Publizieren – Why Open Access? أنســـــــــاق

في الآداب والعلوم الإنسانية

 

الاستلام: 15/11/2023                                       التحكيم: 02/07/2024              القبول: 28/08/2024

 

السرد الشعري الصوفي في ضوء النموذج العاملي الغريماسي: ترجمان الأشواق لابن عربي نموذجًا

الحسين الوكيلي

أستاذ باحث، قسم اللغة العربية، أكاديمية الدار البيضاءالمغرب

h.loukili086@gmail.com

ملخص

تسعى هذه الدراسة إلى الكشف عن البنية السردية لديوان ترجمان الأشواق، ببيان أنظمتها وطرائق تعبيرها، ومحاولة تفسير ذلك بما يربط هذه البنية بوظيفتها في سياق توجّهات الخطاب الشعري الصوفي، كما تسعى الدراسة إلى الكشف عن التقاطعات القائمة بين الشعري والسردي في ديوان ترجمان الأشواق؛ إذ يعدّ السرد الشعري الصوفي بمثابة أداة يمكن من خلالها نسف المألوف دلاليا، والإخبار عن تجربة روحية متعالية على المكان والزمان، تجربة تدخل في تماهٍ مع التجربة الشعرية. لأجل ذلك كان الرهان المتوخّى هو التركيز على دور التكامل الوظيفي بين الأجناس والأنواع الأدبية في تحقيق ملاءمة منهجية تضمن تأويل النصوص الصوفية تأويلا منسجمًا ومتساوقا مع السياق العام الذي جاءت فيه.

الكلمات المفتاحية: السرد الشعري، البنية السردية، البرنامج السردي، الخطاطة السردية

للاقتباس: الوكيلي، الحسين. »السرد الشعري الصوفي في ضوء النموذج العاملي الغريماسي: ترجمان الأشواق لابن عربي نموذجًا«. مجلة أنساق، المجلد الثامن، العدد الثاني، 2024. https://doi.org/10.29117/Ansaq.2024.0211

© 2024، الوكيلي، الجهة المرخص لها: كلية الآداب والعلوم، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


 

Publizieren – Why Open Access?Ansaq
in Arts and Humanities

 

 

Received: 15/11/2023                  Peer-reviewed: 02/07/2024         Accepted: 28/08/2024

 

Sufi Poetic Narrative in Light of Greimas' Actantial Model: Ibn Arabi's "Tarjuman al-Ashwaq" as a Case Study

Elhoussein Loukili

Research Professor, Arabic Language and Literature Department, Casablanca Academy–Morocco

h.loukili086@gmail.com

Abstract

This study examines the narrative structure of Ibn Arabi's "Interpreter of Desires" (Tarjuman al-Ashwaq), aiming to elucidate its intricate systems and expressive modalities. By interpreting this structure within the broader context of Sufi poetic discourse, the research illuminates the functional role of narrative elements in mystical poetry. The study focuses on the intersection of poetic and narrative dimensions in the work, positing that Sufi poetic narrative serves as a transformative tool, simultaneously subverting conventional semantics and articulating transcendent spiritual experiences that merge seamlessly with the poetic form.

Central to this analysis is the exploration of functional integration across literary genres and types. This approach facilitates a methodological framework that enables a nuanced interpretation of Sufi texts, ensuring analytical coherence with their original contextual milieu. By employing Greimas's actantial model, this study offers fresh insights into the complex interplay between form and meaning in Sufi poetic narratives, contributing to a deeper understanding of this rich literary tradition.

Keywords: Poetic narrative; Narrative structure; Narrative program; Narrative diagram

Cite this article as: Loukili, E. "Sufi Poetic Narrative in Light of Greimas' Actantial Model: Ibn Arabi's "Tarjuman al-Ashwaq" as a Case Study." Ansaq Journal, vol. 8, no. 2, 2024, https://doi.org/10.29117/Ansaq.2024.0211

© 2024, Loukili, licensee, College of Arts and Sciences & QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


مقدمة

سننطلق في هذه الورقة البحثية من تصور مفاده أن لكل خطاب هيكله وبناءه الخاص به، والخطاب الشعري الصوفيّ يعتبر من الخطابات التي تقوم على عنصر السرد، على اعتبار أن السّرد يحضر في كل أشكال التعبير الإنساني، سواء أكانت لغوية أم إشارية، فالإشارة تحكي كالصورة، وكما تحكي العلامات البصرية الأخرى؛ إذ لم يعد هناك ما يفصل بين الأنواع الأدبية؛ بل إنّ السّرد حاضر منذ بداية الحياة الإنسانية وحتى نهايتها، وهو يتشابك مع تفاصيل الحياة بشكل كامل، كما يتضامّ ويتشابك مع كل جنس من الأجناس الأدبية؛ إذ «يعد السرد من أقدم أشكال التعبير الإنساني على وجه الإطلاق؛ وذلك لأنه ارتبط بعملية التفاعل الإنسانية منذ بدء اللغة كمفهوم إشاري في مهد الحضارة الإنسانية، سواء كان هذا التفاعل عاطفيا، أو كان وظيفيا يرتبط بشكل من أشكال الحياة» (زيدان 14-15).

ومن جهة أخرى، فإنّ مقياس الشعرية لم يعد مرتبطا بالشعر وحده، بل صار يسري في كل أشكال الإبداع؛ حيث أصبح السّرد يتمتّع بحالة شعرية متكاملة، كما هو شأن القصة القصيرة التي صارت تمتلك كثافة الشعر وإيحائيته، ورؤيته الفنية. وهذا التصور المشار إليه يمثل الأطروحة التي تتبنى هذه الورقة البحثية الدفاع عنها، وذلك من خلال إقامة تجسير بين السردي والشعري بحثا عن المشترك والموحّد بينهما. وتماشيا مع هذا التوجّه، فقد أشار الناقد محمد عزّام عند حديثه عن خصائص القصّة القصيرة ومميّزاتها قائلا: «إذا كانت الرواية تلائم شكلا معيّنا من الحياة الاجتماعية، أو هي نتيجة لظروف موضوعية تمثلت في الوقت الفائض اللازم لقراءتها وكتابتها؛ فإنّ الحياة المعاصرة أصبحت أكثر تعقيدا، وتسارع إيقاعها بشكل مذهل، الأمر الذي دفع البحث عن فنّ موجز وسريع يقصد القصة له كثافة الشعر وتركيزه» (عزام 9).

معنى هذا أنّ التداخل بين الأجناس واردٌ، وأنّ عنصرَ التكامل الوظيفي يحتّم حضور الشعري في السردي، وحضور السردي في الشعري أيضا، لكون الحدود بين الأنواع الأدبية صارت متداخلة متواشجة؛ بل إنّ فكرة نقاء النوع الأدبي صارت موضع شك وتساؤل (ويليك 311). ففي الشعر احتيج إلى السرد؛ لأنّ السرد هو الأقدر على وصف الأحوال، وبسط الأحداث، وتجسيد الوقائع، وتصوير المشاهد. لأجل ذلك؛ فإنّ حاجة الشعر الصوفي إلى السرد جعل من هذا السرد شكلا أسلوبيا يحضر في الشعر وفي النثر على حد سواء. فصرنا أمام مصطلح السرد الشعري، الذي«قد يبدو على شيء من التناقض بين حضور جنسين أدبيين مختلفين في بؤرة اصطلاحية واحدة، فالسرد ينتمي إلى عالم النثر، والشعر ينتمي إلى عالم الشعر على ما بينهما من اختلافات في الشكل والوظيفة وغيرهما، لكن ما يجمع بينهما في هذا المقام هو ما يصطلح عليه في المدوّنة النقدية تداخل الأجناس، الذي يقضي بوجود تعالق كبير بين الأجناس الأدبية جميعًا؛ يحاول فيها كل جنس أن يفيد من مميزات الآخر بما يتاح له من فعاليات مناسبة» (موسى 308).

على أساس هذا المنطلق المنهجي سيكون التعامل مع المكون السردي في ديوان ترجمان الأشواق بوصفه صيغة من صيغ الحكي العرفاني، يراهن من خلاله ابن عربي على ترجمة أشواقه، والكشف عن تجربته الروحية التي يعيد التأصيل لها من خلال الشعر. ذلك أنّنا نجد الشاعر ابن عربي قد عمد إلى استدعاء شخصيّات تراثية، كما هو الشأن بالنسبة لشخصية (بلقيس)، إضافة إلى توظيفه لعنصري الزمان والمكان بطريقة مخصوصة جعلت معظم أشعاره تشكّل حكاية صوفية، لسانها شاعر عاشق، عمد إلى ترجمة تلك الأشواق بلغة يتداخل فيها الشعري بالسردي، دون أن نغفل الجانب الآخر المتعلق بتوظيفه للبعد العجائبي في كثير من أشعاره. هذا الأمر جعل السرد داخل الديوان يتحوّل إلى فعل وحدث في الوجود، كما جعله ممارسة فوق مكانية وفوق زمانية. إنها نصوص لا تتوقّف عند لحظة إبداعها، بل تحيا في المطلق، وتنسج خيوط الحكي من خلال الخيال الخلّاق. أي أنها نصوص ذات رؤيا وكثافة، تعبر عن لحظة من لحظات الكشف، وحالة من حالات الحيرة التي تكون فيها الذات منجذبة نحو آفاق علوية.

على هذا الأساس فإن عملية إدراك أساليب اشتغال السرد العرفاني من شأنها أن تمكّننا من فهم بنية الديوان الدلالية وتفسيرها، كما تساعدنا على إظهار الآليات الخفيّة المتحكّمة في تشكيل المعنى وخلقه داخل ديوان ترجمان الأشواق. على اعتبار أن السّرد أصبح يجاري إحساس الشاعر بتوترات العالم المادي الذي يهدّد صفاء القلب، وطهارة الروح. وهنا يكتسب السرد الشعري أهمية في الكشف عن مضامين التحوّل الموضوعي في النص الصوفي، والبحث عن مسلك مغاير يحدث من خلاله عملية البوح.

والسرد في الشعر قد يحتمل التنقلات الزمانية، وقد يلجأ إلى الاسترجاع والتّناص، كما قد يلجأ إلى دمج الزمان بالمكان، وقد يلجأ أيضًا إلى مجاورات مكانية وزمانية؛ فالسرد أصبح يجاري إحساسنا بتوترات العصر؛ ومن تم اكتسب السرد في النص الشعري الموزون أهمية في الكشف عن مضامين هذا التحول الموضوعي في النص الشعري، ومدى الإضافة التي حقّقها كل من الشعر والنثر للآخر، والبحث عن إمكانية ما لمواجهة ما يمكن أن يحدث في الواقع الأدبي من تفسّخ قد يتولّد عمّا يمكن أن يحدث للواقع الإنساني المعيش من تفكك في مرتكزاته، وهذا جعل الشعر الصوفي يبحث له عن مسلكٍ مغاير، يعالج من خلاله المشكلات الوجودية للذات الإنسانية التي تعاني تغريبًا عن واقعها.

وإذا سلمنا بهذا الاعتقاد المعرفي الذي سننتهجه، فإنّ السّرد الشعري العرفاني في هذا المقام يصير راصدا لذلك الشعور الخاطف الذي يراود الذات العارفة بين الفينة والأخرى. والسرّ الذي جعلنا نحدث تقاطعا بين الشعر الصوفي والسرد، يكمن في أن ابن عربي عمد إلى تتبّع أحاسيس النفس البشرية محاولة منه للقبض على شعاعها السني من خلال فعل الكتابة. وتتبعه لهذه الأحاسيس اقتضى منه وسم عنوانه (بترجمان الأشواق). وإذا أخذنا بعين الاعتبار الدلالة التي يشير إليها لفظ (ترجمان) فإننا نجدها مرتبطة بذلك الشخص الذي ينقل الكلام من لغة إلى أخرى؛ وإذا أخذنا بعين الاعتبار أيضًا الدلالة التي يمكن أن تتيحها عملية الإضافة بين عناصر العنوان (ترجمان) بوصفه مضافًا، و(الأشواق) بوصفها مضافًا إليه، فإننا نستنتج أن فعل الترجمة لا يرتبط بنقل الكلام من لغة إلى أخرى؛ بل إن فعل الترجمة يرتبط أساسا بنقل العوالم الداخلية لذات العارف بما هي حنين وأنين، وشوق وتوق، إلى تمظهرات نصية، وأشكال تعبيرية تتحقق شعرا. أي أن الترجمة هنا بوح/سرد عرفاني، يسهم في إقامة تجسير بين العالم الباطني، والعالم الظاهري للشاعر ابن عربي.

هذا الأمر كان مسوّغا للبحث عن الدلالة انطلاقا من أنفاس السرد القصصي في الديوان، معتبرين أنّ هذه السرود القصصية «لا تناقش قضية ما بتوسّع، ولا تصوّر تطور شخصية ما؛ بل إنّها شعور خاطف، ولحظة من عمر الزمن» (عزام 9) ترتبط بمقامات عرفانية وأحوال صوفية. لكن ما الذي يجعل من نص شعري نصًا سرديًا؟ وما ملامح السرد في نص الترجمان؟ ثم ما مدى إسهام البنيات السردية في بناء دلالة العوالم الممكنة للنص الشعري؟ وأخيرًا هل الحكي حاجة تعبيرية ومعرفية يلجأ إليها الشاعر، أم أنه ترف فني لا أقل ولا أكثر؟

من المعلوم أن القصّة الصوفية أصبحت في القرن السابع الهجري تعكس جوانب لها علاقة بالخارق في التجربة الصوفية، (ينظر في خصوص هذا التصور (حسين 134-135)، ولعل هذا ما اصطلح عليه باسم (الكرامة) التي لها ارتباط بالبارقة أو السانحة التي ترد على قلب العارف، فتجعله يتفرّد بمعرفة لدنيّة تميزه عن الأغيار. لكن قد يقول قائل: ما علاقة السرد من حيث هو طريقةُ إخبار بالشعر الصوفي؟ الحقيقة أن الشعر العربي منذ بدايته الأولى كان شعرا تحكمه الروح القصصية، ذلك أننا نجد في التراكيب الفنية لموضوعات الشعر العربي ملمحًا حكائيًا، فتارة ينحو منحى أسطوريًا، يجعله يأخذ صبغة عجائبية، وتارة أخرى ينحو منحى واقعيًا مباشرًا، كما هو الشأن في قصص الصعاليك وأحوالهم، وقصص الحيوان، وقصص الغزل والكرم والبطولة والفروسية، وغير ذلك من القصص التي خيّمت بظلالها على الشعر العربي القديم.

واعتبارًا لخصوصية الشعر الصوفي في طريقة تعامله مع الكون، ومع الإنسان، ومع ذات الشاعر، واعتبارا كذلك لما يرد فيه من رؤى ومشاهدات تتجاوز الواقعي واللحظي، لتجعل من المستقبل مجالا للاستقصاء؛ فإنّه يمكن إدماج هذا المكوّن المتعلق بالسرد في خطة هذه الورقة البحثية. ونأمل أن يُكشف عما انحجب من أسرار لها علاقة بالتجربة الصوفية التي سعى ابن عربي إلى التعبير عنها شعرا، وإن كنّا نعلم أن تجربته الصوفية عصيّة عن الوصف، أبيّة عن الشرح والتفصيل، فمن أراد أن يشعر ويذوق فليجرّب بنفسه؛ إذ التعبير لا يغني عن التجربة، لكونها أكبر من أن يختزلها سرد أو حكي.

إنّ ممعن النظر في الخطاب الشعري الأكبري، يلفيه يكتسي صبغة حكائية، فالعلاقات التي تقيمها الأبيات فيما بينها، والصدى الذي تتركه في ذهن القارئ، كلّها أشياء تنبؤنا أننا أمام قصة أصلية لها معالمها الخاصة بها، تبدو موزعة في تضاعيف الديوان من أوله إلى آخره. هكذا يبدو التداخل بين الشعري والحكائي واضحكا جليّا، ذلك أنه قد نبّه عبد الفتاح كيليطو إلى أن «الحواجز التي نضعها بين الأنواع لها ما يبررها، ولكنها تظل نسبية. فهناك خيوط كثيرة تشد الأنواع فيما بينها وعلى عدة مستويات» (كيليطو 6). بمعنى أن إمكانية التداخل والتقاطع بين الأنواع الأدبية ممكنة، على اعتبار أن تعريف النوع «يقترب من تعريف العلامة اللغوية عند سوسير: النوع يتحدّد قبل كل شيء بما ليس واردا في الأنواع الأخرى،تحديد النوع يقتضي منك أن تعتبر الترادف في مجموعة من النصوص، والتعارض بين النوع وأنواع أخرى. لهذا فإن دراسة نوعٍ تكون في الوقت نفسه دراسة للأنواع المجاورة» (كيليطو 26-27). معنى هذا أنّه لا توجد فروق دقيقة بين الأنواع الأدبية، فكما أنّ العلامة اللسانية محكومة بالاعتباطية، فكذلك هو الشأن بالنسبة للأنواع الأدبية، لا تحكمها تخوم واضحة، وإنّما هي حدود وهمية قابلة للاندماج مع عناصر أخرى. هذا المعطى سيكون مسوّغا لمقاربة البنية السردية للديوان، والكشف عن البنية السردية التي تحكمها، مركزين على مظاهر التقاطع بين الشعري والسردي في هذا الديوان.

1.    السرد الشعري بوصفه ملمحا فنيا في الشعر الصوفي

انفتح الشعر الصوفي على بنيات نصية ونوعية ونمطية متعددة، رغم استوائه النسبي على الإيحاء والاستعارة والتشبيه والكناية والمجاز. وهذا الانفتاح يطرح إشكالًا في تنويع الشعر الصوفي لأشكاله التعبيرية التي يتداخل فيها السردي بالشعري، كما يتداخل فيها الواقعي بالعجائبي إلى حدّ التماهي والامتزاج، نظرا لقدرة الشعر على أن يتّسع لما له علاقة بالسرد وبالعجيب وبالإخبار والتاريخ. ولعل هذا دافع من الدّوافع الفنية الجمالية التي جعلت ابن عربي يختار الشعر دون بقية الأجناس الأخرى ليُضمّنه تجربته الشعرية بل الروحية. حيث يتحوّل الشاعر إلى مدوّن للتجربة الصوفية وما يتعلّق بها من أحوال ومقامات. وتماشيا مع هذا التصور فإن الشعر يتسع ليحكي سردا عن التجربة الروحية، وعن الكرامة والأهواء والمشاعر، وكأن الشعر بمثابة فضاء تدويني يجمع في تضاعيفه سرودا وأخبارا وحكايات. وهنا نحبّ أن ننبه إلى أن المتتبع لمنحى التأليف عند ابن عربي يجده يأخذ مسارا يتسم بالغرابة والفرادة، على اعتبار أن فعل الكتابة عنده يقع تحت حالة إلهام، فيدوّن ما يدوّنه من شعر كما لو كان يُمْلى عليه إملاء، وينكتب ما ينكتب وهو في حالة سكر أو شرود عن الواقع المادي، ذلك أن «أحوال الصوفية أحوال إرادية لا صلة لها بالإدراك العقلي المنطقي» (ابن عربي 2/5). أي أنّ الإرادة هي الغاية عند الصوفي، وكما هو معلوم فالإرادة محلّها القلب وليس العقل. «فالصوفي لا يقول كما قال ديكارت: أنا أفكر إذن أنا موجود، بل يقول: أنا أريد إذن أنا موجود...وهنا تختلف الصوفية عن الفلسفة اختلافا بينا في الأهداف والوسائل» (هدارة 107).

ولمّا كان الأمر بهذه الكيفية، فلا جرم أن يكون هذا الإبداع متجاوزا لحدود المنطق والعقل، ومرتميا في متاهات العجائبي والغريب؛ إذ إنّ الشطح والكشف والوجد والفناء حالات لا يمكن أن تدرك إدراكًا عقليا، بل تدرك إدراكا قلبيًا وذوقيًا.

انطلاقا من هذا التصور تبدو اللغة في ديوان ترجمان الأشواق راصدة لمجموعة من الأهواء والصراعات والرغبات المتعلقة بالذات، والذات قبل أن توجد في بنية سردية كانت موجودة سلفا في واقع مادي محض.

فإذا رجعنا إلى مقدمة الديوان ألفينا إشارة من لدن ابن عربي يشير فيها إلى حالة الذات ما قبل تحقّق فعل القول الشعري، بما هو حكي شعري. «كنت أطوف ذات ليلة بالبيت فطاب وقتي وهزّني حال كنت أعرفهفلم أشعر إلا بضربة بين كتفيّ بكف ألين من الخز، فالتفتّ فإذا بجارية من بنات الروم لم أر أحسن وجها ولا أعذب منطقا ولا أرقّ حاشية ولا ألطف معنى ولا أدق إشارة ولا أظرف محاورة منها» (ابن عربي 11).

إن الأمر يتعلق بحالة وجدانية انفعالية هزّت الشاعر لمّا تراءى له وجه الحبيبة الذي استهواه، فكانت محفّزا على الحكي. حيث صار الحكي مرحلة ثانية يأتي تابعا للحدث العاطفي. ثم بعد ذلك ضُمِّخ الديوان من حيث هو تشكّل خطابي بأريج تلك الحالة العاطفية. «تتجلّى الأهواء في الخطاب حاملة لآثار معنوية بالغة الخصوصيةوالإمساك بالآثار العامة باعتبارها (أريجا) للعدة السيميوسردية المدرجة في الخطاب، معناه الاعتراف بطريقة ما أن الأهواء لا تخص الذوات وحدها..ولكنها ميزة الخطاب في كليته، وأنها تنبعث من بنيات خطابية من خلال (أثر سيميائي) يمكن إسقاطه إما على الذوات وإما على الموضوعات» (غريماس وفونتيني 67-68)؛ أي أن للنص الشعري أريجا يتماهى مع أريج الهوى العرفاني الذي تحسّه ذات الصوفي وتتوق للتعبير عنه شعرا.

وإذا بسطنا النظر في ديوان ترجمان الأشواق، وجدنا الجانب المتعلق بالهوى لم ينصبّ على الذات التي وقعت في حب الفتاة النظام لوحدها، بل إنّه متضمن في الخطاب في كليته، فلم يرتبط الحكي بالذات الشاعرة فحسب، بل ارتبط بالخطاب الشعري برمّته. يقول ابن عربي: «وجعلت العبارة عن ذلك بلسان الغزل والتشبيب لتعشق النفوس بهذه العبارات» (ابن عربي 10). فنكون بذلك أمام عالمين: عالم الذات العاشقة وعالم النص؛ حيث يوحّد الهوى والحب بين العالمين فيصيّرهما كتلة عاطفية واحدة.

عمدنا في هذا المحور إلى الإشارة للشعر السردي من حيث هو كتابة تسعى إلى تطويع المتخيّل والماورائي، كما تهدف إلى انتهاك عوالم العقل والمنطق، وعوالم المألوف والمتداول، فتنزاح عن نواميس الطبيعة وقوانينها، لتحدث ثورة على الواقع وتتسامى على بشاعته. وفي القادم من الخطوات سيتم الكشف عن معمارية الكتابة السردية في ديوان ترجمان الأشواق وما يرتبط بها من بنيات داخلية.

2.    النموذج العاملي بوصفه عنصرا من عناصر البنية السردية في ديوان ترجمان الأشواق

إذا كانت السرديات في مجملها تتخذ من شكل التعبير أفقا للمقاربة والتحليل، فإن السيميائيات السردية جعلت من مشكلة المعنى مجالا للبحث والاستقصاء، وهذا هو المحفّز الذي جعل الورقة البحثية تعتمد على السيميائيات السردية في مقاربة المعنى الشعري. ذلك أن ديوان ترجمان الأشواق قد احتوى على بعض العناصر السردية التي ارتبطت أساسا بالخطاب الشعري الصوفي. على اعتبار أن هذا الخطاب قام على حدث قضى بنشأة الديوان نشأة فعلية، وقد عبّر الشاعر عن هذا الحدث بقوله: «كنت أطوف ذات ليلة بالبيت فطاب وقتي، وهزّني حال كنت أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس، وطفت على الرّمل فحضرتني أبيات فأنشدتها، أسمع بها نفسي ومن يليني لو كان هناك أحد ... فلم أشعر إلا بضربة بين كتفيّ بكف ألين من الخز، فالتفت فإذا بجارية من بنات الروم لم أر أحسن وجها ولا أعذب منطقا ولا أرق حاشية ولا ألطف معنى ولا أدق إشارة ولا أظرف محاورة منها...» (ابن عربي 11).

إن الباعث على النظم الشعري والمحفّز عليه تمثل في الحال الذي هزّ الشاعر ابن عربي وهو في مكّة، إلّا أن ارتباط حالة الوجد بالّلقاء الذي حدث له مع الفتاة النظّام، ومحاورته لها لم يكن بالصدفة، مما يجعلنا نقرّ جازمين أن سرّ النظم الشعري كان مرتبطا بهذه الفتاة. فهو إذن يمثل الحدث الرئيس داخل الديوان برمّته، وعليه فإنّ الراوي سيكون هو الشاعر ابن عربي نفسه، في حين ستأخذ الفتاة النظّام نصيبا من هذا السرد، وتكون هي المسرود لها، والمخصوصة بهذا الشعر الذي يترجم فيه الشاعر أشواقه وحبّه، دون أن نغفل جمهور القراء بما في ذلك فقهاء حلب الذين أساؤوا فهم رسالة ديوان الترجمان، واتهموا الشيخ بالرعونة والنّزق وقلة الرزانة.

وإذا كان الأمر بهذه الكيفية؛ فإن ديوان ترجمان الأشواق تحكمه مجموعة من القضايا السردية؛ إذ إنّه من المسلّم به أنّ النموذج العاملي محكوم بمبدأ تنظيمي يمكن أن نطبّقه على ديوان ترجمان الأشواق، على اعتبار أن هذا النموذج «يتكون..من ستّ خانات موزعة على ثلاثة أزواج، وكل زوج محدّد من خلال محور دلالي يحدد طبيعة العلاقة الرابطة بين حدي كل زوج، ويحدد في الآن نفسه طبيعة العلاقة الرابطة بين الأزواج الثلاثة» (بنكراد 76). ذلك أن كريماس أعطى لهذا النموذج التمثيل الآتي:

تكمن أهمية هذا النموذج في كونه ليس معطى نصيًا يفرضه النص على المتلقي، وإنّما هو عبارة عن مراهنة واختيار؛ إذ من خلال الخلفية الأيديولوجية لكل قارئ، ومن خلال موسوعته الأيديولوجية، يمكنه أن يستثمر هذا النموذج بطريقة أو بأخرى خارج أي تمثيل نصي. بل يمتلك القدرة على تجاوز الحكاية أو النصوص السردية في عمومها، ليقوم «بمعانقة خطابات أخرى غير الخطاب السردي. فرغم أن المنطلق الرئيس في مسيرة كريماس كان هو الحكاية الشعبية (النص السردي بصفة عامة)، فإن نظريته صالحة للاقتراب من ظواهر نصية بالغة التنوّع: النصوص القانونية، الظواهر الاجتماعية، الإشهار، الخطابات السياسية» (بنكراد 10).

وإذا كان الأمر بهذه الكيفية؛ فإن النص الشعري جزءٌ لا يتجزأ من هذه النصوص التي يمكن أن يستوعبها النموذج العاملي، لذا كانت فكرة هذا الفصل مرتبطة بتطبيق هذا النموذج على ديوان ترجمان الأشواق. على هذا الأساس كان لابد من استدعاء بنية أيديولوجية تسعفنا في ملء تلك التعارضات الفارغة، لكون كريماس «كان يريد لنموذجه أن يكون عاما وشاملا، قادرا على احتواء مختلف أشكال النشاط الإنساني، بدءا من النصوص الأدبية، وانتهاءً بأبسط شكل من أشكال السلوك الإنساني» (بنكراد 76).

فإذا سلمنا بأن تصميم الديوان الشعري جاء ثلاثي التكوين: متن شعري خصّ فيه ابن عربي السرد للنّظام بنت الشيخ أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجاء الأصفهاني، ثم خطبة المقدمة التي أرسى فيها تعاقدا مع القارئ المفترض، فحاشية شارحة لما تضمّنه المتن، سعى ابن عربي من خلالها إلى الإبانة عن مراميه الباطنة الضاربة في عمق التصوف مذهبا وطريقة، فكانت شروحه هاته إنارات يستهدي بها القارئ في دياجير نص الترجمان المتأبية عن تسليم معانيها ودلالاتها. ذلك أن امتزاج التجربة الروحية عند ابن عربي بالتجربة الشعرية هي المحرّك الأساس للقول الشعري، مما يحدث اندغاما بينهما، ويجعل إمكانية الفصل بين هذين العنصرين أمرا غير ممكن. ذلك أن التجربة الشعرية يمكن اعتبارها بمثابة سيرة ذاتية روحية، تكشف عن تجوال الشاعر في مسالك العارفين، كما تكشف عن سياحته في رحاب الحب والشوق الإلهيين.

إن ابن عربي جعل من السرد العرفاني مرآة يرى فيها أشواقه، وأحواله وأسفاره الروحية؛ لأن السرد العرفاني ليس قولا عاديا، وإنّما هو كلام مؤسّسٌ لإنسانية الإنسان الكامل، كلماته لا تعبّر بقدر ما تومئ، لتقدم نفسها مفتوحة على جميع التأويلات الممكنة. إنّه الكلام الذي يهدّد الواقع والمألوف؛ لأنه يوقظ الحلم والخيال الخلاق. فمسروداته الشعرية على هذا الأساس جاءت نتيجة حالة نقص تحسّها الذات، وتسعى إلى إحداث تعويض وجبرٍ لها.

وإذا كانت اللغة الشعرية في ديوان ترجمان الأشواق ذات طبيعة تصويرية وصفية، فهذا معناه أنها تعمل بشكل أو بآخر على استثارة خيال المتلقي وحثه على التفاعل مع الأحداث والمقامات والحالات التي تحياها الذات الشاعرة. وكأن التصوير الفني في ديوان ترجمان الأشواق ما هو إلا تجلّ من تجليات الحكي يهدف إلى الإبانة عن عوالم النفس الداخلية ومشاهداتها العرفانية. فالسرد هو الوسيلة التي مكّنت ابن عربي من الكشف عن معاناته الداخلية، وبسط شكواه، والإفصاح عن وجدانه العرفاني.

وتماشيا مع هذا التصور، فإن البطل في ديوان ترجمان الأشواق هو الشاعر ابن عربي، باعتباره مؤلفا وساردا في الآن نفسه. فهو عمل من خلال الديوان على رسم الوثبة الأصيلة للروح الشاعرة التي تحرّرت من غفوة الحياة اليومية، لتنفتح على عوالم عرفانية أساسها اللطافة لا الكثافة. ويرجع سرّ هذا الانفتاح إلى نقص أصاب ذات الشيخ ولازمها فلم تستطع فكاكا عن هذا النقص، مما جعلها تدرك النقص وتعمل على تجاوزه؛ أي أنها أصبحت هي عامل الفعل لوجود رغبة تحرّكها وتدفعها إلى تحقيق الاتصال بموضوعها. والحركة في هذا المستوى كانت حركة سفر روحي وترحال في ملكوت الحقيقة الحقّانية. وللإشارة فإن فكرة الرحلة أو السفر لا يمكن ربطهما بأي حال من الأحوال بالانتقال من مكان جغرافي معلوم إلى مكان مجهول، بل هو سفر روحي كما أشرنا فيه انتقال من عالم الكائنات الدنيوية إلى عالم الأنوار الإلهية، وللتوسع أكثر في مفهوم السفر العرفاني تنظر مقالتنا البحثية (الوكيلي 2021).ولنقل بعبارة أخرى: هو سفر قلبي يروم من خلاله ابن عربي تعويض حالة النقص التي كان يجدها في البداية؛ أي أن رحلته هاته كانت ناتجة عن إدراك عميق للنقص الذي تجده الذات، ومن ثم تتولّد رغبة عارمة في تجاوز هذا النقص وصولًا إلى الكمال. ذلك أنّ سبيل الكمال لا يحصل عند الصوفي إلا بالسّفر الروحي الذي يمنحه غيابًا عن الخلق، فسكرًا، فمعرفةً بالله، عزّ وجل. فـ«السكر حيرة بين الفناء والوجود...، وفي الأبواب التردد بين الخوف والرجاء، وفي المعاملات: الحيرة بين رعاية الأعمال والأحوال. وفي الأخلاق: سكر الانبساط. وفي الأصول: الحيرة بين أنوار القرب، والأنس مع الجد في السلوك الدال على البعد والاستيحاش»، كما عند (الكاشاني 1992، 355) يقول ابن قيم الجوزية (ت751هـ) : «إن لكل شهوة سكرا يزيد على سكر الخمر، وكذلك الغضب له سكر أعظم من سكر الشراب، ولهذا نرى العاشق والغضبان يفعل ما لا يفعله شارب الخمر، وكذلك يطمئن من قلق الغفلة والإعراض إلى سكون الإقبال على الله وحلاوة ذكره وتعلق الروح بحبه ومعرفته، فلا طمأنينة للروح بدون هذا أبدا. ولو أنصفت نفسها لرأتها إذا فقدت ذلك في غاية الانزعاج والقلق والاضطراب، ولكن يواريها السكر، فإذا كشف الغطاء تبين له (يقصد العاشق/ الغضبان) حقيقة ما كان فيه. وها هنا سر لطيف يجب التنبيه عليه ... وهو أنّ الله سبحانه جعل لكل عضو من أعضاء الإنسان كمالا إذا لم يحصل له فهو في غاية الانزعاج والقلق والاضطراب بسبب فقد كماله الذي جُعل له ... وجعل كمال القلب ونعيمه وسروره ولذته وابتهاجه في معرفته سبحانه والإنابة إليه والإقبال عليه والشوق إليه والأنس به، فإذا عدم القلب ذلك كان أشد عذابا واضطرابا» (218).

على هذا الأساس كانت حركة الذات الشاعرة في الديوان برمّته رامية من جهة إلى التعبير عن أشواقها، ومن جهة أخرى رامية إلى تجاوز النقص الحاصل عندها، من خلال السفر الروحي نشدانا للكمال وطلبا له. وعليه فإن إمكانية تطبيق البرنامج السردي الذي تحكمه محاور ثلاثة على ديوان ترجمان الأشواق يبدو ممكنا، خصوصًا إذا علمنا أن «هذه المحاور تعبّر عن الرغبة في حالة العلاقة بين الذات وموضوعها. ففي غياب موضوع مرغوب فيه لا مجال للحديث عن ذات أو رغبة. وعن الصراع في حالة العلاقة الرابطة بين المعيق والمساعد، فالرحلة التي لا تصادف ما يعيق استمرارها ولا من يساعدها على الوصول إلى الهدف، لا يمكن أن تسمّى رحلة. وعن التواصل في حالة العلاقة القائمة بين المرسل والمرسل إليه، فالتواصل ممكن لأن الرحلة تنطلق من رغبة لتصل إلى أهداف. وما بين الرغبة والأهداف هناك الدافع وهناك المستفيد» (بنكراد 77).

وما دامت رغبة الذات الشاعرة تتمثّل في تجاوز النقص الحاصل، نقصٌ تمفصل في ذاتٍ مغتربة عن واقعها، منفصلة عن أصلها العلوي الطاهر الذي أُهبطت منه؛ فإنّ الشاعر عمد إلى الارتقاء بها إلى رتبة الإنسان الكامل؛ حيث جرى ردم الهوة، ورأب الصدع من أجل رسم معالم ذاتٍ عارفة بالله، تتجاوز ملامح الإنسان الموروث، وتعلو على كل مادي فانٍ.

من هذا المنطلق كتب ابن عربي ديوانه «ترجمان الأشواق»، فكان النقد والهجوم يلاحقان الذات العارفة، هجوم صدر من قبل من سمّاهم علماء الرسوم الذين يكتفون بالرسم الظاهر دون الغوص في الوشم الغائر. وسبب هذا الهجوم راجع إلى كون ابن عربي جعل من الأنثى موضوعا للارتقاء والتسامي.

وإذا كنا قد فهمنا ملابسات القول الشعري في ديوان ترجمان الأشواق ودوافعه وأسبابه وأهدافه؛ فإن العلاقات الثلاث التي يقوم عليها النموذج العاملي يمكن مَفصلتها في محاور ثلاثة: «محور الرغبة: وهو المحور الذي يربط بين الذات والموضوع، ومحور الإبلاغ: وهو عنصر الربط بين المرسل والمرسل إليه، ومحور الصراع: وهو ما يجمع بين المعيق والمساعد» (بنكراد 77).

يبدو واضحًا أن المحاور الثلاثة تشتغل في إطار من التماسك والانسجام مع مكونات تركيبية أخرى تشكل النسق العام الذي يحكم سيرورة التحليل السيميائي. فتكون هذه المحاور بمثابة إعادةٍ لتوزيع الأحداث التي تحكم الديوان برمته. حيث إن هناك ذاتا راغبة، وموضوعا مرغوبا فيه، وقبل أن يكون هذا المعطى متوفرا لابد من أن يكون وراء هذه الرغبة محرّكا أو دافعا يسميه كريماص مرسلا، كما أن المستفيد يسميه مرسلا إليه. ثم إن تحقيق الرغبة لا يكون ذاتيا بشكل مطلق، ولكنه يكون موجّها إلى عامل آخر يسمّى مرسلا إليه. ولا يمكن لهذه العلاقة التواصلية القائمة بين المرسل والمرسل إليه أن تتحقق دون أن تمرّ عبر علاقة الذات بالموضوع. كما أن علاقة الصراع تجسّد حالة المنع بالنسبة للذّات عندما يتعلق الأمر بالمعاكس أو العائق، أو يكون الأمر مختلفا، فبدل حالة المنع تعمل الذات على تحقيق رهانها، عندما يتعلق الأمر بالمساعد الذي يقف إلى جانب الذات.

ذلك أنه من أجل رصد البنية العاملية التي تحكم ديوان ترجمان الأشواق سننطلق من فكرة مفادها أن القول الشعري في الديوان يمثل تصويرا للذات الشاعرة، وتشخيصا لدواخلها، ورصدا لحالتها البدئية بعدما كانت ساكنة في غيوم العشق، أو بعدما كانت كتلة من الأهواء، ثم تفتّقت أسرارها، فكان الإبداع الشعري تعبيرا عن هذه الأهواء والمواجد التي كانت مدفونة في عالم النسيان. هذا الأمر سيضعنا أمام حالتين قائمتين على نوع من التقابل.

2.1 حالة امتلاء ذاتي تقابلها حالة فراغ مضموني

وصفنا هذه الحالة بالفراغ المضموني لأنها تتعلق بإشكالية البوح والإفصاح. إذ الذات ممتلئة شوقا ولوعة، لكنها تبدو عاجزة عن نقل هذا المكنون الداخلي إلى المتلقي. وقد تم وصفها بهذا الوصف؛ لأن الفتاة التي سعى الشاعر إلى معانقة طيفها، وإقامة وصلٍ معها، هي فتاة عجماء بكماء صامتة لا تفصح ولا تبين، فهي فتاة متحوّلة عن الأنثى الآدمية المشتهاة، إلى المرأة الكون، أو المرأة الطبيعة. هذا المستوى يتعلق بوضعية الذات الشاعرة منفصلة عن عملها الإبداعي؛ أي بوصفها ذاتا مُحِسّة تنطوي على أنغام السحر الكوني، وعلى لمساته البهية؛ حيث تبدو في هذا المقام عالما صغيرا من حيث ظاهرُها، لكنها في بعدها الباطني تبدو كونا أشدّ اتساعا وعمقا، وخصوبة وغموضا. فالحنين الجارف يتدفّق من وجدانها سردا عرفانيا يتجسد في قصائد الديوان بوحا مغلفًّا بزي الإشارة، بما هي تكنية وتعمية يخاتل بها علماء الظاهر. أو لنقل بعبارة أخرى: إن الذات الشاعرة كانت أثناء القول الشعري تبحث عن ذاتها الثانية لتحقق التحاما معها، لكن هذه الذات كانت في حالة تأجيل أو كمون، فلم يتم الإعلان عنها إلا في نص الشرح. إنها ترنو إلى إقامة ملامح الذات الكاملة التي لا يشوبها نقص، ولا يعتريها خلل. فيكون المبتغى والرهان هو الاتصال «بالفتاة النظام» عن طريق عروج متخيّل من عالم المحسوسات البالية، إلى عالم المجرّدات الكاملة.

هكذا تبدو رغبة الذات العارفة في نحت معالم ذات جديدة مشروطة بوجود ذات أخرى أنثوية هي «النظام»؛ حيث يكون الديوان تعبيرا عن هذه الذات الجديدة التي هزّها الشوق حينما كانت تطوف بمكة، فخرجت من البلاط ومشت على الرمل، فإذا بجارية من بنات الروم قد ضربت على كتفها بيد ألين من الخز. (ابن عربي 11) وعليه يكون هذا الحدث هو سرّ الامتلاء الذاتي الذي سيدفع بالشاعر إلى عملية البوح والتعبير عن خلجات النفس بلسان الشاعر المتغزّل، وليس بلسان الشاعر العارف، حتى يشارك العامة ما عاشه من حالات ومقامات. وقبل الانتقال إلى الحالة الثانية نورد البنية العاملية للحالة الأولى التي أشرنا إليها آنفا، وهي على الشكل الآتي:

إن محور الرغبة الذي تتجاذبه عناصر النموذج العاملي يتمظهر في الوجد الذي استبدّ بالشاعر عندما كان بمكّة بعدما تراءت له الفتاة النظام، فكان التواجد حاصلا بين الطرفين. حيث إنّ الذات (ابن عربي) كانت في انفصال عن الموضوع، على اعتبار أن الموضوع الذي تراهن عليه الذات هو تحقيق الاتصال بـ(النظّام) لتجاوز النقص الحاصل عندها. ليكون الدافع أو المحفّز على هذا الفعل هو ما تتمتّع به هذه الفتاة من جمال وأخلاق قلّ نظيرهما. أي أنّ الذات الأنثوية كانت هي المحفز على تحقيق هذا التواصل، والباعثة عليه. هذا المطلب عمد الشاعر إلى تحقيقه بشتّى أساليب القول الشعري، لوجود معارضين وقفوا حجر عثرة أمام الرغبة المنبجسة من الذات. إلا أن الموضوع الذي تراهن عليه الذات سيعرف تحولا، بحيث ينتقل من موضوع قيمة إلى موضوع صيغة، فتصير الفتاة النظام وسيلة أو قنطرة تعبر من خلالها الذات إلى عوالم المجرد والغيبي واللامرئي. وعليه فإنّ المعارض أو العائق يتمفصل في علماء الرسوم، أو علماء الظاهر الذين ذموا الديوان ووجه اللوم لصاحبه؛ لأنهم اكتفوا بالظاهر أو بما يقوله رسم الديوان. في حين أمسى المساعد هو القناع أو الرمز الذي لجأت إليه الذات الشاعرة أثناء القول الشعري لتخفي أشواقها العرفانية ومواجيدها الصوفية.

هذه النتيجة المتوصّل إليها تفسر لنا كيف أن الكتابة الشعرية الأكبرية بدت مخالفة للعادي والمألوف. ولعل هذا ما عكسه محور الصراع؛ إذ كان رهان العائق تعطيل شعر الديوان، وحجب ما فيه من قصود وفهوم جديدة عن عين المتلقي. وعليه فإن هذه الوضعية تدفعنا إلى مناقشة محور الإبلاغ الذي تكوّن من قطبين اثنين: المرسل المتمثل في الفتاة النظام التي كانت محفزة على القول الشعري وباعثة عليه، والمرسل إليه المتجسد في القارئ الذي تلقى هذا القول لكنّه لم يستطع أن يصل إلى درر هذا القول الشعري ولبّه، على اعتبار أنه قارئ لم يتسنّ له بعد تخطّي القيم الماضوية المتراكمة التي اصطبغت بها الحياة الأدبية وقواعد الكتابة الشعرية المحتكمة إلى العمود الشعري الصارم، مما ولّد أزمة تواصلية بين الشاعر وقارئه.

كانت هذه البنية العاملية المتعلقة بالديوان في عمومه، أما البنية العاملية المتعلقة بالمتن الشعري فتجسّدها الحالة الثانية للذات وقد جاءت على الشكل الآتي:

2.2 حالة امتلاء مضموني تقابلها حالة اغتراب ذاتي

هذه الحالة تجسّد بعدا عميقا للذات يجعلها تتجاوز المحفز الذي دفعها إلى نظم الشعر نقصد الفتاة (النظام)، إلا أن الذات ستعرج على هذا المحفز المادي لتستبدل به محفزًا عرفانيًا يتجلّى في المحبوبة النورانية، بما هي بارقة أو سانحة ترد على قلبه. في هذا المقام سيتحول موضوع القيمة الذي كانت تراهن عليه الذات في حالتها البدئية إلى موضوع صيغة، فتصير النظام بوصفها موضوع صيغة قنطرة تعبر من خلالها الذات إلى عوالم أكثر خفاءً وتجريدا. حيث تصير المحبوبة النورانية هي موضوع القيمة التي تسعى الذات الشاعرة إلى تحقيق الاتصال بها ومعها. مما خلق بمفهوم المخالفة هاجس الانفصال؛ إذ إن نص الشرح في شموليته يؤشّر على هذا المعنى ويركز عليه. فإذا كان شعر الغزل العذري تعبيرا عن مأساة الانفصال وتجسيدًا له، وتعبيرًا أيضًا عن الشعور المفجع بعمق القطيعة بين الحبيب ومحبوبه، فإنّ الشعر الأكبري ترجمة لانفصال ذات العارف عن البدايات الأولى، وعن الأصل السماوي الذي نزل منه أبو البشرية آدم عليه السلام، فكان الإحساس بالغربة عربون هذا الانفصام؛ حيث بدت الذات في سفر نحو المستقبل، واستشراف للّذي لم يأتِ بعد، سفر يتغيّا من خلاله الشاعر تجاوز المادي والتحرّر من قبضته وقيوده، وصولا إلى عالم الحقيقة والمآل الكلي.

ولعلّ الحضور الباذخ للمكان في ديوان ترجمان الأشواق من خلال تغنّيه بالأماكن والمرابع والمنازل والأطلال، لا يعدو أن يكون إلا صورة من صور هذا الاغتراب الذي عاشه الشاعر وسعى إلى التعبير عنه من خلال السرد الشعري. ذلك أن تعلق الشاعر بالديار والأطلال يشكل للذات العاشقة ألما وحزنا. «الحزن لها لما هي عليه من عدم النازل» (ابن عربي 14)؛ حيث صار الخواء العرفاني يخيّم على أرجائها، مما يجعل الشاعر يحسّ بالاغتراب؛ إذ من معاني هذا الاغتراب «النزوح عن الوطن» (ابن منظور، باب الغين)، كما ورد في لسان العرب. والوطن في هذا المقام هو المملكة الروحية التي لا يطيق الشاعر الصوفي فكاكا عنها، لكن الاغتراب هنا ليس اغترابا جغرافيا، بقدر ما هو اغتراب روحي ناتج عن وقوعه أسيرا في عالم الكثافة، ذلك أنه «كانت الغاية من وجود الكائنات-حسب ابن عربي هي شهود جمال الحق وكماله. لكن الهيئة الوجودية التي تكونت عليها الكائنات واتخذت أشكالها تمنعها من ذلك الشهود...ومعنى ذلك أن كل الأشكال الوجودية...ستصبح عائقًا أو حجابًا» (عبد الحق 357-358).

لذلك فالبنية العاملية محكومة بهذا الحنين الاستشرافي الذي لا علاقة له بالحنين الاسترجاعي الذي يهدف إلى النبش في ذاكرة الماضي واستدعائها من جديد عن طريق التذكر. ولعل هذا يعكس بعضا من خصائص الحكي الشعري فهو على مستوى البناء «يعتمد النموذج البنائي الدائري؛ حيث تحيل النهاية على البداية،...ومن الوظائف الأساسية لهذه البنية الدائرية أنها تعمد إلى إلغاء الزمن، وتجاهل رهانات الحبكة. كما أن الحكي الشعري يعتمد في هذا المجال على إيقاع خاص يخلق الجدلية والاختلاف» (أدادا 94). وعلى هذا الأساس تتمفصل البنية العاملية لنص الشرح على الشكل الآتي:

يمثل هذا النموذج العاملي المحور الأساس الذي يحكم الوجود الرمزي للذات الشاعرة، إلا أن هذا النموذج يظل قاصرا عن استيعاب بنية النص الشعري برمته. كما يظل قاصرا عن تحديد المراحل والخطوات التي تمر منها الذات للاتصال بموضوعها، على اعتبار أن المسار الذي تسلكه الذات هو مسار يصعب الإمساك بتفاصيله؛ إذ إنه عبارة عن معراج روحي من العالم المادي إلى العالم المجرد. وتماشيا مع هذا المنظور، فإن المرسل الذي مثله الحنين إلى البدايات، لم يكن سوى الشحنة التي دفعت الذات إلى الاتصال بموضوعها؛ حيث تحوّلت النظام من موضوع قيمة إلى موضوع صيغة، ليصير موضوع القيمة ملاحقة الذات للبارقات والسوانح. لذلك نجد العلاقة التي تربط بين العوامل في بنية المتن الشعري محكومة بالفرادة والخصوصية؛ لأن الذات تسعى جاهدة إلى التجرد من عالم المادة. هذا المعطى يجعل مسار الأحداث قائما على التنبؤ، فيكون صراع الذات واردا من أجل الوصول إلى الكمال والمطلق، كما يجعل (الموضوع) مؤطرا بالتجربة الروحية للشاعر التي تبقى أكبر من كل الذوات والعوامل. لذلك نجد (المرسل إليه) محكوما بالتشظي والتلاشي، على اعتبار أن الذات خفقت في معراجها ولم يتسنّ لها تحقيق ما تطمح إليه. فالاغتراب الذي خيّم على مجموع قصائد الديوان، جعل المرسل إليه معدوم النوال والعطاء. لذلك كانت جدلية الحضور والغياب سمة بارزة في ديوان ترجمان الأشواق.

وما دمنا نتعامل مع نص له خصوصيته ومرجعيته الفكرية وتجلياته القابلة للتأويل؛ فإنه سيتم تغليب خصوصية النص على المنهج؛ إذ إن لسان الصوفي العاشق ليس هو لسان الشاعر غير الصوفي. يقول الشيخ عبد الوهاب الشعراني (ت973هـ) في كتاب (الأنوار القدسية): «اعلم أن من صفات المحبين أنهم يتكلمون بلسان المحبة، والعشق، والسكر، لا بلسان العلم والعقل والتحقيق، كما أجاب بذلك الخطاف سليمان عليه الصلاة والسلام، ذلك أن خطافا راود خطافة في قبة سليمان، عليه السلام، وقال لها: لقد بلغ من حبي لك أن لو قلت لي: اهدم القبة على سليمان لفعلت. فحملت الريح كلامه إلى سليمان. فقال له: ما حملك على ما قلت وأنت عاجز؟ فقال: مهلا نبي الله، أنا عاشق، والعشاق إنما يتكلمون بلسان عشقهم وسكرهم، لا بلسان العلم والعقل. فضحك سليمان من قوله ولم يعاتبه» (1/171).

حاصل هذا القول أن الخطاب الشعري الصوفي ذي النفس السردي، عاكس للرحلة الوجودية الدائمة للذات، من عالم الخلق إلى عالم الحق، مما يجعل إمكانية الإمساك بخيوط المعنى أمرا صعبا. لذلك كان تلمسنا للبنية العاملية مشوبا بالنقص؛ حيث المحور (الذات/الموضوع) مثلا جاءا في المتن الشعري الأكبري على نحو مخصوص، ذلك أن الذات الشاعرة كائن له تجربته الخاصة المتسمة بالفرادة، وليس في مقدور أي قارئ كان أن يتمثله في شموليته. من هنا يبرز عامل الذات في شخصية الصوفي نفسه، فذاته هي المركز، وتجربته الخاصة هي الشاهد والرهان والمحك. كما أن الموضوع محكوم باللاتناهي وبالإطلاق. إنه اختزال للشعور الثاوي في أعماق الشاعر، وما يعتمل في دواخله من مشاعر وأحاسيس متضاربة، وإحباطات متراكمة تأتّت من وطأة الحياة الاجتماعية التي عاش فيها خلال العصر العباسي؛ حيث لاقى الإقصاء والنبذ والتهميش. هذه الحياة تعتبر بمثابة سجن يعوق الذات ويمنعها من التحرّر، فكان توقه شديدا في ديوان ترجمان الأشواق إلى معانقة أطياف الحرية عن طريق سفر عرفاني نحو المطلق. إنها حرية روحية تجعل (الذات) تدرك نهايتها وتلاشيها في عالم الأغيار. لذلك فالموضوع الذي تراهن عليه الذات يصعب الإمساك به، كما يصعب تمثل مضامينه تمثلا حقيقيا؛ لأنه زئبقي يتلون بتلوينات الذات المكتوية بنار العشق الإلهي. كما أن المحور (مساعد/عائق) يقوم في ديوان الترجمان على فلسفة مؤدّاها أن الخطاب الشعري الأكبري يصنع العامل (المعارض) بطريقة خفية، كما أن هذا المعارض يأتي على هيئات وأشكال متعددة. فمن جهة؛ لأن هذا الخطاب الشعري خطاب ملغز، ومن جهة ثانية؛ لأن قراء الديوان ليسوا في مرتبة الشاعر العرفانية، مما ولد شرخا معرفيا على مستوى تمثل معاني الديوان. فكان موقف فئة من القراء واضحا في هذا الجانب؛ أي أن فقهاء حلب مثلوا العامل العائق. هذا الحدث كان له بالغ الأثر في خلق صراع درامي داخل المتن الشعري، وإن كنا على علم أن العائق في هذا المقام خارج النص وخارج المتن الشعري، إلا أن خيطا خفيا يربطه بهذا المتن، لكون خصوصية الديوان وفرادته لا تتحققان إلا من خلال الشرح الذي أقامه ابن عربي على هذا المتن. والشرح هنا يفتحنا على عدة معانٍ، منها أن هناك عجزا عند المتلقي في فهم ما كُتب. مما جعل الشيخ يتكلف بشرح ديوانه الشعري بنفسه. فالشرح في هذا المقام يقدح في ملكة القارئ وينقص من أهميتها، لكونه لم يفسح المجال له من أجل أن يفك شفرات النص وحده، ويتعرف على كنوزه، ويتتبع مسالك المعنى وتشعباته المختلفة، لذلك كان تدخل الذات الشاعرة بمثابة إعلان عن ضعف الملكة التأويلية للقارئ، فأزالت اللبس والإبهام اللذين خيما على أرجاء النص الشعري.

والملاحظ أن الشرح الذي قام به ابن عربي يمثل مغامرة تأويلية قصوى تنمّي للقارئ المريد القدرة على هتك حجب النص المتمنعة، وملامسة الأقاصي التائهة في أعماق النص الشعري، ودهاليز المعنى العرفاني، من حيث هو معنى تضرب لأجله كل الحدود، وتدكّ كل الحواجز. وعليه تكون فلسفة المعيق حاضرة في علماء الرسوم، أو فقهاء حلب. لذا تجلّى بالملموس صراع الذات مع العائق حتى تضمن لإبداعها الذيوع والانتشار، وتضمن له تحقيق الاتصال بموضوعه الذي لم يكن سوى المحبوبة النورانية مشخصة في البوارق والسوانح. إذ من القواعد المتداولة في عرف المتصوفة بذل قصارى الجهد في سبيل المحبوب، وتحمل الأذى والمشقة في سبيله. حيث نجد إلماعة ماتعة للشيخ عبد الوهاب الشعراني يقول فيها: «كيف يدعي أحدكم محبة ليلى، وهو ليلا ونهارا مع عذالها ولوامها والمنكرين على أهلها، والمعترضين عليها بالجهل، والخائنين لعهودهم، إنما تبرز ليلى لمن تهتّك في حبها، ولم يسمع كلام المنكرين على أهلها، فإنّ ليلى لا تحب من يحب سواها إلا بإذنها، بل لا تحب من تخطر محبة سواها في قلبه، وإنما تحب من كان بحبها سكران، وبشرابها ثملان، ولهان، ذهلان، عرقان، نشوان، هيمان، لو اجتمع الثقلان أن يلووُا قلبه بها، أو يحلوا عقدة عهدها ما استطاعوا» (الشعراني 1/105). إن هذا التصور يؤشر على أحادية التعلق، وصدق المحبة والإرادة، تحقيقا للوصل العرفاني.

وإذا رجعنا إلى عنصر المساعد فإنه يحضر في القلب بوصفها مرآة مجلوة، أو الخيال بوصفه قوة الخلاقة، تجعل الذات مؤهلة لتحقيق الاتصال بموضوعها تحقيقا للنوال.

وللإشارة فإن النموذج العاملي يبقى محكوما بالنسبية من حيث طريقة توزيع العوامل؛ لأنه يرتبط ارتباطا وثيقا بالقارئ، فتتلون توزيعاته بأيديولوجيا القارئ، وخلفيته المعرفية؛ إذ إنه «يظل قاصرًا عن استيعاب بنية المحكي، وعن تحديد المراحل التي تمر منها الذات للاتصال بالموضوع أو للانفصال عنه، دون اعتبار للدور الهام الذي يقوم به القارئ في توزيع هذه العوامل حسب اقتناعته، ودون تحديد التمفصلات المنطقية التي تضبط التحولات على المستوى التركيبيفبالنسبة لعلاقة القارئ بتوزيع هذه العوامل يقدم (Greimas) قراءتين متعارضتين لهذا النموذج: قراءة من منظور الفلسفة الكلاسيكية وقراءة من منظور المناضل داخل الأيديولوجية الماركسية مما يعني أن النص يستمد تعدديته واختلافه من تعدد واختلاف الخلفية التي ينظر من خلالها القارئ إلى النص» (سرحان 398).

تلكم هي العوامل الستة بعلاقتها الثلاث، علاقة الرغبة وعلاقة التواصل وعلاقة الصراع وطريقة اشتغالها وعملها، إلا أنها في هذا المستوى تبدو بمثابة تصنيف مسكوك لمجموعة من الأدوار التي يمكن أن نصادفها في كل نص يحمل معنى أو دلالة، لذلك كان لابد من الانتقال إلى المستوى الإجرائي حيث يتم تحليل هذه الأدوار من خلال وضعيات معينة حتى يكون التحليل المتعلق بالمتن الشعري مثمرا.

3.    البرنامج السردي ومسارات الدلالة في الديوان

سيتم الانتقال من النموذج العاملي في وضعيته السطحية وصولا إلى وضعيته الإجرائية؛ حيث يمثل البرنامج السردي المحور الأساس الذي يضبط صيغ الوجود السيميائي للذات. أي أنه يتم النظر من زاوية السير المشخص لمجموع العناصر المشكلة للنموذج العاملي. إننا بهذه الخطوة سننتقل من مستوى العوامل كخطاطة قانونية تستند إلى مجموعة من القواعد المجرّدة، إلى ما يشكل وجودا مشخصا (أي التحقق الحدثي) لهذه العلاقات (بنكراد 398).

إن الأمر يتعلق بسلسلة من الحالات والتحولات التي تتشكل حول علاقة الذات بالموضوع، بالإضافة إلى تحولات تتشكل على أساس التمييز القائم بين موضوع قيمة وموضوع صيغة. لذلك فإن رهان البحث في هذا المستوى سيعمل على تتبع وضعية الذات في حالتين أو وضعيتين: ذات الفعل وهي تسعى جاهدة إلى تحقيق الاتصال بموضوع القيمة أو الانفصال عنه، ثم وضعية الذات وهي تسعى جاهدة إلى الاتصال بمواضيع الصيغة التي تكتسب من خلالها كفاءتها وأهليتها. إننا بصدد «مقولة (التحولات) ذلك أنه إذا كانت البرمجة تتم في مرحلة أولى في مستوى عميق؛ حيث تطرح الدلالة كشكل منظم بشكل سابق عن التجلي، وقابلة لأن تجسد في مواد تعبيرية متنوعة، فإنها تتم في مرحلة ثانيةبين المحايثة والتجلي. ومن المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية تطرح الخطاطة السردية باعتبارها عنصرا منظما ومتحكما في التحولات» (بنكراد 88). والخطاطة السردية تقوم على أربعة عناصر أساسية كما أوردتها جماعة (Entrevernes) في الكتاب الذي عنونته (Analyse Sémiotique des texte). والجدول الآتي يعكس هذه البرنامج السردي (Groupe d’Entrevernes 19).

التحريك

الكفاءة

الإنجاز

الجزاء

فعل الفعل

كينونة الفعل

فعل الكينونة

كينونة الكينونة

علاقة المرسل

بذات الفعل

علاقة ذات الفعل بالفعل (مواضيع صيغة)

علاقة ذات الفعل بالحالات (مواضيع قيمة)

علاقة المرسل بذات الفعل/علاقة المرسل بذات الحالة

تشكل هذه العناصر الأربعة التمفصلات المركزية والضرورية لكل برنامج سردي ممكن. على اعتبار أنها تقوم برصد التحولات المتعلقة بالذات والموضوع المراهن عليه. ذلك أن الذات تمر بثلاث مراحل، ووفق هذه المراحل يتم تحديد صيغ وجودها السيميائي. هكذا سنكون أمام «صيغ محتملة» (Modalités de la virtualité) (Entrevernes 34) تكون الذات في هذا المستوى في وضعية احتمال كذلك، على اعتبار أنها مرتبطة بلحظة التحريك، ثم ثانيا «صيغ محيّنة» (Modalités de l’actualité) (Entrevernes 35) تكون معها الذات محينة ومرتبطة بلحظة سردية تمثلها الكفاءة. ثم المرحلة الأخيرة تتمفصل في «صيغة محققة» (Modalité de la réalité) (Entreverne36) تكون الذات فيها مرتبطة بلحظة سردية يجسدها الإنجاز.

على هذا الأساس يمكن تحديد عناصر البرنامج السردي من خلال اللحظات السردية الآتية:

3.1 التحريك

بوصفه اللحظة السردية التي يعمل فيها المرسل على إقامة تأثير على الذات، وذلك بدفعها إما إلى الاتصال أو الانفصال عن موضوع القيمة حتى يتسنّى لها إنجاز البرنامج السردي، «فالتحريك يتميّز بكونه نشاطًا يمارسه الإنسان تجاه أخيه الإنسان، بهدف الدفع به إلى القيام بإنجاز ما. ومن خلال موقعه التوزيعي بين إرادة المرسل، وبين الإنجاز الفعلي لبرنامج سردي ما من لدن (المرسل إليه/الذات) (البرنامج الذي يقترحه المحرّك)، فإنه يستند أساسا إلى الإقناع، ويتمفصل هذا الإقناع في فعل إقناعي يعود إلى المرسل وفعل تأويلي يعود إلى المرسل إليه» (بنكراد 91).

وإذا رجعنا إلى ديوان ترجمان الأشواق، وجدنا لحظة التحريك ممثلة في الحال الذي هزّ الشاعر، فخرج من البلاط وطاف على الرّمل. هذه اللحظة ستكون بداية انبثاق القول الشعري الذي يشكّل سردا وترجمة لحياة الشاعر الباطنية. حيث إن الذات الشاعرة في هذا المقام تحدث تعاقدا مع المُرْسِل الممثل في (الفتاة النظام)، على اعتبار أن الحوار الدائر بين الذات الشاعرة والمرسل يفسر كيف أن (النظام) ستكون هي الوجه الظاهر الذي أقامت عليه الذات مدار الحكي. لكون المرسل الممثل في الفتاة (النظام) هي التي قدحت في وجدان الذات شعلة القول، وأوقدت في داخلها نار العبارة، فتلظت بوهجها المستعر لتكتب ترجمان أشواقها، وتضع ذخائر أعلاقها. هذه الوضعية مهمة جدا بالنسبة لعملية الفهم؛ لأنها تمثل نقطة إرساء عرفاني، ذلك أنه «إذا كان التحريك من الناحية السردية.. هو نقطة الانتشار السردي الأولى، فإنه يشكل من الناحية الخطابية نقطة إرساء أيديولوجي تتحكم في السير الآتي للأحداث، كما تشكل التلوين الثقافي لهذه الأحداث. وعوض التعامل مع التحريك بصفته الإعلان المبكر عن ميلاد قصة،يجب النظر إليه في هذه المرحلة بصفته التشكيل الابتدائي للرؤية أو التصور الأيديولوجي الذي ستعمل الأحداث الآتية على تفجيره في مسارات تصويرية متنوعة» (بنكراد 93).

بهذه الكيفية تكون مرحلة التحريك لحظة إرساء أيديولوجي، يحدد من خلاله ابن عربي للمتلقي العالم الذي يجب أن تفهم وفقه الأحداث القادمة، على اعتبار أنه حين أشار إلى الحال الذي هزّه وهو بمكة، فخرج متجولا ليلتقي بالفتاة النظام على الشاطئ يفيد أن الإدراك إنما هو إدراك شهودي لهذه الفتاة، لكون هذا الجانب يمثل عند المتصوفة العاشقين أساس الكشف ولب الحقيقة العرفانية. وتماشيا مع هذا التصور؛ فإن مرحلة التحريك مثلت الاختيار الأيديولوجي الذي سيعتنقه النص، «فحين يعلن ابن عربي عن إشارته إلى الفتاة النظام، باعتبارها إشارة إلى الحكمة العلوية التي تجلت له شهودا، فنحن نكون شاهدين على تحولات كائن يدرك الخيال في المستوى الشهودي؛ حيث تظهر باعتبارها صورة مثالية للحكمة الخالدة. وما تدخلها في مستهل القصيدة إلا في هذا الشكل والصورة» (كوربان 128).

من هنا فإنه لا يجب النظر إلى التحريك من خلال تمظهرات الفعل فقط؛ أي تلك الحالة التي دفعت الذات الشاعرة إلى الخروج من البلاط ومحاورة النظام، بل يجب النظر إليه أيضًا رغم موقعه الاستهلالي بوصفه لحظة الحسم الأيديولوجي السابقة على القول الشعري. ولكون هذه اللحظة تعمل على تحديد المعالم بدقة متناهية، فإن الحدث البدئي يفصح عن هذه الأيديولوجية العرفانية إن جاز لنا قول ذلك. يقول كوربان: «فالحدث حين وضع في ليلة مشهودة يفصح عن طبيعته النبوئية. لقد حضرت المؤلفَ وهو يمشي على الرمل بعض الأبيات التي أنشدها. فلم يشعر إلا بتجلي كائن لم يفطن له فيما قبل، سوف تمكننا الحكاية من أن نتعرف على الصورة العينية المحاطة بهالة سماوية. فتحدثت إليه بلهجة تنم عن مصدرها الإلهي وبتأنيب قاس...أما الأبيات التي كانت وراء هذا التأنيب فكم هي محيرة، بحيث لا يمكننا فهمها إلا إذا علمنا في الآن نفسه من صاحبها سر لغة شبيهة باللغة الملتبسة للتروبادور. غير أننا نربح من ذلك سبيل فك حروف مجمل قصيدته باعتبارها احتفاء بلقاءاته مع الحكمة الصوفية، وباعتبارها سيرته الذاتية الباطنية، على إيقاع قلقه ومسيرته» (كوربان 128).

إن صعوبة سبر أغوار النص الأكبري تكمن في تعدد روافد الذات المبدعة، وتنوع المنابع التي تغترف منها، على اعتبار أن هناك اندغاما بين عبقرية المبدع ابن عربي، وبين الجانب العرفاني الشهودي، والجانب الأدبي الجمالي. يقول علي شود كيفيتش «إن اتحاد الولاية بالعبقرية في شخصية ابن عربي، وامتزاج معظم العلوم المتباينة، بالصور الأدبية المتنوعة في تراثه، كل ذلك جعل من طبيعة هذه الشخصية وطبيعة تراثها ومحاولة سبر أغوارها شكلًا ومضمونًا أمرًا بالغ الصعوبة» (شود كيفيتش 11).

بناء على هذه المعطيات تكون لحظة التحريك المرحلة البدئية التي يتشكل فيها مسار القول الشعري، وتتشكل معه المعالم الحقيقية للذات، بالإضافة إلى تشكّل الكون الثقافي والأيديولوجي الذي يحكم منطق القول الشعري.

3.2  الكفاءة

في هذا المستوى تنتقل الذات من وضعية الاحتمال إلى وضعية التحيين؛ حيث يتمظهر الحدث أو الفعل من خلال مجموعة من الصيغ: «القدرة على الفعل/معرفة الفعل» (Entrevernes 35). فهذان العنصران يمثلان الشروط القبلية السابقة على إنجاز الفعل. وإذا ربطنا هذا التصور بالديوان فسنفهم السر الذي كان وراء عملية التأنيب التي وجهتها النظام إلى الذات عندما التقيا ليلا، فعمدت إلى قلب السؤال وإعادته على الذات الشاعرة بلا هوادة من أجل أن تنبه طالبها إلى حقيقة حاله. فهذا الحدث يشكل أهلية للذات التي مرت تحت اختبار عرفاني، خصوصا لما سألت عن الأحبة هل سلموا أم هلكوا.؟ فقالت له: «أما هم فسلموا، ولكن اسأل عنك، فينبغي أن تسأل نفسك هل سلمت أم هلكت يا سيدي؟» (ابن عربي 13) معنى هذا الكلام أن الذات يجب أن تسأل عن نفسها إن كانت هلكت أم لا دون أن تهتم بالآخرين وتسأل عنهم؟. حتى تكون لها أهلية التجاوب مع الحبيبة النورانية وكفاءة التحاور معها، وتفسح لها المجال لتغشى وجودها دون تفكير في الأغيار. فكان مرور الذات من هذا التمحيص له أهمية في القادم من الخطوات، على اعتبار أن الحوار تولد عنه شك، لكن ما لبثت سحابة الشك أن انقشعت، فانجلى الريب الذي كان قد أصابها في بداية المشوار، ذلك أن الشاعر «طرح أسئلة كان عليه أن يجد لها جوابا في البراهين العقلية، من قبيل تلك المتعلقة بالأشياء الخارجية. وتناسى للحظة أن واقع التجليات، والوضع الوجودي للمناظر العلى، لدى الصوفي، لا يتعلق بالأمانة لقوانين المنطق، وإنما بالأمانة لعبادة الحب، فما يسمى لدى الفيلسوف شكّا واستحالة البرهنة، يسمى لدى المشغوف غيابا ومجاهدة» (كوربان 131)، فكانت أهلية الذات أهلية عرفانية مرتبطة بتجاوز ما يمليه العقل من أفكار، والاحتفاء بالقلب من حيث هو قوة خلاقة.

3.3         الإنجاز

في هذا المقام تتجلّى مدى قدرة الذات على إنجاز برنامجها؛ أي أنها تمتلك المقدرة الشهودية، وهذه مسألة غاية في الأهمية؛ لأنه بدون هذه المقدرة لا مجال للحديث عن أي تصور عيني للمحبوبة النورانية التي ستتفاعل معها الذات في مجموع قصائد الديوان. وعليه فإن الإنجاز يتمظهر في مدى قدرة الذات على تحقيق تناسب بين اللامرئي والمرئي، وبين الروحي والمادي، والكثيف واللطيف.

3.4 الجزاء والفعل التأويلي

ترتبط مرحلة الجزاء في ديوان ترجمان الأشواق بمرحلة التحريك، ذلك أنه إذا كان المرسل (النظام) في مرحلة التحريك هو الذي يزرع الرغبة في الذات ويحدد الموضوع الذي سيصبح نقطة الرهان، فإنه يعود في مرحلة الجزاء ليرصد مدى مطابقة الأفعال المحققة مع المعايير العرفانية الصوفية. وتتمثل هذه المعايير في جعل الشوق «يخدر الحواس، ويُذهب بالعقول، ويدهش الخواطر، ويذهب بصاحبه في الذاهبين» (ابن عربي 12).

هكذا يتم مصادرة القلب باعتباره من المسلمات التي تعمل على إحداث تناغم بين المجرد والمحسوس، كما يعمل على تحقيق نوع من المصالحة مع الروحاني والمادي. وهذا مرده إلى حالات الانجذاب التي أصابت الذات وجعلتها موزعة بين الأرضي والسماوي. حيث كانت قصائد الديوان برمتها راصدة لـ«صورة مثالية للعبادة التفاعلية للعاشق» (كوربان 133) التي أخذت فيها الفتاة النظام الوجه المرئي، في حين أخذ الحب الإلهي الوجه المضمر. فأحدثت الذات جدلية بين الحب الجسماني والروحاني.

خاتمة

انطلاقًا مما قدمناه حول «السيميائيات السردية للنص الشعري الصوفي»، خلص البحث إلى النتائج التالية:

-     شعر ترجمان الأشواق شعر حكائي، يرسم رحلة الذات الساعية إلى تجاوز النقص الذي تحسه في عالم الناس، أو عالم الألفة، مما جعلها تعيش حالة اغتراب ذاتي لم تجد وسيلة للتعبير عنه سوى الحكي، فتحولت عملية السرد إلى تعاقد بين راوٍ أضناه الشوق العرفاني، فأراد ترجمة أشواقه إلى كلمات وأشعار، ومستمع وجب عليه فهم القصد والمراد من الحكاية. وعليه يكون الوفاء لعملية التعاقد أساس عدم ضياع المعنى وغياب القصد.

-     طقس الكتابة الشعرية ذو النفس السردي يصدق فيه الرمز حين تكذب الكلمات؛ لأن غاية الكتابة عند ابن عربي ليس تطريز الكلام وإشباعه بالأصباغ اللغوية، بل هي كتابة تسعى إلى ملامسة إنسانية الإنسان حاثة إياه على إتقان فن الاستماع إلى نداءات الوجود الناطق بالجلال والجمال.

-     السرد الشعري الصوفي سرد حالم يرسم أوجاع الإنسانية المعذبة التي عانت وما زالت تعاني من ضجر المادية والتقنية التي أدخلت الإنسان في قفص العبودية، وحرمته من السفر الروحي الموصل إلى الحقيقة الحقانية.

-     السرد الشعري العرفاني سردٌ لا يختلف في شيء من حيث بنيته السردية عن السرد النثري، والأخذ بالمقومات الفنية والبنيوية لهذا السرد من شأنه أن يسهم في بناء المعنى العام لديوان ترجمان الأشواق، وإقامة تأويل مناسب للنص الشعري الصوفي.

المراجع

ابن قيم الجوزية، محمد بن أبي بكر. الروح. مكتبة البحوث والدراسات، دار الفكر، 1990.

ابن عربي، محيي الدين. ترجمان الأشواق. دار صادر، بيروت [د. ت].

---. فصوص الحكم. تعليق: أبو العلا عفيفي. دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، [د. ت].

ابن منظور، محمد جمال الدين. لسان العرب. ط3، دار إحياء التراث العربي، القاهرة، 1999.

أدادا، محمد. المكون الشعري في السرد العربي. ط1، مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، المغرب، 2021.

بنكراد، سعيد. السميائيات السردية: مدخل نظري. منشورات الزمن، المغرب، 2001.

الجرجاني، علي بن محمد الشريف. كتاب التعريفات. مكتبة لبنان، سوريا، 1985.

زيدان، محمد. البنية السردية في النص الشعري. الهيئة العامة لقصور الثقافة، مصر، 2004.

سرحان، حسن. بنية الانعكاس الذاتي في الرواية العربية [أطروحة دكتوراه]. كلية الآداب، ظهر المهراز، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، المغرب، 2004.

الشعراني، عبد الوهاب. الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية. تحقيق: طه عبد الباقي سرور والسيد محمد عيد الشافعي. مكتبة المعارف، بيروت، 1988.

عبد الحق، منصف. الكتابة والتجربة الصوفية (نموذج محيي الدين بن عربي). ط2، منشورات عكاظ، الرباط، المغرب، 2011.

عزام، محمد.اتجاهات القصة المعاصرة في المغرب. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1987.

حسين، علي صافي. الأدب الصوفي في مصر في القرن السابع الهجري. دار المعارف، مصر، 1964.

غريماس، ألجيرادس وفونتنيي، جاك. سيميائيات الأهواء: من حالات الأشياء إلى حالات النفس. ترجمة وتقديم وتعليق: سعيد بنكراد. ط1، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2010.

الكاشاني، عبد الرزاق. معجم اصطلاحات الصوفية. تحقيق وتقديم وتعليق: عبد العال شاهين. ط1، دار المنار، القاهرة، 1992.

كيليطو، عبد الفتاح. الحكاية والتأويل: دراسات في السرد العربي. دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 1999.

موسى، إبراهيم نامس ياسين. «أشكال السرد الشعري ووظائفه: دراسة في تجربة الشاعر ثائر زين الدين». مجلة الجامعة العراقية. ع56، ج2، 2022.

هدارة، محمد مصطفى. «النزعة الصوفية في الشعر العربي الحديث». مجلة فصول. ع4، 1981.

الوكيلي، الحسين. «السفر العرفاني وجدلية الاتصال والانفصال في الخطاب الصوفي: قراءات جديدة في سيرة ابن عربي الروحية». مجلة روافد، جامعة بلحاج بوشعيب، الجزائر، مج5، ع1، يوليو 2021.

ويليك، رونيه. «مفاهيم نقدية». ترجمة: محمد عصفور. سلسلة عالم المعرفة. ع110، فبراير 1987.

كوربان، هنري. الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي. ترجمة: فريد الزاهي. منشورات مرسم، الرباط، المغرب، 2003.

ثانيًا:

References:

'Abd al-Haqq, Munsif. Al-Kitabah wa-l-Tajriba al-Sufiyya (Namudhaj Muhyi al-Din Ibn 'Arabi) (in Arabic). 2nd ed., Manshurat 'Ukaz, Rabat, Morocco, 2011.

'Ali Safi, Husayn. Al-Adab al-Sufi fi Misr fi al-Qarn al-Sabi' al-Hijri (in Arabic). Dar al-Ma'arif, Egypt, 1964.

'Azzam, Muhammad. Ittijahat al-Qissa al-Mu'asira fi al-Maghrib (in Arabic). Manshurat Ittihad al-Kuttab al-'Arab, Damascus, 1987.

Adada, Muhammad. Al-Mukawwin al-Shi'ri fi al-Sard al-'Arabi (in Arabic). 1st ed., Mu'assasat Maqarabat lil-Nashr wa-l-Sina'at al-Thaqafiyya, Morocco, 2021.

Al-Jurjani, 'Ali ibn Muhammad al-Sharif. Kitab al-Ta'rifat (in Arabic). Maktabat Lubnan, Syria, 1985.

Al-Kashani, 'Abd al-Razzaq. Mu'jam Istilahat al-Sufiyya (in Arabic), ed. and intro. 'Abd al-'Al Shahin, 1st ed., Dar al-Manar, Cairo, 1992.

Al-Sha'rani, 'Abd al-Wahhab. Al-Anwar al-Qudsiyya fi Ma'rifat Qawa'id al-Sufiyya (in Arabic), eds. Taha 'Abd al-Baqi Surur and al-Sayyid Muhammad 'Id al-Shafi'i, Maktabat al-Ma'arif, Beirut, Lebanon, 1988.

Al-Wakili, al-Husayn. "Al-Safar al-'Irfani wa-Jadaliyyat al-Ittisal wa-l-Infisal fi al-Khitab al-Sufi: Qira'at Jadida fi Sirat Ibn 'Arabi al-Ruhiyya" (in Arabic), Majallat Rawafid, vol. 5, no. 1, June 2021, University of Belhadj Bouchaib, Algeria.

Benkirad, Sa'id. Al-Simya'iyyat al-Sardiyya: Madkhal Nazari (in Arabic). Manshurat al-Zaman, Morocco, 2001.

Corbin, Henry. Al-Khayal al-Khallaq fi Tasawwuf Ibn 'Arabi (in Arabic), trans. Farid al-Zahi, Manshurat Marsam, Rabat, Morocco, 2003.

Greimas, Algirdas, and Jacques Fontanille. Simiyaiyyat al-Ahwa': Min Halaat al-Ashya' ila Halaat al-Nafs (in Arabic), trans. Sa'id Benkirad, 1st ed., Dar al-Kitab al-Jadid al-Muttahida, Beirut, 2010.

Groupe d’Entrevernes. Analyse sémiotique des textes : introduction, théorie, pratique. Lyon: Presses universitaires de Lyon, 1984.

Hadara, Muhammad Mustafa. "Al-Naz'a al-Sufiyya fi al-Shi'r al-'Arabi al-Hadith" (in Arabic), Majallat Fusul, no. 4, 1981.

Ibn al-Qayyim al-Jawziyya, Shams al-Din Abi 'Abd Allah. Al-Ruh (in Arabic). Maktabat al-Buhuth wa-l-Dirasat, Dar al-Fikr, 1990.

Ibn 'Arabi, Muhyi al-Din. Fusus al-Hikam (in Arabic), ta'liq: Abu al-'Ala 'Afifi, Dar Ihya' al-Kutub al-'Arabiyya, n.d.

–––. Tarjuman al-Ashwaq (in Arabic). Dar Sader, Beirut, n.d.

Ibn Manzur, Muhammad Jamal al-Din. Lisan al-'Arab (in Arabic). 3rd ed., Dar Ihya' al-Turath al-'Arabi, Cairo, Egypt, 1999.

Kilito, 'Abd al-Fattah. Al-Hikaya wa-l-Ta'wil: Dirasat fi al-Sard al-'Arabi (in Arabic). Dar Toubqal, Casablanca, Morocco, 1999.

Musa, Ibrahim Namis Yasin. "Ashkal al-Sard al-Shi'ri wa-Waza'ifuhu: Dirasat fi Tajribat al-Sha'ir Tha'ir Zayn al-Din" (in Arabic), Majallat al-Jami'a al-'Iraqiyya, no. 56, vol. 2, 2022.

Sarhan, Hasan. Buniyat al-In'ikas al-Dhati fi al-Riwaya al-'Arabiyya (in Arabic). PhD thesis, Kulliyat al-Adab Zahr al-Ma'ras, Sidi Muhammad bin 'Abd Allah University, Fez, Morocco, 2004.

Wellek, Rene. Mafahim Naqdiyya (in Arabic), trans. Muhammad 'Asfur, Silsilat 'Alam al-Ma'rifa, no. 110, Feb. 1987.

Zidan, Muhammad. Al-Bunya al-Sardiyya fi al-Nass al-Shi'ri (in Arabic). Al-Hay'a al-'Amma li-Qusur al-Thaqafa, Egypt, 2004.