أنســـــــــاق
في الآداب
والعلوم
الإنسانية
تاريخ الاستلام :11 أغسطس 2024 تاريخ التحكيم: 11 نوفمبر 2024 تاريخ القبول: 9 مارس 2025
الدرس التداولي للغة القرآن الكريم عند الإمام الفراهي - مقاربة تحليلية
محمد يسلم المجود
باحث دكتوراه، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة قطر–قطر
yeslem86@hotmail.com
https://orcid.org/0009-0001-6690-2424
يهدف هذا البحث إلى الكشف عن جوانب من الصلة بين التراث التفسيري والمقاربة التداولية الحديثة، وذلك من خلال إبراز معالم المقاربة التداولية للغة القرآن الكريم عند العلامة عبد الحميد الفراهي، من واقع تراثه في التفسير وعلوم القرآن، حيث احتفى بتأكيد أهمية إدراك علاقة لغة القرآن بالاستعمال العربي القديم للغة، وتوقف عند أثر المعطيات اللغوية واللسانية والتداولية إبان نزول القرآن في الإحاطة بمعاني مفرداته وأساليبه وطرائقه في النظم والتعبير، ونبه إلى ضرورة مراعاة خصوصية لغة القرآن بوصفها رسالة وحي، وأحوال المخاطبين به والمتلقين الأوائل لرسالته، والمخاطب به جل في علاه.
وقد اعتمد البحث المنهج التحليلي في استنباط جهود الفراهي في توظيف مفاهيم المقاربة التداولية في دراسة لغة القرآن، وفي تجاوز الإشكالات التي وقع فيها بعض المفسرين والمستشرقين، ورصد أثرها في فتح آفاق تدبر أمثل للقرآن الكريم.
ووصل البحث إلى نتائج من أهمها: أن المتتبع لدراسات الفراهي وأبحاثه في دراسة لغة القرآن الكريم على مستوى المفردات والأساليب والنظم والسياق، سيدرك لا محالة ما تتسم به من غنى وما تتضمنه من توظيف لمفاهيم التحليل التداولي في دراسة الظواهر الأسلوبية القرآنية، وهو ما يؤكد أن علماء التفسير كانوا سابقين إلى تطبيق مضامين كثير من النظريات اللسانية التداولية، وإن لم يطلقوا عليها المصطلحات الحديثة.
وخلص البحث إلى أن تراث الإمام عبد الحميد الفراهي في التفسير وعلوم القرآن عموما وفي الدرس اللغوي للقرآن الكريم - على وجه الخصوص - غني بما يثري ساحة الدرس القرآني المعاصر، وإن لم يلق بعد ما يستحق من الدراسة والتمحيص والمتابعة.
الكلمات المفتاحية: التداولية، التفسير، أساليب القرآن، أسلوب الحذف، الفراهي
للاقتباس: المجود، محمد يسلم. »الدرس التداولي للغة القرآن الكريم عند الإمام الفراهي - مقاربة تحليلية«. مجلة أنساق في الآداب والعلوم الإنسانية، المجلد التاسع، العدد الأول، 2025. https://doi.org/10.29117/Ansaq.2025.0218
© 2025، المجود، الجهة المرخص لها: كلية الآداب والعلوم، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وتنبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0
Ansaq
in Arts and Humanities
Received: 11 August 2024 Peer-reviewed: 11 November 2024 Accepted: 9 March 2024
Imam al-Farahi's Pragmatics Study of the Language of the Qur'an–Analytical approach
Mohamed Yeslem El Moujawad
PhD Researcher, College of Shari'ah and Islamic Studies, Qatar University–Qatar
yeslem86@hotmail.com
https://orcid.org/0009-0001-6690-2424
Abstract
This research aims to show aspects of the relationship between the interpretive heritage and the modern Pragmatics approach by highlighting the features of the deliberative approach to the language of the Holy Qur'an by Abdul Hamid al-Farahi, based on his heritage in interpretation and Qur'anic sciences, where he celebrated the importance of recognizing the relationship between the language of the Qur'an and the ancient Arabic use of language. The research focused on the importance of recognizing the relationship between the language of the Qur'an and the ancient Arabic use of language, and the impact of the linguistic, linguistic and Pragmatics data during the revelation of the Qur'an on the meanings of its vocabulary, methods and ways of organizing and expressing, and the need to take into account the specificity of the language of the Qur'an as a message of revelation, and the conditions of those who addressed it, the first recipients of its message, and its addressee.
The research adopted the analytical approach in extracting Al-Farahi's efforts in employing the concepts of the Pragmatics approach in the study of the language of the Qur'an, overcoming the issues that some interpreters and orientalists fell into, and monitoring their impact in opening horizons for optimal reflection on the Holy Qur'an.
The research reached some of the most important results: Al-Farahi's studies and researches in the study of the language of the Holy Quran at the level of vocabulary, methods, systems and context will undoubtedly realize the richness of his studies and the use of the concepts of Pragmatics analysis in the study of Quranic stylistic phenomena, which confirms that scholars of interpretation were earlier to apply the contents of many Pragmatics linguistic theories, even if they did not call them modern terms.
The research concludes that the heritage of Imam Abdul Hamid al-Farahi in tafsir and Qur'anic sciences in general and in the linguistic study of the Holy Qur'an in particular is rich in what enriches the contemporary Qur'anic study, although it has not yet received the study, scrutiny and follow-up it deserves.
Keywords: Pragmatics; Interpretation; Qur'anic methods; Ellipsis; al-Farahi
Cite this article as: El Moujawad, M.Y. "Imam al-Farahi's Pragmatics Study of the Language of the Qur'an Analytical approach." Ansaq in Arts and Humanities, Vol. 9, No. 1, 2025, https://doi.org/10.29117/Ansaq.2025.0218
© 2025, El Moujawad, M.Y., licensee, College of Arts and Sciences & QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0
شهد البحث في الدراسات اللغوية للقرآن الكريم تطورات ونقلات منهجية نوعية في العصر الحديث، أملاها ما توصلت إليه الدراسات اللسانية الحديثة من نمو وتطور وما فتحته من إمكانات وآفاق في تعميق الدراسات اللغوية القديمة للقرآن الكريم.
ليس بدعًا القول إن السمة التداولية في دراسة لغة القرآن الكريم عند المفسرين والكاتبين في علوم القرآن كانت جلية، في كثير من مباحث الألفاظ القرآنية، ووجوه استعمال الأساليب، ومقاصد الخطاب، وسياقه وأغراضه، وغير ذلك من وجوه البحث عن المعنى وعلاقته بالكلام والمتكلم والسامع.
ولئن كان الباحث في كتب التفسير وعلوم القرآن الكريم في التراث الإسلامي، لا يعدم العثور على كثير من المباحث التي تتقاطع مع مباحث المقاربة التداولية الحديثة، فإن الباحث في تراث الفراهي في الدرس القرآني على وجه الخصوص يجد لديه من التوظيف للمعطيات اللغوية واللسانية والتداولية، في فهم مفردات القرآن وأساليبه وطرائقه في النظم والتعبير، ما لا يجد عند غيره.
وعلى الرغم من ذلك فإن دراسات الفراهي عموما وفي لغة القرآن على وجه الخصوص، لم تجد بعد ما تستحق من الدراسة والتمحيص والمتابعة.
ومن هنا، فإن مشكلة هذا البحث تتمثل في الكشف عن ملامح الدرس التداولي للغة القرآن الكريم، عند الإمام – على مستوى المفردات والأساليب والنظام – ومسوغات اعتباره درسًا تداوليًا وإن توفى صاحبه قبل ميلاد المقاربة التداولية بعقود.
السؤال المركزي لهذا البحث هو: هل يمكن اعتبار مقاربة الفراهي للغة القرآن مقاربة تداولية؟ وتنبثق من هذا السؤال أسئلة فرعية من قبيل ما المقاربة التداولية للغة؟ وما معالم الدرس التداولي للغة القرآن الكريم عند الإمام الفراهي؟
غدت المقاربة التداولية في العقود الماضية إحدى أهم المقاربات التي تشغل العقل المنهجي المعاصر شرقًا وغربًا؛ لما تبشر به من جمع بين المستويات المختلفة في دراسة اللغة؛ يتجاوز دراسة التراكيب والدلالات إلى دراسة علاقة اللغة بالمستعملين لها.
ولما كانت مقاربة الفراهي للغة القرآن الكريم، تشارك المقاربة التداولية في تأكيد أهمية الوعي بالمعطيات اللغوية واللسانية والتداولية، إبان نزول القرآن وعلاقتها بالاستعمال العربي القديم للغة وأثرها في الإحاطة بمعاني مفردات القرآن وأساليبه ونظامه، فإن اتخاذ المقاربة التداولية مرآة لقراءة إنتاج الفراهي في الدرس اللغوي للقرآن الكريم يكتسب أهميته من جهتين الأولى: تقييم الدرس اللغوي للقرآن عند الفراهي بعرضه على آخر ما توصلت إليه الدراسات التداولية المعاصرة مما يسهم في تحيينه، والثانية: رفد الدراسات التداولية لحقل التفسير وعلوم القرآن بنماذج تطبيقية من مدونة الفراهي في التفسير وعلوم القرآن.
- تأكيد أهمية إبراز التواشج المعرفي القائم بين الدرس التداولي، والدرس اللغوي للقرآن عند المفسرين والدارسين لعلوم القرآن الكريم في التراث الإسلامي، واستثمار منجزات الدرس اللساني الحديث في النهوض بالدراسات اللغوية القديمة للقرآن الكريم.
- الكشف عن جانب من خصائص الدرس اللغوي للقرآن عند واحد من أبرز مفسري القرآن والمجددين لعلومه في مطالع العصر الحديث؛ من أجل التنقيب عن مثل هذه الخصائص وترسيخها واستثمار ما توصلت إليه الدراسات اللسانية الحديثة في البناء عليها والنهوض بها.
لم نطلع على دراسات تُفرد بالبحث والتحليل مقاربة الفراهي التداولية للغة القرآن الكريم، ولعل لذلك ما يسوغه؛ فمن جهة أولى توفي الفراهي رحمه قبل ميلاد الدراسات التداولية بمفاهيمها ومصطلحاتها ومدارسها الحديثة، ومن جهة ثانية لم يحظ تراث الفراهي عموما - رغم قيمته المعرفية - بالدارسة اللائقة به بعد.
تتكون هذه الدراسة من مقدمة وثلاثة محاور، كما يلي:
1. التداولية: المفهوم والوظائف.
2. أبعاد اللسانيات التداولية في تراث الفراهي.
3. المقاربة التداولية للغة القرآن الكريم عند الفراهي: أسلوب الحذف نموذجًا.
التداولية هي ترجمة للمصطلح الأجنبي (pragmatics) الذي ظهر منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي في الدراسات اللسانية الغربية، بهدف دراسة كيفية فهم الناس للحدث التواصلي communicative، أو الحدث الكلامي speech act، في سياق ما (بلانشيه 17).
ولن نتعمق في هذا البحث في ذكر تفاصيل الدرس التداولي المتشعب، بقدر ما سنقف عند تعريفه وأهميته ووظائفه المنهجية على النحو الآتي:
يقول طه عبد الرحمن: «تداول الناس كذا بينهم، يفيد معنى تناقله الناس وأداروه فيما بينهم ومن المعروف أيضا أن مفهوم النقل والدوران مستعملان في نطاق اللغة الملفوظة... فيقال؛ نقل الكلام عن قائله يعني رواه عنه... ويقال دار على الألسن بمعنى جرى عليها، ... فالنقل والدوران يدلان في استخدامهما اللغوي على معنى التواصل، وفي استخدامهما التجريبي على معنى الحركة بين الفاعلين... فيكون التداول جامعا بين اثنين هما التواصل والتفاعل، فبمقتضى التواصل يكون القول موصولا بالفعل» (عبد الرحمن 244).
ومن الناحية الاصطلاحية تعدّ المقاربة التداولية «فرعًا من علم اللغة يبحث في اكتشاف السامع مقاصد المتكلم أو هو دراسة معنى المتكلم» (نحلة 12).
وقد عُرفت المقاربة التداولية بتعريفات كثيرة منها أنها: «دراسة في شرائط استعمال اللغة، أو أنها دراسة للمعنى التواصلي أو معنى المرسل في كيفية قدرته على إفهام المرسل إليه بدرجة تتجاوز معنى ما قاله (الدوسري 22).
ولعل أفضل التعاريف العربية للتداولية أنها: «مذهب لساني يدرس علاقة النشاط اللغوي بمستعمليه وطرق وكيفيات استخدام العلامات اللغوية بنجاح، والسياقات والطبقات المقامية المختلفة التي ينجز ضمنها الخطاب والبحث عن العوامل التي تجعل من الخطاب رسالة تواصلية ناجحة» (صحراوي 40).
وتتجلى ميزة هذا التعريف في تركيزه على إبراز السمة التداولية للغة، وعلاقتها بالاستعمال والسياق الذي يتجاوز مستوى البنية اللغوية إلى الفضاء الثقافي والاجتماعي الذي يدور فيه النشاط اللغوي، وعلاقة الكلام بالمتكلم والسامع والمعنى والمقام.
ظهرت التداولية بوصفها منهجًا لسانيًا مستقلًا في سبعينيات القرن الماضي. وترتكز وظائف التداولية الأساسية كمنهج على مقومات من أبرزها:
- أنها «لا تدرس البنية اللغوية ذاتها، ولكنها تدرس اللغة عند استعمالها في الطبقات المقامية المختلفة؛ أي باعتبارها كلاما محددا صادرا من متكلم محدد، وموجها إلى مخاطب محدد بلفظ محدد، في مقام تواصلي محدد لتحقيق غرض تواصلي محدد».
- أنها تشرح كيفية جريان العمليات الاستدلالية في معالجة الملفوظات.
- أنها تقوم ببيان أسباب أفضلية التواصل غير المباشر وغير الحرفي على التواصل الحرفي المباشر.
- أنها تشرح أسباب فشل المعالجة اللسانية الصرفة في معالجة الملفوظات (صحراوي 40).
وعلى الرغم من أن التداولية لم تصبح منهجا في الدرس اللساني إلا في القرن الماضي، فإن كثيرا من التفاسير والدراسات القرآنية في التراث الإسلامي حافلة بالمباحث والتطبيقات التي تشترك مع التداولية في التشديد على أهمية الوعي بعلاقة النشاط اللغوي بالمستعملين للغة، والبيئة التي يجري فيها النشاط اللغوي، ومنازل أطراف الحديث، إلى غير ذلك من مباحث الدرس التداولي المعاصر إلى درجة يمكن من خلالها الجزم بأن «دراسات المفسرين وتفاسيرهم تداولية قطعا؛ فقد استأثروا بفهم طرق تأليف اللفظ، ووجه استعمال الكلام، وبفهم مقاصد الخطاب وسياقه وأغراضه كما بحثوا في المعنى وأنواعه، ومن هذه الزوايا ينخرط الخطاب التفسيري في مقولات التواصل/الحوار/المعنى/التأويل وهي مفاهيم لا ينفك الدرس التداولي يثريها» (الرحموني 12).
ومن جانب آخر يشترك خطاب التفسير وعلمه مع التداولية في البحث عن المعنى؛ فالتداولية تبحث عن المعنى في علاقته مع الفعل المترتب على القول، وخطاب التفسير يقوم على الغرض والمقاصد التي تتنوع بحسب الاعتقادات والمعارف من جهة، وبحسب متداولي الخطاب من جهة أخرى، وهاتان النقطتان تشكلان قاعدة للتأويل والفهم في علوم التفسير وفي التداوليات اللسانية والمعرفية (الرحموني 14).
ولما كان لمقاربة الفراهي التداولية للغة القرآن الكريم جانبان: نظري وتطبيقي، فسوف نسلط الضوء أولا على الجانب النظري، من خلال الوقوف على الأبعاد التداولية النظرية في مقاربته للغة القرآن الكريم، ثم نقدم ثانيا نموذجًا تطبيقيًا يعضد اندراج مقاربته في الدرس التداولي الحديث.
تتعدد وجوه المقاربة التداولية وتختلف مباحثها لاتساعها واختلاف نشأتها وتنوع مداخل النظر إليها مما يجعل الإلمام بها كلها مستعصيا، وليس واردا في بحث ليس من همه الدخول في تفصيل هذا العلم المتشعب، إلا بقدر ما يبرز الصلة بين مباحثه وجوانب من الدرس اللغوي للقرآن الكريم عند الإمام عبد الحميد الفراهي[1].
لذلك سوف نركز هنا على عرض الجانب النظري للتشابه بين مباحث منتقاة من الدرس التداولي، وما يوازيها في تراث الفراهي على النحو الآتي:
تعني الأفعال الكلامية في أبسط تعريفاتها: الألفاظ التي يتوسل بها إلى التأثير في المخاطب لإنجاز شيء ما، كالطلب والأمر والنهي والوعد والوعيد وغيرها.
وتقوم نظرية الأفعال الكلامية على مبدأ يتمثل في أن وظيفة اللغة هي التأثير في العالم وصناعته؛ وليست مجرد أداة للتفكير أو لوصف الأنشطة الإنسانية (صحراوي 17).
والأفعال الكلامية بحسب أوستين ثلاثة:
ولئن كانت نظرية الأفعال الكلامية إنما ظهرت بعد وفاة الفراهي بعقود، فإن القارئ لتراثه يجد إشارات ونصوصًا ومفاهيم متعددة تؤكد ممارسته لاستثمار الأدوات التداولية في فهم وتحليل لغة القرآن الكريم، سواء من جهة التأكيد على القوة الإنجازية والاستدلالية لأساليب القرآن البلاغية، أو من جهة اعتبار قصد المتكلم ومراده من الخطاب وأساليب الحجاج.
يقول الفراهي: «لا كلام إلا تحته إرادة ونية من صدق أو كذب، خير أو شر، مصلح أو مفسد، فإنما هو صورة لما في القلب، وأثر منه، وآية عليه، فهو ذو حياة وروح يحس به السامع، ويتأثر له حسب استعداده، فرب كلام أحيا أمة صالحة، وإن شقي به ذو شقوة كمطر أصاب صلدا، ومن هذا الإحساس قالوا الحق أبلج والباطل لجلج» (الفراهي، جمهرة البلاغة 243).
ويقول أيضا: «اعلم أن الخطابة لما كان مقصدها العمل والبعث عليه، فلابد أن تكون مشتملة على الأمور المؤثرة في النفوس وباعثة لها على عمل يشق عليها» (الفراهي، جمهرة البلاغة 133).
وقد لا نُجانب الصواب إذا زعمنا أن الفراهي رحمه الله كان سابقا في نقد المعالجة التقليدية للغة التي تتخذ منها موقفا فلسفيا يجعل وظيفتها مقتصرة على الوصف والحكم عليها بالصدق والكذب، أو موقفا نحويا لا يجاوز تحليل الأنماط الأربعة للجمل: الجمل الخبرية والجمل الاستفهامية وجمل التعجب، وجمل الطلب والتمني؛ وهو المنحى النقدي نفسه الذي انتحاه بعض مؤسسي الدرس التداولي الحديث مثل أوستين وتلميذه سورل.
يقول الفراهي: «الكلام قسمان: حكم وإنشاء. وقصارى الحكم، العلم: إثباتا أو نفيا. وقصارى الإنشاء، الحركة: رغبة أو نفرة. وعلم من هذا أن مرادنا من الحكم والإنشاء غير مراد النحويين. فرب إنشاء لتأكيد الحكم كالاستفهام والقسم» (الفراهي، التكميل في أصول التأويل 245).
لا يقتصر الفراهي في هذا النص الموجز على نقد التحليل الوظيفي للخبر والإنشاء ومعايير التمييز بينهما عند النحاة المتقدمين، بل إنه ينتهج - كما هو جلي لمن تدبر هذا الاقتباس- المسلك التداولي في التمييز بين الخبر والإنشاء من خلال معايير أربعة:
أولًا: أنه يضع الخبر ضمن صنف «التقريرات» ويجعل الغرض المتضمن في القول (الحكم) العلم إثباتًا أو نفيا، أي أنه يقرر «مسؤولية المتكلم عن صحة ما يتلفظ به».
ثانيًا: أنه يجعل غاية الإنشاء البعث على الحركة سواء على جهة الترغيب أو التنفير؛ وهو ما يشمل: الأمريات (الأمر والنهي والاستفهام...) والبوحيات (الذم، والمدح، والتعجب) بتعبير التداوليين المعاصرين.
ثالثًا: أنه يجعل القصد والقوة الإنجازية التي تحملها العبارة معيارًا أساسيا - لا قرينة مساعدة - في التمييز بين الخبر (الحكم) والإنشاء. وفي العدول عن أحد الأسلوبين إلى الآخر.
رابعًا: التنبيه إلى مراعاة القصد في الاستفهام وإلى ما سبق أن أشرنا إليه من كون القَسَم صنفًا من أصناف «الفعل الكلامي التأكيدي» وفق المصطلح التداولي.
أليست هذه هي نفسها المعايير التي سلك سيرل في التمييز بين الخبر والإنشاء؟ وهل يكون القول بعد هذا إن الفراهي كان سابقا للتداوليين المعاصرين في وضع معايير دقيقة للتمييز بين الخبر والإنشاء نابعا من تعاطف غير علمي؟!
ولما كانت الأساليب الخبرية والإنشائية في البلاغة العربية أفعالا كلامية إنجازية بتعبير أوستين (Austin، How to Do Things with Words). وسورل (Speech Acts, An Essay in the Philosophy of Language) والتداوليين عموما، فسوف نعرض نماذج من مقاربة الفراهي لهذين الأسلوبين؛ تتضمن تأكيده على اعتبار قصد المتكلم ومراده من الخطاب والقوة الإنجازية التي يحملها هذا الأسلوب.
من أمثلة «الفعل التأثيري» الناتج عن القول وما يترتب عليه من تأثير في مشاعر المتلقي وفكره، ما يتردد في القرآن الكريم من وضع الدليل في غير صورته؛ لكيلا يبادر المنكر إلى المخاصمة؛ وليعمل عقله في الفكر والاستنباط.
يقول الفراهي مبرزًا الأثر التداولي في العدول عن استعمال الخبر إلى الإنشاء في مطلع سورة العصر: «إن حولت قوله تعالى: ﴿وَٱلۡعَصۡرِ١ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَفِي خُسۡرٍ٢﴾، وجدت بعد هذا التحويل من الإنشاء إلى الخبر فرقًا واضحًا بينه وبين صريح الاستدلال؛ وهو أن تقول: إن الإنسان لفي خسر؛ لأن مر الزمان ينقص العمر، فإن هذا الاستدلال مع صحته وظهوره يدعو الخصم لحبه الجدل إلى الإنكار به. أو بالذي ينتج منه: وهو الاعتماد على الإيمان والعمل الصالح. فإنه سيقول: كلا، إن الإنسان لفي ربح عظيم، فإنه يشتري اللذائذ ويقتني المنى، بهذا العمر الذي لا بد أن يفنى. أو سيقول: كلا، فإنه إذ لا بد من البلى، فالتمتع بالشهوات أولى، كما قال الملك الضليل بن حجر القتيل:
تَمَتَّع مِنَ الدُنيا فَإِنَّكَ فان مِنَ النَّشَواتِ وَالنِساءِ الحِسانِ
ولا شك أن تلك حجة داحضة. ولكن إذا فتح باب الجدال، كثر القيل والقال. وكلما زدت إيضاحًا، ازداد الخصم جماحًا. فيحسن أحيانًا أن تذهله عن وجه النزاع، فإن للإنسان به ضراوة كضراوة السباع. وكانت العرب أشد الأمم جدلًا، وأحدّهم مقولًا، كما قال تعالى: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَۢاۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٌ خَصِمُونَ﴾، وكذلك سماهم ﴿قَوۡمٗا لُّدّٗا﴾» (الفراهي، تعليقات في تفسير القرآن 388).
في هذا التحليل التداولي للاستعمال القرآني لأسلوبي الخبر والإنشاء، يستحضر الفراهي السمات التداولية للخطاب القرآني، باستدعاء ثقافة المخاطَب وخصائصه الذهنية، وأثرها في استعمال الأساليب البلاغية التي تؤثر في إقناعه وكبح جماح جداله وعناده.
من الأساليب التي تترد في القرآن الكريم كثيرًا أسلوب القسم؛ وكثير من أقسام القرآن في أصلها إخبار وإشهاد بآيات الله في الأنفس والآفاق والتاريخ؛ وإنما عدل فيها عن الخبر إلى الإنشاء لمقتضيات حجاجية وتداولية يقول الفراهي:
«القسم إنشاء. وذلك يبهم طريق الإنكار على الخصم. فإنه إن شاء أنكر جواب القسم، لكونه خبرًا، ولكن لا يسنح له أن ينكر نفس القسم، لكونه إنشاء. كما أنه لا يتوجه إلى إنكار الصفة مع أنهما في الحقيقة من الأخبار. وربما تجمع أقسام القرآن هذين الخبرين، كالقسم بالقرآن المجيد، وباليوم الموعود، وبالمقسمات أمرًا، وبالفارقات فرقًا، وبالصافات صفا.
فإن شرحتها رأيت فيها جملتين خبريتين. مثلًا: إن الملائكة صافون كالعبيد، وإن الرياح تفرق وتميز حسب أمر الله، وإن لهم يومًا موعودًا، وإن هذا القرآن مجيد. فهذه أخبار أدمجت في الصفات، ثم زيد عليها ما أدرج من القسم. وهي أن هذه الأشياء شواهد ودلائل» (الفراهي، تعليقات في تفسير القرآن 388).
إن سمات المنحى التداولي في تحليل الفراهي لأسلوب القسم في هذا الاقتباس تتجلى في النقاط التالية:
أولا: أنه يدرس القسم باعتباره معنى من المعاني لا غرضا من أغراض التواصل كما نجد عند النحاة المتقدمين.
ثانيا: أنه يدرج القسم ضمن ما يسميه سيرل «درجة الشدة للغرض الإنجازي» المتضمن في القول، عندما يشير إلى أن القسم تأكيد للحكم أي صنف من أصناف «الفعل الكلامي التأكيدي» وفق المصطلح التداولي.
ثالثا: أنه لا يحصر معنى القسم في الغرض التواصلي الذي يرمي إلى دفع المخاطب إلى لوثوق بالكلام فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى بيان السمة الحجاجية للقسم ذلك أن أقسام القرآن الكريم أفعال تأكيدية، تتضمن شواهد وأدلة نفسية وتاريخية وكونية تحاصر المخاطبين وتستدل عليهم بما لا يسعهم دفعه.
ربما يستعمل الاستفهام بدل الإخبار لدواع حجاجيه كقولك: ألا ترى ذلك؟ وهل سمعت هذا؟ أو كما استفهم النبي عليه السلام في خطبة الوداع حيث سألهم: أي بلد هذا؟ وأي شهر هذا؟ وأي يوم هذا؟.
وسبب العدول في مثل هذا الأسلوب أن الاستفهام يؤكد الحكم ويجلب الالتفات، وينشط السمع، وذلك لأن «إشراك السامع في استنباط الدليل مما يكسر سورة خصامه. فإنه إذا علم شيئًا بعد التأمل فرح به واهتز له. فإن المتكلم إذا جعل السامع منفعلًا محضًا أتعبه وصار كلامه عليه ثقلًا. وهذا إذا لم يخالف رأيه. فإذا خالفه اشمأز منه وسد عنه أذنه» (الفراهي، إمعان في أقسام القرآن 51).
فأنت ترى الفراهي في تحليله للاستعمال القرآني لأسلوب الخبر والإنشاء والقسم والاستفهام في هذه الأمثلة، ينبه على ما فيها من إشراك السامع أو المتلقي في إنتاج المعنى لا أخذه جاهزًا، وذلك بواسطة عمليات استدلالية ينتقل فيها المتلقي من اللفظ ومعناه الظاهر المتعارف عليه إلى المعنى الذي يقصده المتكلم.
تعني القصدية Intentionality أن الكلام بطبيعته بحاجة إلى قارئ يمتلك أدوات فهمه والوصول إلى مكامنه وصوره البلاغية، وأن التواصل الناجح بين المتكلم والسامع يجري من خلال التواضع على إزاحة العوائق التي تحول دون الفهم أو تؤدي إلى سوء التأويل، بوضع علامات تعين المتكلم على فهم النص ومكان الإبداع فيه.
وقد اهتم الفراهي بالربط بين التراكيب اللغوية ومراعاة غرض المتكلم والقصد العام من الخطاب وهو ما يعرف في التداولية الحديثة بالقصدية (Intentionality) بمعنى الربط بين التراكيب اللغوية ومراعاة غرض المتكلم والقصد العام من الخطاب.
يقول الفراهي رحمه الله : «دلالة الكلام فيما بين المتخاطبين بلسانيهما، لا يكون بتطابق الألفاظ ومعانيها؛ بل بتطابق الموقع والمعاني، وأما الألفاظ فلا التفات إليها، فيُفهم ما هو المراد وإن قصرت الألفاظ وتحولت عن سننها، كما قال تعالى: ﴿إِن يَعۡلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمۡ خَيۡرٗا يُؤۡتِكُمۡ خَيۡرٗا مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمۡ﴾ [الأنفال: 71]؛ أي إن عملتم خيرا وشهدت أعمالكم على ما في قلوبكم؛ ومثله: ﴿وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ﴾ [آل عمران: 142؛ التوبة: 16]» (الفراهي، أساليب القرآن 158).
ويقول في السياق نفسه أيضا: «الألفاظ ربما تصرف عن قواعدها الصحيحة العامة لأجل المعنى الذي يبلغ نفسه بقوة فيه، ويجد الألفاظ حجابا وثقلا عليه» (الفراهي، جمهرة البلاغة 114).
وقد أكد الفراهي كذلك ضرورة مراعاة سياقات استعمال الكلام في التأثير على المخاطبين بقوله: «الكلام إما هو خطاب إلى العواطف، أو إلى العقول، أو إلى الروح. الأول: يناسبه محاسن ظاهرة من مناسبة اللفظ، وتصوير المعاني. والثاني: نظره إلى قوة الحجة وترتيب المقدمات مع الوضاحة. والثالث: نظره إلى معالي الأمور. والثالث يحوي محاسن الثاني، كما هو يحوي محاسن الأول» (الفراهي، جمهرة البلاغة 110).
والفراهي بهذا يريد أن يبيّن لك الفرق بين بلاغة القرآن الكريم والبلاغات البشرية، فالأولى غايتها التأثير في النفوس بمعالي الأمور والحكمة الإلهية، والثانية لا تتخذ الحكمة ومعالي الأمور غاية لها، بينما تدرس البلاغة من منظور أدبي دنيوي غايته العليا الإمتاع والإقناع المجرد من المعاني الخلقية، يقول الفراهي: «اعلم أن البيان كالظل والأثر للنطق الذي هو مقوم للإنسان، كما أن النطق ظل من الوحي الأعلى وكلمة الله العليا، فالبحث عن أوليات علم البيان يجلبنا إلى الحكمة الإلهية» (الفراهي، جمهرة البلاغة 97).
ولا يكتفي الفراهي في تشديده على علاقة المعنى بالإفهام بهذا القدر، بل إنه يقدم أصولا وضوابط تضمن كفاءة التواصل وتسهم في حصر المعاني المتداولة بين المرسل والمرسل إليه في معانٍ صريحة وحقيقية وواضحة، وهو ما يعرف بالشروط الأخلاقية للتواصل ويذكر الفراهي منها:
أولا: مطابقة الكلام للمعنى لينا وخشونة وحلاوة ومرارة، حسب ما أردت من المدح والذم ويتحقق ذلك بأمرين: الاعتدال، وتنقيح الألفاظ بمعنى وضع الكلمات في موضعها الخاص.
ثانيا: الوضوح بمعني ألا يتشدد المتكلم في تصوير أمور جلية وأن يوظف المقابلة والتشبيه والتمثيل في إبلاغ الكلام، وبعبارة الفراهي: «أن تكون بين المتكلم والمستمع عبارة يشتركان في علم دلالتها ولزم من ذلك أن يعلما العبارة والمعنى معا» (الفراهي جمهرة البلاغة 136).
ثالثا: تجنب الفضول وحسن الترتيب وصحته، يقول الفراهي: «الكلام ليس إلا البلاغ، ولا يتم ذلك إلا بمطابقته بالأصل الأول، وبالذي في خيال المتكلم، وبكونه واضح الدلالة، أو صائب الإشارة، وبكونه مؤثرا، حسب حال المستمع؛ إما لينًا سائغًا، أو خشنًا دامغًا» (الفراهي، جمهرة البلاغة 135).
وكثيرًا ما يتردد في أساليب القرآن الكريم العدول عن أسلوب بلاغي إلى آخر؛ لأسباب تداولية تعود إلى مراعاة قصد المتكلم وسياق الخطاب؛ إذ لا اعتبار لأشكال الكلام وصيغه ما كان الغرض التواصلي واضحًا.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا﴾ [الكهف: 77]، يقول الفراهي: «ليس في الظاهر بسؤال ولكن العبرة بالمعنى. وهذا دليل على أن المعنى هو المعتبر، فإذا اتحد المعنى فأساليب الكلام سواء» (الفراهي، تعليقات في التفسير 1/388).
وما يستفاد من هذا المثال هو ضرورة معرفة السياق لمعرفة المعنى، وبعبارة أخرى معرفة السياق لمعرفة القصد.
يدرس الحجاج Argumentation بوصفه خطابًا يستهدف استمالة المتلقي والتأثير في سلوكه، وقد عرفه بيرلمان بتعريف يكشف عن وظيفته في حمل المتلقي على «الاقتناع بما نعرضه عليه أو الزيادة في حجم هذا الاقتناع، فالنص الشعري لا يرصف الالفاظ في موسيقى موزونة فقط بل يهدف إلى الحث والإقناع» (الدريدي 21).
وعرف عبد الله صولة في كتابه القيم: الحجاج في القرآن الكريم بأنه: «درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات أو أن تزيد في درجة التسليم. أو قل هو: دراسة العلاقة القائمة بين ظاهر الكلام وضمنيه» (صولة 58).
والحجاج من أبزر المجالات التي تبين استعمالات اللغة المختلفة في إطار التفاعل بين المستخدمين، وهو يشكل آلية مهمة في مجال التداولية لكونه يتأسس على التفاعل والتبادل بين أطراف الخطاب، فالمستمع قد يتحول إلى متكلم والعكس، ولضمان نجاح الحجاج والحوار لا بد من الالتفات إلى السامع ومراعاة حالته النفسية والمعرفية.
وفي هذا السياق يقول الفراهي: «الكلام تنازع الحديث وإن سكت السامع، ويرى منصتا فإنهما يجريان معا قائدا ومقودا، فإذا وقف السامع – والمتكلم جار على رسله – ذهب كلامه ضائعا كأنه لم يتكلم. فإذا علمت ذلك تبينت لك شدة الحاجة إلى رعاية جانب السامع، وهديت إلى حكمة أساليب لم تكن للكلام لولا هذا الأصل الراسخ ... فمنها الحذف ليصير السامع متكلما في نفسه، فيعمل عقله، ومنها منبهات الرغبة والنفرة، ومنا الالتفات؛ لينتبه بما أحس من تجديد، ومنها التمثيل ليشاهد محسوسا فينتبه من رقدته، ومنها كل تبدل من الحركات والالتفات ومهيجات الضحك والحزن، فهذه الأمور مع فوائدها الأُخر أسباب لانتباه السامع» (الفراهي، دلائل النظام 222).
من الأمثلة الدالة على مراعاة جانب السامع في الأساليب القرآنية، حذف الروابط العقلية والاعتماد على روابط الخيال والفكر في الوصل بين أطراف المعاني للتأثير في المخاطب، وحثه على إعمال العقل في تقدير المعاني المحذوفة.
وقد توقف الفراهي عند هذا النوع من الحذف المعنوي وحلله تحليلا عميقا وقدم عليه مثالا تطبيقيا. نورده بطوله لقيمته، ولكونه يشرح جانبا من تميز مقاربة الفراهي لأساليب القرآن التي بناها على التدبر والاستقراء وتأويل الفرقان بالفرقان. يقول الفراهي محللا أسلوب «الوصل بالمحذوف» لأغراض حجاجية في قوله تعالى: ﴿وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ٢٠ ٱتَّبِعُواْ مَن لَّا يَسَۡٔلُكُمۡ أَجۡرٗا وَهُم مُّهۡتَدُونَ٢١ وَمَا لِيَ لَآ أَعۡبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ٢٢ ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً إِن يُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَٰنُ بِضُرّٖ لَّا تُغۡنِ عَنِّي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡٔٗا وَلَا يُنقِذُونِ٢٣ إِنِّيٓ إِذٗا لَّفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ٢٤ إِنِّيٓ ءَامَنتُ بِرَبِّكُمۡ فَٱسۡمَعُونِ٢٥ قِيلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ٢٦ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ٢٧ ۞وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِن جُندٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ٢٨ إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ خَٰمِدُونَ٢٩ يَٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ٣٠﴾ [يس: 20-30].
«لم أجد في كلام تقريب البعيدين كما وجدت في القرآن؛ يحذف من القصة أمورا لا يكاد يحذفها أحد، ويوصل الطرفين، والغرض ليس إلا صرف الذهن عن أمور لا يعلق بها الغرض، ولكيلا تضيع قوة الذهن، وتتفرق همته كما ترى في قوله تعالى: ﴿وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ٢٠ ٱتَّبِعُواْ مَن لَّا يَسَۡٔلُكُمۡ أَجۡرٗا وَهُم مُّهۡتَدُونَ٢١﴾
1- فغضب قومه وتألبوا عليه فقال: ﴿وَمَا لِيَ لَآ أَعۡبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ٢٢﴾؛
2- فقالوا أتترك آلهة كنا نعبدها نحن وآباؤنا، وتتخذ إلها واحدا؟ فقال: ﴿ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً إِن يُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَٰنُ بِضُرّٖ لَّا تُغۡنِ عَنِّي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡٔٗا وَلَا يُنقِذُونِ٢٣ إِنِّيٓ إِذٗا لَّفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ٢٤﴾؛
3- ثم التفت إلى المرسلين قائلا: ﴿إِنِّيٓ ءَامَنتُ بِرَبِّكُمۡ فَٱسۡمَعُونِ٢٥﴾؛
4- فلما آمن اشتد غضب قومه وألقوه في عذاب؛
5- فأرسل الله جنده من السماء، فقلب العذاب عليهم ونجاه منه، ثم قيل له: ﴿ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ﴾ فحينئذ ملئ قلبه من الشكر لله لنفسه، ومن الحسرة لقومه؛
6- فهتف، و﴿قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ٢٦ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ٢٧﴾.
فهذا باب الوصل بالمحذوف وإن تأملت في ذلك علمت أن في الحذف فائدتين أخريين: الأولى: حذف ما يُستكره ذكره؛ ومن ذلك حذف أقوال الكفار وأفعالهم وهو (1 و2 و4).
والثانية: حذف ما فيه الشغب والسرعة، فحذفه أبلغ وأوضح دلالة على ما في أصل الواقعة من كيفية القول والفعل. ومن السرعة (3 و5 و6).
أما سرعة (3 و6) فالأمر فيها ظاهر، وأما (5) فأخبر الله تعالى عن وقوعه بقوله: ﴿إِن كَانَتۡ إِلَّا صَيۡحَةٗ وَٰحِدَةٗ فَإِذَا هُمۡ خَٰمِدُونَ٢٩﴾ فهذا الأمر الثاني - أعني الدلالة على السرعة - أمر يتعلق بالوصل والحذف والترتيب فهذه الأبواب مشتبكة» (الفراهي، جمهرة البلاغة 213-114).
إن إضافة الفراهي في دراسة هذا الأسلوب لا تقتصر على كونه من سك هذا المصطلح وعرفه، ولا في هذا المثال القرآني المبتكر، والتحليل الحجاجي العميق الذي قدم له. وإنما أيضا في ربطه لهذا النوع من أساليب الحذف بالمقام النصي القرآني وبالسياق الثقافي العربي الذي نزل فيه القرآن الكريم. ويتجلى ذلك في نقاط:
أولها: تأكيد أن غرض هذا النوع من الحذف التأثير في المخاطب، وحثه على الفكر والتدبر في القرآن الكريم.
الثاني: بيان أسلوب القرآن في حذف ما يستكره ذكره مثل: غضب الكفار، ودفاعهم عن آلهتهم، وتعنيفهم لرسولهم في هذا المثال.
الثالث: تقديم نموذج من أساليب القرآن في حذف ما هو مدعاة لشغب المخاطبين، وهو باب من أبواب الحجاج المنسية في القرآن الكريم.
من الأمثلة القرآنية على استحضار الخلفية التواصلية للمخاطبين وأثرها في الحجاج والإقناع ما يرد في أساليب القرآن الكريم من إدراج الدليل في طي الكلام غير مصرح به.
يقول الفراهي: «كم رأينا في القرآن من إدراج الدليل في طي الكلام غير مصرح به لأن المخاطب إذا أحس بأنك تريد إثبات شيء أخذته النفرة، ولكنه إذا جاء مطويا أثر في قلبه، مثاله قوله تعالى: ﴿قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ٢٠ ٱتَّبِعُواْ مَن لَّا يَسَۡٔلُكُمۡ أَجۡرٗا وَهُم مُّهۡتَدُونَ٢١﴾، فنبه على أنهم يدعونكم من غير غرض لهم، وعدم الغرض لا يكفي للاتباع لمن ضلت نفسه ولكنهم مهتدون. فهذا بيان الدليل ليس بطريق الاحتجاج، بل على سبيل الاستمالة، ألا ترى كيف خاطبهم بكلام المودة، فقال: يَا قَوْمِ» (الفراهي، نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان 224).
ومنها كذلك قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ٢١ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ٢٢﴾ [البقرة: 21-22[
«فقوله تعالى: ﴿ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ﴾ يتضمن الدليل الواضح. فإن العبد إن لم يعبد ربه فمن ذا الذي يعبده؟ ثم بعد ذلك لم يذكر من صفات الرب إلا ما هو دليل كلي على كونه منفردا في استحقاق العبادة. ولذلك فرع عليه قوله: ﴿فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾. وهذا الأسلوب أكثر من أن يحصى، وهو مفتاح حسن النظام والحكمة وسلم التدبر» (الفراهي، أساليب القرآن 202).
وفي هذه الأمثلة كذلك استحضار للجوانب المستترة في الخطاب والقوانين التي تحكمها والسياقات التي تحف بها، أي أنها تستحضر الخلفية التواصلية للمتخاطبين وسياق حال التواصل وهو ما يعرف في التداولية المعاصرة بمتضمنات القول Implicites Les)) بشقيها: الافتراض المسبق (Pré-supposition)، والأقوال المضمرة (Les sous–entendus) (صحراوي 44-45).
يعدّ مفهوم السياق context أحد أهم مرتكزات اللسانيات التداولية في دراستها للغة أثناء استعمالها؛ إذ إنه يمثل الأداة الإجرائية للتنظير اللساني التداولي على مستوى اللغة، وعلى مستوى السياق الاجتماعي والثقافي والنفسي.
وينقسم السياق في المقاربة التداولية إلى سياقين:
الأول: السياق اللغوي أي مجموع العناصر اللغوية التي تحيط بجزء من الملفوظ، وتسهم في الكشف عن معناه فهو محيط الوحدات التي تسبق والتي تلحق وحدة معينة وهو كذلك تجسيد لتلك التتابعات اللغوية في شكل الخطاب من وحدات صوتية وصرفية ومعجمية وما بينهما من ترتيب وعلاقات تركيبية (الدريدي 21).
الثاني: السياق غير اللغوي وهو مجموع المقتضيات غير اللغوية التي يتحدد بمقتضاها الملفوظ على أنه رسالة في زمان ومكان محددين، وهذه العوامل تتصل بالمخاطب والمُخَاطَب وظروف الخطاب المختلفة، ويشمل دراسة العلاقات بين الموقف الاجتماعي والموقف اللساني، والسياق الموقفي أو سياق المقام والسياق والنفسي والخبرات والمعارف أي بكل ما له صلة بالمتكلم والمتلقي والظروف المحيطة بالخطاب عموما.
وقد توقف الفراهي في تفسيره وكتبه في علوم القرآن الكريم، عند مسألة السياق كثيرًا لما لها من أهمية قصوى في تأويل القرآن داعيا إلى دراسة السياق اللغوي والمقامي في القرآن دراسة تتجاوز مستوى العلاقة بين المفردات والجمل إلى العلاقات التي تحكم بنية النص القرآني كله.
ولما كانت مراعاة السياق أكثر ما تميزت به المقاربة التداولية ودعت إليه فسوف نعرض نموذجين: الأول للسياق اللغوي من خلال مقاربة الفراهي للمفردة القرآنية، أما الثاني فنعرضه في مبحث مستقل؛ لأنه نموذج يدل على المقاربة التداولية والتحليل البلاغي المستند إلى سياقات التداول.
لاحظ الفراهي – رحمه الله – أن دراسة المفردة القرآنية في كتب اللغة والتفسير وعلم الأصول - رغم قيمة الجهود التي بذلت فيها - لم تؤسس إجمالا على دعائم منهجية واضحة المعالم، ولم تستند إلى الاستقراء التام للاستعمال القرآني للمفردات، ويغيب عنها الضبط المصطلحي لمعاني ألفاظ القرآن الكريم المفردة، إضافة إلى كونها تغفل الفروق الجوهرية بين الاستعمال القرآني، والاستعمال العربي للمفردات قبل نزول القرآن.
وعلى هذا الأساس جعل الفراهي استكمال قصور الدراسات السابقة للمفردة القرآنية واحدا من الأسس التي بنى عليها خطته في تجديد مناهج التفسير القديمة، واقتراح مداخل تفسيرية جديدة تبني على الجهود القديمة وتتجاوزها، ولهذا الهدف صنّف كتابه الفريد مفردات القرآن الذي يؤكد فيه على «أن المعرفة بالألفاظ المفردة هي الخطوة الأولى في فهم الكلام. وبعضُ الجهل بالجزء يُفضي إلى زيادة جَهلٍ بالمجموع. وإنما يسلَم المرء من الخطأ إذا سدّ جميع أبوابه. فمن لم يتبيّن معنى الألفاظ المفردة من القرآن أغلق عليه باب التدبر، وأشكل عليه فهم الجملة، وخفي عليه نظم الآيات والسور» (الفراهي، مفردات القرآن 95).
ولعل أهم ما في دراسة الفراهي للمفردة القرآنية فيما يتعلق ببحثنا أنه لا يفتأ يؤكد أن الفهم الدقيق لمفردات القرآن لا يكون من خلال الرجوع إلى كتب المفردات والمعاجم وحدها لكونها دونت في فترة تاريخية متأخرة عن نزول القرآن الكريم، بل إنما يكون باستقراء معاني مفردات القرآن من خلال الاستعمال القرآني نفسه، ومن كلام العرب القديم، ثم تتبع تاريخ المفردة قبل نزول القرآن، ثم إن اقتضى الأمر تتبع مسيرتها في التجربة الحضارية للمسلمين، وهي كلها اعتبارات تداولية ينبني على الإخلال باستحضارها الخطأ في إدراك بعض معاني مفردات القرآن الكريم.
اعتمد الفراهي رحمه الله الدرس التداولي للمفردة القرآنية في التصدي لطعون بعض المستشرقين، الذين ذهبوا إلى أن في القرآن مفردات وتراكيب نقلها النبي ﷺ عن أهل الكتاب ولم يكن العرب يعرفون معناها، مثل مفردة «درس». يقول الفراهي: «زعم بعض من غير المسلمين أن هذا اللفظ (يعني درس) أخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود، وزاده في لغتهم»؛ أي في لغة العرب (الفراهي، مفردات القرآن 182).
وقد رد الفراهي هذا الرأي بحجج وأدلة تداولية، منها:
أولًا: أن القرآن نفسه بخلاف الكتب السابقة يصرح بأنه نزل بلسان عربي مبين، فكيف يكون فيه ما ليس من لغة العرب؟ وكيف يخاطب النبي العرب بما ليس في لغتهم؟ يقول الفراهي: «القرآن يصرح بأنه عربي مبين، فلا يكون فيه إلاّ ما عرفته العرب» (الفراهي، مفردات القرآن 182).
ثانيًا: أن لفظ «الدرس» مستعمل في كلام العرب القديم مجازا بمعنى البلى، وأصله: الحكّ والمشق، ومنه: للخَطّ ما جاء في قول أبي دؤاد:
وَنُؤيٌ أَضَرَّ بِهِ السَّافِيَاتُ كَدَرْسٍ مِنَ النُّونِ حِينَ انمَّحَى
أي كخط النون (الفراهي، مفردات القرآن 183). ومن أصل المعنى: «الدرس» للجرَبِ والحكّة، و«المدروس»: الفراش الموطأ، و«الدرس»: للأكل الشديد، ومنه «درس الطعام»: داس. قال ابن ميّادة:
هَلاّ اشتَرَيْتَ حِنْطَةً بالرُّسْتَاقْ سَمْراءَ مِمَّا دَرَسَ ابنُ مِخْرَاقْ
ودَرَسَ الصعبَ حتى رَاضَه. ودرستُ الكتاب بكثرةِ القراءةِ حتى خفَّ حفظُه. فالدرس: كثرة القراءة (الفراهي، مفردات القرآن 184).
ثالثًا: أن كلمة الدرس مستعملة في اللغة العبرانية وهي أخت اللغة العربية بمعنى القراءة، يقول الفراهي: «ومعنى الكلمة في العبرانية اختص بالقراءة. وأما في العربي فبقيت الكلمة على السعة، وأقرب إلى الأصل؛ إذ جاءت لكثرة القراءة، لا للقراءة، كما قال تعالى: ﴿وَلِيَقُولُواْ دَرَسۡتَ﴾؛ أي بالغتَ في قراءتك عليهم».
رابعًا: أنه لا حجة لمن زعم من المستشرقين أن مفردة الدرس بمعنى كثرة القراءة لا توجد في الشعر العربي؛ «لأن للشعر مجاريَ محدودة، ومعاني خاصة، فقلّما يذكرون القراءة فضلًا عن إكثارها» (الفراهي، مفردات القرآن 184).
يتضح من هذه النصوص والأمثلة، أن الفراهي وظف المقاربة التداولية في دراسته للمفردة القرآنية حين ربطها بالمعطيات التداولية زمن نزول القرآن الكريم، وعندما جعل من شروط فهم المفردات القرآنية الوعي بموقعها في الاستعمال السابق للغة القرآن الكريم نفسه أولا، وبما يحف بها من سياقات تاريخية واجتماعية، كالاستعمال في اللغات السامية والشعر الجاهلي ثانيا، ثم الوعي بما عسى أن يكون قد جرى لها من تطور دلالي عبر حركتها في التجربة الحضارية الممتدة إلينا عبر الأجيال.
أضف إلى ذلك، أن الفراهي لا يفتأ يذكر أنه ليس للمفردة معنى ثابت وماهية خاصة، وإنما موقعها في الجملة وحركتها في السياق واختلافها عن غيرها هو الذي يحدد المعنى المراد منها، ولا يتأتى وجود معنى مستقل للمفردة بغض النظر عن القيود اللغوية والسياقية.
لا تسمح مساحة هذا البحث بالتفصيل في استعراض نماذج تطبيقية تؤكد التواشج المعرفي القائم بين النظرية التداولية في الدرس اللساني الحديث، وبين مقاربة الفراهي للغة القرآن الكريم السابقة عليها زمانًا، لذا فإننا سنكتفي بعرض نموذج يؤكد - بالإضافة إلى النماذج الأخرى التي عرضنا - البعد التداولي في مقاربة الفراهي لأساليب القرآن الكريم.
خصص الفراهي رسالته «أساليب القرآن» لغاية كبرى هي: «الإحاطة حتى الوسع بدلالات الصور، والأساليب، ومواقع استعمالها، ذلك أن محض العلم بأسلوب خاص من دون تخصيص مواقعه، يفتح بابا عظيما لسوء التأويل» (الفراهي، أساليب القرآن 155).
وقد درس الفراهي في رسالته – التي لم يكملها – عددًا من الأساليب التي أخطأ المفسرون في فهمها أو في تقديرها حق قدرها من الدراسة.
وقد تميزت مقاربة الفراهي لأساليب القرآن الكريم بكونها ركزت على كثير من صفات الاستعمال اللغوي في دراسة الظواهر الأسلوبية القرآنية مثل: ظاهرة الحذف، والتقديم والتأخير، والقسم وغيرها، فهي لم تعالج هذه الظواهر معالجة نحوية بقدر ما توقفت عند تحليل طبيعتها، والمعاني الثاوية خلف استعمال القرآن لها، وعلاقتها بالتأثير في المخاطبين الأوائل بها، في ضوء ما توفر لهم من كفاءة في إدراك المقصود بها اعتمادا على السياقين اللغوي والاجتماعي أيام نزول القرآن الكريم.
ومن أبرز ما توقف عنده الفراهي مما هو ذو صلة بالدرس التداولي، تقسيمه للأساليب عموما ولأساليب القرآن البلاغية إلى أساليب عقلية وأساليب نفسية، وإشارته إلى أن القرآن الكريم يشترك مع كلام العرب القديم في كثير من الأساليب وإن كانت «للقرآن خصائص من جهة كونه وحيا ورسالة من الله تعالى» (الفراهي، أساليب القرآن، 157).
ومن هذه الجهة ينفرد القرآن بأساليب يقول الفراهي: «من الأساليب ما هو كالمختص بالقرآن من حيث إنه كلام جاء به النبي وأنزل عليه وإلى الناس، وفهمه مبني على صحة الفطرة، فهو بيّن عند المتقين، ومستور عن الكافرين. وهذا مما لم نطلع عليه في كتب القوم، والحاجة إلى العلم به شديدة، والأصل في هذا الباب: معرفة صفات الله، ومعرفة صفات النبي، ونسبة النبي إلى ربه وأمته، ومعرفة تدبيره في الخطاب ودعوة الناس. وفي هذا الباب نستدل بالعقل الصريح، ونظم القرآن، والصحف الأولى» (الفراهي، أساليب القرآن 155).
في هذا الاقتباس يشرح الفراهي أسباب اختصاص القرآن بأساليب خطابية تختلف عن أساليب الكلام العربي الذي نزل به لاختلاف وظيفته ورؤيته وأهدافه، ويبين مصادر استقراء هذا النوع من الأساليب الذي أغفلته الدراسات الأسلوبية السابقة للقرآن الكريم انطلاقا من اعتبارات واستدلالات تداولية.
ويمكن إجمال مضامين نص الفراهي هذا في النقاط التالية:
1. أن مرد اختصاص القرآن بهذه الأساليب يعود إلى اختلاف وظيفته عن وظائف الكلام العربي الذي نزل به.
2. أن فهم هذه الأساليب يتطلب معرفة صفات المخاطِب (بالكسر) بالقرآن سبحانه، وصفات متلقي الخطاب الأول عليه الصلاة والسلام، والعلاقة بين النبي وأمته.
3. أن إدراك هذه الأساليب على وجه الدقة مرتبط بمعرفة القضايا الكبرى التي جاء بها القرآن الكريم مثل: قضية الإيمان والنبوة والدعوة.
4. أن الاستدلال على هذه الأساليب يكون بالفطرة ونظم القرآن والكتب السابقة التي تشترك مع القرآن في المضامين الدينية العامة.
5. أن هذه الأساليب الدينية المختصة بالقرآن الكريم لم تدرس في كتب علوم القرآن الكريم رغم أهميتها وقيمتها.
وقد توقف الفراهي عند الأساليب الدالة على الآثار النفسية كالرحمة والغضب والأسف والشدة واللين وغير ذلك، مما تضمنته ظواهر القرآن الكريم الأسلوبية، وأولاها عناية قصوى لا توجد عند غيره من دراسي أساليب القرآن الكريم، وبين أهميتها في فهم دلالات القرآن الكريم.
يقول الفراهي: «في الخطابة لا بد من إظهار عواطف النفس من الرحمة والغضب والأسف والشدة واللين، ولا يدل على هذه الأمور إلا تراكيب الكلام بأسلوبها، فلا بد من علم هذه الدلالات» (الفراهي، أساليب القرآن 158).
عرف الفراهي الحذف من الناحية الاصطلاحية بأنه: «إسقاط الفضول عن القول. والفضول ما يفهم الكلام بدونه ويتأثر منه السامع، فإن الغرض من الحديث ليس إلا الإفهام والتأثير، فكل ما زاد على هذين أذهل وأبعد، وأثقل. وإذ إن المستمع على مراتب متفاوتة من الذكاء والتأثر، اختلفت الألسنة في قدر الحذف فيها، أما العرب فلذكائهم وتوقد أذهانهم كان أنجع الأقوال عندهم ما قل وكفى. فإن كان الكلام لم يهذب عما لا يغني شيئا، سقط عندهم ومجه سمعهم. لظنهم بالمسهب أنه إما أحمق أو يُحمِّق المستمع. فكان أمر الحذف في كلامهم من بعض سجاياهم وكأنهم طبعوا عليه» (الفراهي، أساليب القرآن 171).
في هذا التعريف المحكم يكشف الفراهي عن مفهوم ظاهرة الحذف في كلام العرب، وفي القرآن الكريم ويشرح خصائصها وأسبابها ويلمح إلى مظاهرها.
ويمكن إجمال مضامين هذا النص المكتنز دلالة في النقاط التالية:
1. أن غرض الحديث أي حديث ينحصر في دائرتين هما الإفهام والتأثير، وقد يتوصل إليهما بالذكر، وقد يكون الصمت والحذف أبلغ في الإفهام والتأثير من الذكر بحسب السياق.
2. أن الحذف سجية في كلام العرب وفطرة في مخاطباتهم. ومظهر من مظاهر اختلاف لسانهم عن الألسنة الأخرى.
3. أن الحذف يقصد به إسقاط بعض عناصر التركيب التي يعد ذكرها فضولا لدلالة القرينة عليها. وقد ذكر الفراهي أن من مظاهر حذف الفضول في كلام العرب وفي القرآن الكريم إسقاط الروابط اللفظية: الإسنادية كالإضافة، والخبر، والتمييز، والحال، والظرف، وجواب الشرط والقسم؛ إضافة إلى حذف المعاني التي دلت عليها القرينة، وغير ذلك من وسائل الربط التي تقيد الخيال والفكر في المحذوف، وتحول دون التأثير في المخاطب.
4. في الحذف تعويل على عقل المخاطب، وابتغاء للتأثير فيه. وفي الذكر حيث لا يكون مقامه استغباء للمخاطب.
لهذه الأسباب وغيرها من الأسباب كثر الإيجاز والحذف في كلام العرب، فسهل عليهم إلقاء المعاني على النفوس مجردة من الروابط اللفظية «كأن كلامهم قد وضع حسب اقتضاء الفكر والفهم. فترى كلامهم مربوطا برابطة عقلية. وعليك أن تميز بين الروابط من كل قسم فإنهم لا يصرحون بها» (الفراهي، دلائل النظام 77). ولما جاء القرآن الكريم «خاطبهم بأفصح لسانهم وأحسن بيانهم وأبلغ أساليبهم» (الفراهي، أساليب القرآن، حاشية 172).
مهد الفراهي - رحمه الله - لدراسة ظاهرة الحذف في القرآن الكريم بمقدمة ذات بعد تداولي بارز، تناول فيها بعض الجوانب النفسية والتاريخية والأنثروبولوجية للغة العربية زمن نزول القرآن وأثرها في طرائقه الأسلوبية، فتوقف عند علاقة الإيجاز والحذف بثقافة العرب ومستواهم العقلي، ورقيهم في التخاطب واختلاف لغتهم عن اللغات الأخرى، وتميز خطهم من خطوط الأقوام الأخرى. وقدم في هذا المنحى نظرات ثاقبة أوجزها في خاصيتين ميزتا الكلام العربي القديم:
الخاصية الأولى: إيثار الايجاز والاقتصاد في الكلام؛ فقد بني الكلام في اللغة العربية التي نزل بها القرآن على الإيجاز والاقتصاد في القول والنفور من الإطناب «وكان من المثل السائر عند العرب: (الحر تكفيه الإشارة)، فإن لهم ذكاء وغيرة وكانوا يحبون الإشارة في الكلام ويستغنون بالقليل عن الكثير» (الفراهي، أساليب القرآن، حاشية 150).
ويتجلى ذلك في جملة من خصائص اللغة العربية على مستوى التركيب والدلالة أهمها:
أولا: أن أنواع الكلم في اللغة العربية كما يقول الفراهي: «مصوغة من المواد وليست مركبة من السوابق واللواحق (...) وما في العربية من الحروف الزوائد في مثل يفعل، ومفعل، وفاعلة، وفاعلون، فليس في شيء من السوابق واللواحق. إنما من أنحاء أوضاع الزوائد؛ فإنها توضع في أمكنة مختلفة» (الفراهي، أساليب القرآن، حاشية 150).
ويضرب الفراهي مثالين لاختلاف اللغة العربية عن اللغات الأخرى في التركيب والإيجاز:
المثال الأول: أن كلمة فاعل في اللغة العربية ليست مثل كلمة (MAKER) بمعنى صانع في اللغة الإنكليزية فالراء في هذه الكلمة ملحقة وليست من أصلها (الفراهي، أساليب القرآن 150). بخلاف الألف في مفردة «صانع» العربية.
المثال الثاني: أن جملة: «أنا ذاهب في اللغة العربية كلمتان، وفي أكثر اللغات الأخرى ثلاث كلمات» (الفراهي، دلائل النظام 77)([2]).
ثانيًا: أن العرب «جردوا الكلام عن الروابط كالإضافة، والخبر، والتمييز، والظرفية وغيرها، وهذه درجة عالية من ارتقاء اللسان».
ثالثًا: أن العرب قد «أخلصوا الكلام عما دلت عليه القرينة من الفعل، والجواب للشرط والقسم».
رابعًا: أن العرب القدامى: «أسقطوا من القصة والحجة أجزاء وقضايا، لا يكاد يحذفها غيرهم. فلذلك صعب على العجم درك حديثهم، كما لا يدرك حسير القوم شأو حثيثهم» (الفراهي، أساليب القرآن 171)[3].
إن إغفال هذه الخصائص وعدم إيلائها من العناية ما تستحق أوقع كثيرا من الدراسين للغة القرآن الكريم في أخطاء كثيرة سنتطرق لها لاحقًا.
الخاصية الثانية: سعة الخيال العقلي عند العرب حيث امتازت لغتهم بسعة الخيال العقلي، وانعكس هذا الأمر على لسانهم؛ ذلك «أن اللسان حمولة الخيال وكذلك الخط حمولة اللسان، وقد علمنا ما في الخيال من السرعة ثم ما في اللسان. فمهما كان اللسان أبطأ كان قيدا وثقلا على الخيال، وهكذا الخط إذا كان بطيئا كان قيدا على الكلام النفسي فيتبلد الخيال. فلذلك كلما كان اللسان أو الخط أوجز، كان أحسن وأعون» (الفراهي، أساليب القرآن 150)، ويتجلى أثر إيثار الإيجاز وسعة الخيال العقلي من خصائص الخط العربي في أمرين:
الأول: أن العرب بخلاف الأمم الأخرى «لم يشكلوا كلامهم إلا لأجل العجم، وكذلك العبرانيون إخوانهم».
الثاني: أنهم «أسقطوا في التركيب من هيئة الحروف أكثرها. فسبقوا كل أمة بخطهم بديع التركيب» (الفراهي، أساليب القرآن 171).
ويخلص الفراهي إلى أن العرب لهذه الأسباب قد خف عليهم إعمال المنطق. كأن كلامهم قد وضع حسب اقتضاء الفكر والفهم.
يكتسب مبحث الحذف في الدرس البلاغي للقرآن الكريم أهمية كبيرة، وقد ذكر الفراهي أسبابا متعددة لأهمية مراعاة البعد التداولي للحذف.
أولها: أن معرفة أساليب القرآن في الحذف تعصم من الخطأ في التأويل
ظاهرة الحذف والتقدير في القرآن الكريم من أهم الظواهر التي أخطأ المفسرون في تقدير قيمتها وإيلائها ما تستحق من العناية؛ ذلك أن الحذف وإن اقتضى محذوفا مقدرا «فإن الذي نقدره ربما يغير معنى الكلام» (الفراهي، أساليب القرآن 173). وقد كان هذا الأمر مزلة أقدام عدد من مفسري القرآن الكريم، فإنهم كثيرا ما يغلطون في تقدير المحذوف إذا كان موضع الحذف محتملا لتقديرات مختلفة «إما لزيغ في رأيهم أو لفرارهم من الحذف فلا يقدرون شيئا أصلا» (الفراهي، دلائل النظام 78).
ويسوق الفراهي مثالين على الخطأ في تقدير المحذوف.
المثال الأول: في قوله تعالى: ﴿قَدۡ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكُمۡ ذِكۡرٗا١٠ رَّسُولٗا يَتۡلُواْ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ مُبَيِّنَٰتٖ لِّيُخۡرِجَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ﴾ [الطلاق: 10-11].
يقول الفراهي: «فههنا رجحوا من الاحتمالات ما لم يحتاجوا فيه إلى تقدير. قال البيضاوي رحمه الله في تفسير هذه الآية: يعني بالذكر جبريل لكثرة ذكره، أو لنزوله بالذكر وهو القرآن، أو لأنه مذكور في السماوات، أو ذو ذكر أي شرف. أو محمدًا عليه الصلاة والسلام لمواظبته على تلاوة القرآن أو تبليغه. وعبر عن إرساله بالإنزال ترشيحا أو لأنه مسبب عن إنزال الوحي إليه وأبدل عنه رسولا للبيان» (الفراهي، دلائل النظام 78)
وذلك لمحض أنهم ظنوا أن الحذف ضعف في الكلام ولم يعلموا أن الأمر خلاف ذلك. فقد بني كلام العرب على الإيجاز، وكثر فيه الحذف فلا معنى للتحاشي عنه (الفراهي، دلائل النظام 79).
و«أما ما جمع من الأقوال في هذا المقام ففيه مثال واضح للطريق الذي يسد عي معرفة المراد ويوهم الناظر فيه أنه صار متضلعًا من تأويل الآية مع شدة جهله بها، فإنه مع علمه هذا لم يزدد إلا حيرة وعمى» (الفراهي، دلائل النظام 79).
المثال الثاني: قوله تعالى: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنٗاۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۖ فَلَا تَذۡهَبۡ نَفۡسُكَ عَلَيۡهِمۡ حَسَرَٰتٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا يَصۡنَعُونَ٨﴾ ]فاطر: 8[.
فالتقدير أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا أفأنت تهديه، كلا إنك لا تستطيع هدايته فلا تذهب نفسك عليهم حسرات. ويدل على صحة هذا التقدير ما جاء في نظيره من قوله تعالى في سورة الزمر: ﴿أَفَمَنۡ حَقَّ عَلَيۡهِ كَلِمَةُ ٱلۡعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ١٩﴾] الزمر: 19] (الفراهي، تعليقات في تفسير القرآن الكريم 2/115).
وقد أشار الفراهي إلى أن هذا الموضع من مواضع الحذف التي أخطأ المفسرون في تقدير ما لم يذكر فيها. وإلى أن التقدير «أفأنت تهدي من أضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله؟ أفلا تذكرون» (الفراهي، التكميل في أصول التأويل 257).
ثانيها: حل إشكال أساليب الحذف في القرآن عند غير المتمرس بكلام العرب
السبب الثاني لأهمية مراعاة البعد التداولي لأسلوب الحذف، أن من لم يمارس كلام العرب القديم استقراء، يشكل عليه فهم أسلوب الحذف في القرآن، فيظن بادئ الرأي أن مواقع الحذف فيه، تتضمن قطعا للمعنى وانتقالا منه إلى موضوع آخر دون سبب واضح. يقول الفراهي:
«الحذف في كلامهم يشبه كلامهم بالوثبات والقرآن كمطر السحاب من وجوه مختلفة. وهذه الوثبة من بعض وجوه المطر. قال امرؤ القيس في صفة السحاب ومطره:
لَها وثَباتٌ كَوَثْبِ الظِّباءِ فَوادٍ خِطاءٌ ووادٍ مَطِرْ
فالكلام الذي لا حذف فيه لا مجال فيه للعقل والنظر وهو كدبيب النمل. والعرب لا تستجديه ولا تتأثر به؛ لذكائهم وسرعة فهمهم وتنفرهم من الفضول وإن كان ضروريًا عند غيرهم» (الفراهي، دلائل النظام 80)[4].
وقد عاب الفراهي على بعض المفسرين التساهل في دراسة أساليب الحذف في القرآن. وانتقد المستشرقين الذين استشكلوا أساليب الحذف في القرآن لضعفهم في استيعاب نظم القرآن وأساليبه البلاغية، ولتعودهم على الإطناب، وعلى طرائق في التركيب تختلف عن طرائق العرب في إلقاء المعاني واستقبالها زمن نزول القرآن الكريم
لقد صعب على المستشرقين وكثير ممن لم يتمرس على أساليب العرب وطرائقهم في النظم والتعبير، درك أساليب العرب والقرآن الكريم، «كما لا يدرك حسير القوم شأو حثيثهم» (الفراهي، أساليب القرآن، 172).
وقد شرح الفراهي بصورة عميقة أسباب استشكال المستشرقين وغيرهم لأساليب القرآن في الحذف والإيجاز وأرجعها إلى ثلاثة:
الأول؛ التعلق بالأمور الشكلية في تأليف الكلام. ومن ثم محاكمة نظم القرآن إلى طرق التأليف المعهودة، وهذا الخطأ متواتر الورود في كتابات المستشرقين حول بنية القرآن الكريم.
والثاني؛ إغفال الأثر الاجتماعي لاستعمال اللغة العربية زمن نزول القرآن الكريم، وأثر أساليبها آنذاك في الحجاج والإقناع والتأثير في المخاطبين.
الثالث: عدم إعمال العقل والاجتهاد في استنباط المحذوف إلا في حالة الاضطرار إلى ذلك. وهذان أمران يشترك فيهما المستشرق الذي يدب في فهم أساليب القرآن دبيب النمل، وبعض مقلدة المفسرين كذلك. يقول الفراهي: «من عادة المصنفين التأنق في توضيح المطالب وترتيبها، لكي يفهمها العامة. ثم بعد ذلك تأتي جماعة الشارحين والناقدين. فالمشتغلون بهذا الطريق تعودوا في مسيرهم على الدبيب وضيعوا قوة الوثوب. وأما فطرة الأذكياء، فترك المقدمات المتوسطة اعتمادا على فهم السامع، فالذين غلبت عليهم الحضارة وكثرة الاشتغال بالكتب، إذا عثروا على كلام ذي وثبات عجزوا عن دركه؛ وإن تفكروا فيما ترك؛ ذهبوا إلى غير وجه الصواب لأسباب: أكبرها أنهم لا يفكرون لاستخراج المقدر إلا إذا بدت لهم حاجة. وهذه الحاجة هي الصارفة، فإنهم إذ ذاك مقهورون لحكمها» (الفراهي، دلائل النظام، حاشية ص79).
لقد كشفت هذه الاقتباسات والنصوص أن الفراهي رحمه الله، استعمل المقاربة التداولية في دراسته لظواهر القرآن الكريم الأسلوبية، حين ربطها بالمعطيات التداولية زمن نزول القرآن الكريم، وجعل من شروط تأويلها الوعي بموقعها في الاستعمال وبما يحف بها من سياقات تاريخية واجتماعية ونفسية تخص جيل التلقي الأول للوحي.
تناول هذا البحث المقاربة التداولية للغة القرآن الكريم عند العلامة المفسر الهندي عبد الحميد الفراهي (ت 1930م) على المستويين النظري والتطبيقي وأثبت أنه عمد في دراسته للغة القرآن الكريم في مستوياتها الثلاثة (المفردات، والأساليب، والنظام البلاغي) إلى مقاربة تداولية تنطلق من مسائل الدرس التداولي الحديث، وتصل إلى نفس النتائج التي توصل إليها.
وقد توصل البحث إلى النتائج التالية:
أولا: أن المتتبع لدراسات الفراهي وأبحاثه في دراسة لغة القرآن الكريم، على مستوى المفردات والأساليب والنظم والسياق يلحظ - لا شك - ما تتسم به من غنى وما تتضمنه من توظيف لمفاهيم التحليل التداولي في دراسة الظواهر الأسلوبية القرآنية، في صلتها بمقاصد منزله عز وجل والمخاطَب (بالفتح) الأول به صلى الله عليه وسلم والمتلقين الأوائل لكلماته، في ضوء ما كان لديهم من كفاءة في الوعي بسياقات التنزيل في تقاطعها مع سياقات الفهم والتأويل، كل ذلك يجعل القارئ يطمئن إلى حقيقة اندراج مقاربته في مجال الدرس التداولي الحديث.
ثانيا: أن اعتماد الفراهي المقاربة التداولية منهجا في مقاربة لغة القرآن الكريم يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن علماء التفسير كانوا سابقين إلى تطبيق كثير من النظريات اللسانية التداولية وإن لم يطلقوا عليها المصطلحات الحديثة.
ثالثا: أن توظيف المقاربة التداولية في دراسة مفردات القرآن وأساليبه ونظامه، يسهم في الدفاع عن لغته ضد منتقديها من المستشرقين وأشياعهم من أصحاب الأهواء، الذين يتقولون على لغة القرآن دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث في سياقاتها اللغوية والتاريخية، وعلاقتها بالاستعمال العربي للغة إبان نزول القرآن الكريم.
رابعا: أن تراث الإمام عبد الحميد الفراهي في التفسير وعلوم القرآن عموما وفي الدرس اللغوي للقرآن الكريم على وجه الخصوص، غني بما يثري ساحة الدرس القرآني المعاصر وإن لم يلق بعد ما يستحق من الدراسة والتمحيص والمتابعة.
ولعل هذا البحث المتواضع، يكون فاتحة نظر لسلوك دروب أعمق في مقاربة تراث الإمام عبد الحميد الفراهي في دراسة لغة القرآن الكريم، في ضوء ما توصلت إليه النظريات اللسانية الحديثة.
الرحموني، بو منقاش. «الضوابط التداولية للنص الديني: التفسير أنموذجًا». ضمن أعمال ندوة الوحي والمقاربات الحداثية: بين تطوير الفهم واستيعاب المعنى، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2013. على الرابط: https://www.mominoun.com/pdf1/2014-12/549abf8922781712693607.pdf
الزجاج، أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل. معاني القرآن وإعرابه. تحقيق، عبد الجليل عبده شلبي. ط1، عالم الكتب، بيروت، 1988.
صحراوي، مسعود. التداولية عند العلماء العرب. دار التنوير، الجزائر، 2020.
صولة، عبد الله. الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية. ط2، دار الفارابي، بيروت، 2007.
عبد الرحمن، طه. تجديد المنهج في تقويم التراث. ط2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء–بيروت.
الفراهي، عبد الحميد. «أساليب القرآن». ضمن رسائل الإمام الفراهي في علوم القرآن - المجموعة الأولى. ط2، الدائرة الحميدية، الهند، 1991.
–––. «التكميل في أصول التأويل». ضمن رسائل الإمام الفراهي في علوم القرآن – المجموعة الأولى. ط2، الدائرة الحميدية، الهند، 1991.
–––. تعليقات في تفسير القرآن الكريم. إعداد عبيد الله الفراهي، مراجعة الشيخ محمد أمانة الله الإصلاحي. ط1، الدائرة الحميدية، الهند، 2010.
–––. جمهرة البلاغة. دراسة وتحقيق: محمد خالد الرهاوي، وعامر خليل الجراح. ط1، دار سنابل، إسطنبول، 2019.
–––. مفردات القرآن، تحقيق وشرح محمد أجمل أيوب الإصلاحي. ط2، الدائرة الحميدية، الهند، 2004.
–––. نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان، اعتنى به عبيد الله الفراهي. ط1، دار الغرب الإسلامي، تونس، 2012.
نحلة، محمود أحمد. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر. دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2002.
References:
ʻAbd al-Raḥmān, Ṭāhā. Tajdīd al-Manhaj fī Taqwīm al-Turāth (in Arabic), 2nd ed., al-Markaz al-Thaqāfī al-ʻArabī, Casablanca–Beirut.
al-Farāhī, ʻAbd al-Ḥamīd. "al-Takmīl fī Uṣūl al-Taʼwīl" (in Arabic), In Rasāʼil al-Imām al-Farāhī fī ʻUlūm al-Qurʼān al-Majmūʻah al-Ūlá. 2nd ed., al-dāʼirah al-Ḥamīdiyyah, India, 1991.
–––. "Asālīb al-Qurʼān" (in Arabic), In Rasāʼil al-Imām al-Farāhī fī ʻUlūm al-Qurʼān al-Majmūʻah al-Ūlá. 2nd ed., al-dāʼirah al-Ḥamīdiyyah, India, 1991.
–––. Jamharat al-Balāghah (in Arabic), Dirāsah wa-Taḥqīq: Muḥammad Khālid al-Ruhāwī wa-ʻĀmir Khalīl al-Jarrāḥ. 1st ed., Dār Sanābil, Istanbul, 2019. (in Arabic).
–––. Mufradāt al-Qurʼān (in Arabic), Taḥqīq wa-Sharḥ: Muḥammad Ajmal Ayyūb al-Iṣlāḥī. 2nd ed., al-dāʼirah al-Ḥamīdiyyah, India, 2004.
–––. Niẓām al-Qurʼān wa-Taʼwīl al-Furqān bi-al-Furqān (in Arabic), Iʻtanā bihi: ʻUbayd Allāh al-Farāhī. 1st ed., Dār al-Gharb al-Islāmī, Tunisia, 2012.
–––. Taʻlīqāt fī Tafsīr al-Qurʼān al-Karīm (in Arabic), Prep. al-Duktūr ʻUbayd Allāh al-Farāhī, Rev. al-Shaykh Muḥammad Amānat Allāh al-Iṣlāḥī. 1st ed., al-dāʼirah al-Ḥamīdiyyah, India, 2010.
al-Raḥmūnī, Bū minqāsh. "al-ḍawābiṭ al-Tadāwulīyah lil-naṣṣ al-dīnī : al-tafsīr unamūdhajan" (in Arabic), ḍimna aʻmāl Nadwat al-waḥy wa-al-muqārabāt al-ḥadāthīyah: bayna taṭwīr al-fahm wāstyʻāb al-maʻná, Muʼassasat Muʼminūn bi-lā ḥudūd lil-Dirāsāt wa-al-Abḥāth, 2013. Available at https://www.mominoun.com/pdf1/2014-12/549abf8922781712693607.pdf
Al-Zajjāj, Ibrāhīm ibn al-Sarī ibn Sahl. Maʻānī al-Qurʼān wa-Iʻrābuhu (in Arabic), Ed. ʻAbd al-Jalīl ʻAbduh Shalbī. 1st ed., ʻĀlam al-Kutub, Beirut, 1988.
Austin, J. L. How to Do Things with Word. 2nd ed., Harvard University Massachusetts, 1975.
Cuypers, M. A Qur'anic Apocalypse: A Reading of the Thirty-Three Last Surahs of the Qur'an. (International Qur'anic Studies Association Studies in the Qur'an), Lockwood Press, 2018.
Farrin, R. Structure and Quranic Interpretation: A Study of Symmetry and Coherence in Islam's Holy text (Islamic Encounter Series), White Cloud Press, 2014.
Naḥlah, Maḥmūd Aḥmad. Āfāq Jadīdah fī al-Baḥth al-Lughawī al-Muʻāṣir (in Arabic), Dār al-Maʻrifah al-Jāmiʻiyyah, Alexandria, 2002.
Ṣaḥrāwī, Masʻūd. Al-Tadāwuliyyah ʻinda al-ʻUlamāʼ al-ʻArab (in Arabic), Dār al-Tanwīr, Algeria, 2020.
Ṣawlah, ʻAbd Allāh. al-Ḥijāj fī al-Qurʼān min Khilāl Aham Khaṣāʼiṣihi al-Uslūbiyyah (in Arabic), 2nd ed., Dār al-Fārābī, Beirut, 2007.
Searle, J. R. Speech Acts, An Essay in the Philosophy of Language. 31st ed., Cambridge University Press, 2009.
[1] عبد الحميد بن عبد الكريم الأنصاري الفراهي، ولد في الهند سنة 1863م. اشتغل بطلب العلم فحفظ القرآن الكريم وبرع في اللغة العربية وآدابها، وتعلم اللغة الفارسية، والإنكليزية، والعبرية، وكان لإتقانه اللغة العبرية دور في اطلاعه على العهدين القديم والجديد وتاريخهما، واستفادته منهما في دراسته للقرآن الكريم. عمل مديرا لمدرسة الإصلاح بالهند، واختير رئيسا لمؤسسة دار المصنفين في الهند، واشتغل أستاذا للغة العربية في عدد من الجامعات الهندية، ثم انقطع في آخر حياته لتدبر القرآن الكريم، والتأليف في علومه، وقد اشتهر بمنهجه الفريد في التفسير ونظريته في نظام القرآن الكريم، توفي في الحادي عشر من نوفمبر سنة 1930م. وقد ترك الفراهي رحمه الله مصنفات عديدة في التفسير وعلوم القرآن وإن لم يكمل أكثرها، من أبرزها: تفسيره: نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان، ومفردات القرآن، وأساليب القرآن، ودلائل النظام، والتكميل في أصول التأويل، وجمهرة البلاغة وغيرها. للمزيد حول ترجمته ومصنفاته، ينظر: الإمام عبد الحميد الفراهي، مفردات القرآن، تحقيق وشرح: محمد أجمل أيوب الإصلاحي، ط2، الدائرة الحميدية: الهند، 2004، ص11-41.
[2] في اللغة الإنكليزية مثلا: أنا ذاهب - I'm going to go..
[3] يشير الفراهي هنا من طرف خفي إلى أن المستشرقين وعلماء أوروبا - على حد تعبيره - لم يفهموا أسلوب الحذف في القرآن، كما لا يدرك حسير القوم شأو حثيثهم، والحسير الضعيف البطيء المشي، والحثيث السريع العدو.
[4] الظاهر أن الفراهي هنا ينتقد عجز المستشرقين عن فهم ظاهرة الحذف في القرآن الكريم. والواقع أن استشكال أساليب القرآن ونظم آياته وسوره، يكاد يكون أمرا متفقا عليه بين المستشرقين. نجد ذلك عند رائد مدرسة الاستشراق القرآني تيودور نولدكه في كتابه تاريخ القرآن. انظر على سبيل المثال: تيودر نولدكه، تاريخ القرآن، تعديل فريديريش شفالي، ص443-444.
وقد أشار المستشرق الفرنسي جاك بيرك إلى أن الاتجاه العام في الدرس الغربي للقرآن يجد صعوبة في فهم ظواهر القرآن الأسلوبية. انظر: جاك بيرك، إعادة قراءة القرآن، ترجمة وتعليق منذر العياشي، مركز الإنماء الحضاري؛ وانظر أيضًا: ميشيل كويبرس، في نظم سورة المائدة: نظم آي القرآن في ضوء منهج التحليل البلاغي ط1، دار المشرق، بيروت، 2014، ص513.
ومع ذلك فإن هذا التوجه شهد تراجعًا في العقود الأخيرة، فظهرت بعض الكتابات التي انتبهت إلى اختلاف أساليب القرآن وطرائقه النظمية، عن البلاغة اليونانية التي نظر إليه المستشرقون من خلالها، وشددت على ضرورة دراسة نظم القرآن وأساليبه دراسة تزامنية في الفترة التاريخية التي نزل فيها. نذكر من بينها كتابات الباحث البلجيكي ميشيل كويبرس، انظر على سبيل المثال كتابه:
A Qur'anic Apocalypse: A Reading of the Thirty-Three Last Surahs of the Qur'an;
وريموند فارين، انظر كتابه:
Structure and Quranic Interpretation: A Study of Symmetry and Coherence in Islam's Holy text.