Publizieren – Why Open Access?أنســـــــــاق

في الآداب والعلوم الإنسانية

 

الاستلام: 17/01/2024              التحكيم: 19/02/2024                                      القبول: 28/08/2024

 

سلطة الرفض والرحيل عن دار الهوان في الشعر الجاهلي: دراسة في سيميائية العواطف

أمل قاسم محمد ملهي الزمر

طالبة دكتوراه، قسم اللغة العربية، كلية اللغات والاتصال، جامعة السلطان زين العابدينماليزيا

alzomoramal2023@gmail.com

محمد علاء الدين بن عثمان

أستاذ في قسم اللغة العربية، كلية اللغات والاتصال، جامعة السلطان زين العابدينماليزيا

mohdalauddin@unisza.edu.my

ملخص

تسعى الدراسة إلى مقاربة الذات في الشعر الجاهلي؛ عاطفةً وكفاءةً وقيمةً، في ضوء سيميائية العواطف، وضمن موضوع الرحيل عن دار الهوان، والكشف عن كيفية التأثير والتأثّر بين فضاء القيم والحالة النفسية للذات؛ إقامةً وظعنًا، قبولًا أو رفضًا، بدراسة رحيل الذات عن دار الهوان، وصراعها مع مغريات الإقامة وفك عرى الانتماء. وجاء في خاتمة الدراسة أن الرحيل عن دار الهوان نهض بسلطة الرفض؛ كونها سلطة عاطفية وكفائية متأثرة بقيم مجاورة؛ كـ«الإباء، والأنفة، والرفعة، والعز، والحزم» تنتمي إلى الحرية، شكلت بنية الرحيل بالضد من دار الهوان بوصفها مظهرًا من مظاهر العبودية اقترنت بـ«العجز والضعف والذل واللؤم»، وهي قيم سلبية أهّلت الذات الحرة بكفاءة وجوب الرحيل؛ بينما تأسست سلطة الرفض بكفاءتي الإرادة والقدرة على الفعل متصلة بالحرية «قيمة الموضوع»؛ كونها أهم قيمة نهضت بها حياة الإنسان الجاهلي؛ بطولةً وفروسيةً، كرمًا وسيادةً.

الكلمات المفتاحية: الرفض، الرحيل، دار الهوان، سيميائية العواطف، الشعر الجاهلي

 

للاقتباس: الزمر، أمل قاسم محمد ملهي وبن عثمان، محمد علاء الدين. »سلطة الرفض والرحيل عن دار الهوان في الشعر الجاهلي: دراسة في سيميائية العواطف«. مجلة أنساق، المجلد الثامن، العدد الثاني، 2024. https://doi.org/10.29117/Ansaq.2024.0210

© 2024، الزمر وبن عثمان، الجهة المرخص لها: كلية الآداب والعلوم، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


 

Publizieren – Why Open Access?Ansaq
in Arts and Humanities

 

 

Received: 17/01/2024                  Peer-reviewed: 19/02/2024         Accepted: 28/08/2024

 

The Power of Rejection and Departure from the House of Humiliation in Pre-Islamic Poetry: A Study in the Semiotics of Emotions

Amal Qasem Mohammed Melhi Al Zomor

PhD student in the Arabic Language Department , Faculty of Languages and Communication, Sultan Zainal Abidin University—Malaysia

alzomoramal2023@gmail.com

Mohd Ala Uddin Bin Othman

Professor at the Arabic Language Department, Faculty of Languages and Communication, Sultan Zainal Abidin University—Malaysia

mohdalauddin@unisza.edu.my

Abstract

This study seeks to approach the self in pre-Islamic poetry in terms of emotion, competence, and value in light of the semiotics of emotions, and within the subject of departure from the house of humiliation. It also seeks to reveal how the self’s values ​​and the psychological state influence and are influenced by staying and departure, acceptance or rejection through studying the self’s departure from the house of humiliation and its struggle with the temptations of staying and breaking the ties of belonging.

It was stated in the conclusion of the study that leaving the house of humiliation gave rise to the power of emotional rejection, being an emotional and competent power influenced by adjacent values: such as (pride, nobility, firmness) belonging to freedom. Humiliation, being a manifestation of slavery, is associated with helplessness, weakness, abasement, and meanness, which are negative values ​​that qualified the free self as competently necessary to leave, while the authority of rejection was established by the competence of the will and the ability to act, connected to freedom/the value of the subject, being the most important value that advanced the life of the pre-Islamic person through heroism, chivalry, generosity, and sovereignty.

Keywords: Rejection; Departure; House of humiliation; Semiotics of emotions; Pre-Islamic poetry

Cite this article as: Al zomor, A.Q.M.M., & Bin Othman, M.A. "The Power of Rejection and Departure from the House of Humiliation in Pre-Islamic Poetry: A Study in the Semiotics of Emotions". Ansaq Journal, vol. 8, no. 2, 2024, https://doi.org/10.29117/Ansaq.2024.0210

© 2024, Al zomor & Bin Othman, licensee, College of Arts and Sciences & QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


مقدمة

تعدّ الديار والمنازل المحيط الأصغر والسكن الخاص، الممتد من القبيلة/المحيط الأكبر، والانتماء العام الذي يحمل هوّيّة الوطن، والنواة التي يدور في فلكها الفرد والجماعة، الأنا والآخر، وجودًا وفاعلية وقيمة، سيادة وبطولة وفروسية، إنها مركز تواصله وتفاعله وامتداده، والنظم التي تعطي الحياة قيمتها، ولا شك أن لكل فضاء مكاني وزماني مجموعة من القيم التي تعارف عليها المجتمع، وصاغ عليها نظمه وقوانينه، وأقام بها حدوده بما يطمئن إليه، ويعمره وطنًا يحوطه مبنًى ومعنًى، انتماءً وهويّةّ، ومن هنا يأتي الاهتمام بالديار إقامةً ورحيلًا؛ بحكم أنها فضاء قيمي للعز أو الهوان، الحزم أو العجز، القوة أو الضعف، الحرية أو العبودية، وهي بتلك التناقضات القيمية تَجَلٍّ للتحول والمتحول أمام الذات الرافضة، وهي ذات الحرية؛ عاطفة وكفاءة، شكّلت البؤرة المركزية لسيميائية الرحيل القيمي في الشعر الجاهلي، حين تتحول الديار وأهلها إلى مرتعٍ للهوان والذل والضعف والنكوص.

وتأتي أهمية سيمائية العواطف في اختبار كفاءة الذات وتجليات الرغبة في ترجمة العاطفة، وصوغ الفعل وتحقيق الهدف والاتصال بالموضوع أو الانفصال عنه، فضلًا عن التأثير في حالة الأشياء تعديلًا أو تركًا ورحيلًا، كما تسهم في الكشف عن وضعية الذات مع العالم الخارجي، وما يتبعها من انفعالات وينتج عنها من أفعال، بتجليات الرفض وتكوينه العاطفي ما بين موقف الشاعر ورؤيته للحياة ووعيه بها، وموضوعه الذي يسعى إلى تحقيقه، بمعايشته لظروف حياتية تصْرفه عن البقاء، وتحفزه على الرحيل من خلال موضوع الانفصال (دار الهوان) في الشعر الجاهلي.

قضية الدراسة:

تعكف هذه الدراسة على الكشف عن سلطة الرفض تكوينًا وتجليًا وأثرًا في فعل الرحيل عن دار الهوان، كون هذه الدار فضاء قيميًّا والقيمة هي الممثل الأمثل للبعد الوجودي للذات الجاهلية ومعرفة أثره في الذات العاطفية من ناحية مغريات الإقامة مقابل دوافع الرحيل في الشعر الجاهلي، وهذه قضية مهمة لم يتلفت إليها الدارسون على الرغم من وضوحها مقابل الدراسات الكثيرة التي عنيت بفضاء الطلل والرحلة في الصحراء، وبذلك تتمحور مشكلة هذه الدراسة في انعدام الدراسات السيميائية حول الرحيل عن دار الهوان في الشعر الجاهلي، فضلًا عن دراسة العواطف في نصوص الشعرية التي تعرضت لموضوع الرحيل عامة.

أسئلة الدراسة:

تنطلق هذه الدراسة في معالجتها لموضوعها، من مجموعة من الأسئلة، تبدأ بسؤال رئيس: هل يمكن لسيمائية العواطف بإجراءاتها ومبادئها المنهجية أن تكشف عن مظاهر تأثير فضاء الهوان بوصفه حالة الأشياء في الحالة النفسية للذات، وكيف تتكون العواطف وتتحول إلى كفاءة تقيم فعل الرحيل وتحركه؟

وعنه تتفرع الأسئلة الآتية:

-    ما أثر فضاء دار الهوان في الذات، وكيف تكونت عاطفة الرفض بوصفها سلطة مقترنة بفعل الرحيل؟

-    ما الكفاءة العاطفية لذات الرحيل وسلطة الرفض؟

-    ما التمظهر المعجمي العاطفي والتركيبي لسلطة الرفض؟

أهداف الدراسة:

-    دراسة أثر فضاء دار الهوان في الحالة النفسية للذات، وتكوين عاطفة الرفض.

-    معرفة الكفاءة العاطفية للنهوض بفعل الرحيل وفك عرى الانتماء عن موطن الهوان.

-    دراسة التمظهرات المعجمية والتركيبية لسلطة الرفض.

وتجدر الإشارة إلى أن الدراسة ستركز على عاطفة الرفض بوصفها سلطة عاطفية مهيمنة بالضد من القيم السلبية استشعارا وممارسة، تقترن اقترانًا مباشرًا بكفاءة الذات/الموضوع الصيغي الذي يحرك فعل الرحيل.

الدراسات السابقة:

لا تكاد توجد دراسة واحدة واضحة المعالم تناولت الرحيل في الشعر الجاهلي، فضلًا عن دراسة الرحيل في دار الهوان، ومع ذلك لا تخلو بعض الدراسات من الإشارة إلى بعض جوانب الموضوع، منها: (الديار والمنازل في الشعر الجاهلي حدود المكان وفضاء القيم، سامي جاسم محمد، مجلة آداب الفراهيدي، ع19، 2014)، عني هذا البحث بفضاء المكان وقدرته على استيعاب القيم، وأشار الباحث في أثناء دراسته إلى فضاء الهوان بوصفه قيمة تغري بالرحيل، دون أن يفصّل فيه؛ لأن موضوعه الأساس هو فضاء القيم لا الرحيل أو العواطف.

كما وقفت الدراسة الحالية على بحث تناول في جانب منه عاطفة الرفض وفاعليته في أداء الرحيل، وهو: (سيميائية الأهواء في مغامرات صعاليك الجاهلية، راضية لرقم، الملتقى الدولي الثامن السيمياء والنص الأدبي)، اختص بمغامرات الشاعر الصعلوك وانفعاله الرفضي بالضد من نظم القبيلة.

ومن هنا تأتي هذه الدراسة لأهمية الموضوع، وأصالته البحثية، معتمدة على منهج سيميائية العواطف لدراسة الرحيل عن دار الهوان في جانبه الذاتي العاطفي، والكشف عن فاعلية سلطة الرفض التي تتصل بالرحيل القيمي اتصالا مباشرا، بوصفها عاطفة مؤثرة تؤدي إلى الفعل، مقابل الرضا المقترن بالإقامة في فضاء تلك القيمة، والمقارنة بين الرفض والرضا مقارنة بين قيم الحرية والعبودية.

1.    سيميائية العواطف

انطلقت السيميائية من مقولات شارل سندرس بورس الذي ألبسها بثوب التأويل، وربطها بالبعد التداولي متمثلًا المنطق ومتأثرًا بالفلسفة الظاهراتية وغيرها، ومقولات فردينان دو سوسير وما تفرع عنها من مدارس لسانية كالشكلانية الروسية، ومدرسة باريس السيميائية، وهي مدرسة شكلانية حيثية عُرفت بسيميائية العمل أو السيميائية السردية لدى جريماس، تمحورت حول الفعل وحالة العامل وهو يعمل، فاهتمت بالحدث والبنية السردية للنص، وتحولات الذات/العامل انفصالا أو اتصالا بموضوع القيمة، وأزاحت الحالة النفسية للذات؛ إذ تعاملت معها بوصفها شيئًا يعمل في إطار مفهوم عام يضمها إلى الأشياء، فهدفها «تحليل الخطاب بحثًا عن البنى العميقة الثاوية، واستجلاء تجلياتها السطحية والظاهرة عبر المسارين: السردي والتوليدي» (حمداوي، الاتجاهات السيميوطيقية 106).

ولهذا ظهرت سيميائية العواطف امتدادًا من سابقتها لسد تلك الفجوة؛ إذ «اضطر السيميائيون إلى إضافتها لكون سابقتها اهتمت بمعنى العمل أي للتحولات والعامل، ولم تعر أهمية إلى الجانب الشعوري والحالة التي تعتبرها الذات إما بداية للعمل أو نهاية له» (الداهي، سيميائية الأهواء 228-237)، وهنا بدأ الشروع في سيميائية العواطف، وتجليات التكوين العاطفي الشعوري، والاهتمام بالمشاعر الذاتية وفاعلية الجسد، بالبحث عن أثر عواطف الذات وتوتراتها في النص، وفهم طبيعة كينونة الذات وأدوارها وتأثيرها في فعلها، وتأثرها بالخارج، بعد أن كان التعامل في سيميائية الفعل بعيدا عن الذاتية وانفعالاتها، وتحول التركيز إلى الذات وتغير حالاتها وانفعالاتها، والكشف عن الدلالات التي تنتجها العواطف، وآلية اشتغالها في الخطابات المختلفة، ويفسر هذا التوجه بأنه «إلى جانب أن العامل يعمل فهو يحس ويحتاج إلى الحالتين معًا، لإثبات وجوده والصدع بمشاعره ومواقفه» (الداهي، سيميائية السرد 11)، وبذلك لا يمكن الفصل بين الفعل والعاطفة لعلاقتهما الجدلية التي يتوسطها الجسد بقدرته على إبداء التفاعل وإدراك الظواهر، والتعبير عنها.

تعود البدايات الأولى لدراسة العواطف دراسة سيميائية إلى محاولة جريماس في كتابه (في المعنى Õ) سنة 1983م، متقصيًّا مفردة (الغضب) معجميًّا؛ حيث عمل على استجماع مرادفاتها اللغوية، مع ما تستجلبه من معانٍ عاطفية مركزًا في دراسته على الناحية التركيبية، وتركيبته الجهية بالخصوص؛ إذ توصل من دراسته إلى كشف طبيعته بين ذاتية، واستخلص له برنامجًا حكائيًّا معينًا، يتشكل وفق ثلاث مراحل؛ هي (Greimas 225-246):

الحرمان                            السخط                 العدوانية

هنا بدأت سيميائية العواطف في الظهور بوصفها امتدادًا للسيميائية السردية، ومنها أخذت عدتها المفاهيمية، «فالبناء النظري الخاص بسيمياء العواطف يستمد مبادئه ومفاهيمه وتصنيفاته الأساسية مما جاءت به السيميائيات السردية، إن الأمر يتعلق بتنويع على أصل، أو هو الانفتاح المتزايد على مناطق إنسانية جديدة لا تلغي النموذج النظري الأصل» (جريماس وفونتنيي 15).

ولم تخضع سيميائية العواطف للتقعيد وإعادة البناء إلا في العقود الأخيرة، أي ما بين (1991-1998) مع جريماس وفونتنيي، ولا سيما في الكتاب الذي أسس لسيميائية العواطف/الأهواء المعنون بـ(سيميائيات الأهواء، من حالات الأشياء إلى حالات النفس)، ويعدّ ثمرة جهدهما وتعاونهما معًا، وبه أصبحت سيميائية العواطف فرعًا متصلًا بسيميائية الحدث، فشكّلا معًا في ما سماه جريماس وفونتنيي بـ(البعد السيميائي للوجود المتجانس)؛ حيث «توجد داخل السيميائية حالتان: حالة الأشياء والحالة النفسية، وتتداخل الحالتان معًا في إطار البعد السيميائي للوجود المتجانس، وهو ما يجعل العالم بوصفه حالة للأشياء يفعل ويؤثر في الحالة النفسية للذات» (الداهي، سيميائية السرد 88).

وإلى جانب المبادئ والعدة المفاهيمية التي استمدتها من السيميائية السردية؛ «ركز الباحثان على مجموعة من المفاهيم التحليلية، كالجسد، والانفعال، والكمية والامتداد، والكثافة، والإيقاع والقوة، والضغط والتوتر، والإحساس، والطاقة الشعورية، وثنائية الصالح والطالح، والانفصال والاتصال، والعالم الداخلي والخارجي، والذات والموضوع، وحالات الذات والأشياء» (حمداوي 12)، وعملا على تحديد الإجراءات والآليات التي تقود إلى تحليل العواطف وأثرها في الخطاب، بدراستهما لعاطفتي (البخل والغيرة)، في «محاولة الإمساك بالهويين ضمن الخطاب، ومن خلال شكل تحققاتهما، بعيدًا عن الأحكام المسبقة، وبعيدًا عن الصنافات التي لا تقدم أي شيء في مستوى بناء الدلالة، إنهما يقدمان من خلال صنيعهما هذا نموذجًا جديدًا لتناول الأهواء، وتحديد مضامينها استنادًا إلى ممكناتها في الخطاب، لا استنادًا فقط إلى ما تقوله القواميس» (جريماس وفونتنيي 41)، كما «سعى المؤلفان من الناحية الإبستمولوجية إلى التدليل على استقلالية البعد الانفعالي داخل النظرية السيميائية، وتقنينه تركيبيًّا ودلاليًّا؛ لذا قاما بتحديد تمظهراته وبنيته الجهية، وأدواره وكفايته ومساراته وأنساقه الصغرى، ومتوالياته الصغرى والكبرى، وبيّنا ما تستتبعه الأهواء من تقويم أخلاقي» (الداهي، سيميائية السرد 98).

والسيميائية بشكل عام منهج أو علم يدرس العلامات سواء أكانت علامات لغوية أم غير لغوية، مباشرة أم غير مباشرة/مضمرة، عبر قرائنها وآثارها المعاينة، ومن هذا المنظور «تناول السيميائيون الانفعالات والأهواء من جانب كونها ملفوظات مضمرة أو غير مباشرة تؤدي لا محالة إلى وجود ملفوظات معينة،...، وعلى هذا الأساس فسيمياء الأهواء لا تهتم بالعواطف في إطار علاقتها بالحالة النفسية للذات، وإنما في إطار اشتغال هذه العواطف وتمديدها لفضاء البرنامج السردي، وبإثرائها للمدلولات داخل المسار السردي ككل» (بن ستيتي36)، «ووصف آليات اشتغال المعنى داخل النصوص والخطابات الاستهوائية، بالتركيز على مكونين أساسيين: المكون التوتري، والمكون العاطفي أو الانفعالي أو الوجداني (منبع الأحاسيس والعاطف)، ويتولد عبرهما ما يسمى بكينونة المعنى، وخلق ما يسمى بذات الإدراك والعاطفة» (حمداوي 10)، بما لها من أثر فاعل في الحياة الاجتماعية، يظهر عبر تفاعل الذات مع العالم الخارجي، ومن أجل هذا قارب السيميائيون بين العمل وحركة التحول والحالة الشعورية التي تنتاب الذات وهي تعمل، وانتقالها من الوضعية البدئية إلى الوضعية النهائية في حالة تتوزع بين الاتصال والانفصال في علاقتها بموضوع القيمة.

إن ظهور سيميائية العواطف في الساحة النقدية أحدث نقلة مهمة من دراسة حالة الأشياء إلى دراسة حالة النفس، والبحث عن المدلول العاطفي ووصف اشتغاله داخل الخطاب، ومعرفة كيفية إدراك الذات للعالم، وتفاعلها المباشر معه بالربط بين الشعور الداخلي وإدراك العالم الخارجي، ثم تحديد مقصدية الذات في تعابيرها وتوجهاتها وأفعالها وتنقلاتها، في علاقتها بالأشياء وهي علاقة حالية تفاعلية جدلية.

2.    سلطة الرفض والرحيل عن فضاء الهوان

يبدو أن الرحيل عن فضاء القيمة أكثر عنفًا، وأدعى للتضارب العاطفي بين الإقامة والرحيل رضًا أو رفضًا، ضيقًا وسعة، وذلك حين تصبح القيمة في فضاء ما الدافع الأساس للإقامة أو الرحيل، الاتصال أو الانفصال، والقيمة هي المسمى الوجودي للديار، فهي: (دار الحفاظ، ودار الحزم، ودار عز، البيت الرفيع، ودار الهوان، ومحل سوء) تربط الذات برابط القيمة لا العصبية والدم، وتتصل بها انتماء قيميًّا يُوجدها أو ينفيها، فإذا كانت دار ألفة وحمى وحزم وعز ورفعة وأمن واطمئنان لأهلها، لا تهان قيمتها ولا تغمط حقوقها، ولا تنتقص كرامتها أو تدنى مكانتها، أقامت في منازلها وامتدت من محيطها، وإذا انزاحت عن منظومتها القيمية عن المتعارف عليه، نهضت سلطة الرفض وأخذت بعصا العزة وتحولت رحيلا، والتحول هو إرادة ذات فاعلة قادرة على صوغ قيمتها ومفاهيم وجودها بكفاءتها الذاتية، إيمانا بأن الحياة إنما هي اختيار وليست خيارًا.

إن الشعور بالهوان حصار قيمي عبّر عنه الشاعر الجاهلي بالضيق المكاني (الدار) الذي يدور على الذات بتلك القيمة، والانغلاق بالهوان سلبٌ قيمي ينشط بالضد من رسوخ العلاقات وثباتها؛ حيث غياب القيمة الضد/العز في محل الإقامة، هنا تندفع الذات في رحلة البحث القيمي، بفائض انفعالي للرفض بوصفه سلطة عاطفية كفائية تدفعها للرحيل حفاظًا على كيانها الحر الذي يمنح الرفض سلطة إيجابية في التحكم في الفعل، والتفاعل مع حالة الأشياء بالقبول أو التصدي، وقوة للدفع نحو التحقق، يقول أوس بن حجر (الجادر 436):

أقيمُ بدارِ الحَزْمِ ما دامَ حَزْمُها             

 

 

 



 

وأحْرِ إذا حالَتْ بأنْ أتَحَوّلا

وأستَبْدِلُ الأمْرَ القَويَّ بِغَيرِهِ             

 

إذا عَقْدُ مأفونِ الرِّجال تَحَلَّلا             

يحيل فعل التعجب (أحر) متصلا بالظرفية (إذا حالت) إلى حالة الترقب بصيغة التحدي والقدرة وعدم الاستسلام، ولذا يعدّ التحول (أتحولا) معنى للرحيل وملفوظ الرفض المتأثر بتغير حالة الأشياء/الدار من الحزم إلى الضعف والتراخي، والفعل (أحر) يمثل وجوب الفعل/أتحول؛ إذ التحول في الديار مؤشر سببي للرحيل/أتحول الدال على كفاءة الذات المصوغة بالقدرة المعنوية في قطع أواصر الانتماء والألفة ومغريات الإقامة، والقدرة المادية بالقيام بفعل الرحيل والاستبدال (وأستبدل)، والحالة الظرفية التغيرية لدار الحزم (حالت) هي حالة تحول من الأمر القوي إلى الأمر الضعيف، ومن الحزم إلى التراخي، وهو انهيار قيمي للقبيلة بعد حالة من القوة والحزم والشدة، فتحول فضاؤها إلى استلاب يمارس على الفرد، وتحولت القيمة إلى سلطة عليا قاهرة تفعّل حالة البقاء أو الرحيل، فالقيم تعدّ النواة المركزية للفضاء (دار/القبيلة) الذي يحوط بالذات ويظللها وينظّم علاقتها بناء أو هدما.

و (أقيم، أتحول) فعلان ضديان حركة ومعنى، قيمة وكفاءة، يمثلان علامة على كينونة الذات وموقفها من الحالة التغيرية حولها، والمسافة بينهما مسافة قيمية تقترن بعلامة زمنية تلتقي مع حالة المكان وفضائه القيمي، تتمثل في (ما دام) الدال على الحالية ودوام القيمة/الحزم، مقابل التغير القيمي (حالت) الذي يكوّن توترات الذات وانفعالاتها، ولذا ينهض الفعلان على إرادة الذات التي تفعِّلها حالة إدراكية قيمية متأثرة بحالة الأشياء، فالإقامة مشروطة بتوافر قيم الحزم وغيابها حضور للتراخي والضعف ومن ثم الهوان والذل، وما بين الحضور والغياب فعل التحول (حالت) حدثًا وقيمة يمثل شرط الرحيل (أقيم/ما دام حزمها، أتحول/إذا حالت)، والحزم تعبير عن الشد وضبط الأمر والأخذ فيه بثقة، والحازم العاقل المميز ذو الحنكة (ابن منظور، مادة: حزم)، مدلولات تنتقل من الحازم إلى ما يجاوره فتوسم داره بـ(دار الحزم) وهي البلاد المحصنة المنيعة غير المباحة يقيمها رجال أشداء أقوياء، يضبطون الأمور ويحكمونها في شدة وحنكة وثقة، فإذا تراخى فيهم الأمر، صار المكان مباحًا وعرضة للغزو وإغراء للعدو، وهذا يدل على أن دار الحزم دار كفاءة، يقابلها دار الهوان، فالحزم فعل كفائي، والهوان عجز كفائي.

والدار سواء أكانت دار حزم أم دار هوان دار جماعية، والتحول القيمي فيها هو تحول قيادي قوة أو ضعفًا، وهذا يدل على أن الحزم منفذ الشاعر للحرية في ظل القوة والشدة والتآزر الجماعي ومن ثم الحماية، لذا كانت الإقامة مشروطة بتوافره، وإعلان الشاعر خروجه عنها معلق على حالة التحول في الدار من الحزم إلى الهوان، فالديار تمثل مؤشرا مجاورا للفضاء القَبَلي بمكونه الاجتماعي والقيمي البطولي.

إن إعلان التحول ملفوظ الذات المدركة لتحول الديار كونه مؤشرًا سببيًا يصوغ فعل الرحيل بالوجوب بفاعلية الهوان، وبذلك يتحرك الفعل/الرحيل متصلا بموضوع الإرادة والقدرة الموجهة بفاعلية الرفض امتناعًا عن العجز، واقتران الرفض بفعل التحول يبرهن انتساب الذات إلى الحزم إقامة ورحيلًا، لهذا فإن قرار الرحيل يتطلب الأمر القوي (أستبدل الأمر القوي بغيره)؛ درءًا للضعف وابتعادًا عن مؤثراته التي تحولها إلى شبه ذات (مأفون الرجال).

وأفعال التحول هي أفعال الصيرورة (أقيم/ما دام، حالت/أتحول/أستبدل) تقيّمها كفاءة الذات، فتعبر عن فاعلية سيادية سلطوية مشروطة لقرارات ذات الحزم والقوة، وتجل لقدراتها وكيفية رؤيتها للحياة، ووعيها بماهيتها، وتخطيها أي عوامل تعوقها أو تثبطها، فحرية الذات وتحقيقها تمثل أساس سلطة الرفض التي تتعالى على واقع لا ترتضيه، فتتحول إلى قوة موجهة تجاه كل ما يمس مكانتها التي ترسخ مبدأ الحرية بكل فاعليتها وطموحها، والرحيل مجال لتأسيس فضاء قيمي تشهد فيه الذات تماسكها بعد حالة من التبعثر، يقوم على توافر الحزم والقوة كونهما شرطًا للإقامة وتمكين إرادة الذات في التحقق.

إن فضاء الدار فضاء قيمي يؤسس للحرية أو العبودية، ولذا هو دار حزم، أو دار هوان يفتقر إلى القيم التي تمكن حرية الذات وتفعّلها، بوصفه دار عدم كفاءة، يؤسس لمظاهر العبودية بالعجز والسلب القيمي، وهنا تتجلى فاعلية سلطة الرفض في النهوض بفعل الرحيل حفاظًا على سلامة وجودها القيمي، في وسط وجودي يتضاد مع قيمها، يقول عبد قيس بن خفاف (المفضل الضبي 385):

واتْرُكْ مَحلَّ السَّوْءِ لا تَحْلُلْ به

 

 



 

وإذا نَبا بكَ منزلٌ فتَحَوَّلِ

دارُ الهَوانِ لِمَنْ رآها دارَهُ

 

أفَراحِلٌ عنها كمَنْ لم يَرْحَلِ

المنزل هو الفضاء القريب للذات، سكنها وغطاؤها الانتمائي والقيمي، يمثل الأهلية القيمية لحلولها حلولا دائمًا أو طارئًا، ويمثلها شرفًا أو ضعة، فإذا (نبا) أي تجافى عنه ولم يجد فيه قرارًا (ابن منظور، مادة: نبو) وتحول إلى دار سوء بعثت في الذات عاطفة الرفض فتدفعها إلى الترك وإعلان الرحيل، ما يشي بحالة من الصراع القيمي بين قيم المقام/الفضاء (السوء، المجافاة، الهوان) والمقيم/الذات، ولذا ينبغي فك الارتباط بفضاء السوء والهوان، وتخطي سلطة المقام بوصفه نواة السلب القيمي.

إن تأطير الديار بالقيمة ثباتًا وتحولًا يحيل إلى بُعدِ وجودي يتجاوز البنية المادية للمكان، ولذا يمثل بؤرة الإقامة أو الرحيل، وفعل الترك هو معنى من معاني الرفض، وبذلك تتجلى سلطة الرفض بفعل الأمر (اترك، لا تحلل، فتحول)، فتمثل محركًا سيميائيًا يوجه إدراك المخاطب إلى تمكين الإرادة لأداء الفعل، وهي دعوة إلى التخطي والتجاوز والانفصال، وتحفيز يُنهضه فائض عاطفي للرفض استجابة لمقاصد الذات الحاضرة، بصد تأثير حالة الأشياء لكونها فضاء ضيقًا مكوّنًا من (محل السوء، منزل، ودار الهوان)، وهو فضاء مُغلِّف للذات المقيمة، وبقاؤها فيه يُخضعها لمكوناته وتأثيراته، ففضاء الهوان والسوء كيفية لفاعلية وممارسة تشكلان سلطان الفضاء القيمي الذي يملأ المكان بمظاهر العبودية، تضيق به الذات الحرة، فيبدأ رحيلها برؤية استشرافية ثم حالة إدراكية وكفاءة إرادية، ما يؤهلها للانفتاح على فضاء مغاير يلائمها، وهذا يدل على أن القيمة إحساس معنوي (هوان/سوء) يتحول إلى كيفية مادية تتوسل بالمكان، فتحوله إلى فضاء ضيق مؤثر بوصفه وضعية وأحوالًا تتلبس الذات، لا بوصفه فضاء جغرافيًّا يُمكن هدمه أو بناؤه، وإنما هو منظومة قيمية اجتماعية.

وإن كان فضاء الذات محددًا بمساحة (محل، منزل، دار)، فإحساسها بالقيمة تحيلها أي الديار إلى فضاءات قيمية توترية، تشي بالضيق الذي يشكل حدودًا تتموضع فيه الذات المتأثرة؛ فيغلفها معنى ومبنى؛ حيث تشكل دار الهوان فضاء توتريًّا ضيقًا يؤثر في استقرار الذات الحرة ويدفعها إلى الرحيل، فاستشعار السوء والهوان ينقل الذات بكفاءة وجوب الفعل من التأثر بما يحيط بها إلى الفاعلية (اترك، ارحل)، بوصفه استشعارا للرفض/القوة المقيمة في الذات تحميها من التأثر بالخارج؛ حيث يهيمن الرفض على الخطاب في تلبسه بفعل الأمر المشروط بالمغايرة (اترك، فتحوّل)، والنهي وهو الأمر بالترك (لا تحلل)، وخلق حالة من التمرد على حالة الأشياء التي تتصف بالسوء والتجافي والهوان، فهنا دعوة للإدراك ثم اليقظة والتحسس العاطفي تجاه حالة الأشياء، من خلال قيم الذات ومدى قربها أو بعدها من تمثل ملامحها وحالة احتوائها؛ حيث يحمل فعل الترك مظهرًا عاطفيًّا فائضًا بالرفض السابق عليه، لكونه سلطة عاطفية لذات الإرادة والقدرة، تهيئها للرحيل بحثًا عن قيم تقابل قيم فضاء المنطلق المؤثر، وهنا يتجلى جلال الرحيل حين يتحول إلى وسيلة للابتعاد عن الدنس والنقائص.

والرفض الموجِه للرحيل هو تجلٍّ من تجليات كينونة الذات في وسط يُعرّض قيمها للدنس، يتمثل بفضاء ضيق يتحد بها (داره) ويشملها، فتهيمن مفردات الرحيل والترك على النص(اترك، لا تحلل، فتحول، أفراحل، لم يرحل) التي تدعو إلى فك رهانها عن الإقامة المقترنة بالهوان والسوء اللذين يقعان بالضد من العزة وما يرادفها من قيم الإباء والأنفة والعلو،...، والقوة والشدة والغلبة والرفعة والامتناع، فالعزيز القوي الممتنع لا يغلبه أو يقهره شيء (ابن منظور، مادة: عزز)، وعزة الديار ومنعتها بعزة رجالها ومنعتهم، وهوانها بهوانهم وضعفهم؛ إذ تنتقل القيم منهم إلى فضائهم المجاور، فالمكان العزيز: المنيع غير السهل أو المباح، والمنعة رفض للعجز والهوان، وحين تضاف الديار إلى الهوان فهذا يدل على أنها هشة ومباحة للآخرين وكذلك من فيها.

إن الإقامة سيادة على المكان وسلطة ونماء، وعز وشرف، وحياة وحرية، إنها حمى الذات وشرفها ونسبها وانتماؤها، تأخذ بعدها الوجودي من التمكن القيمي للذات عبر فاعليتها وتبلورها في مجتمع حازم قوي، من أجل ذلك ينبغي أن تنهض على العزة والقوة والشدة والكرامة، ربما يوفر الرضا بالهوان والسوء الاستقرارَ، والرضا بحد ذاته تغييب للإحساس بالهوان أو رفضه، فيشكل علامة على العبودية؛ إذ لا يشعر بحالة الضيق القيمي إلا ذات كفاءة، ولا تتمظهر بالرفض إلا ذات إدراكية فاعلة تمتلك إرادة وقدرة تستجيب بهما إلى نداء الرحيل، وتحسس القيمة مشروط بحالة إدراكية سابقة تهيء الذات لمحاكمة الموضوع عبر مراقبتها لكيفية علاقتها به ثم تقييمه، فيتحول إلى مجال للتحريك العاطفي بالرفض، والقيام بفعل التحول، لما له من أثر عاطفي بفك الارتباط بالأوطان حين تتحول إلى سلب لقيمة الفرد وحريته، وحجب لإمكاناته.

والقيم هي مدلولات النظير الذي يمثل البعد الوجودي والعاطفي للمكان وتمثيلات فضائه، والمكان/القبيلة غلاف الذات وكيانها، والعلامة الانتمائية التي بها تتواصل مع الآخرين الأبعاد، وتقيم علاقتها بهم تأسيسًا على أبعاده ومدلولاته المؤشرة إلى مظاهر الذات بأبعادها القيمية والنفسية والفكرية والاجتماعية، تترجم حالتها قوة وضعفًا، وتعاليًا ودنوًا، ولهذا سمى الشاعر الجاهلي الدار بالقيمة التي تترجم أوضاع ساكنيها وكفاءتهم، فهي إما دار حفاظ أو هوان، والإحساس بالدار هو إحساس بذلك النظير الذي يؤثر في هوّيّة الذات بامتدادها القيمي وليس الجغرافي؛ إذ إن محددات الدار وهندستها تخضع للقيمة سعة وضيقًا، وتقاس مساحها بقدرات الذات البطولية وامتدادها القيمي في علاقتها بالمجتمع، فالدار حيز القيمة حزمًا وقوة وعزة أو عجزًا وهوانًا، وهو حيز يتلبس الذات ويشملها؛ لذا تظل في يقظة عاطفة واستنفار قيمي تجاه أي تغيّر يحدث في الديار ويؤثر في كيانها، وصيرورتها، وهذا هو شرط الإقامة أو الرحيل.

والمعروف أن المنزل مكان الاستقرار والأمان، والمحيط الأسري الممتد إلى المحيط القبلي الذي ينضوي على التكوين الانتمائي كونه العمق الوجودي لجذور الفرد ومنطلقه وعودته، والديار بشكل عام تحمل ملامح الذات وجزءًا منها، وبفعل احتوائها لها تمثل موطن القيمة وفكرةً لتبادل القيم بينها وبين أفرادها، بقوتهم ومنعتهم يوفرون الأمن والحماية والحمى والعمران والنماء، لتوفر لهم السكن والاستقرار والانتماء والهوّيّة، وعدم تفعيل هذا التبادل يهدم الديار فتهون بأهلها، وبوصفها ديار قيمية فهي تصور علامي لما ينبغي أن تكون عليه هوّيّة الفرد وقيمته.

لا تبقى العواطف حبيسة العالم الداخلي، أو مؤشرا لتجل انفعالي آني كونها مجرد شعور أو نزوع إلى أشياء خارج الذات، وإنما تتحول في جانب منها إلى قيم قارة تمثل كينونة الذات، والرفض في النصوص المدروسة أنموذج لذلك؛ حيث تتحول العاطفة من مجرد شعور إلى فعل وكفاءة، فيأتي الرحيل مصوغًا بالرفض في تجليه الكفائي/الإرادة، كما في قول لبيد بن ربيعة (الديوان 313):

تَرَّاكُ أمكنةٍ إذا لم أرْضَهَا

 

 

 



 

أو يعتلقْ بعضَ النفوسِ حمامُها

يؤدي الترك معنيين: معنى أدائي وهو الرحيل، وآخر عاطفي شعوري سابق يتمثل في الرفض لفعل منجز مصوغ بالإرادة والقدرة المتمثلة في (ترّاك) بصيغته الصرفية (فعّال) الدالة على أداء إرادي يحيل إلى طبيعة كينونة الذات وتأثيرها في فعلها، وإعلان مركزيتها في ذاتها وفقًا لمبادئها وكفاءتها، وهو فعل متحقق بالانفعال بالرفض المتولد عن عدم الموافقة، لذا يظهر الرفض في حالة استمرارية مشروطة بنفي الرضا (إذا لم أرضها) بوصفه أهليّة تمكن الذات من إنجاز فعلها بوجوب الرحيل، وتحديد وضعها مع الموضوع؛ حيث تطرح من خلال فعلها المستمر (تراك أمكنة) مشكلة الفضاء الذي لا يوافقها، وهي مشكلة وجودية داخل فضاء مغلق (أمكنة)، تنفك عنها بالفعل والتوافق، ويتم حلها بترك المكان المؤثر وكسر مركزيته، والتحرر منه إلى فسحة لا تحددها أطر، وإلى حياة أخرى توافق ذات الإرادة قيمة ووجودًا، والترك وفقا لمبدأ عدم الرضا هو مبدأ ينهض على كفاءة الذات وتمكنها من اتخاذ القرار وتنفيذه وتحمل تبعاته؛ حيث يحيل (تراك) بمبالغة اسم الفاعل إلى طبيعة كينونة الذات وتجليها الكفائي المتكامل، كما يدل بصيغة المبالغة على الكثرة وتكرار الفعل الذي يمثل الإصرار بالتنفيذ والاستمرار في هذا التوجه، وهنا يغيّب القلق الوجودي بإعطاء الذات مركزيتها، فضلًا عن تغييب دور المكان في الحماية أو التحصن في لحظة التجاوز، وينهض هذا الغياب بوعي الذات لقيمتها وتقييمها للفضاء الذي تقيم به قربًا أو بعدًا من قيمها، تسلبه وجودها بالترك والانفصال قبل أن يسلبها قيمة ولم يوافقها، وهذا إعلان صارخ بالتحدي والقوة، «فالإنسان الرافض هو ذلك الإنسان الذي يسجل علامات المواجهة والتحدي وهو الذي يحقق ذاته» (العكيدي 15).

وبذلك يكون الرفض سلطة خليقة بتلك الإرادة التي لا يوقفها شيء سوى الموت، وهي نوع من سلطة الإحساس بقيمة الذات والقدرة على التأثير في حالة الأشياء أو تعديلها وإخضاعها لسلطتها، فالترك هو برنامج للاتصال بموضوع تنتمي إليه ذات الشاعر قيمة ووجودًا، لذا هي كثيرة الرفض/الترك لأمكنة لا ترغب بها؛ لتتصل بأخرى تتوافر على ما لم يتوافر عليه المكان الأول، وحالة التحدي (أو يعتلق بعض النفوس حمامها) لا تمثل رد فعل، بقدر ما تمثل تأملًا في عمق الذات كوعي للحالة، يدعوها من موقع فاعل للرفض (لم أرضها) الذي يؤدي لقيام فعل (ترّاك) بوصفه رد فعل عنيفًا تجاه حالة أمكنة لا ترتضيها.

وهنا يتهيأ للترك بجانبيه: العاطفي/رفضًا، والفعلي الحركي/رحيلًا، وهما حالة إدراكية بضرورة الاتصال بذات القيمة، مقابل الرضا (لم أرضها) الذي ينفتح على كل ما تكرهه الذات وتنفر منه سواء أكان ماديا أم معنويا، والوعي بحالة المكان والقدرة على الانفصال يكوّن عاطفة الرفض، مقابل التقييم الذي يقوم عليه هذا البرنامج في الشطر الثاني من البيت (أو يعتلق بعض النفوس حمامها)، فالموت قيد للذات كإحساس/خوف، وتوقيف كتحقق، والربط/الاعتلاق تحقق يمثل تقييما لمحمول قيمي تحيل إليه عاطفتي الرضا/الجمود والرفض/الحركية، ومن ثم ينتمي للحركية التي تمثل حرية الذات، فلا يمنعها عن رفض أضدادها عنها سوى الموت.

والواقع أن الشعور بالهوان لا يفهم إلا بالمعنى المقابل؛ أي العز، والعز من (عزز) المكان الصلب وما غلظ من الأرض واشتد وخشن، وتعزز الشيء اشتد، وهو الأمر الجميع (ابن منظور، مادة: عزز)، وبالنظر إلى مفهوم العز نفهم الهوان أنه تراخ ومنزلق قيمي صوب مظاهر العبودية، أما العز فيمثل القوة والمنعة والشدة والغلبة والرفعة، جميعها قيم جماعية تمثل حمى للقبيلة وأفرادها، أي إنها قيم يفعّلها الجماعة ويحتمى بها الفرد، وغيابها يوجب على الفرد الرحيل.

لمّا كانت دلائل الهوان تحيل إلى العجز الاجتماعي، اقترنت بالدار في معناه الضيق لكونه فضاء نفسيًّا وقيميًّا يتلبس الذات بتلك القيمة ويمثلها، ولذلك يعدّ الرحيل أمرًا جديرًا برغبة الشاعر بالبحث والسعي الذي يحقق ذاته، يوجدها فتبزغ من جديد في فضاء آخر ينتصر فيه للحياة.

يظل الشاعر متمسكًا بقومه مرتبطًا بهم، ما دام هذا الارتباط مؤسسا على صون كيانه الحر، وحين يشعر بخفوت قيمته في إطار ضيق يحاصره بالهوان ويقيده بالحاجة، لا بد له من التحول إلى سعة الحرية وتمكين العطاء، يقول هبنقة يزيد بن ثروان القيسي (المرزباني 557):

إذا كنتَ في دارٍ يُهينك أهلُها

 

 



 

ولم تكُ مَكْبولًا بها فتَحوّلا

 

وإنْ كنتَ ذا مالٍ قليلٍ فلا تكنْ

 

ألوفًا لعقر البيت حتى تمولا

ما القيد الذي يكبل الذات حتى ترضى بالهوان والذل، وما السبيل إلى التحرر؟ وكيف تتكون عاطفة الرفض التي يستثنيها القيد؟ القيد قرين العبودية، والعبودية لم تكن مانعًا للرفض، كما أن الفقر ليس قيدا ليألف المرء القعود بالبيت كالبعير، إن فهم التكوين العاطفي للرفض في هذا النص ربما نجده في الحفر الذي يمارسه الشاعر في وعي الآخر/المخاطب؛ ليستنهض إرادته ويكوّن فيه الشعور بالرفض، فيتوسل بالشرط لصياغة كيفية الوعي بالذات وتمكين الإرادة ثم الحرية، يزرع في نفسه السؤال عن إذا ما كان مكبولًا لتتصاعد في ذاته حدة البحث عن كينونة الذات والشعور بها قبل الرحيل، ثم الرحيل بحثا عن تحققها الحر، وهو بذلك ينقله من العالم الخارجي إلى عالمه الداخلي ليتأمل في ذاته وقدراته، وهكذا تتكون عاطفة الرفض.

فضاء الهوان ضيق (دار، عقر البيت)، وفضاء الحرية متسع اتساع إرادة الرحيل وانفتاحه على تحقيق الذات فيما يوافقها، فحدث التحول مشروط بحدوث الهوان من قِبل أهل الديار التي تضم الذات وتشملها، ومشروط أيضا بمدى قدرتها وإمكاناتها (لم تك مكبولا)، وهي قدرة جسدية وتمكن إرادي حر في الذات، وليس ماديًّا سياديًّا مهيمنًا، فالحر يأنف أن يكون ألوفا لعقر البيت، وعقر البيت تمثيل لمعنى العبودية وذل الحاجة، ففكرة القيد تنقل المتلقي إلى تصور العير المقيد، وتحيل إلى الركون للراحة والاستقرار الذي يقوم على الهوان ويجعل المرء معطل القيمة، وهو ما يكشف عن مكامن الخضوع والضعف وعوامل الاستلاب، ويحفزه على تجاوزها.

ويحيل نفي القيد (ولم تك مكبولًا) إلى الحرية التي تمكنها الإرادة والقدرة، ودونهما تظل الذات مقيدة بهوان الآخرين، ومن ثم يحيل إلى أن دورها الانفعالي في الدفع بالفعل يتحقق بالدور الكفائي المؤهل للقيام بالفعل (فتحوّل)، فلا يكتمل تأثير العاطفة في الفعل إلا بتوافر (القدرة)، والرفض ليس موجها صوب الإقامة والانتماء إلى الأهل والقوم، وإنما هو شعور وجداني له بعد وجودي، ناتج عن تعامل سلوكي يهين الفرد، فيمثل تحريضا على التحرر من سلطة الآخر التي تسلبه حقه في الحياة وتضيق عليه، وقليل المال ليس عذرًا للقعود مقاعد الهوان والعجز.

الدار محكومة بأهلها، تضيق وتتسع بهم، كما تنفتح وتنغلق بهم، والإقامة في دار الهوان تصبح مجالا لمحاصرة الذات والانغلاق عليها، وتفعيل سلطة الآخر القهرية، حينها تشعر الذات بتلاشي كينونتها في فضاء يزيحها إلى الهامش، وفيه تعتل بقيم هي الداء، وتقيد بإقامة هي العناء، وجميعها مظاهر العبودية، يقول قيس بن الخطيم (الديوان 53):

وما بَعْضُ الإقامَةِ في دِيارٍ

 



 

يُهان بها الفتى إلا عَناءُ

 

 

 

ولم أر كامرئٍ يدنو لخَسفٍ

 

له في الأرضِ سَيْرٌ وانْتِواءُ

وبَعْضُ خَلائقِ الأقْوامِ داءٌ

 

كَداءِ الكَشْحِ ليْسَ لهُ دواءُ

تنتقل القيمة من الجماعة إلى المكان والفضاء الذي يحوي الأفراد، ويمثل بناء الفعل (يُهان) الإحالة إلى أهل الديار الذي يمثلون السلطة العليا الممارسة فيه، وهنا تتحول الإقامة على الهوان إلى عناء وضغط وجودي، ولذا يوجه الشاعر خطابه بحالة من التعجب عمن يرضى بالإقامة على الهوان مع أن البديل متوافر، مبينا أثر حالة الأشياء والإقامة فيها، وحالة المتحول والتحول إليه وهو النجاة، فالإنسان يترفع عن الدنس القيمي ليتعافى وينجو ومن ثم يحيا.

الدنو والترفع ممثلان لفكرتي العبودية والحرية، والقبول والرفض، جميعها مرتبطة بالكفاءة (الإرادة والقدرة وعدم القدرة)، فالأرض متسع وانتواء للحر ومسعى التحقق، والرفض إرادة، والسير حركة وقدرة ومن ثم كينونة وفعل، فالدافع هو سلطة (الخلائق) بوصفها جرعات لتعافي الذات أو خسفها، ورفعتها أو دنوها، داء أو دواء، قيدا أو حرية، فكرة الدنو تحيل إلى حالة انكسار مثقلة بالذل والهوان، وهما من قيم العبودية المعبرة عن هبوط قيمة الذات وانحطاط مكانتها لعجز إرادتها، ومن ثم هي ضيق وقيد، ثم إن فكرة الدنو تحيل إلى فكرة العلو والفوقية ومن ثم فكرة السيادة، وهي سيادة ذاتية كفائية ضد أي فكرة تنحو بها إلى الامحاء الوجودي، وتخضعها لمواضعات الآخرين وضيمهم، فلا بد من أن تعدّل الخارج المؤثر (دار الهوان) أو الرحيل عنها، وتجاوز داءها الذي يصيب قيم الذات ويعوقها فتعيش عناء مستمرًا.

فكرة الرحيل هي ملكة القرار، وقوة الإرادة والانفعال والعاطفة، في الإباء والترفع والتعالي، تظل العاطفة ذات سلطة تتلبس بالمواقف وتتجلى في الأفعال، ولذا تظل الذات الحرة ذات حساسية تجاه كل ما يهينها أو يضيّق عليها، وهي ذات فاعلية تزيح عنها كل ما يعوق اتصالها بموضوعاتها أو يصدها عن تحققها التحقق الحر، وهذا هو معنى البطولة المتحقق في إرادة الذات الجاهلية وفعلها وانفعالها، وما دام المنفذ الواسع متوافرًا (له في الأرض سير وانتواء)؛ ينبغي لها أن تنفعل وتثور رفضا للإقامة على الضيم والهوان، وتتحول من حالة الاتصال بمؤثرات الأشياء إلى الانفصال عنها، فالعلة والعناء القيمي ليس لهما دواء إلا الرحيل، والحر لا يصبر على الهوان والضيم إلا إذا أمكن تغييرهما في الفضاء نفسه.

إن فضاء الدار فضاء عاطفي قيمي ذو بعد وجودي، تتمظهر فيه الذات فاعلية وقيمة، وتتأثر به سعة وضيقًا قيمة ومعنى، فالدار إما أنها متسع يطمئن إليها ساكنوها، أو ضيق يبعث فيهم خوفًا وخشية تنبو بهم إلى خارجها بحثًا عن فسحة التحقق، يقول عُقبة بن حوط التميمي (المعيني 233):

أُقِيمُ بالدارِ ما اطْمأنَّتْ بي

 

الـدَّارُ وإنْ كنتُ نازِعا طَرَبا

وإنْ بأرضٍ نبَتْ بي الدّارُ

 

فعجلتُ إلى غَير أَهْلِها القَرَبا

لا سانِحٌ من سوانِحِ الطيرِ

 

يَـثـنـِيـني ولا ناعِبٌ إذا نَعَبا
 

يحدد الشاعر إحساسه بالطمأنينة شرطًا ومسوغًا لإقامته في الدار، والديار هي باعث الأمان وغيابه غياب للسكن، ويستغل الشاعر الخوف وهو شعور مصيري ترقبي، ليحوله إلى مؤثر أو دافع إيجابي يقطع حالة الترقب بالترك والرحيل، إن لم توافقه الدار، ولم يجد بها قرارًا يقوم على الاطمئنان، يتعجل الخروج عنها مستبدلًا أهلًا بأهلها.

ولا يرحل الشاعر عن مقام لا يرتضيه إلا إذا توافر من الكفاءة ما تمكنه من الرفض (لا سانح يثنيني) والسانح علامة سيميائية تجتمع إلى صوت الغراب (ناعب)، لتمثل حالة الشؤم التي تعترض قرار الشاعر وتوقف عزمه على الرحيل، وتحيل إلى حالة توترية يتجاهلها الشاعر، فيتجاوز العُرف والاعتقاد الراسخ في الوعي الشعبي الذي يتطير بالغراب والطير السانح، ويفعّل حالة الإدراك بقدرات الذات (لا يثنيني) كحالة عاطفية للجرأة والتحدي تدفعه إلى الفعل (عجلت) الذي يتحقق بالإرادة والقدرة التي تؤهله للإنجاز، والإرادة تبرز في مرحلة المواجهة والتحدي فلا يثنيه أي شيء، فهو ذات رافضة تدعو إلى التغيير إذا ما نبت عنها الدار، وصارت محل هوان وخوف وتجافٍ ولا توافق قيمها، وهنا «يشير الرفض إلى عدم استسلام الرافض لقيم المجتمع السائدة، أو لبعضها على الأقل، وهو بالتالي يرفض أن يتنازل عن نفسه» (قطوس 164)، ويستبدل غير الأهل بالأهل، ولا يكون إلا باستبدال الديار بالديار، بغية التغيير والحصول على الموضوع (اطمأنت بي).

إن «الرفض والإباء وعدم الرضوخ ومجابهة التحدي معطيات إنسانية كريمة تأتلق ملامحها من خلال المسيرة الزمنية الطويلة للأمم، وتتجلى صورها بشكل بطولي عبر أعمال شعرية متناثرة أو صراع فردي محدود، أو إجماع قبلي متميز بمظاهر التوافق والانسجام، وتأخذ هذه المظاهر أشكالا متفاوتة، وتنبثق من خلال التضاد الحسي المتوثب، وتتعالى بطريقة تعبيرية حادة إذا شعرت بالتحدي» (القيسي 97)؛ حيث يأنف الحر محل الهوان، وإن توافر على الأمن والاطمئنان، والرفض هو تغلب عاطفي على شعوره بالذل والهوان من قبل القبيلة، يقول ربيعة بن مقروم الضبي(الديوان 55-56):

ودارِ هَوانٍ أنِفْنا المُقامَ

 

بِها فحَلَلْنا محلًّا كريما

إذا كان بَعضُهمُ للهَوانِ

 

خليطَ صفاءٍ وأُمّا رؤوما

وثَغْرٍ مَخُوْفٍ أقمنا بهِ

 

يَهاب بهِ غيرُنا أن يُقيما

جَعلنا السُّيوفَ به والرماحَ

 

مَعاقِلنا والحديدَ النَّظيما

ينهض فعل الرحيل بوصفه أثرًا للأنفة (أنفنا المقام) وهي مكوّن من مكونات عاطفة الرفض، تولدت تأثرا بحالة (دار هوان)، بوصفها منطلقا للترفع عما يدنس الذات، وأنفة المقام تعني الترك/الرحيل المعبر عن رغبة الذات الكامنة/الشعور في التحقق الآمن الحر، وبذلك تنقلها الأنفة إلى التحقق (فحللنا محلًا كريمًا)، فالأنفة حالة شعورية تمثل نزعة الانفصال والترفع عما يسيء للذات ويهين مكانتها، وتتحول إلى فاعل قادر على خلق البعد الوجودي للحر باقترانها بالكفاءة في تجليها البطولي الفاعل، تحفز الشاعر على رفض الهوان والترفع عن الإقامة في داره، فالأنفة موضوع قيمي وشعور عاطفي يتجلى بكيفية جسدية تتمثل بالأنف الأشم، وحركية تتمثل في حركة الأنف بإشاحته حين يعاف المرء رائحة ما، كون الأنف الأشم «علامة سيميائية دالة على الأنفة والكبرياء والإباء والعلو والرفعة وبلوغ الذروة من المجد،...، ومنه جاء معنى الأنفة؛ أي الترفع عما من شأنه أن يدنس معنى وجوده» (الزمر 127)، تأنف ذات الشاعر المقام وتشمئز من الهوان فتعرض ترفعا، وتزيح كل ما من شأنه أن يعوق وجودها الحر، مدفوعة بعاطفة الرفض إلى الرحيل حفاظًا على مكانتها، وبحثًا عن مقام كريم يماثلها، وأنفة المقام شعور بوجوب الابتعاد عن الهوان، في حالة من الإباء والامتناع، ألزمتها الترك والرحيل.

وفعل الرحيل ينهض على الوعي العاطفي والإدراكي السابق (أنفنا، جعلنا السيوف معاقلنا)، الذي يكشف عن ماهية الذات المتشكلة من معاني البطولة، والرفض امتداد عاطفي منها؛ إذ يمثل «الرفض والإباء والتحدي مظاهر حية لجوهر البطولة في العصر الجاهلي» (القيسي 97)، وعلى أساسها تنجز اتصالها بموضوعها أو تنفصل، مرتكنة إلى إرادتها وقدراتها البطولية.

لا يمكن أن نحيّد العاطفة ونزيحها عن الفعل، إنها وقود كامن في الذات، وأداة الصراع ومحرك الأحداث، والرفض كونه سلطة عاطفية وكفائية هو حالة للانفصال، وانحياز الذات إلى قيمها وحريتها يعينها على إنجاز فعل الرحيل، والبعد عن دار الهوان؛ وإن كانت محتوى آمنًا، فالمحل الكريم هو الفضاء المراد الذي تنتمي إليه الذات كينونة وهوّيّة، والفارس الحر يرحل عن دار الهوان على الرغم من توافر الأمان به، في حين لا يخشى فضاء الثغر وهو فضاء الحرب وموضع المخافة من فروج البلدان (لسان العرب، مادة: ثغر)، لأنه يفعّل فيه قدراته وقيمه البطولية، وبذلك تمثل الأنفة نهوضا بالفعل ليعيد التوازن القيمي في فضاء يتسم بالخوف والوحشة، ليؤكد استجابته إلى قيمة الحر البطل بامتلاكه أدوات تحققها، منطلقا من التقابل الضدي بينه وبين الضعيف العاجز (لا أخاف/أقمت به × يخاف/يهاب أن يقيما)، في قدرته على تجاوز الخوف ورهبة الوحشة.

تبرز فاعلية سلطة (الرفض) في نصوص الرحيل عن دار الهوان في الخروج عما يمس القيم الذاتية، وليس خروجا عن المألوف القيمي أو العادات أو القيم الأصيلة، «فالرفض ليس عملا منكرا ولا مستهجنا، لأن أعظم الأعمال وأعاظم السير تكونت من نطفة الرفض ومن طاقاته» (قطوس 163)، ورفض الإقامة بدار الهوان مبتدأ لحالة الانفصال عن ثوابت الإقامة، وتحريك للرحيل كونه الوسيلة الكفائية للانفصال، والوسيلة الحركية إلى الاتصال بالموضوع القيمي، ويختلف دوافعه وقوته من شاعر إلى آخر، لكنه ينتمي إلى قيمة الحرية وتحقيق الذات؛ حيث يبدأ التكوين العاطفي للرفض من حالة سابقة للحظة الاستشعار واليقظة، ثم تتجلى فاعلية منفعلًا بالحالة ومدعمًا بالكفاءة، فيتكوّن من: (الإدراك الجرأة التحدي المواجهة الترك)؛ حيث يوجب الرفض «اتصاف صاحبه بقوة الإرادة، لا بضعفها أو فقدانها» (صليبا 1/618)، إن من يدركون قيمة الحرية هم أكثر الناس كفاءة ويقظة عاطفية وإدراكية؛ أدركوا خطر الإقامة في الهوان وانفصلوا عن كل ما ينال من قيمتهم الإنسانية، وبذلك استطاع الشعر الجاهلي أن يقدم نظامًا قيميًّا واضحًا، ومنظومة عاطفية تخص الإنسان الجاهلي في كليته كيفما كانت هويته، تنضوي على ثنائية الحرية والعبودية.

وبناء على ما تقدم يمكن توضيح بنية التحول/الرحيل من ضيق الهوان إلى سعة العزة والحرية بالمربع السيميائي:

إذن هي عواطف تتجاذب الذات بين الرفض والرضا في فضاء يتسم بالضيق مساحة وقيمة، فتندفع إلى الضد منه سعة وقيمة، مرتحلة باحثة؛ لتحقيق التوازن العاطفي بالقيم العليا في إطار برنامج سردي تسعى لتحقيقه وإنجازه.

3.    الهوّيّة الصيغية والبنية العاملية للرحيل

3.1 الهوّيّة الصيغية للذات الرافضة لدار الهوان

أن نقابل بين الإقامة والرحيل ينبغي أن نأخذ في الاعتبار سلطة الذات وصدامها أو توافقها مع سلطة الآخر، وبهذا الوعي نفهم المقابلة بين دار العز ودار الهوان، وهما صورتان للحياة وحالة العالم الخارجي بامتداده/الديار التي تتلبس الذات وتُظلها وتكوّن هويتها، وتحدد أفعالها، وتؤشر إلى قيمتها، وتعيّن قيمها، وبينما دار الحزم والعز حمى وقوة وحفاظ، تصبح دار الهوان حربًا على قيم الحرية، وهذا منبع الاعتراض وفاعلية سلطة الرفض تترجمه الذات بالرحيل الذي يمثل سلطة حقيقة لكفاءة ذاتية قيمية لدرء السلب القيمي.

وهذه سلطة معرّضة لاختبار الكفاءة والحالة الإدراكية والعاطفية للذات، فقرار الرحيل يحيل إلى توترها لحظة إدراكها للسلب القيمي، وهو توتر ذو إيقاع عاطفي سريع، مع شدة قوية تبرز في الفعل؛ حيث تظهر الذات معتدة بكفاءتها وقيمها وانتمائها إلى الحرية/القيمة، لا إلى المكان بما يحمله ويرمز إليه، فيمثل الرحيل الوعي العاطفي الذي يتجلى بوساطة الانتقال والتغيير السريع على مستوى حالة الذات العاطفية والفعلية، في زيادة إحساسها بالرفض مقابل الرضا بالعجز، وسلطة الرفض نهوض وفاعلية (اترك محل السوء، أقيم بدار الحزم، ودار هوان أنفنا المقام)، تنضوي تحت إطار سيميائي كلي يتمثل بالتوتر، يدفع إلى سرعة التحول دون أدنى تراخ؛ لأن البقاء يمس كيانها الحر، والعربي يتحمل كل الظروف إلا المساس بحريته وأنفته وإبائه في وسط أي نُظم.

ويمكن تمثيل الحالة العاطفية للرحيل القيمي إباء ورفضًا وأنفة بالمخطط التوتري المضعف، وهي حالة إرادية لمبدأ التوافق الداخلي للذات الذي يحركها تجاه الفعل:

إن الرفض في نصوص الرحيل عن دار الهوان في الشعر الجاهلي تكوين عاطفي متأثر بحالة قبْلية أدت إلى حالة من التوتر المتصاعد، وشدة قوية تجاه أفعال تأنف منها الذات الحرة، وقيم لا تقبلها، فتمثل عاطفة الرفض مرسلًا/عاملًا نفسيًّا يحركها للقيام بفعل الرحيل، وهي صيرورة لتفاعل الذات مع العالم الخارجي المؤثر، تتكون فيها وفقا لمسارها العاطفي الخاص بالحرية، فتهيمن على حالتها وتجعلها في حالة يقظة وترقب ينتج عنها فعل الرحيل؛ بوصفه نتيجة يقينية بمجابهة السلب والسعي بحثا لتحقيق الذات.

وهذا يعني أن هناك ذاتا متوترة تقف على حد فاصل بين فضاءين: الإقامة بدار الهوان أو الرحيل إلى فضاء بديل، يعيّن وضعيتها وهويتها وقيمها، إما الرضا/القبول أو الرفض، فهناك ذات تفتقد إلى مقومات الحرية في فضاء الهوان، وترغب في التحقق بمعاني الحياة بعيدًا عن الضغوطات التي تعوقها عن اتصالها بمبدأ الحرية، وهذه الرغبة تعدّ مبدأ من مبادئ الرحيل والبحث، كون الذات الرافضة ذاتًا إدراكية واعية.

والوعي العاطفي حالة كفائية ويقظة ترقبيّة تجاه التغير الحاصل من المحيط القيمي، فالهوان ضياع في الحق ودنو في المكانة، وانتقاص في الكرامة، ومن ثم ذل وعبودية، وبذلك يمثل المؤثر في المستوى الانفعالي الذي تظهر شدته في الرفض والترك، والانطلاق إلى الفضاء الواسع، فيه تختبر الذات كفاءتها التي تظهر بتجلٍّ عاطفي كفائي مكوناه: الرفض والإرادة في لحظة وجوب، أما القدرة فتتكشف في المسار الرحلي، وهي الخلفية التحفيزية لتمكين الإرادة والحرية، فلا إعلان للرحيل دون قدرة، يقول الشنفرى (الديوان 63):

ولكن نفسًا مُرّة لا تُقيم بي

 

على الذام إلا ريثما أتحوَّل
ُ

إن الرحيل عن فضاء الذم والعيب والضيم، تحدٍ ومواجهة وجرأة، ملكة وكفاءة؛ ملكة الذات الرافضة في لحظة اختطاف قيمها، تأبت عن منطق السلب، ونُظم العبودية، والانكسار والضعف، فالكفاءة تركيب بين قدرات الجسد ودافعية الإحساس، وتفوق الوعي الإدراكي والعاطفي.

والرحيل عامة وجوب سابق على الفعل، سواء أكان اختيارًا أم مفروضًا، ومسار حركي لإدارة الذات وكشف عن قدراتها، إنه متنفس الذات العربية في الأرض الواسعة، وباعث للتأمل بامتدادها الذي يشعرها بوجودها الحر دونما قيد أو حدود، إن الرحيل امتلاك للذات بعد حالة من البحث والبعث والإيجاد، وهو باتصاله بالفاعل توظيف للدفق الإرادي، ويصبح قرار الرحيل إلى حد ما موضوع القيمة؛ لأنه يعبر عن الحرية وتحقق الإرادة وتفعيل قدرات الذات، وهنا تأتي القصدية في المتحول التي «تؤول أحيانا باعتبارها (إرادة أولية) أو معرفة مسبقة» (جريماس وفونتنيي73)، تحمل موضوع الرحيل وسيرورته.

3.2 البنية العاملية للرحيل عن دار الهوان

يتشكل البناء العاملي للرحيل عن دار الهوان وفقًا للمخطط الآتي:

وقد توزعت البنية العاملية لهذا البرنامج بين ستة عوامل تنتظم وفقًا لثلاث علاقات؛ هي:

-     علاقة التواصل: تجمع هذه العلاقة بين المرسل والمرسل إليه، وهي علاقة تأسس عليها التحول وفعل الانفصال، هناك عاملان يمثلان المرسل: حالة الأشياء/الفضاء القيمي الضيق، وتأثيره السلبي المصدّر بالهوان، وهي مظهر من مظاهر العبودية، والمحرك الأساس لقيام الذات بفعل الرحيل وجوبًا، والمرسل الآخر: الحالة النفسية للذات المتأثرة بحالة الأشياء، (الرفض)/المحرك الآخر للقيام بفعل الرحيل إرادة وقدرة، فتتحول الذات من ذات الحالة إلى ذات الفعل متجاوبة مع محيطها ومع ما تحس به، والمرسل إليه: الذات الإدراكية/الشخصية الرئيسية التي احتشدت حالة الرفض في نفسها، بوصفها وجودًا حرًا يتعرّض للسلب والتضييق القيمي، ويمتلك كفاءة تختزن قيم الحرية، وتندفع بعاطفة الرفض التي تؤهلها للقيام بالفعل الضدي وحماية كيانها الحر من مظاهر العبودية.

-     علاقة الرغبة: تتكوّن هذه العلاقة بين الذات والموضوع (الحرية)، مبنية على ثنائية الاتصال والانفصال، وتحول العاطفة إلى فعل/رحيل، فالذات ترفض الإقامة في دار الهوان التي حولتها إلى حالة انفصال عن موضوعها، وترغب في الاتصال به، وهي رغبة تحققت بالرحيل.

-     علاقة الصراع: تواجه الذات خطر فقد العزة (الحرية)؛ إذ ثمة عوامل تؤثر فيها وتمنعها من تحقيق ذاتها، وهي عوامل معارضة/عائقة لرغبتها في اتصالها بموضوعها، تتمثل في: العجز، وفضاء دار الهوان الذي شكل عائقًا دون بقاء الذات في المقام، وهو ما أدى إلى تفعيل عاطفة الرفض بوصفها القاعدة التي هيأت الذات إلى الانفصال، ومن ثم وجوب الرحيل، وتتلخص دائرة الصراع بين قيمتين هما: العبودية المُصدَّرة من الخارج، والحرية التي تمثل هوّيّة الذات وكفاءتها/إمكاناتها، والفعل الضدي الذي يتصدى للتهديد والزوال القيمي.

4.    التمظهر المعجمي لعاطفة الرفض وخصائصها التركيبية

يعمل التمظهر المعجمي للعاطفة وخصائصها التركيبية على كشف الكيفية التي تعمل بها عاطفة الرفض في إطار علاقتها الأفقية التركيبية في النص الشعري، واتصالها بفعل الرحيل، وعلاقتها الجدلية مع القيم التي اكتسبتها الذات وتجاوبت معها ضمن المنظومة المجتمعية/القبَلية.

4.1 التمظهرات المعجمية للرفض

يبحث التمظهر المعجمي في انتظام عاطفة ما حول حدث ما، ثم صياغة تعريفها ضمن الخطاب الذي توافرت فيه، فـ«دراسة الوحدات المعجمية الهووية تتطلب استبدال تعريف بتسمية، ثم القيام بعد ذلك بصياغة تركيبية جديدة للتعريف ذاته» (جريماس وفونتنيي 159).

جاء الرفض في لسان العرب بمعنى: الانفصال والترك والمجانبة، فالرفض: تركك الشيء، ورفضت الشيء تركته وفرّقته، وارْفَضّ الوجع: زال، وترفّض الشيء إذا تكسر، وتفرق، ورفض الشيء جانبه، والرَّفض: أن يطرد الرجل غنمه وإبله إلى حيث يهوى، وتركها حيث شاءت، وعدم وقف إرادتها (ابن منظور، مادة: رفض).

يتبين من المعنى اللغوي أن الرفض عاطفة تظهر في رد فعل الذات تجاه سلوك أو أفعال خارجها، كما تخلق في النفس استنفارا تجاه حالة الأشياء التي لا ترضاها، وتتحقق العاطفة بفعل المجانبة والترك والانفصال بإزالة الشي أو الابتعاد عنه، بوصفه موضوعًا غير مرغوب به، والتوجه صوب بلوغ المنتهى، ويسبق الرفض الشعور بالضيق والغضب والتحدي والنفور (رفضته كسرته وفرقته)، ومع ذلك فإن الرفض عاطفة تنتمي إلى الإرادة أكثر من انتمائها للغضب أو التمرد، أما معجمية الرفض في النص الشعري فتتضمن التمظهرات الآتية:

-     الكسر: ممثلا في النص الشعري بكسر أي عائق يقف بالضد من إرادة الذات وحريتها، وهو كسر تعلق وكسر انتماء.

-     الترك/الانفصال: عدم التوافق بين الذات ومحيطها الخارجي، وانفصالها عن موضوعها بعدم أهلية المحيط عن احتوائها، بوصفه حاجزا يمنعها عن الاتصال بمرادها وتحققها التحقق الحر.

-     الانتشار: الخروج من الضيق إلى السعة والبحث عن البديل والتحول إليه؛ إذ إن «رفض وضع من الأوضاع يعني الموافقة على وضع آخر يخالفه» (كروكشانك 128).

ومما تقدم نجد أن المعنى المعجمي لعاطفة الرفض يلتقي مع المعنى المتمظهر في النصوص الشعرية التي تعرضت لموضوع الرحيل عن دار الهوان، وهنا يمكننا صياغة تعريف الرفض على النحو الآتي:

الرفض................ يرجع إلى المدونة العاطفية

شعور يقود الذات إلى الانفصال................ موضوع الصلة (انفصال).

عن فضاء أو قيم لا توفقها وتعوق تحررها................ موضوع القيمة من نوع (غير مرغوب به).

إن الرفض إحساس مكوّن من انفعال وكفاءة وفعل، ينطلق من واقع/أمر مرفوض يهدد كيان الذات، يتجه نحو واقع/أمر آخر مقبول، فهو عاطفة انتقالية انفصالية تغييرية، تخلق توترًا متصاعدًا يحرك الذات ويحفزها على الترك وكسر أفق الضيق، والخروج عن حالة الجمود، والبحث عن البديل.

4.2  الخصائص التركيبية لعاطفة الرفض

يتشكل المعجم الدلالي لعاطفة الرفض في النص الشعري للرحيل عن دار الهوان في الشعر الجاهلي، من معاني الحرية، وتجليها كحالة يقظة تحيل إلى حالة قبلية ترسخ دلالة الانفصال عن موضوع القيمة أولا بفعل حالة الأشياء/المؤثر الخارجي، الذي يفضي إلى خلق حالة من الصراع بينه وبين الذات الرافضة، ثم تحيل إلى حالة بعدية تتمثل في فعل الترك بعيدًا عن المؤثر الذي فصل الذات عن موضوعها، فيكون الرحيل بحثًا عن الموضوع الغائب، ومجالًا يعيد إليها توازنها القيمي/الوجودي.

والرحيل تحول وسلطة عاطفية تعبر عن انتقال الذات من الوصل إلى الفصل بوصفه حالة ابتدائية، ثم من الفصل إلى الوصل بوصفه حالة نهائية، تتشكل وحدته التركيبية من العوامل الآتية: ذ1: الذات الرافضة، ذ2: الفضاء الضيق/دار الهوان، م: الموضوع بقيمته/مظاهر الحرية وتحقق الذات.

تؤثر حالة (دار الهوان) في تحول الذات (Ü) من حالة وصل (Ç) بموضوعها إلى حالة فصل (È)، فيتشكل الفعل التحويلي لحالتها على النحو الآتي:

المنطلق: (ذ1Çم)                      (ذ1Èم)Ü ف ت 1(ذ1Èم).

البرنامج العكسي الناتج:

(ذ1Çذ2)          (ذ1Èم) Ü ف ت 2 ]ذ1          (ذ1Èذ2)          (ذ1Çم)[.

الرفض ناتج عن حالة الانفصال عن الموضوع المرغوب فيه، وفاعل في الانفصال عن حالة الأشياء التي سببت الانفصال، ومن ثم يتحقق بالرحيل للاتصال بموضوع القيمة.

اتصال Üانفصال Ü انفصال Üاتصال.

تمثل عاطفة الرفض فاصلًا بين الذات وحالة فضاء الهوان، ورابطًا بين الذات وكفاءتها بتحقيق التوافق الداخلي والتوازن العاطفي.

وبالعودة إلى النصوص الشعرية السابقة، يمكننا تحديد مختلف التمظهرات المعجمية الدلالية لسلطة الرفض ضمن حقول دلالية، على النحو الآتي:

·      العواطف المجاورة/المرادفة

تتحقق عاطفة الرفض فعلًا وممارسة متمظهرة في فعل الرحيل، بتجاورها مع عواطف أخرى تقوم مقام الإرادة؛ هي: (الإباء، الأنفة، الحزم، العزة، الجرأة، الشجاعة، المغامرة،...)، تسهم في تكوينها، وتحققها كحالة بدئية ونهائية مجاورة لفائض عاطفي ضاغط، ومن ثم يمكن تفصيلها على النحو الآتي:

الإباء والأنفة: الإباء يمثل المنعة لامتلاك الذات القوة والإرادة الصلبة، والأنفة: الترفع والإعراض، مجاورة للشمم ممثل العز والترفع عن الهوان والذل، والابتعاد عما يدنس الكيان الحر.

الحزم والعزة: الحزم عاطفة إدراكية كفائية لحالة بدئية تنتمي للفعل والقوة التي تحزم الفعل وتشده، والعزة: عاطفة وقيمة تمثل المنعة والشدة لحالة نهائية تمثل كينونة العزيز وهو القوي المنيع الصلب، وهما صفتان للسيادة القيادية/البطولية.

وتلك العواطف هي قيم بطولية تعدّ ممكنات الذات التي تحركها للانفتاح على الحرية والتحقق، ولذا يتسم رحيل الذات عن الهوان بالوجوب، مرتكنة إلى حالتها الإدراكية، وقدراتها الجسدية التي تتحقق بها كفاءتها في القيام بالرحيل بوصفه انتقالًا ماديًّا، ومن هنا يتأسس معنى الرفض والترك.

·      العواطف المجاورة/الضدية:

تنبني الإقامة بدار الهوان على الرضا، والرضا عاطفة لها عدة تمظهرات معجمية؛ منها: ميل النفس، والاختيار، والقناعة والطاعة، ورأي الشيء أهلًا له، والخضوع (ابن منظور، مادة: رضي، قبل)، وهي معان تخضع للوجود الكفائي المتمثل في الإرادة والقدرة أو عدم القدرة، والرضا عاطفة ذات رؤية معرفية للذات مقابل حالة الأشياء، إما أن ترضى بها اختيارًا وقناعة كونها أهلًا لها بحكم كفاءتها، أو خضوعًا وانقيادًا بحكم عدم كفاءتها.

والرضا في نصوص الرحيل عن دار الهوان يمثل العاطفة الضدية للرفض في المعنى والتوجه والفاعلية والحقل الدلالي، فالرضى عاطفة مقترنة بالإقامة في دار الهوان، يتكون حقلها العاطفي والقيمي من: (الهوان، الذل، العجز، السوء، التراخي، الذم، العيب،...) جميعها تعدّ من مظاهر العبودية وعدم الكفاءة.

ثم إن الرفض والرضا عاطفتان تكوّنتا عن علاقة جدلية بين موضوعات الإقامة والرحيل، بوصفهما شريكتين في خلق هذه الجدلية، بإحالة إحداهما إلى الأخرى على سبيل التفاعل القائم على التناقض أو التضاد، والغياب والحضور، وتكوين دلالات القيمة التي يطمح إليها الموضوع متفاعلًا مع العواطف المجاورة التي تستقطبها تلك العاطفتان.

وباستقراء نصوص الرحيل عن دار الهوان، يمكننا مقارنة الرفض مع الرضا على النحو الآتي:

-     الرفض إحساس بالقدرة، بوساطته تعبر الذات عن وجود حالة ضد رغبتها/قيمتها الوجودية، ما يؤدي بها إلى الترك/الرحيل والبحث.

-     الرضا إحساس بالعجز عن تحقيق رغبة الذات، والموافقة على هيمنة المعيق، ما يؤدي إلى قبول الإقامة في دار الهوان.

-     يشكل الرفض فضاء واسعًا مفتوحًا، فهو إحساس يتصل بمعنى الحرية.

-     يتموقع الرضا في فضاء ضيق (دار، منزل، محل) مغلق بالهوان، ومن ثم هو إحساس يتصل بالخضوع لمظاهر العبودية.

-     الرفض عاطفة وكفاءة وفعل/رحيل.

-     الرضا إحساس يكوّنه فقْد الكفاءة.

وهنا يتضح اتصال الرفض بمعنى الحرية كونها الموضوع القيمي للرحيل عن دار الهوان؛ إذ «إن الحرية قد تدفع الفرد إلى الخروج عن الجماعة/القبيلة، الخروج الواعي لا الخروج الآثم، من أجل تحقيق شكل من الحرية يستجيب لرغباته في العيش» (الدليمي 24)، وما الرحيل إلا إجراء حركي بدافع المرسل، ووسيلة للاتصال حين فقدت الإقامة مقومات الحرية، وعوامل حفظ الكرامة.

فهناك حالة من التعارض والتضاد بين الحرية والعبودية، الرفض والرضا، العجز والقدرة، الرحيل والإقامة/المقام، وهنا يمكن تمثيل هذا التعارض ومسار اشتغاله بالمربع السيميائي:

يتبين بهذا المربع السيميائي أن الرفض يتصل بموضوع الحرية ويقتضي الكفاءة والفعل، ما ينقل الذات إلى سعة التحقق، أما الرضا فيتصل بمظاهر العبودية وهي حالة لعدم الكفاءة/العجز التي تقيد الذات وتضيق بفضائها القيمي، بذلك التعارض الضدي القيمي والكفائي بين والحرية والعبودية، تشكلت هذه السيرورة للرفض والرضى بدءًا ونهاية.

خاتمة

إن التكوين العاطفي للرحيل عن دار الهوان في الشعر الجاهلي يتشكل وفقا لمسار الذات العاطفي الخاص بالرفض، وتمكين الحرية بوصفهما سيرورة عاطفية وقيمية لحالتها الشعورية التي تتحكم بها عوامل خارجية، تؤثر بها وتدخل في شدتها التوترية، وبذلك نرصد النتائج الآتية:

-     أن الذات الجاهلية الحرة ذات إدراكية تؤول رفضها لمظاهر العبودية والهوان والذل والسلب والخضوع بالرحيل، كونها فردا مقابل جماعة، يعلن عن انفصاله عن القيم السلبية وليس عن المجتمع.

-     أن الرفض سلطة عاطفية اقترنت بالرحيل عن الفضاء القيمي الضيق (دار الهوان)، والبحث عن تحقيق الذات، وهي حاجة وجودية تقوم على الحرية والتعايش الآمن الذي يحفظ للذات كرامتها ومكانتها.

-     أن الرفض مظهر من مظاهر نفور الإنسان الجاهلي الحر من الهوان ودنس العبودية.

-     أن الجهة التي نهض عليها فعل الرحيل عن دار الهوان هي جهة الوجوب والإرادة والقدرة، وتأتي سلطة الرفض فتمثل البنية التي تحكم فعل الرحيل؛ كونها عاطفة وكفاءة وفعلًا، تؤلف سيرورة فعل الرحيل عن دار الهوان، وتكوينه على هذا النحو:

الشعور بضيق قيمي (دار الهوان) تحول إلى إباء وأنفة وعزة/رفض، جميعها قيم وعواطف خلقت فعل الرحيل نحو السعة والتحقق.

المراجع

أولًا: العربية

ابن منظور، محمد بن مكرم. لسان العرب. دار صادر، [د. ت.].

بن ستيتي، سعدية. فنية التشكيل الفضائي وسيرورة الحكاية في رواية الأمير لواسيني الأعرج: دراسة سيميائية. [رسالة دكتوراه غير منشورة]، قسم اللغة العربية، كلية الآداب واللغات، جامعة سطيف2، الجزائر، 2013.

جريماس، أﻟﺠﻴﺮﺩﺍﺱ وفونتنيى، جاك. سيميائيات الأهواء: من حالات الأشياء إلى حالات النفس. ترجمة: سعيد بنكراد. ط1، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2010.

كروكشانك، جون. ألبير كامي وأدب التمرد. ترجمة: جلال العشري. دار الوطن العربي، بيروت، 1959.

حمداوي، جميل. الاتجاهات السيميوطيقية، التيارات والمدارس السيميوطيقية في الثقافة الغربية. ط1، [د.ن.]، 2015.

–––. سميوطيقا الأهواء في الرواية السعودية، (رواية الإرهابي 20) لعبد الله ثابت أنموذجًا. ط1، [د.ن.]، 2016.

الداهي، محمد. «سيميائية الأهواء». عالم الفكر، مج35، ع3، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2007.

–––. سيميائية السرد: بحث في الوجود السيميائي المتجانس. ط1، رؤية للطبع والتوزيع، القاهرة، 2009.

الدليمي، جاسم محمد صالح. الحرية في الشعر العربي قبل الإسلام. ط1، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2001.

حرفوش، عبد القادر فياض. ديوان ربيعة بن مقروم الضبي. ط1، دار صادر، بيروت، 1999.

يعقوب، إميل بديع. ديوان الشنفرى. ط2، دار الكتاب العربي، بيروت، 1996.

السامرائي، إبراهيم ومطلوب أحمد. ديوان قيس بن الخطيم. ط1، مطبعة العاني، بغداد، 1962.

عباس، إحسان. ديوان لبيد بن ربيعة. سلسلة التراث العربي، وزارة الإرشاد والأنباء، الكويت، 1962.

الزاهي، فريد. النص والجسد والتأويل، المغرب. دار إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2003.

الزمر، أمل قاسم. سيميائية الجسد في الشاعر الجاهلي. ط1، مؤسسة أروقة للترجمة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2021.

الجادر، محمود عبد الله. شعر أوس بن حجر ورواته الجاهليين: دراسة تحليلية. جامعة بغداد، بغداد، 1979.

المعيني، عبد الحميد محمود. شعر بني تميم في العصر الجاهلي. الإصدار السابع، نادي القصيم الأدبي، بريدة، السعودية، 1982.

صليبا، جميل. المعجم الفلسفي. ط1، دار الكتب اللبناني، بيروت، 1971.

العكيدي، سالم محمد ذنون. جماليات الرفض في الشعر العربي: مقاربة تأويلية في شعر أبي تمام. ط1، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمّان، 2015.

قطوس، بسام. استراتيجيات القراءة: التأصيل والإجراء النقدي. ط1، مؤسسة حماة ودار الكندي، إربد، 1998.

القيسي، نوري حمودي. دراسات في الشعر الجاهلي. جامعة بغداد، 1972.

الضبي، المفضل بن محمد. المفضليات. تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون. ط6، مطبعة المعارف، القاهرة، 1942.

المرزباني، أبو عبيد الله بن عمران. معجم الشعراء. تحقيق: فاروق اسليم. ط1، دار صادر، بيروت، 2005.

ثانيًا:

References:

Al-ʻAkīdī, Sālim Muḥammad Dhannūn. Jamālīyāt al-rafḍ fī al-shiʻr al-ʻArabī: muqārabah taʼwīlīyah fī shiʻr Abī Tammām (in Arabic). 1st ed., Dār Majdalāwī lil-Nashr wa-al-Tawzīʻ, Amman, 2015.

Al-Dāhī, Muḥammad. "Sīmiyāʼīyah al-ahwāʼ" (in Arabic). ʻĀlam al-Fikr, Iṣdārāt al-Majlis al-Waṭanī lil-Thaqāfah wa-al-Funūn wa-al-Ādāb – Kuwait, vol. 35, no. 3, 2007.

–––. Sīmiyāʼīyah al-sard: Baḥth fī al-wujūd al-sīmiyāʼī al-mutajanis (in Arabic). 1st ed., Cairo: Ruʼyah lil-Ṭabʻ wa-al-Tawzīʻ, 2009.

Al-Dulaymī, Jāsim Muḥammad Ṣāliḥ. Al-ḥurriyya fī al-shiʻr al-ʻArabī qabla al-Islām (in Arabic). 1st ed., Markaz ʻAbbādī lil-Dirāsāt wa-al-Nashr, Ṣanaa, 2001.

Al-Marzubānī, Abū ʻUbayd Allāh, ibn ʻUmrān ibn Mūsá. Muʻjam al-shuʻarāʼ (in Arabic). ed. Fārūq Aslim. 1st ed., Dār Ṣādir, Beirut, 2005.

Al-Mufaḍḍal al-Ḍabbī. Al-Mufaḍḍalīyāt (in Arabic). eds. Aḥmad Muḥammad Shākir and ʻAbd al-Salām Hārūn. 6th ed., Dār al-Maʻārif, Cairo.

Al-Qaysī, Nūrī Ḥammūdī. Dirāsāt fī al-shiʻr al-Jāhilī (in Arabic). Jāmiʻat Baghdad, 1972.

Al-Zāhī, Farīd. Al-naṣṣ wa-al-jasad wa-al-taʼwīl (in Arabic). Dār Ifrīqiyā al-Sharq, al-Maghrib, 2003.

Al-Zomor, Amal Qāsem. Sīmiyāʼīyah al-jasad fī al-shāʻir al-Jāhilī (in Arabic). 1st ed., Muʼassasat Arwiqah lil-Tarjamah wa-al-Nashr wa-al-Tawzīʻ, Cairo, 2021.

Cruikshank, John. Albert Camus and the Literature of Rebellion (in Arabic). trans. Jalal al-Ashri. Al-Watan Edition.

Dīwān al-Shanfará (in Arabic), ed. Imīl Badīʻ Yaʻqūb. 2nd ed., Dār al-Kitāb al-ʻArabī, 1996.

Dīwān Labīd ibn Rabīʻah (in Arabic), ed. Iḥsān ʻAbbās. Silsilat al-Turāth al-ʻArabī, Wizārat al-Irshād wa-al-Anbāʼ, al-Kuwait.

Dīwān Qays ibn al-Khaṭīm (in Arabic), eds. Ibrāhīm al-Sāmarrāʼī and Aḥmad Maṭlūb. 1st ed., Maṭbaʻat al-ʻĀnī, Baghdād, 1962.

Dīwān Rabīʻah ibn Maqrūm al-Ḍabbī (in Arabic), ed. ʻAbd al-Qādir Fayyāḍ Ḥarfūsh. 1st ed., Dār Ṣādir, Bayrūt, 1999.

Greimas, A.J. Du sens: Essais sémiotiques. Paris: Seuil, 1983.

Greimas, Fontenay. The Semiotics of Passions: From States of Things to States of the Soul (in Arabic), trans. Saeed Benkarad. 1st ed., Libya: New United Book House, 2010.

Ḥamdāwī, Jamīl. Al-Ittijāhāt al-simyūṭīqiyya: Al-Tayyārāt wa-al-madāris al-simyūṭīqiyya fī al-Thaqāfah al-Gharbīyah (in Arabic). 1st ed., 2015.

Ḥamdāwī, Jamīl. Sīmiyūṭīqā al-ahwāʼ fī al-riwāyah al-Saʻūdīyah: (Riwāyat al-irhābī 20) li-ʻAbd Allāh Thābit anmūdhajan (in Arabic). 1st ed., 2016.

Ibn Manẓūr. Lisān al-ʻArab (in Arabic). Dār Ṣādir, (n.d.).

Ibn Sitti, Saʻdīyah. Fannīyah al-tashkīl al-faḍāʼī wa-sayrūrat al-ḥikāyah fī riwāyat al-Amīr li-Wasīnī al-Aʻraj: Dirasah Sīmiyāʼīyah (in Arabic). PhD diss., Jāmiʻat Sṭīf 2, Algeria, 2013.

Qaṭṭūs, Bassām. Istirātījīyāt al-qirāʼah: Al-Taʼṣīl wa-al-ijrāʼ al-naqdī (in Arabic). 1st ed., Muʼassasat Ḥamāh wa-Dār al-Kindī, Irbid, 1998.

Ṣalībā, Jamīl. Al-Muʻjam al-falsafī (in Arabic). 1st ed., Dār al-Kutub al-Lubnānī, Bayrūt, vol. 1, 1971.

Shiʻr Aws ibn Ḥajar wa-rawātuhu al-Jāhilīyīn: Dirasah taḥlīlīyah (in Arabic), Maḥmūd ʻAbd Allāh al-Jādir. Jāmiʻat Baghdād, 1979.

Shiʻr Banī Tamīm fī al-ʻaṣr al-Jāhilī (in Arabic), ed. ʻAbd al-Ḥamīd Maḥmūd al-Muʻīnī. Manshūrāt Nādī al-Qaṣīm al-Adabī, no. 7, 1982.