تنفصل فيهما الحكايةُ الثانية عن الثالثة، لكنَّ كُلتاهما تتَّصل بسبب بالأولى مع اختلاف في ترتيب ثمرة الحيلة. في (الموصليَّة) خيبةٌ ثمَّ ظفرٌ. وفي (الأرمنيَّة) ظفرٌ ثمَّ خيبةٌ.
تستعيد (البِشريَّة) شيئا من هذه الأجواء. للحضر حكاية، وللسفر حكاية أخرى. لكنَّهما تتَّصلان فتشكّلان حكايةً واحدةً في أماكن مختلفة. لا تمتُّ الحكايةُ فيها إلى الحيلة أو السخرية بسبب؛ لأنَّها نموذج الحكاية البطوليَّة الجادَّة الوحيدة في المقامات، اذ تصوّر رحلةَ فارسٍ لا يعجزُه شيءٌ عن البطولة الأسطوريَّة، كما تقدَّم.
الشكلُ الفنّي الأمثل لتعدُّد الحكايات كان في (المضيريَّة) التي حوتْ حكايتين: الحكاية الإطار والحكاية الداخليَّة، لما بينهما من اتصال وثيق، تمثَّل في وجود المضيرة فيهما إضافة إلى شخصيَّة الإسكندريّ التي جعلتْ العلاقة مع المضيرية في حكاية الحاضر (القصَّة الإطار) امتدادا لما ترتَّب من خيبة في حكاية الماضي (الحكاية الداخليَّة). كما أنَّ الحكاية الإطار طوَّقت النصَّ استهلالا وختاما. أدنى من ذلك نجده في (الحُلوانيَّة) التي تقصُّ مواقفَ ساخرة.
تبرز في مقامات البديع، على مستوى آخر، ظاهرةٌ واضحةُ المعالم، هي الوصفُ السرديّ الذي يختلف إلى حد ما عن الوصف الشعريّ. وتتيح المعاينة من هذه الزاوية التمييزَ بين نوعين من المقامات:
1- المقامات الحدثيَّة، وهي تلك التي يكون الحدثُ وما يفضي إليه من أحداث لاحقة المكوّنَ الأوَّل لها.
2- المقامات الوصفيَّة، وهي التي يشغل فيها الوصفُ السرديُّ حيّزا واسعا، بل وينهض بأجزاء مهمَّةٍ من حكايتها.
يقدّم لنا البديعُ نموذجه في الوصف، وهو بغير حاجةٍ إلى مِران طويل، على هذا المستوى حتَّى يبلغ الدرجةَ المطلوبة؛ لأنَّ الوصف متأصّل بعمق في الشعر العربيّ، إلى الحدّ الذي جعل ابنَ رشيق يقول: «الشعرُ إلا أقلَّه راجعٌ إلى باب الوصف» (ابن رشيق 2/294) أي أنَّه جزءٌ من عدَّة أيّ شاعرٍ وأي غرضٍ شعري. المهمُّ هو الوعي بتوجيهه وجهةً مختلفةً تنسجم مع الحكاية.
نستطيع التمييز بين نوعين من الوصف: وصف يُكمِلُ الحكايةَ، ووصف يُعوِّض عن الحكاية. يأتي الوصفُ في النوع الأوَّل مُحقِّقا وظائفَ سرديَّةً، دون استطراد بيانيّ أو وصف غير منتج على مستوى الحكاية، وإنَّما وصفٌ يُكملُ الحكاية فعلا. وأما النوع الآخر، فهو وصف يكون بديلا عن الحكاية نفسها، وهو من الفنون المقصودة في مقامات البديع، وهو يبرع فيه أو يتفننُّ فيه، كما يعبّر زكي مبارك عن ذلك (مبارك 211).
نجد هذا واضحًا في عددٍ من المقامات، والمقامة (المضيريَّة) واحدةٌ من أبرز المقامات الوصفيَّة التي كانت مهمَّة الوصف فيها إطالة النصّ من أجل توسعة المسافة بين دخول الدار والخروج منها هربا. ينجح النصُّ على المستوى الفني، من دون أن يشعر القارئ بالملل. كما أنَّه على الصعيد الموضوعيّ كان الأداة التي أظهرتْ ثرثرةَ التاجر وتولُّعه بأشياء بيته، فصار ينتقل في وصفه من واحدةٍ إلى أخرى. ينطلق الوصفُ مع الاستهلال، فيتم التركيز على المضيرة في القصَّة الإطار حين جِيء بها، ثمَّ حين تُرفع، وكذلك يوصف الخوان الذي وُضعتْ عليه. بعد ذلك، تتوالى سلسلة الأوصاف في الحكاية الداخليَّة: الزوجة، الدار وما فيها: الشبَّاك، السلَّم، الباب وحلقته، الحصير، الإبريق، الماء، المنديل، الخوَان. جاء في وصف الإبريق: «انظر إلى هذا الشَّبَه (النُحاس) كأنَّه جذوةُ اللهبِ أو قطعةٌ من الذهب. شَبَهُ الشامِ وصنعةُ العراقِ. ليس من خِلْقانِ الأعْلاق، قد عَرَف دُورَ الملوكِ ودَارَها». وفي وصف الماء: «ترى هذا الماءَ ما أصفاهُ، أزرقُ كعينِ السِّنَّوْرِ، وصافٍ كقضيبِ البِلَّورِ. استُقِي من الفُرات واستُعمِل بعد البَيَاتِ، فجاءَ كلسانِ الشمعةِ، في صَفاء الدمعةِ. وليسَ الشأنُ في السقاءِ، الشأنُ في الإنَاءِ. لا يَدُلُّك على نظافةِ أسبابِهِ أصدقُ من نظافةِ شَرابِهِ» (الهمذانيّ 131-132). ثم ننتقل إلى سلسلة أوصاف سريعة يقدّمها الإسكندريُّ كأنه يُكملُ مهمَّةَ التاجر. بعدها يعود التاجرُ لوصف الكنيف ثمَّ يهرب الإسكندريُّ. وهكذا يتحقَّقُ الغرضُ الفنّي الذي جعل من حكاية قصيرةٍ نصَّا طويلا، هي أطول مقامات البديع. وإذا افترضنا مع فدوى دوجلاس أنَّ التاجر كان بخيلا، واحتال لصرف ضيفِهِ (دوجلاس 111)، فإنَّ الوصف المتواصل حقّقَ له ذلك ومنعَ من تقديم المضيرة. هكذا نجدُ أنَّ الوصف لم يقفْ عند مهمَّته الأساس، وهي تأثيث المكان والإيهام بالواقع، وإنَّما تعدَّى ذلك إلى أكثر من غرضٍ فنّيٍّ وموضوعيٍّ، يجعل رفعَ ما جاء منه تدميرا للمقامة، بل يفسدُ كلَّ تميّزها وسحرها.
لا تبتعد (البغداديَّة) عن هذا الأسلوب.، فالوصف يستخدم لدفع الحكاية إلى الأمام دائما، سواء على مستوى الشخصيَّات داخل النصّ أو في تفاعل القارئ خارجه. إذا كان السرد، كما يرى جِنيت، مُعادلا لفظيّا لوقائعَ لفظيَّة وغير لفظيَّة (بارت وآخرون 75)، فإنَّ الوصف يمكن أن يكون معادلا للسرد في المشاهد الوصفيَّة، كأنَّه عينُ الكاميرا التي تنقل المشاهد بالصورة. يأخذ الوصف مسحةً فكاهيَّةً لا تفارقه، كما في استهلالها، حيث يوصف السواديّ الذي وقع في الفخّ: «فإذا أنا بسواديٍّ يَسُوقُ بالجَهْد حِمارَهُ ويُطرّفُ بالعَقْد إزارَهُ». تعودُ أهمّيَّةُ هذا الوصف إلى أنَّه منسجمٌ مع طبيعة شخصيَّة ابن هشام، لأنَّه يقدمها لنا بعينيه، ويدلُّنا على أنَّ البطل ظفر بشخصيَّةٍ سهلةِ الانقياد، ومظهر المسكنة واضحٌ عليها. اللوحات الوصفيَّة الأهمُّ هي التي تلي ذلك، وهي وصف الطعام، كأنَّ ابن هشام يعتني بالوصف، لأنَّه يُقدّمُه للسواديّ، حتَّى لا يتركَ له أيَّ طريقٍ للهرب من فَخّه: «ثُمَّ أتينا شَوَّاءً يتقاطرُ شِواؤهُ عَرَقا، وتَتَسايلُ جُوذَاباتُهُ مَرَقا (خبزٌ يتقاطرُ عليه شحمُ الشواء). فقلتُ أفْرزْ لأبي زيدٍ من هذا الشِّواء. ثُمَّ زِنْ لهُ من تلك الحَلواءِ. واخترْ لهُ من تلك الأطباقِ، وانْضِدْ عليها أوراقَ الرُّقَاقِ، ورُشَّ عليها شيئا من ماء السُّمَّاقِ» (الهمذانيّ 71 و72-73). على هذه الطريقة الوصفيَّة التي تتحلَّبُ لها الأفواهُ تمضي الحكايةُ. نستطيع أن نحصي ستَّة مقاطع قصيرة ومتوسّطة الطول منحتْ المشهدَ تفاصيله الكاملة، وهذا ما يجعلنا بحاجة إلى الوقوف عندها لفهم أبعادها المختلفة.
(البغداديَّة) من المقامات الحكائيَّة التي حوتْ الوحداتِ الثلاث: الإيقاع بالسواديّ، ثمَّ أكل الشِّواء والحلوى، ثمَّ الهرب. السمة العامَّة للوحدة الأولى والوحدة الثالثة الفكاهة. كما أنَّهما تشكلان شطري الحيلةِ التي يُوقعها ابن هشام بالسواديّ. أمَّا الوحدة الثانية فقد جاءتْ بلغة وصفيَّة جادَّة؛ لأنَّها وصف للشواء والحلوى ومنظر الطعام ورائحته. لقد جاءت حركة النصّ تبعا لوحداته الحدثيَّة الثلاث بهذا الشكل: هزلًا ثم جدًّا ثم هزلًا. يكشف هذا الشكلُ البنائيُّ عن طريقة متدرّجة في عرض الحكاية بين الوحدة الأولى والثانية، ثم بين الثانية والثالثة. الجدُّ (الوحدة الثانية) هو الذروة التي تبلغُها، لكنَّها ذروة وصفيَّة، جاءت في (135) كلمة من أصل (344) كلمة هي كلّ المقامة. لقد وضع الوصفُ المتواصل السواديَّ أمام تأثير المنظر الباذخ لشواء اللحم والخبز الرقيق المدهون بودك اللحم، فاستسلم وهو ينقل نظره بين الشوَّاء والحلوانيّ. لا تمثّل إطالة الوصف قطعا للسرد، بقدر ما منحتْ الوقتَ الكافي للإجهاز على الضحيَّة بمساعدة الموصوف. لا يقف الوصف عند حدود إضاءة المكان، إنَّما أتاح للشخصيَّة أن تتطوَّر مواقفُها عبر الاستسلام للإغراء.
يخلو الوصف هنا من أيِّ مسحةٍ فكاهيَّةٍ؛ لأنَّه يُمعن في التفاصيل إمعان الجائع النهم الذي يلتهم بعيونه كلَّ ما حوله. لقد أتاح الوصفُ بجدّيته للحيلة في الوحدة الأولى أن تنتقل لتبلغ نهايةَ الحكاية في الوحدة الثالثة، حيث تتكشَّف الحيلةُ وتنكشف لنا الشخصيَّةُ الفكاهيَّةُ للسواديّ، فهو لم يأسفْ على ما تعرَّضَ له من ضربٍ وخسارةٍ لكيس الدراهم، وإنَّما لأنَّ القُرَيْد أخطأ في كنيته: «كم قلتُ لذلك القُرَيْد: أنا أبو عُبَيدٍ، وهو يقولُ أنتَ أبو زيدٍ». إنَّ السجع في أبي زيد وأبي عُبيد يزيدُ من سخرية الموقف، ويحوّله إلى نوعٍ من الالتباس اللغويّ.
يمكن أن تُختزل الحكاية في (البغداديَّة) بطريقتين: الأولى (اشتهيتُ فأكلتُ). يساعدنا هذا الاختزالُ على فهم تركيب الحكاية التي تقوم على سببيَّةٍ بين الاشتهاء الذي يستبطن الجوعَ وبين الشبع. المنطقُ السببيّ منطقٌ سرديٌّ بامتياز، إلى جانب التتابع الزمنيّ، كما أشار إلى ذلك توما شفسكي من قبل (مجموعة من المؤلفين 179). لا يتمُّ توزيع النصّ بين طرفي السببيَّة هذه بتساوٍ، وإنَّما يضع النصُّ ثقلَه في الشقّ الآخر دون الأوَّل، حتَّى تبدو الحكاية كلُّها إجابةً عن سؤال: كيف أكل عيسى بن هشام؟
الاختزال الآخر تعديلٌ على الأوَّل: (اشتهيتُ، وليس معي مالٌ، فأكلتُ). يحقّق هذا الاختزال مفارقةً من جانب، ويهيئ الأسبابَ للاحتيال من جانب آخر. توفّر الإضافةُ (وليس معي مال) المبررَ للتطوّر السرديّ الذي يضعه النصُّ في شقّه الآخر. كما تُشيع جوّا من الفكاهة؛ لأنَّ الأمر لا يعدو، في النهاية، أن يكون حيلةً صغيرةً لسدّ غائلة الجوع. تمنح الجملة المضافة سببا للانتقال من السكون إلى الحركة. ليس الجوعُ وحده سببا كافيا لحكايةٍ ساخرةٍ، ولا الشبع. ما يحقق السخريةَ والسببيَّةَ السرديَّةَ هو الجزءُ الأوسط (الوصف). كما ينقل الحكايةَ من بُعْدها الغريزيّ (الجوع والشبع)، إلى المستوى السرديّ.
ثمَّة أمر يستحقُّ الانتباه فيها هو أنَّها واحدةٌ من المقامات المتميزة بخلوّها من الجماعة (جمهور الخطيب) التي لا فعلَ لها إلا الاستحسان والثناء عليه. تتصل الجماعة بالخطابة، والخطابة منوطة بالإسكندريّ دون غيره. وحين يغيبُ عن واحدة فإنَّهما يغيبان معه (الخطابة والجمهور). نجد هذا أيضا في (الأسديَّة، الحُلوانيَّة)، إضافة إلى أخريات مثل (الإبليسيَّة، الأرمنيَّة، الملوكيَّة، الصّفريَّة، التميميَّة)، التي كان الإسكندريُّ بطلا لبعضها. إنَّ فكرة الشخصيَّة الجماعيَّة الملازمة للخطابة خرجتْ عن هذه الحدود في بعض مقامات البديع، كـ (الصيمريَّة) التي كان وجود الشخصيَّة الجماعيَّة للإيقاع بها لا للخطابة. هذا التطوير، على بساطته، يكتسي أهمِّيَّة؛ لأنَّه يزحزحُ قليلا الأدواتِ الشعريَّة في النصّ السرديّ، وفي مقدّمة ذلك الجمهور.
أمَّا الشقُّ الآخر من الوصف، وهو الذي يحل محل الحكاية، فيمكن أن نجده في عدد من المقامات القصيرة مثل (المكفوفيَّة، القرديَّة) وغيرهما. في هذا النمط لا نجد حكايةً، لكنَّنا نجد وصفا سرديَّا يقدّمُ لنا مشهدا متحرّكا، يمكن أن يكون بديلا عن السرد، يتابع فيه الراوي حركةَ الشخصيَّات في المكان، أو يقدّم لنا مشهدا جانبيا من الحكاية المفترضة، كمنظر الطعام أو وصف حيوان وغيره. الحكاية المصوَّرة التي تقدّمها هذه النصوص تخلو من الحوار؛ لأنَّها تنشغل بمتابعة التفاصيل عبر أكثر من لقطة، أو لقطة واحدة مركَّزة. للتدليل على ذلك نستطيع أن نجمع (المكفوفيَّة والقرديَّة)؛ لأنَّهما تقدّمان مشهدا واحدا تقريبا، مع بعض الاختلافات الطفيفة. عيسى بن هشام في حال ميسور، وهمُّه لفظةٌ شَرُودٌ أو تأمُّلُ المباني. هذا تقديم بارع؛ لأنَّه سيُفضي به إلى أيّ مشهد فيه مزحةٌ. يدخلُ حلقةً من الناس حول قرَّادٍ أو أعمى يرقصُ متغنيا بأبيات. تتولَّى (القرديَّة) تقديمَ الجزء الأوَّل من هذا المشهد، وهو صورة الحلقة المكتظَّة حول القرَّاد: «سِرتُ سَيرَ الأعرجِ فوق رقاب الناس، يلفِظُني عاتقُ هذا لسُرَّةِ ذاكَ. حتَّى افْترشْتُ لِحْيَتي رَجُلين، وقَعَدتُ بعد الأيْنِ».
بعد أن يجتاز الحلقة نحو العرض، ننتقل إلى (المكفوفيَّة) التي تمنحنا صورة أوفى من سابقتها: «حتَّى وصلتُ إلى الرجل، وسرَّحتُ الطرفَ منه إلى حُزُقَّةٍ (بَطِين قصير) كالقَرَنْبَى (قصير) أعمى مكفوفٍ، في شَمْلَةِ صُوفٍ. يدورُ كالخُذْروف (لعبة دوَّارة). مُتَبرنِسا بأطولَ منه. مُعتمِدا على عصا فيها جَلاجِلُ، يخبطُ الأرضَ بها على إيقاعٍ غَنِجٍ بلحنٍ هَزِجٍ وصوتٍ شَجٍ، من صدرٍ حَرِجٍ» (الهمذانيّ 114 و93-94). لسنا أمام مجرى حدثيٍّ ومجرى وصفيٍّ يتناوبان الظهور؛ بسبب الظاهرة الزمنيَّة للغة، كما أشار إلى ذلك دي سوسير (دي سوسير 181)، ومن بعده تودوروف (تودوروف 45؛ بارت وآخرون 55). ليكون ظهورُ أحدِهما توقُّفَا للآخر، وإنَّما أمام مجرى واحد وصفيّ يتوارى من خلفه الحدثُ. يعاين الوصفُ المشهدَ من زاوية معيَّنة، بما يشبه عدسةَ الكاميرا حين تحكي من خلال الصورة، يساعدُهُ في ذلك أنَّ المشهدَ نفسه يجري في مكان واحد. من حركة الراوي تنشأ الحكايةُ الوصفيَّةُ المفترضةُ التي هي حكاية المكان أكثر منها حكاية الشخصيَّة. وإذا أخذنا في الاعتبار «ألّا وجودَ لفعل مُنزَّهٍ كليَّةٍ عن الصدى الوصفي» (بارت وآخرون 76) أمكننا عد ما أمامنا على أنَّه سردٌ وصفيٌّ.
لا يقف الحضورُ المؤثِّر للوصف عند هذا، وإنَّما يتعدَّاه إلى جملةٍ من الموضوعات الموصوفة. وفيما يتعلَّق بوصف الشخصيَّات، فإنَّ ما يبرز فيه أنَّه خصَّ الإسكندريَّ بوصف ملامحِهِ وحالِهِ وعمرِهِ وشكلِهِ ولباسِهِ وغير ذلك من تفاصيل (الهمذانيّ 7، 13،18، 24، 31، 53، 56، 68، 82، 93، 97، 147، 164، 174، 194، 214، 263، 264، 276، 400)، وهو ما تناولناه في مكان آخر. لكنَّ وصف عيسى بن هشام كان أدنى من ذلك كمّا وكيفا، فما قُدِّمَ له أقلُّ من صاحبه تكرارا، كما أنَّ التفاصيل التي يشتمل عليها وصفُهُ تكاد تنحصرُ في تجربته الحياتيَّة (الكوفيَّة)، أو حاله في الشباب (البلخيَّة)، أو غنى أصابه واتهم به (الأذربيجانيَّة، الأسوديَّة)، أو اشتهاء التمر وهو فقير (البغداديَّة)، أو الغنى والشباب (البصريَّة)، أو فقير يستجدي (المجاعيَّة)، أو كثرة التجوال (العراقيَّة)، أو رجل كثير الصيت (المِغزليَّة)، أو عنفوان الشباب (الخمريَّة). ليس في كلّ ذلك ما يقدّم لنا ملامحَهُ أو يرسم صورته، كما جرى مع الإسكندريّ. أمَّا غيرهما فإنَّ وصف الشخصيَّات الأخرى يكاد يكون نادرا لندرة الشخصيَّات التي تشاركهما الحكاية، إلا ما نجده من وصف الغلام التركيّ الجميل في (الأسديَّة)، والفتى الوسيم في (الرصافيَّة) الذي حُذِفَ ضمن ما حذفه الشيخُ محمَّد عبده منها (مفاتيح خزائن السرد 240)، ووصف إمام الجماعة في (النيسابوريَّة)، وجماعة من الأصحاب في (المطلبيَّة)، وصف رجل ميّت في (الموصليَّة).
لحكايات الطعام حضورٌ مميزٌ في مقامات البديع. وهي تستأثر بعدد من المقامات الحكائيَّة التي تمثّل ذروة ما قدَّمه، مثل (البغداديَّة والمضيريَّة). إنَّ تواتر حضور حكايات الطعام يثير سؤالا عن سرّ ذلك، وعلاقته بالحكايات التامَّة أو تلك الساخرة منها.
كان الظهور الأوَّل لوصف الطعام في المقامة الثانية (الآزاديَّة)، حين يقف عيسى بن هشام على بقَّال. يصادف بعد ذلك رجلا مبرقعا يستجدي بشعر:
|
أو
شَحمةٍ
تُضْربُ
بالدَّقِيقِ |
|
أو
قَصْعَةٍ
تُمْلأ من
خِرْدِيقِ |
|
تفْثَــأُ
عَنَّا
سَطواتِ الرِّيــقِ |
يتحسَّر على كفين من جريشٍ أو قصعة مرقٍ تسكِّنُ جوعَه. يتكرَّر ذكرُ الطعام بعد ذلك في المقامة الثانية عشرة (البغداديَّة)، كما مرَّ قبل قليل. ثم يأتي في (الجاحِظيَّة) يقولُ: «ثُمَّ عَكفنا على خِوَان قد مُلِئَتْ حِيَاضُهُ، ونَوَّرَتْ رِياضُهُ، اصْطفَّتْ جِفَانُهُ، واخْتَلَفَتْ ألوانُهُ. فمِن حَالِكٍ بإزَائِهِ ناصع. ومِن قانٍ تِلْقاءَهُ فاقِعٌ. ومعنا على الطعامِ رجلٌ تُسافرُ يدُهُ على الخِوَان، وتسْفِرُ بينَ الألوانِ، وتأخذُ وجوهَ الرُّغْفانِ، وتَفْقأُ عُيونَ الجِفَانِ، وتَرعى أرضَ الجيرانِ، وتَجُولُ في القَصْعَةِ كالرُّخِّ في الرقعة. يَزْحَمُ باللُّقمةِ اللُّقمةَ، ويَهْزمُ بالمضْغةِ والمضْغةَ». ثمَّ يأتي حديث الطعام شعرا في (الساسانيَّة) في اثني عشر بيتا، يقولها أحدُ الساسانيين، ثمَّ يستجدي شخصا آخر في نصٍّ من خمسة أبيات، يقول فيه:
قَد
اشْتَهَى اللَّحْمَ
ضِرْسِي |
|
فاجْلِدْهُ
بالخُبـــــزِ
جَلْدا |
تأتي بعد ذلك مقامة الطعام الأشهر (المضيريَّة) التي لم تُؤكل المضيرةُ فيها، لا في القصَّة الإطار ولا في القصَّة الداخليَّة، كما مرَّ تفصيله سابقا. في (المجاعيَّة) يميل عيسى بن هشام، في عام مجاعةٍ، إلى جماعةٍ يطلبُ طعاما فيُعدِّدُ له فتىً من بينهم أصنافَ الطعامِ التي يشتهيها، وما لذَّ من الشراب، وما يُمتِع من مجالس الطرب. وحين يطلبُ الثلاثةَ (الطعام والشراب والغناء) يقولُ له الغلامُ: «وأنا خادمُها لو كانتْ. فقلتُ: لا حيَّاكَ اللهُ، أحيَيْتَ شهواتٍ قد كان اليأسُ أماتَها». لم يكن الغلامُ أحسنَ حالا من ابن هشام حتَّى يجودَ له بطعامٍ، لكنَّه كان يسخر منه. يتكرَّر موقفُ السخرية هذا في (النهيديَّة)، حين يميل ابن هشام مع جماعة إلى خيمة يلتمسون القِرى، فلم يذوقوا طعاما منذُ ثلاث ليالٍ، فيُمَنِّيهم صاحبُ الخيمةِ: «فما رأيْكُم يا فِتيانُ في نهيدَةٍ فِرْقٍ (زِبدةُ غنمٍ) كهامةِ الأصْلعِ في جَفْنَةٍ رَوْحَاءَ (إناء واسع) مُكَلَّلَةٍ بعَجْوَةِ خَيْبَرَ (تمر) من أكْتَارِ جَبَّارِ رَبُوضٍ (نخلة كبيرة) الواحدةُ منها تَمْلأُ الفمَ من جماعة خُمْصٍ عُطْشٍ خِمْسٍ، يغيبُ فيها الضِرسُ. كأن نَوَاها ألسُنُ الطيرِ يَجْحَفُونَ فيه النهيدةَ مع أقْعُبٍ (أقداح ضخمة) قد احْتَلَبْنَ من الجِلاد الهَرميّة الربليَّة (نوع من الإبل). أتشتَهُونها يا فتيانُ؟ فقلنا: إي وَاللهِ نَشْتَهِها. فَقَهقَهَ الشيخُ وقالَ: وَعَمُّكُم أيضا يَشْتَهِها». ثمَّ يمضي يعدِّد لهم أصنافا أخرى من الطعام، وهو يتدرَّجُ بهدوء من تحضيره إلى طبخه حتَّى ينضجَ فتتحلَّب له أفواهُهم، فيقول لهم أفتشتهونه؟ فيقولون نعم باشتهاء، فيقول لهم إنَّ عمَّهم لا يبغضُهُ. يعيدُ الكرَّةَ ثالثةً في لحم معزٍ مشويٍّ «أفَتشتهونه يا فِتيانُ؟ قُلنا: إي واللهِ نشتهيه. قال: وعَمُّكُم واللهِ يرقُصُ له. فوَثَبَ إليهِ بعضُنا بالسيفِ، وقالَ: ما يكفي ما بنا من الدَّقَعِ (الجوع) حتَّى تَسْخَرَ بنا. فأتَتْنا ابنتُهُ بطَبقٍ عليه جِلفَةٌ (خبزٌ يابسٌ) وحُثَالةٌ (ما يبقى من الدهن). وأكرمتْ مَثْوانا. فَصِرنا لها حامِدينَ ولهُ ذامِّينَ» (الهمذانيّ 13، 88، 110، 149، 206-207). هكذا تنتهي بخيبة ثلاثُ لوحاتٍ وصفيَّةٍ لجائعين، ثمَّ يتكرَّر وصفُ الطعام بعد ذلك في (الصيمريَّة، والخمريَّة) ليكون عدد المقامات التي حوتْ حكايةً عن الطعام ووصفا لأنواعه تسعَ مقامات.
جاءت حكايات الطعام في نمطين: جِدِّيٌّ: (الآزاديَّة، الساسانيَّة، الجاحِظيَّة، الخمريَّة). وهزليٌّ: (البغداديَّة، المضيريَّة، المجاعيَّة، النهيديَّة، الصيمريَّة). حديث الطعام في الحكايات الجدية تفريعٌ لموضوع آخر ينصرف إليه اهتمامُ النصّ، كأن يكون خطابة الإسكندريّ أو حوارا أدبيَّا أو غيره. أمَّا في الهزليّة، فإنَّه يكون مركز الحكاية وموضوعها الأوَّل، وله صلةٌ بالجوع أو الاشتهاء. نطالع في الجدّيَّة، بؤسَ الفقر والمتربة، وما يتركه تبدُّل الحال فيمن صار أمره إلى ذلِّ السؤال.
الغريب في حكاية الطعام، أنَّها تقترن بمدن العراق (بغداد والبصرة)، حتَّى أنَّ (المجاعيَّة) تنسبُ عامَ المجاعة إلى بغداد دون غيرها. نجد هذا في (الآزاديَّة، البغداديَّة، المضيريَّة، المجاعيَّة، الصيمريَّة)، بينما خلتْ (الجاحظيَّة والخمريَّة) من أيّ تحديدٍ للمكان. هل يمكن أن يكون الأمر مقصودا ويشير إلى دلالة ما؟ ليس هناك دليل واضح يرجِّح الإثباتَ أو النفي.
من طبيعة الجوع أن تكون حكايته حزينةً، ولا جديد في هذا. لكنَّ تثويرها وإخراجها عن هذا الحدّ هو الإضافة التي تقدِّمها لنا حكاياتُ الطعام الهزليَّة التي تخرج عن المألوف، حين تبلغ الضدَّ النوعيَّ. تشكل الحكاياتُ الساخرةُ محاولة للهرب من ترادف المصيبة (الجوع والحزن). إن لم يكن بدٌّ من الجوع، فالأوْلى ألا يجتمع معه همٌّ. حين تنقشع غلالة الهمّ تأتي السخريةُ أو شرُّ البلية. هكذا نجد الجوعَ يمتزج مع السخرية حين يحضر الطعام. حضور الطعام أو منظره بشارةٌ بانتهاء حالٍ والانقلاب إلى حالٍ أخرى، ولا طريقة أفضل للتعبير عن ذلك وعن مفارقات الحياة إلا السخرية. لقد كان انقلاب الحال من الغنى إلى الفقر شائعا في عدد من المقامات: (السجستانيَّة، الجُرجانيَّة، البصريَّة، المكفوفيَّة، البُخاريَّة، القزوينيَّة، الناجميَّة، الصيمريَّة)، ولم تكن حياةُ البديعِ نفسه بعيدةً عن انقلاب الحال أو التحوّلات المعيشيَّة (الثعالبيّ 4/294-295)، الأمر الذي جعل هذه التحوّلات من السلب إلى الإيجاب، أو العكس، موضوعا خصبا للسخرية.
وصف الدينار من الموضوعات التي نجدها تتكرَّر في (المكفوفيَّة، البلخيَّة، الصُّفريَّة). واللافت في هذا الوصف أنَّه يُلْغِز ولا يُسمّي. فهو إذ يصفه يغشيه بغشاء من الغموض والإبهام. هنا يفارق الوصفُ وظائفه الطبيعيَّة ليؤدي عكسها. وإذا كانتْ مهمَّة الوصف أنَّه «يُظهِر الأشياءَ ويُريها» (بورنوف واوئيليه 107)، فإنَّ الوصف هنا لا يريد لما يصفه أن يظهر إلا بعد أن يتمنَّع. في (البلخيَّة): «فاستصحِبْ لي عَدُوَّا في بُردةِ صديق مِن نِجار الصُّفر (أصلها من الذهب) يدعُو إلى الكُفر ويَرقُصُ على الظّفْر كَدَارَةِ العَين (مستدير) يَحُطُّ ثِقْلَ الدَّيْنِ ويُنافِقُ بوجهين». أمَّا في (المكفوفيَّة) فيقول:
|
ممشُوقةٌ
مَنقُوشَةٌ
قَوْرَاءُ |
|
يَكادُ
أن يَقطُرَ
مِنها
الماءُ |
|
قَد
أثْمَرَتها
هِمَّـةٌ
عَلْيــاءُ |
أمَّا أطرف الأوصاف، فهو ما جاء في (الصُّفريَّة): «عِندي رجلٌ من نِجَار الصُّفر يدعو إلى الكُفرِ ويرقُصُ على الظّفْر. وقد أدَّبَتهُ الغربةُ، وأدَّتني الحِسْبةُ إليك، لأُمَثِّلَ حالَهُ لديكَ، وقد خَطَبَ منك جَاريةً صَفراءَ تُعجِبُ الحَاضِرينَ وتَسُرُّ الناظرينَ. فَإن أجَبتَ يُنْجَبُ مِنهما ولَدٌ يَعُمُّ البِقَاعَ والأسْماعَ» (الهمذانيّ 19-20، 95، 261). وإن كان الوصف هنا يكرّر ما أورده سابقًا من صفات، إلا أنَّ الإضافة التي يقدّمها تستحقُ التأمل، إذ جعل الدينارَ الذي معه رجلا يخطب جارية (دينار).
لا يبعد الإلغاز، في وصف الدينار، كثيرا عن سخرية الجوع. فإذا كانتْ السخرية تعلنُ نهايةَ الجوع بحضور الطعام، فإنَّ الإلغاز في الدينار يبقيه عزيزا بعيد المنال، حتَّى وإن وقع في اليد. كأنَّ الوضوح في وصفه تبذيرٌ له وإنفاق، ومن ثمَّ فقدٌ له من جديد. وكأنَّ الإلغاز ستارةٌ لا تكتفي بإغماض معناه، وإنَّما إبعاده عن العيون بخزنه، كما يفعل البخلاءُ تماما. الوضوحُ والإلغاز يقابلان الإنفاق والاكتناز. يتأكَّد هذا المعنى حين نعرف أنَّ مَن يُلغِز فيه دائما هو المُستلمُ وليس المُعطي. يشحُّ البخيل في إنفاق المال كما يشحُّ في وصفه. المُعطي يسمّى الدينار والمستلم يُلغز فيه. يقول خالد بن يزيد، وهو أحد بخلاء الجاحظ: «ولم أحمد نفسي على جَمعِهِ كما حمدتُها على حفظِهِ» (الجاحظ 48).
الموضوعُ الوصفيُّ الأخيرُ، الذي يتكرر في المقامات، هو وصف الحيوان. الحيوان الموصوف هو الأسد في (الأسديَّة، والبشريَّة)، والفرس في (الحمدانية). في (الأسديَّة) يصف الأسدَ الذي برز لهم في الصحراء أثناء رحلتهم إلى حلب، وما فعله فيهم قبل أن تأتيه طعنةٌ ترديه. أمَّا (البشريَّة) فإنَّ وصف الأسد جاء فيها شِعرا على الطريقة التقليديَّة، وهذا ما لم يتكرَّر في غيرها، كما أنَّه امتزج بالفخر بالنفس على طريقة الفرسان العرب الذين تمتلئ نفوسهم حماسةً ساعة التحدّي. وفي هذه المقامة يقتل بِشرُ الأسدَ والحيَّةَ، بينما لم يجرؤ أحدٌ على الاقتراب منهما من قبل.
أهمُّ المقاطع الوصفيَّة وأطولها جاء في (الحمدانيَّة)، وهو وصفٌ مسهبٌ للفرس، ولا شيءَ في هذه المقامة غير وصف الفرس التي توسَّع الإسكندريُّ في وصفها لسيف الدولة الحمداني، فامتدَّ الوصف حتى نهاية المقامة. بعدها يعود ليُفسّر الأوصاف التي استخدمها، وهي طريقة لم يعتمدها الإسكندريَّ إلا في هذه وفي (العراقيَّة والشعريَّة والرصافيَّة).
غير ذلك نجد موضوعات وصفيَّة متفرّقة، مثل وصف الحمَّام والحمّاميّ في (الحُلوانيَّة)، ووصف لصٍّ في (النيسابوريَّة)، ووصف العِلمِ في (العِلميَّة)، ووصف الصيمريّ لنفسه في (الصيميريَّة)، ووصف مشهد شتائم في (الديناريَّة)، ووصف عينِ ماءٍ في (القزوينيَّة)، ووصفِ جارية في حانة في (الخمريَّة). هذا بالإضافة إلى الوصف المكثف للإسكندري، وهو الأكثر تكرارًا في المقامات.
يتقلَّصُ الوصفُ أحيانا إلى جملة واحدة مثل: «رجُلٌ حُزُقَّةٌ» (قصير)، أو «إذ عنَّ لي فتى في أطمارٍ»، أو «فتى به رَدْعُ صُفَار» (أثر الزعفران) (الهمذانيّ 202، 164، 263). وقد يتَّسع الوصف حتَّى يزيد على عشر جمل معطوفة. وأشهر نموذجين للوصف المطول أحدهما في وصف الإسكندريّ: «وكنتُ فارقتُه ذا شارةٍ وجمالٍ، وهيئةٍ وكمالٍ». ثم يصف حاله بعد الفقر فيقول: «إذ دخلَ كَهلٌ قد غَبَّر في وجهه الفَقرُ، وانتزفَ ماءَه الدهرُ، وأمَالَ قناتَهُ السَّقَمُ، وقلَّمَ أظفَارَهُ العَدَمُ. بوجهٍ أكْسَفَ من بَالِهِ، وزيّ أوْحَشَ من حالِهِ، ولِثَةٍ نَشِفَةٍ، وشَفَةٍ قَشِفَةٍ، ورِجْلٍ وَحِلَةٍ، ويَدٍ مَجِلَةٍ، وأنْيَاب قد جَرعَها الضُّرُّ والعيشُ المُرُّ». وأما الوصف الآخر فكان لخطيب، وجاء على شاكلتين: عن حاله وسَيرته. وهو ليس عطف موصوفات، وإنَّما عطف جملٍ وصفيَّة متتاليةٍ: «هذا سُوسٌ لا يقعُ إلا في صُوفِ الأيتامِ، وجَرادٌ لا يَسقُطُ إلا على الزَّرْعِ الحَرامِ، ولِصٌّ لا يَنْقُبُ إلا خِزَانَةَ الأوْقافِ، وكُرديٌّ لا يُغِيرُ إلا على الضِّعاف، وذِئبٌ لا يَفترسُ عبادَ اللهِ إلا بينَ الرُّكُوِعِ والسُّجُودِ، ومُحارِبٌ لا يَنهبُ مالَ اللهِ إلا بينَ العُهُودِ والشُّهُودِ». والآخر وصفٌ لشكله وزيّه: «وقد لَبِسَ دَنِيَّتَهُ، وخَلَعَ دِينِيَّتَهُ، وسوَّى طَيْلَسانَهُ، وحَرَّفَ يدَهُ ولِسَانَهُ، وقَصَّرَ سِبَالَهُ، وأطَالَ حِبَالَهُ، وأبْدَى شَقَاشِقَهُ، وغَطَّى مَخَارِقَهُ، وبيَّضَ لِحيتَهُ، وسَوَّدَ صَحِيفَتَهُ، وأظْهَرَ وَرَعَهُ، وستَرَ طَمَعَهُ» (الهمذانيّ 193-195، 227-228). ورغم وجود هذه النماذج المطولة، ليس الوصف الطويل هو الشائع عنده، إنَّما المتوسط هو الأكثر شيوعا، حيث يأتي في ثلاث جمل وصفيَّة أو أربع أو خمس منها (الهمذانيّ 13، 18، 37، 39-40، 53، 56، 67، 73، 75، 87-88، 93-94، 97، 102، 116، 122-123، 124-125، 137-138، 197، 211، 272-273، 276).
وإن لم تكن مقامات البديع كلُّها ساخرةً، إلا أنَّ السُخرية واضحةٌ بالقدر الذي يوجِّهُ العملَ بمجملِهِ. ليستْ المقاماتُ حكاياتٍ جادَّةً، بل هي في جوهرها حكاياتٌ فكاهيَّةٌ. ولا يمكن عدُّها غيرَ ذلك؛ لأنَّ افتراض جديتها يستلزم نتيجةً، لا نشكُّ أنَّ البديعَ لم يقصدها. يتعلَّق الأمر هنا بشخصيَّة البطل وأهمِّ ما تمتاز به، وهو البيان، الذي كان موضع فخر العربيّ، لكنَّ إقران هذا الامتياز بالكدية قد يعني الإزراءَ بها والاستخفاف بالشخصيَّة العربيَّة التي تبيع أنفسَ ما لديها باليسير. هذا المعنى – اقتران البيان بالكدية – يمكن أن يكون مقصودا، لو كانتْ الحكاياتُ جادَّةً، لكنَّ أحدا لم يتهم البديع بالشُعوبيَّة، لوضوح السُخرية فيها. السُخرية التي تصل حدَّ الإضحاك في أكثر من موضع، يمكن أن تكون مُوجِّها لغرض المقامات، حتَّى وإن لم يُفصح البديعُ عنه.
النصوص التي برزت فيها نزعةُ السُخرية، وتميزتْ عن غيرها بما حوته من تهكُّمٍ أو تصيّدٍ للمواقف الساخرة هي: (الأصفهانيَّة، البغداذيَّة، الساسانيَّة، الموصليَّة، المضيريَّة، المجاعيَّة، الرصافيَّة، الحُلوانيَّة، الأرمنيَّة، الوصيَّة، الصيمريَّة، الديناريَّة، الصُفريَّة، الخمريَّة).
ليستْ كلُّ مواقف السُخرية ذات صلة بالمحتوى السرديّ، أو نتيجة للحكاية. فبعضها سُخرية موقف كالتشاتم (الساسانيَّة)، أو سُخرية خِطاب (الوصيَّة)، أو سُخرية الوصف كوصف الدينار (الديناريَّة، الصُفريَّة). وبعضها الآخر السُخرية السرديَّة التي تكون جزءا من الحكاية أو تكون أساس بنيتها.
يتراجع حضور الإسكندريّ، في المقامات الساخرة، إلى حدِّهِ الأدنى. وهو لا يكاد يحضر في المقامات الحكائية إلا برفقة عيسى بن هشام. وأهمُّ النصوص التي كان فيها عيسى بن هشام هو البطل، دون الإسكندري هي (البغداذيَّة، المجاعيَّة، الحُلوانيَّة، النهيديَّة). أمَّا المقامات التي كانا فيها معًا، فهي: (الأصفهانيَّة، الموصليَّة، الأرمنيَّة). لا ترتبط السُخرية هنا بما يفعله الإسكندريُّ نفسه، لأنَّه غالبا ما يكون منشغلا بإعمال الحيلة. بل هي ترتبط بالجوّ العام أو بأفعال الشخصيات الأخرى. بعض المواقف الساخرة لا ترتبط بعيسى بن هشام ولا بالإسكندري، بل بشخصيَّات أخرى، سواء أكانت معروفة مثل (الصيمري)، أو مجهولة مثل (فتى) كما في (الصيمريَّة، الصُّفريَّة).
أهمُّ ما قدَّمه البديع من مقامات ساخرة هي ما كان عيسى بن هشام بطلها، وليس معه الإسكندريُّ. كما في (البغداذيَّة والحُلوانيَّة)، لكونهما ذروة السُخرية السرديَّة التي يكون فيها الفعلُ الساخرُ نواةَ الحكاية. والفارق بين هذا النوع وغيره هو أنَّه يقوم على الفعل، فيما يقوم غيرُهُ على سُخرية القول. تقوم الحكاية، في هذين النصَّين، على شيء من المفارقة بين المُتوقَّع والواقع، وبينهما تقع السُخرية. في العادة، يكون المُتوقع أعلى من الواقع، لكن في هذين النصين، يكون التوقُّع أدنى من الواقع، فتتحقَّقُ الصدمة للشخصية موضوع المفارقة. في المقامة (البغداذيَّة) حين يُدعى السواديُّ إلى الضيافة، يكتشف متأخرا أنَّ عليه دفع ثمن ما أكله هو ومُضيّفه. يصدمه الشعور بالخيبة، فيلعن هذا المحتال الذي أوقعه في الفخ.
تتميز (الحُلوانيَّة) عن سابقتها، بأنَّها تقلب الأدوارَ هذه المرَّة. فإذا كان عيسى بن هشام في (البغداذيَّة) هو من يُعمِل الحيلةَ، فإنَّه يقع موضوعا للسُخرية مرَّتين. يطلب ابن هشام حجَّاما بعد عودته من الحجّ، فيأخذه غلامُهُ إلى غير ما أوصاه به، فيقع فريسةً لحماميين يتنازعان على رأسه، الأول طلى رأسه بالطين ثمَّ انصرف، أما الآخر فدلَّكه بشدَّة. فنشب بينهما نزاعٌ على ملكيَّة الرأس، وكلٌّ يدَّعيه لنفسه. فطلب صاحبُ الحمام ابنَ هشام يسأله: لمن هذا الرأس؟ فقال له: «هذا رأسي قد صحبني في الطريق، وطافَ معيَ البيتَ العَتِيقَ، وما شككتُ أنَّهُ لِي». فأسكته الحمَّاميُّ ومال إلى صاحِبيه يلومُهُما على العِراك: «وهَبْ أنَّ هذا الرأسَ ليسَ، وأنَّا لم نَرَ هذا التَّيس»، فيخرج ابن هشام خَجِلا مما انتهى إليه حالُهُ. كانتْ المفارقة في الخيبة مما أمَّله من عناية تفوق الآخرين؛ لأنَّه عائد من البيت الحرام، وما لقيه. فيخرج هاربا، قبل أن يتحول رأسه إلى سلعةٍ يتقاذفونها بينهم!
لا تفارق لعنة الخيبة ابنَ هشام في ذلك اليوم. فبعد الحمَّام طلب حجَّاما، فَجِيءَ له بشخصٍ مجنونٍ، يُخلِّطُ في كلامه (كيليطو 40) وهذا المجنون ليس إلا الإسكندريَّ، كما سيتَّضح لاحقا. لذلك لم يكن الجنون ليمسَّ شيئا من بيانيَّته، فلا يزال يرصف الجمل ببلاغته المعهودة، لكن من دون أن تكون الجمل مترابطة وذات معنى: «فعادَ الصَّبيُّ إلى أُمِّه بعد أنْ صَلَّيْتُ العَتمَةَ، واعْتَدَلَ الظِّلُ، ولكِنْ كيفَ كانَ َحَجُّكَ، وهَل قَضَيْتَ مَنَاسِكَهُ، كما وَجَبَ؟ وصاحوا: العجبَ العجبَ، فنظرتُ إلى المنارةِ، وما أهْوَنَ الحربَ على النَّظَّارَةِ. ووجدتُ الهرِيسةَ على حالِهَا» (الهمذانيّ 200)، وغير ذلك من جمل لا معنى واضحًا لها.
في هذا الهذيان أو هذه الشخصيَّة المجنونة ما يستحقُّ الاعتناء. تختلف الشخصيَّة هنا عن شخصيَّة المجنون في (المارستانيَّة)؛ لأنَّ هذه الشخصيَّة مجنونةٌ وتلك تدَّعي الجنونَ. أمارات الجنون باديةٌ عليها، فهي مقنعةٌ بخلاف الأخرى.
يتوقَّف الكشفُ عن جنون الشخصيَّة على اللغة، كما توقَّف تميُّزها عن الآخرين من قبلُ. تكشف اللغة عن كلِّ شيء، ولا شيء سيكون موجودا بغيابها. تعود أهمِّيَّة الأمر إلى التفاتة البديع إلى هذه الشخصيَّة المهملة في السرديَّات القديمة. يشير استحضارها، وإن كان بحدود بسيطة، إلى سابقة تثير الإعجاب، خصوصا حين تمَّ في سياق السخرية وهو السياق الذي يميزها عن سابقتها في (المارستانيَّة) ذات السياق الجاد. ولعلَّ البديع يتقدَّم على غيره بهذا المرور اللمحيّ لشخصيَّة المجنون في الأدب العالميّ، حين منحها مساحة في إحدى مقاماته.
تنقسم (الحُلوانيَّة)، تبعا لموقف السخرية، إلى قسمين منفصلين: الحمَّاميّ والحجَّام. الأوَّل يتناول السخرية السرديَّة، والآخر يقدّم السخرية الخطابية لاقتصاره على الخطاب الذي دار بين ابن هشام والحجَّام. لذلك نجد في هذه المقامة شكلين مختلفين من السخرية، لكنَّ ذلك جاء على حساب وحدتها، لأنَّها من المقامات متعددة الحكايات، كما ذكرنا سابقا.
من أبرز موضوعات السخرية عند البديع؛ السخرية من رجل الدين: (الأصفهانيَّة، الموصلية النيسابوريَّة، الخمريَّة). ففي معظمها يكون الإسكندريُّ، إمامَ الجماعة ومحلّا للاتهام والسخرية، أما في (النيسابوريَّة) فإمام الجماعة شخص آخر غيره، تمتزج فيه شخصيَّة القاضي بإمام الجماعة، وفيه يقول الراوي: «فهو سوسٌ لا يقعُ إلا في صوفِ الأيتامِ» وهو القاضي الذي يتولَّى الوصاية على أموال اليتامى، لكنَّه أيضا: «ذئبٌ لا يفترسُ عبادَ اللهِ إلا بين الركوعِ والسجودِ» (الهمذانيّ 227)، وهو إمام الجماعة كما يبدو من هذا الوصف وما يعقبه. إذن، في الحالين هو محلٌّ للتهمة، ولا صلة بين فعله ومظهره الدينيّ.
تتضح السخرية أكثر حين يكون الإسكندريُّ إمامَ الجماعة. فله وجهان متناقضان في (الخمريَّة)، أحدهما إمام الجماعة المتشدّد، والآخر مُتهتِّك يرتاد خمارة. ولا يختلف حاله في (الأصفهانيَّة)، حيث يظهر بصورة الإمام المتشدّد الذي يطيل الصلاة، ويرتّل قراءته بمبالغة تثير حنق المصلّين، لكنّ الأمر لا يتوقَّف عند هذا الحدّ، إذ يعمل على المتاجرة بتدين المصلّين فيخدعهم ببيع دعاء زعم أنَّ الرسول ﷺ أملاه عليه.
انتهى البحث إلى أنَّ مقامات الهمذانيّ على قدرٍ من التعقيد الذي يتيحُ دراستها وفق أكثر من تصنيف. في التصنيف الأوَّليَّ ميَّزنا بين ثلاثة أنواع: المقامات الحكائيَّة والمقامات شبه الحكائيَّة والمقامات غير الحكائيَّة التي استأثرتْ بنصف العدد الكليّ، على أساسٍ من معيار الوحدات الثلاث المكوّنة وتفاوت حضورها في كلّ نوع. انتهينا في التصنيف الثانوي إلى تفاوت آخر بين تعقيدِ النصّ الحكائيّ وبساطته. وقد ميَّزنا وفقا لذلك بين مقامات أحاديَّة القصَّة ومقامات متعدِّدة القصص. أما في التصنيف الكيفيّ فقد فرَّقنا بين المقامات الحدثيَّة والمقامات الوصفيَّة، وكشفنا عن بنية الوحدات الوصفيَّة في عدد من نصوص البديع وقدرتها على تعويض فقدان الحكاية، أو المساهمة مع الوحدات الحكائيَّة في بناء نماذج متطوّرة كالمضيريَّة.
أولًا: العربية
بارت، رولان وآخرون. طرائق تحليل السرد الأدبي. ط1، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 1992.
بكر، أيمن. السرد في مقامات الهمذانيّ. الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، القاهرة، 1998.
بورنوف، رولان واوئيليه، ريال. عالم الرواية. ترجمة: نهاد التكرلي، مراجعة فؤاد التكرلي ومحسن الموسوي. ط1، دار الشؤون الثقافيَّة العامَّة، بغداد، 1991.
الثعالبي النيسابوري، أبو منصور عبد الملك. يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر. شرح وتحقيق: مُفيد محمَّد قميحة. ط1، دار الكتب العلميَّة، بيروت، 1983.
جمعة، مصطفى عطيَّة. أشكال السرد في القرن الرابع الهجري. ط1، مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2006.
الحُصريّ القيرواني، أبو إسحاق إبراهيم بن علي. زهر الآداب وثمر الألباب. مفصَّل ومضبوط ومشروح بقلم المرحوم زكي مبارك، حققه وزاد في تفصيله وضبطه وشرحه محمَّد محي الدين عبد الحميد. ط5، دار الجيل، بيروت، 1999.
حسن، محمَّد رشاد. أثر المقامة في نشأة القصَّة المصريَّة. الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، القاهرة، 1974.
دوجلاس، فدوة مالطي. بناء النصّ التراثيّ. الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، القاهرة، 1985.
دي سوسير، فرديناند. محاضرات في علم اللسان العام. ترجمة: عبد القادر قنيني. أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2008.
الزيَّات، أحمد حسن. تاريخ الأدب العربيّ. دار نهضة مصر، القاهرة، [د.ت].
الشكعة، مصطفى. بديع الزمان رائد القصَّة العربية والمقالة الصحفيَّة. ط1، دار عالم الكتب، بيروت، 1983.
صمُّود، حمَّادي. الوجه والقفا في تلازم التراث والحداثة. ط1، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2018.
ضيف، شوقي. الفن ومذاهبه غي النثر العربيّ. ط10، دار المعارف، القاهرة، 1983.
طودوروف، تزفيتان. الشِعريَّة. ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة. ط2، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1990.
عبُّود، مارون. بديع الزمان الهمذانيّ. هنداوي، القاهرة، 2013.
الغانميّ، سعيد. مفاتيح خزائن السرد: مدونة المعتمد الأدبيّ والتحليل الصنفي في الأدب العربيّ القديم. ط1، دار الرافدين، بغداد، 2021.
القيروانيُّ، ابن رشيق. العُمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. تحقيق: محمَّد مُحيي الدين عبد الحميد. ط5، دار الجيل، بيروت، 1981.
كاظم، نادر. المقامات والتلقّي. ط1، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، 2003.
كيليطو، عبد الفتَّاح. المقامات السرد والأنساق الثقافيَّة. ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي. ط2، دار توبقال، الدار البيضاء، 2001.
مبارك، زكي. النثر الفنّي في القرن الرابع. هنداوي، القاهرة، 2012.
مجموعة من المؤلفين. نظرية المنهج الشكلي. ترجمة: إبراهيم الخطيب. ط1، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1982.
مرتاض، عبد الملك. فنّ المقامات في الأدب العربي. ط2، المؤسّسة العربيّة للكتاب، الجزائر، الدار التونسيّة للنشر، تونس، 1988.
نجم، محمَّد يوسف. القصَّة في الأدب العربيّ الحديث. دار مصر للطباعة، القاهرة، 1952.
الهمذاني، أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى. مقامات بديع الزمان الهمذانيّ. قدّم لها وشرح غوامضها: الإمام العلّامة الشيخ محمّد عبده. ط3، منشورات محمّد علي بيضون، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2005.
ثانيًا: الأجنبية
References:
ʻAbbūd, Mārūn, Badīʻ al-Zamān alhmdhānī (in Arabic). Hindāwī, Cairo, 2013.
Alghānmī, Saʻīd. Mafātīḥ Khazāʼin al-sard (in Arabic), Mudawwanat al-muʻtamad alʼdbī wa-al-taḥlīl alṣnfy fī al-adab alʻrbī al-qadīm, 1st ed., Dār al-Rāfidayn, Baghdād, 2021.
Al-hamadhānī, Abū al-faḍl Aḥmad bin Yaḥya. Maqāmāt Badi’ Al-zaman Al-hamadhanī (in Arabic), Ed. al’imām al-‘allāma al-shaīkh Muḥammad ‘abduh. manshūrāt Muḥammad Alī Baīḍūn, Dar al-kurub al-،lmīa. Beirut, 2005.
al-Qayrawānī, Ibn Rashīq. alʻumdh fī Maḥāsin al-shi ʻr wa-ādābuh wa-naqdih (in Arabic), Ed. mḥmmad muḥy al-Dīn ʻAbd al-Ḥamīd, 5th ed., Dār al-Jīl, Beirut, 1981.
al-Shakʻah, Muṣṭafá. Badīʻ al-Zamān Rāʼid alqṣṣah al-ʻArabīyah wa-al-maqālah alṣḥfyyah (in Arabic), 1st ed., Dār ʻĀlam al-Kutub, Beirut, 1983.
al-Thaʻālibī al-Nīsābūrī, Abū Manṣūr ʻAbd al-Malik. Yatīmat al-dahr fī Maḥāsin ahl al-ʻaṣr (in Arabic), Ed. mufid mḥmmad Qumayḥah, 1st ed., Dār al-Kutub alʻlmyyah, Beirut, 1983.
Alzayyāt, Aḥmad Ḥasan. Tārīkh al-adab alʻrbī (in Arabic), Dār Nahḍat Miṣr, Cairo [n.d].
Bakr, Ayman. al-sard fī Maqāmāt alhmdhānī (in Arabic), al-Hayʼah almṣryyah alʻāmmah lil-Kitāb, Cairo, 1998.
Barthes, Roland, and others. Ṭarāʼiq taḥlīl al-sard al-Adabī (in Arabic), 1st ed., Manshūrāt Ittiḥād Kitāb al-Maghrib, Rabat, 1992.
Bourneuf, Roland and Onellet, Real. ʻĀlam al-riwāyah (in Arabic), Tr. Nihād al-Takarlī, murājaʻat Fuʼād al-Takarlī Wad. Muḥsin al-Mūsawī, 1st ed., Dār al-Shuʼūn althqāfyyah alʻāmmah, Baghdad, 1991.
Ḍayf, Shawqī. al-fann wa-madhāhibuhu fī al-nathr alʻrbī (in Arabic), 10th ed., Dār al-Maʻārif, Cairo, 1983.
De Saussure, Ferdinand. Muḥāḍarāt fī ʻilm al-lisān al-ʻāmm (in Arabic), Tr. ʻAbd al-Qādir qnyny, Afrīqiyā al-Sharq, Casablanca, 2008.
Dujlās, fdwh Māliṭī. bināʼ alnṣṣ altrāthī (in Arabic), al-Hayʼah almṣryyah al-ʻĀmmah lil-Kitāb, Cairo, 1985.
Ḥasan, Muḥammad Rashād. Athar al-Maqāmah fī Nashʼat alqṣṣah almṣryyah (in Arabic), al-Hayʼah almṣryyah alʻāmmah lil-Kitāb, Cairo, 1974.
Ibrāhīm, ʻAbd lillāh. alsrdyyah alʻrbyyah, baḥth fī al-binyah alsrdyyah lil-mawrūth al-ḥikāʼī alʻrbī (in Arabic), 1st ed., al-Markaz althqāfī alʻrbī, Beirut, 1992.
Kāẓim, Nādir. al-Maqāmāt wāltlqqy (in Arabic), 1st ed., almʼsssh al-ʻArabīyah lil-Dirāsāt wa-al-Nashr, Beirut, 2003.
Kīlīṭū, ʻAbd alfttāḥ. al-Maqāmāt al-sard wa-al-ansāq althqāfyyah (in Arabic), Tr. ʻAbd al-kabīr al-Sharqāwī, 2nd ed., Dār Tūbqāl, Casablanca, 2001.
Mubārak, Zakī. al-nathr alfnny fī al-qarn al-rābiʻ (in Arabic), Hindāwī, Cairo, 2012.
Murtaḍ, ‘bd Al-malik. Fan al-Maqāmāt fī al-‘dab al-Arabī (in Arabic). Al-mū’ssasa al-Arabīa lilkittāb. Algeria/ Al-Dar al-Tūnisīa lilnashur. Tunisia, 1988.
Najm, Mḥmmad Yūsuf. alqṣṣah fī al-adab alʻrbī al-ḥadīth (in Arabic), Dār Miṣr lil-Ṭibāʻah, Cairo, 1952.
Ṣmmūd, Ḥmmādy. al-Wajh wālqfā fī talāzum al-Turāth wa-al-ḥadāthah (in Arabic), 1st ed., Dār al-Kitāb al-jadīd al-Muttaḥidah, Beirut, 2018.
Todorov, Tzvetan. alshiʻryyah (in Arabic), Tr. Shukrī al-Mabkhūt wrjāʼ ibn Salāmah, 2nd ed., Dār Tūbqāl lil-Nashr, Casablanca, 1990.
[1] من الغريب أنَّ فكرة قواعد الفنّ القصصي – التي أدار حولها نادر كاظم موجةً من موجات تلقّي المقامات – تبدو حاكمةً في مثل هذه التقييمات، كما يقول الزيَّات: «ولم تراع قواعد الفنّ القصصي فيما كتب من هذا النوع». (398). وكأنَّ هذه القواعد مقرَّرة سلفا ومتداولة بين أدباء ذلك العصر، متناسين أنَّ تقريرها ما تمَّ إلا في العصر الحديث. محاكمة المقامات على هذه القواعد المفترضة تشبه محاكمة الذين عاشوا قبل الإسلام لكونهم لم يُسلموا!
[2] يذكر مارون عبوّد عددًا من المصادر منها الجاحظ والخمر وأوصاف الخيل والشتائم. لكنَّ خطَّة المقامات هي من عمل البديع، لا من غيره كابن فارس وابن دريد. (عبُّود 35-36). ويذكر الشكعةُ أنَّ قصَّة جُحا من مُلهمات البديع. (الشكعة 316). ويتوسَّع مرتاضُ في مصادر البديع، فيعدُّ منها بخلاء الجاحظ وشخصيَّة خالد بن يزيد ومقامات الزهَّاد وأحاديث الطفيليين. ومن الشعر قصيدتي الأحنف العُكبري وأبي دُلف الخزرجيّ. (مرتاض 47-132).