Publizieren – Why Open Access? أنســـــــاق

في الآداب والعلوم الإنسانية

 

الاستلام: 09/05/2024           التحكيم: 12/06/2024                                      القبول: 26/08/2024

 

بناء الهُويَّة الجمعية عند شعراء الغَزَل العُذْري: قراءةٌ نفسيةٌ في الذكورة والعشق*

ليث ماهر النيص

طالب دكتوراة، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة النجاح الوطنية-فلسطين

laithnees@gmail.com

عبد الخالق عيسى

أستاذ مشارك، قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة النجاح الوطنيةفلسطين

abed.esa@najah

ملخص

يحاول البحث النظر في ظاهرة الغزل العذري، انطلاقًا من اتسامها بمجموعةٍ من السمات الخاصة؛ أفضت بها إلى أن تشكل بناءً متينًا لهُويّةٍ جمعيةٍ يمتد وعاؤها ليضم شعراء هذه الظاهرة؛ إذ تشكلت بينهم شريحةٌ جماهيريةٌ انطبعت بطابعٍ مختلفٍ عن الطابع الذي يتسم به كل عنصر من العناصر التي شكلت هذا المركب الجديد، ويسعى إلى رصد بناء هذه الهُويَّة، في ضوء ركنين أساسيين من أركانها، هما الذكورة والعشق؛ إذ المحور العاطفي يعد الأكثر مركزيةً في السيرة العذرية، وهذا ما جعل الحاجة ماسةً إلى تتبع ذكورة أصحابها؛ لما لها من اتصالٍ وثيقٍ بما يقابلها تناظرًا وهي الأنوثة، والحب الذي يعد الرابط بينهما.

استعان البحث بنظرية التحليل النفسي وما أفرزته من أدواتٍ معينةٍ على ذلك؛ بقصد قراءة نماذج مختارة من الشعر العذري، ورصد الذكورة المتأرجحة بين الحضور والغياب فيه، والحب الذي انسل من ثوب المثالية ونزع نزوعًا لا إراديًا إلى الاضطراب النفسي؛ لما شهده العذريون من تطرفٍ عاطفي مكثف، واستئصالٍ للفردانية.

وقد خلص البحث إلى أن ذكورة العذريين حاضرةٌ؛ انطلاقًا من كونها فطرةً جبلوا عليها، وهو ما كان له أثرٌ تجلى في بعض مناحي حياتهم؛ لكنها كانت غائبةً في أحيانٍ كثيرة؛ لما شهدته سيرتهم من أسبابٍ ودواعٍ أدت إلى تعرض ذكورتهم إلى بعض الاختلال في الموازين، وأن العشق العذري يمكن تجريده من ثوب المثالية الذي تأطر به على مدار قرون، إذا جرى رصد ما في شعر أصحابه من نوازع نفسية تحيل إلى اضطرابٍ في بعض العمليات الانفعالية للجهاز النفسي؛ ما من شأنه أن يجعل هذا العشق ذا طبيعةٍ شعوريةٍ غير مستقرة في اتزانها العام.

الكلمات المفتاحية: الشعراء العذريون، الذكورة، الهُويّة الجمعية، العشق العذري

للاقتباس: النيص، ليث ماهر وعيسى، عبد الخالق. »بناء الهوية الجمعية عند شعراء الغزل العذري: قراءةٌ نفسيةٌ في الذكورة والعشق«. مجلة أنساق، المجلد الثامن، العدد الثاني، 2024. https://doi.org/10.29117/Ansaq.2024.0209

© 2024، النيص وعيسى، الجهة المرخص لها: كلية الآداب والعلوم، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


 

Publizieren – Why Open Access?Ansaq
in Arts and Humanities

 

 

Received: 09/05/2024                  Peer-reviewed: 12/06/2024         Accepted: 26/08/2024

 

Constructing Collective Identity among Platonic “Ghazal” Poets: A Psychological Analysis of Masculinity and Love*

Laith Maher Al-Nais

Postgraduate Student (PhD), Arabic Language and Literature, An-Najah National UniversityPalestine

laithnees@gmail.com

Abdul Khaliq Issa

Associate Professor, Arabic Language and Literature, An-Najah National University–Palestine

abed.esa@najah

Abstract

This research examines the phenomenon of platonic (ʿUdhrī) love poetry (Ghazal), focusing on its distinctive characteristics that have led to the formation of a robust collective identity encompassing all poets of this genre. These poets formed a unique community, marked by traits different from those of the individual elements that composed this new complex.

The study aims to observe the construction of this identity through two fundamental pillars: masculinity and love. The emotional axis is considered the most central in the Udhri narrative, necessitating an examination of the masculinity of its authors due to its close connection with its counterpart, femininity, with love serving as the link between them.

The research employs psychoanalytic theory and its tools to analyze selected examples of ʿUdhrī poetry, observing the fluctuating presence of masculinity and the love that has shed its idealistic guise, involuntarily tending towards psychological disturbance due to the intense emotional extremism and eradication of individuality experienced by the platonic love poets.

The study concludes that the masculinity of the platonic love poets is present as an innate characteristic, evident in some aspects of their lives. However, it is often absent due to factors in their biographies that led to an imbalance in their masculinity. Furthermore, ʿUdhrī love can be stripped of the idealistic framework it has been associated with for centuries when one observes the psychological tendencies in the poets' work that indicate disturbances in some emotional processes of the psyche. This suggests that this love is of an unstable emotional nature in its general balance.

Keywords: Platonic poets; Masculinity; Collective identity; ʿUdhrī love

 

Cite this article as: Al-Nais, L. M. & Issa, A. "Constructing Collective Identity among Poets of “ʿUdhrī” Love Poetry: A Psychological Analysis of Masculinity and Love." Ansaq Journal, vol. 8, no. 2, 2024, https://doi.org/10.29117/Ansaq.2024.0209

© 2024, Al-Nais, & Issa, licensee, College of Arts and Sciences & QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0


مقدمة

مشكلة البحث:

يعالج البحث ظاهرة الغزل العذري، انطلاقًا من الخصوصية الفريدة التي تحلت بها، وأعطتها وعاءً نمطيًا ضم شعراء هذه الظاهرة في قالبه، بناءً على مجموعةٍ من النوازع النفسية التي اشترك فيها أولئك الشعراء جميعًا، وأدت إلى خلق شريحة جماهيرية مكتملة العناصر بينهم؛ ما كان من شأنه أن يرسم معالم هُويَّة جمعيةٍ لأصحاب هذه الظاهرة، تأسس بناؤها على عددٍ من الأركان، كان أهمها الذكورة والعشق، وهما الركنان اللذان سعى البحث إلى رصدهما والكشف عن تداعياتهما.

أهمية البحث:

تكمن أهمية البحث في أنه يستعين بنظرية التحليل النفسي وإفرازاتها؛ بغية رصد بناء الهُويَّة الجمعية للشعراء العذريين، ودراسة ذكورتهم التي أحيطت بهالةٍ من التأرجح جعلتها ذات إشكالية بارزة، وحبهم الذي عرفت موازينه اختلالًا لافتًا، وهذا كله استدعى هذه القراءة الفاحصة.

فرضية البحث:

يفترض البحث عددًا من الفرضيات، أهمها:

-      الشريحة الجماهيرية مركبٌ من مجموعةٍ من العناصر، له سماتٌ خاصةٌ مميزةٌ من سمات العناصر التي شكلت هذا المركب على حدة.

-      يعد فقدان اليقين من أهم الأسباب الداعية إلى تقويض بناء أي هُويَّة وإصابتها بأزمةٍ حقيقية.

-      للغزل العذري طبيعةٌ خاصةٌ تجعله مصقولًا بقالبٍ نمطي من النوازع النفسية.

-      ليست أركان بناء الهُويَّة الجمعية للشعراء العذريين بمأمنٍ من الاختلال والاضطراب، وهي معرضةٌ لأي مهددٍ يقلق اتزانها.

هدف البحث:

يسعى البحث إلى رصد أهم النوازع النفسية التي قد تسهم في بعثرة العمليات الانفعالية للجهاز النفسي للشعراء العذريين، عبر تتبع ذكورتهم وحبهم بوصفهما اثنين من أهم مرتكزات هُوّيّتهم الجمعية، في ضوء ما تقدمه النظرية النفسية من أدواتٍ تحليلية تعين على ذلك.

منهجية البحث:

يعتمد البحث المنهجين الوصفي والتحليلي في النظر إلى بناء الهُويَّة الجمعية للشعراء العذريين، ويستعين بمنجزات نظرية التحليل النفسي في رصد بعض التداعيات الشائكة بنماذج مختارة من أشعارهم، ويحاول أن يقدم قراءةً نفسيةً فيها، وهي القراءة التي تقوم «بقراءة النص الأدبي في ضوء المقاربة النفسية، برصد اللاشعور النصي واللاوعي الأدبي داخل النصوص الأدبية إن فهمًا وإن تفسيرًا» (حمداوي 10).

هيكلية البحث:

يتكئ البحث على ركيزتين؛ الأولى نظرية تضم فرشًا تمهيديًا لبسط بعض التأسيسات التي يقوم عليها البحث، والثانية إجرائية سيكون فيها رصدٌ لنماذج مختارة من الشعر العذري؛ بغية تحليلها نفسيًا في ضوء مبحثين؛ أحدهما يدرس الذكورة بين الحضور والغياب، والآخر يدرس العشق بين المثالية والاضطراب النفسي.

1.     فرش نظري بين الحب والعشق

ينبغي التفريق بين الحب من حيث كونه حالةً شعوريةً عامةً، غير مقتصرة على العلاقة ثنائية القطبية بين الرجل والمرأة، والعشق الذي قد يتصف بصفاتٍ تجعله ينحو نحوًا متطرفًا في ذلك الشعور، إلى المدى الذي يبدو فيه بحاجةٍ إلى تأطير بعض تفاصيله بأطرٍ دقيقة؛ لفهم تفاصيله وتداعياته، التي أوصلته إلى أن يكون حالةً شعوريةً متطرفةً من الحب، وتحسن الإشارة إلى أن الحب تتسم عاطفته بالامتداد الزماني والاشتداد؛ أي إنها تحافظ على دوامها باستمرارٍ مشفوعٍ بحدةٍ وعنفٍ شعوري بارز، قد تتفاوت درجة هذه الحدة قياسًا إلى مؤثرات وعوامل محيطة (العظم 25)، بخلاف العشق الذي يبرز بوصفه تأججًا لطاقةٍ ناريةٍ قائمةٍ على افتقار كل طرف للآخر، وتشوقه الشديد إليه، إلى المدى الذي قد يصل بالعاشق العذري، الذي يعد نموذجًا متطرفًا من العشق، إلى أن يمنع نفسه بوعيٍ منه أو بغير وعيٍ، من امتلاك حبيبته، كي تبقى شعلة طاقته النارية متأججةً، وحتى لا يبرد شغفه بها، وهذا ما يؤدي به إلى شيءٍ يشبه الجنون مع توالي الزمان وتضخم هذه الطاقة (العظم 71)، وهذا أمرٌ أقره القدماء في كتب التراث، وتنبهوا له؛ إذ يقول البكري: «وأكثر الناس يرى أن الظفر بالمعشوقة يسقط شطر عشقيهما، وأن النكاح يسقط الحب» (البكري 696)، في إشارةٍ صريحةٍ إلى أن المنع أدعى إلى زيادة حرقة الحب وأقدر على إذكاء لهيبه، وهو ما يجعل الحالة التي شهدها الشعراء العذريون، عشقًا من نوعٍ مختلف، عن أي حالةٍ شعوريةٍ عامة.

ولو نظر إلى ما سلف من المنظار النفسي، لوجد أن الجهاز النفسي الذي يسعى إلى إشباع جزءٍ من مكبوته الغرائزي، بما يتاح إليه من الوسائل الإفراغية، تزداد حاجته إلى اللذة، ورضوخه إليها، كلما صعب عليه إشباعها، وهذا ما يشير إليه فرويد بقوله: «إن اللذة تزداد بنقصانها» (فرويد، 24)؛ أي إن الحرمان الذي يمنع المرء من إشباع لذاته، يجعله أكثر تشوقًا إليها، وأكثر رغبةً في قضائها وإرضائها؛ لأنها ليست متاحةً في كل وقت، فلو كانت مبذولةً، لما أعار إشباعها أدنى اهتمام، وهذا ما ينسجم مع العشق العذري، الذي يقوم على طاقة نارية يؤججها البعد بين المحبوبين، اللذين يسعيان إلى إبقاء ضرامها ملتهبًا، وعدم إطفائه بالوصال الدائم والأبدي؛ كي لا ينطفئ وهج هذه الطاقة من جهة، وكي لا يفقد الشعور باللذة قيمته إذا صارت مبذولةً بيسرٍ وسهولة من جهةٍ ثانية، علاوةً على كون الشاعر العذري يفوق العاشق العذري، بمقدرته اللغوية التي جعلت من بث مشاعره ولواعج نفسه، شعرًا يقوم على توظيف اللغة بمراودةٍ فنيةٍ عالية؛ لتوليد دلالاتٍ ومعانٍ وفق ما يراه متماهيًا مع رؤياه، وهذا عائدٌ إلى ما يتسم به الخطاب العذري من حيويةٍ وأصالةٍ وقوةٍ جماليةٍ (سلامة 21)، جعلت منه وسيلةً يلجأ إليها الشاعر لإثارة التعاطف العام، وكسب تضامن الناس معه.

2.     ظاهرة الغزل العذري هُويَّة

إن الأسس النفسية التي تسهم في بناء الهُويَّة الفردية باعثها الأول مدى التماهي بين شعور المرء ولاشعوره، من حيث كونهما يشهدان مجموعةً من العمليات ويضمان رصيدًا من المحتويات، يجري بينهما تفاعلٌ حتمي جراء التأثر بالبيئة الخارجية ومحيطها، وليس بعيدًا عن هذا تكوين الهُويَّة الجمعية لفئةٍ محددةٍ من الناس؛ إذ بناء هُوّيّتهم يتأسس على جملةٍ من السمات التي يشترك فيها عددٌ من أفراد هذه الفئة، وهو ما يصلح أن يشكل إطارًا لهم يطبعهم بطابعه، ويميزهم من أي مجموعةٍ سواهم (بورزيجة 337)، فيشعرون بالانتماء إلى هذه المجموعة، وتفسير هذا قد يكون أن وراء كل نفسٍ فرديةٍ نفسًا جماعيةً، لها القدرة نفسها على التأثر والتأثير، وهذا ما يعرف باللاوعي الجمعي (يونج 43).

أما الغزل العذري بوصفه ظاهرةً فنيةً شاعت في حدودٍ مكانيةٍ وزمانيةٍ معينةٍ فيتلخص فحوى مفاده المستوحى من الصورة النمطية التي تأطر بها، بذلك الشعر المتسم بصدق العاطفة وحرارة الإحساس وطهر النية، يلهج به صاحبه بعد أن حرم من نيل وصال محبوبته التي حالت دون ظفره بها قيودٌ قبليةٌ وأعرافٌ اجتماعيةٌ؛ لتشبيبه بها في شعره (ضيف 359)، فكان هذا سببًا في منعها منه وتزويجها من أي رجلٍ تقدم لها بعد ذلك، ليبقى ذلك الشاعر غارقًا في هيامه باكيًا على فراق محبوبته مفنيًا في سبيل ذاك عمره (بكار 22)، الذي قضاه بكاءً وتشتتًا ولوعةً من ألم الجوى، وحسرةً على قضائه.

إن هذا الطابع العام لظاهرة الغزل العذري جعل لها قيمةً تتفرد بها عن أي ظاهرةٍ غيرها؛ لأنها حملت ملامح خاصةً بها تختلف عن أي توجهٍ شعري سابقٍ من جهة، ولأنها أسهمت في نشأتها وترسيخها ظروفٌ سياسيةٌ واجتماعيةٌ لم تكن موجودةً في بيئةٍ أخرى غير البيئة التي ترعرعت في أكنافها هذه الظاهرة من جهةٍ ثانية (عيد 29)، من غير أن تغفل الإشارة إلى ما في الشعر الجاهلي والإسلامي من إرهاصات أولية وممهدة، وهذا ما جعل لظاهرة الغزل العذري هُويَّة منفردةً، ذات طابع خاص، يضم شعراء هذه الظاهرة جميعًا في وعائه ويصبغهم بطلائه، وهو ما يجعل الحاجة ماسةً إلى معرفة بناء هذه الهُويَّة وما قد يصيبها من أزمات تعوق بناءها ونموها.

في ضوء ما يمكن الالتفات إليه، واستنادًا إلى ما صاحب هذه الظاهرة من أحوالٍ اقتصاديةٍ صعبة، فرضت على بنيها الفقر وشظف العيش، وظروفٍ سياسيةٍ غير مسبوقةٍ، من فرض حالةٍ من العزلة السياسية على أفراد هذه البيئة من قبل السلطة الأموية؛ لإبقائهم بعيدين عن واقع الحكم في الشام، إلى جانب سياستهم في البذخ على أهل حاضرة الحجاز وإغراقهم بالمتع المادية للغاية نفسها (الخفاجي 93)، يستشف أن هذه الظاهرة؛ ظاهرة الغزل العذري اتشحت بثوبٍ خاص بها، لم يتأت لأي حالةٍ فنيةٍ شعريةٍ مثله من قبل ولا من بعد، الأمر الذي من شأنه أن يخلق هُويَّة خاصةً لهذا النمط الشعري الذي تحقق له ما لم يتحقق لغيره، فكان أمر صبغه بهُويَّة خاصةٍ قياسًا إلى هذه المعطيات طبيعيا.

وهذه الهُويَّة الخاصة يزداد تكوين خصوصيتها من السمات التي جرت الإشارة إليها بوصفها منفردةً وخاصةً لهذا الفن الشعري بشكلٍ غير مسبوقٍ في شعر العرب من حيث صورته الإجمالية، وليس بعض التفاصيل التي قد يشترك بها مع غيره، إضافةً إلى حصر مكانه وزمانه في إطارين ضيقين، الأمر الذي من شأنه أن يقوي هذه الخصوصية والفرادة، وهذا الذي أفضى بحسان أبو رحاب إلى الاعتقاد بكون ظاهرة الغزل العذري ظاهرةً أمويةً صرفة، فالجاهليون الذين عرفوا في غزلهم شيئًا يشترك مع ما عرفه هؤلاء العذريون، كان غزلهم ذا طبيعة تجعله مميزًا من الغزل العذري الذي شاع في العصر الأموي، وأما شعراء صدر الإسلام فبعضهم قد شغل عن الحب والغزل وأحاديث النساء بالفتوحات وسائر شؤون الدين الجديد (أبو رحاب 172)، وبعضهم كان له غزلٌ يمهد قوامه الفني إلى الغزل العذري الأموي؛ لكن شكله عرف وضوحًا أكبر وتجليا أبرز عند الأمويين (حسين 196)، وهو ما يعطي غزلهم العذري نزعةً مميزةً له من التفرد، أسهمت مليا في رسم ملامح خصوصيةٍ لهذه الظاهرة، فأكسبها هُويَّة مستقلةً في بنائها، رغم ما سبق ظهورها من إرهاصات ممهدة لها في الشعر العربي.

3.     بناء الهُويَّة العذرية وأزمتها

إن الطابع الفني الذي تفرد به الغزل العذري ترتب عنه نشوء هُوّيّته الخاصة، وقد أسهم بجلاءٍ في خلق هُويَّة مشتركةٍ بين شعراء هذا المذهب جميعًا، وفق تصوراتٍ نفسيةٍ محددة؛ ذلك لأن التشابه واقعٌ بين الشعراء أجمعهم، باختلاف تفاصيل يسيرةٍ لا تؤثر في الحالة الإجمالية لطبيعة هذه الهُويَّة، والمؤسس الأول لهذه الهُويَّة التمازج المتكون في اللاوعي الجمعي الذي يشترك فيه شعراء الغزل العذري؛ نظرًا لطبيعة المحتويات المخزونة في لاوعي كل فردٍ منهم؛ لانعدام الفروق الشعورية التي مروا بها في أثناء تشكيله، الأمر الذي قد يخلق من هذه المخزونات والمكبوتات لاوعيًا جماعيا، يشكل هُويَّة واحدةً مشتركةً بينهم، قوامها الحياة العاطفية لكل فردٍ فيهم، لا سيما أن الكبت الذي عرفه هؤلاء الشعراء كان محورًا جوهريا في خلق هذه الهُويَّة، وهو ما أشار إليه يوسف اليوسف الذي عد العذرية نتاجًا ضروريا لتعاظم الكبت في التاريخ، ونظام التحريم في المرحلة الأموية (اليوسف 101).

أما الفروق الفردية الشخصية التي ينبغي توافرها بين كل فردٍ وآخر انسجامًا مع طبيعة البشر، فإنها منعدمة التأثير في هذه الحالة؛ ذلك لأن الجماعة إذا استطاعت أن تشكل شريحةً جماهيريةً مشتركةً تتفق فيما بينها بسماتٍ معينة، تذوب فيها الفوارق الفردية، ويُبنى نتيجةً لذلك خصائص جديدةٌ لهذا المركب الجماهيري، مختلفةٌ تمامًا عن طبيعة الخصائص التي يتسم بها كل فردٍ مكونٍ لهذا المركب، الذي أطلق عليه غوستاف لو بون Gustave Le Bon الجمهور المنظم (لو بون 53)، وهذا أمرٌ أيده سيجموند فرويد Sigmund Freud بإشارته إلى أن الفرد على وفق نظرية لو بون هذه يكتسب قوةً إضافيةً يقهر فيها كل ما لم يستطع البوح به من غرائز ومكبوتات (فرويد 30).

فلو نُظر إلى العذرية بوصفها هُويَّة مشتركةً من هذا المنظار، لوُجد أن قبيلة بني عذرة اشتهر رجالها بكثرة العشق، ونساؤها بكثرة الجمال، كأن هذه القبيلة التي كانت قاعدة نشوء الغزل العذري في البادية العربية، طبعت بطابعٍ نمطها بإطارٍ محدد، على الرغم من أن الحب العذري ليس محصورًا في بنيها قصرًا، ولم يكن ليأتي هذا الانطباع لولا تفشي مثل هذه السيرة في أبناء هذه القبيلة حقيقةً؛ أي ما يشكل فيها قاعدةً جماهيريةً لنشوء الحب العذري، الذي يعرف الإفراط إلى حد الموت.

أما ما يُستشهَد به على هذا، فما أورده ابن قتيبة بقوله: «والجمال في عذرة والعشق كثيرٌ. قيل لأعرابي من العذريين: ما بال قلوبكم كأنها قلوب طيرٍ تنماث كما ينماث الملح في الماء؟ أما تجلدون؟ قال: إنا لننظر إلى محاجر أعينٍ لا تنظرون إليها، وقيل لآخر: ممن أنت؟ فقال: من قومٍ إذا أحبوا ماتوا، فقالت جاريةٌ سمعته: عذري ورب الكعبة» (ابن قتيبة 1/425).

ولعل ما يلفت النظر من تشابهٍ بارزٍ في تجارب هؤلاء الشعراء، وأخبارهم، وأشعارهم، فيه إحالةٌ إلى هذا التصور النفسي حول الهُويَّة العذرية، فإن الناظر إلى أخبار الشعراء العذريين وأشعارهم، يجد تداخلًا كبيرًا بينها، وليس من المستغرب أبدًا أن يُرى شيءٌ من الشعر يُنسب إلى أحدهم، ثم يُرى منسوبًا إلى آخر غيره (العقاد 8)، ففي ذلك كله حالةٌ من التماهي التي جرت بين تجاربهم وأحداث سيرتهم، الأمر الذي كان له انعكاسٌ بشكلٍ غير واعٍ على الرواة وناقلي الأخبار وكاتبي التاريخ؛ إذ لم يتولد في أذهانهم باعثٌ يحذرهم أو ينبههم ساعة إقدامهم على نسبة شيءٍ مشتركٍ من الشعر إلى غير شاعرٍ منهم، فالهُويَّة العذرية المشتركة قللت من حجم الفوارق الفردية بين شاعرٍ وآخر، إلى الحد الذي يجعل الرواة يقعون في هذا الشرك؛ إذ لا يوجد طابعٌ فردي يميز شاعرًا من غيره فيتنبهون على أن هذا الشعر ينبغي ألا ينسب إلى أحدٍ منهم دون سواه، فالهُويَّة العذرية ألغت الفروق الفردية بينهم وأذابتها إلى المدى الذي جعلهم كأنهم شخصٌ واحدٌ في لاوعي الرواة.

لكن هذه الهُويَّة التي رسخت بناءها على أسسٍ نفسيةٍ مشتركةٍ، مستندةإلى الركائز التي دعمت وجودها، وحافظت على متانتها، لم يكن بناؤها بمأمنٍ كاملٍ من الصدمات التي قد تسبب وطأتها الشديدة أزمةً لها، وقد تحسن الإشارة إلى كون أزمة الهُويَّة تعني فقدان يقين المرء، الذي قد يسبب له اضطرابًا في إحساسه بها، لا سيما إذا أيقن أن الواقع الذي فقد يقينه به أمسى واقعًا مغايرًا، عليه أن يوقن به من جديد (الجزار 25)، وخير ما يمثل هذا عند الشعراء العذريين قول قيس بن الملوح (قيس بن الملوح 209):

وَبي مِن هَوى لَيلى الذي لَو أَبُثهُ

 

جَماعَةَ أَعدائي بَكَت لي عُيونُها

وَقَد أَيْقَنَتْ نَفْسي بِأَنْ حيلَ بَيْنَها

 

وَبَيْنَكِ لَو يَأتي بِبَأْسٍ يَقينُها

أَرى النفْسَ عَن لَيلى أَبَت أَن تُطيعَني

 

فَقَد جُن مِن وَجْدي بِلَيلى جُنونُها

علاوةً على ذلك، يجدر الوقوف عند تصنيف مراتب أزمة الهُويَّة حسب ما رآه جيمس مارسيا James Marcia التي كانت إحداها تعليق الهُويَّة، وأصحاب الهُويَّة المعلقة هم الذين أرادوا واقعًا ما؛ لكنهم عجزوا عن تحقيق ما تصبو إليه نفوسهم (الأشول 567)، وهذا حال واقع العذريين، ولعل أكثر ما قد أصاب كبد هذا الواقع ما قاله كثير عزة:

وَأَمْنَحُهَا أقْصَى هَوَايَ وَإِنني

 

على ثِقَةٍ من أَن حَظي صُدودُها

فَكَيْفَ يَوَد القَلْبُ مَنْ لا يَوَدهُ

 

بلى قد تُريد النفْسُ مَنْ لا يُريدُها



ففي هذا القول فقدان يقينٍ كاملٌ في البيت الأول، وفي البيت الثاني تصريحٌ مباشرٌ بالتعارض بين الرغبة والقدرة، فهو يحبها، وهي لا تحبه، وهذا ما لا سلطان له عليه، رغم أن العاشق العذري، لا سيما إذا كان شاعرًا، كما سلف القول، قد يتسم بالقدرة الفائقة على صناعة لغةٍ مراوضةٍ تمكنه من إنتاج دلالةٍ مراوغة، والظهور بصورة المنفعل، على الرغم من كونه فاعلًا في الحقيقة، وكلما زادت المسافة التي تفصله عن محبوبته، زاد تأجج طاقته النارية المنبعثة من عشقه، والتي ستخوله أن يستمر في صنع مساحةٍ متجددةٍ لإبداعه في التعبير عما يكابده في عشقه، وما ورد عند النيسابوري من إصرار كثيرٍ من العشاق العذريين على جعل عشقهم مقترنًا بالجنون؛ ليستمر هذا التأجج دليلٌ على ذلك (النيسابوري 110).

يُستخلص مما جرى إيضاحه أن ظاهرة الغزل العذري تعدت كونها ظاهرةً فنيةً فحسب، بل هي أفلحت في أن تشكل لنفسها كيانًا مستقلا من الخصوصية خولها أن تبني لنفسها هُويَّة خاصةً، ذلك لأنها اتشحت بثوبٍ لم يتأت لأي نمطٍ شعري الاتشاح به قبلًا ولا بعدًا؛ إذ هي كانت مرتبطةً بمجموعةٍ من الأسباب التي هيأت وجودها في حدودٍ مكانيةٍ وزمانيةٍ ضيقة، ومن الطبيعي أن ينتهي وجود هذه الظاهرة بانتهاء العوامل التي نفخت روحها.

لقد تركت تلك الهُويَّة العذرية في أفرادها أثرًا أدى إلى بناء هُويَّة مشتركةٍ فيما بينهم جميعًا، مستندة إلى ما بينهم من تشابهٍ في السيرة والتجارب العاطفية، والمصير الذي انتهت إليه كل سيرةٍ من سيرهم، الأمر الذي أفضى إلى تشكيل لاوعيٍ جمعي بينهم يحوي ما يشتركون به من مخزوناتٍ شعوريةٍ ومكبوتاتٍ غرائزيةٍ، تضافرت فيما بينها لتبني شريحةً جماهيريةً تذيب الفروق الفردية بينهم، بسلوكٍ يظهر كأنه ناجمٌ عن شخصٍ واحدٍ وليس عن مجموعةٍ من الأفراد، إلى المدى الذي يكون فيه تعرض هُويَّة أحدهم لأزمةٍ ما، يعني أن هذه الأزمة قد أصابت الهُويَّة العذرية كلها؛ لانعدام الفروق بين كل بناءٍ وآخر بينهم.

بعد ما أُشير إليه من مكوناتٍ وعناصر تضافرت فيما بينها لتشكيل ملامح هُويَّة جمعيةٍ مشتركةٍ بين شعراء الغزل العذري، وذلك إثر تشكل شريحةٍ جماهيريةٍ فيما بينهم؛ لتشابه طبيعة التجربة التي مروا بها جميعًا، واشتراكهم في الحالة الشعورية والمصير الذي لاقوه، يحسن الوقوف عند كل من الذكورة - بوصفها أحد قطبي رحى العلاقة بين الرجال والنساء جعلها مكونًا أساسيا لذلك البناء - والعشق بوصفه الرابط الذي قد يتشكل لمد جسور التواصل بين ذينك القطبين، وهو ما أفضى به إلى أن يكون من مكوناته كذلك، وفي هذا البحث سيجري عرضهما، ورصد أهم تداعياتهما النفسية؛ لبيان أثر ذلك كله في بناء الهُويَّة العذرية.

4.     الذكورة في الهُويَّة العذرية بين الحضور والغياب

مما ينبغي إيضاحه، أنه لا بد من النظر إلى الذكورة من حيث كونها مفهومًا مجردًا من ثوبه العضوي؛ إذ يمكن النظر إليها من زاويةٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ، في ضوء ما ألقاه الجانب العضوي من أثرٍ في هذين الجانبين، اللذين يتمثلان أكثر ما يكون عليه التمثل، في العلاقة المتبادلة بين الجنسين، حيث تلتقي الذكورة مع ما يقابلها تناظرًا وموازنةً، وهي الأنوثة، في مساحاتٍ يتجلى فيها التفاعل والتواصل وما يدور في فلك هذه العلاقة من نوازع نفسيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ تسهم في بناء الهُويَّة الخاصة لكلا الجنسين.

إن الذكورة بوصفها عنصرًا من مركب الهُويَّة النفسية تتصل اتصالًا وثيقًا بمكونات اللاوعي الفردي، الذي أحيل إلى لاوعيٍ جمعي عند الشعراء العذريين، بعد تشكل شريحةٍ جماهيريةٍ فيما بينهم، كان أساسها اشتراكهم في الشعور والتجربة والمصير والتأثر والتأثير، إضافةً إلى خلق حالةٍ من التماهي بينهم، وهو تماهٍ جماعي ناتجٌ من تماهٍ آخر فردي؛ لأنهم جميعًا تعلقوا عاطفيًا بفتاةٍ أحبوها، والتعلق العاطفي يعد شكلًا مبدئيا من التماهي (فرويد 85)، والتماهي أقوى من الوعي والإرادة (فرويد 68)، علاوةً على كونه يقلل كثيرًا من مساحة الغرائز الجنسية (فرويد 84)، الأمر الذي من شأنه أن يخلق إشكالًا حول الذكورة؛ إذ لا يمكن تجريدها من التأثر بتلك الغرائز كليًا.

جديرٌ القول إن التماهي قد يكون شكلًا من النشاط الفعلي الذي يقلد فيه المحب محبوبه، إلى المدى الذي يجعله ينزع إليه بكل جوارحه، ويتماهى معه مذيبًا ذاته في ذاته؛ لشدة إعجابه به وحبه له (عامود 2/13)، وهذا أمرٌ أقره ابن حزمٍ قديمًا ساعة قوله إن الحب اتصالٌ وثيقٌ بين أجزاء النفوس، وائتلافٌ بين أقسامها (ابن حزمٍ 95)، والتقاء الأرواح بالأرواح، وامتزاج النفوس بالنفوس، قد يذوب الفروق بينها، فيجعل المحبين متمثلين من يحبونهم، يتقمصون شخوصهم، ويتسمون بسماتهم ويتطبعون بطباعهم، فلا يعودون بمأمنٍ من التأثر بهم، وإصابة شيءٍ من صفاتهم.

وهذا أمرٌ من شأنه أن يسهم في تهديد ذكورة العذريين؛ إذ إن تماهيهم مع محبوباتهم قد يبلغ بهم مبلغًا يجعلهم بغير مأمنٍ من أن تصاب ذكورتهم بشيءٍ من الاختلاط بالطباع الأنثوية، فهم كانوا كثيري مجالسة النساء، وأخبار قيس بن الملوح التي تؤكد ذلك كثيرةٌ؛ إذ تبدي الروايات أنهن كن يدعونه إلى جلساتهن، وكان لهن مجيبًا، وكان يسمعهن شعره، ويعقر لهن ناقته (الأصفهاني 2/336)، حتى إن صاحب الأغاني أورد هذا الخبر الذي مفاده: «أن ليلى وعدته قبل أن يختلط أن تستزيره ليلة إذا وجدت فرصةً لذلك، فمكث مدةً يراسلها في الوفاء وهي تعده وتسوفه، فأتى أهلها ذات يومٍ والحي خلوفٌ، فجلس إلى نسوةٍ من أهلها حجرةً منها بحيث تسمع كلامه، فحادثهن طويلًا ثم قال:

ألا أنشدكن أبياتًا أحدثها في هذه الأيام؟ قلْنَ: بلى، فأنشدهن:

يا لَلرجالِ لِهَم بات يعروني

 

مُسْتَطْرَفٍ وقديمٍ كاد يبليني

مَن عاذري مِن غريمٍ غيرِ ذي عُسُرٍ

 

يأبى فيُمْطِلُني دَيْني ويُلْويني

لا يبعدُ النقدَ من حقي فيُنْكِرُهُ

 

ولا يُحَدثُني أن سوف يَقْضيني

وما كَشُكْرِيَ شُكْرٌ لو يُوافِقُني

 

ولا مُنايَ سِواهُ لو يُوافيني

أَطَعْتُهُ وَعَصَيْتُ الناسَ كُلهُمُ

 

في أمرِهِ وهَواهُ وَهْوَ يَعْصيني

قال: فقلن له: ما أنصفك هذا الغريم الذي ذكرته! وجعلن يتضاحكن وهو يبكي، فاستحيت ليلى منهن ورقت له حتى بكت، وقامت فدخلت بيتها وانصرف هو» (الأصفهاني 2/346).

إن كثرة لزوم النساء وارتياد مجالسهن، قد يلقي بظلاله على من يصنعون هذا الصنيع؛ إذ هم يصيرون مهيئين لنفخ روحٍ من طباعهن فيهم، والتحلي بسماتهن، وتمثل أخلاقهن؛ ذلك لأن من سنة المحبين التشبه بمن يحبون (المغربي 17)؛ كي يكتمل تمازج الأرواح فيما بينهم، وهذا ما دعا جميل بثينة إلى القول (جميل بن معمر 29):

ألا ليتَنا نَحْيا جميعًا وإن نَمُتْ

 

يُجاوِرُ في الموتى ضريحي ضريحُها

فما أنا في طولِ الحياةِ براغبٍ

 

إذا قيلَ قد سُوي عليها صفيحُها

أظل نهاري مُستَهامًا ويلتقي

 

مع الليل روحي في المَنام وروحُها

فالتقاء الأرواح وامتزاجها قمة التماهي بين المحبين، وتمثل سيرة المحبوب والتطبع بطباعه والتحلي بخصاله والتشبه به هو السبيل إلى ذلك، وإن من كانت هذه سيرته، لا تؤمن سلامته من التأثر، والذكورة والأنوثة بحران ليس بينهما برزخٌ، فاختلاط أحدهما بالآخر أمرٌ غير مستبعدٍ ما دام العشق يقود النفوس وهي مرخيةٌ له الزمام.

علاوةً على ما سلف، لا يخفى على الناظر في الشعر العذري إيجاد فيه ضروبًا من الانعزال الكامل الذي يفضي إلى الفشل (القط 105)، وقد سبقت الإشارة إلى كونه انعزالًا مقصودًا رمي إليه من قبل السلطة الأموية؛ إمعانًا في إبعادهم عن الحكم، وقد أبدى الشعراء العذريون إزاء هذا الانعزال يأسًا عميقًا (لبيب 164)، يعززه ويدعم أركانه، ولكن هذا اليأس كان مترتبًا عن اكتئابٍ أصابهم بعد فقدانهم الرابط العاطفي، الذي لو لم يفقد لأدى ذلك إلى إبقائهم قادرين على مواجهة هذا الانعزال وعدم الخضوع لوطأته والاستسلام له، وإن اختفاء الرابط العاطفي قد يكون سببًا في اختفاء الرابط مع الحياة (يونج 159)؛ إذ إن هذا الرابط يعد رمزًا من رموز العلاقة بين الجنسين، وفقدانه قد يؤدي إلى إحداث إشكالٍ حقيقي حول طبيعة هذه العلاقة والقدرة على عيشها، ما من شأنه أن يزعزع ثقة الفرد بنفسه وبمدى قدرته على أن يمثل أحد قطبي تلك العلاقة،؛ أي قدرته على تمثيل الوجه الذكوري منها.

إن هذا اليأس الذي قد يفضي إلى حالةٍ من التشكيك بالذكورة وتمثيلها، لا بد أن يصرف أصحابه عن الانشغال بأي شيءٍ خارجي في المحيط الذي يعيشون فيه، ويخلق في نفسهم نزعةً انطوائيةً تبعدهم عن المؤثرات البيئية التي تحوم حولهم، وتبقيهم منشغلين بشؤونهم فقط (يونج 84)، بخلاف الذين يتولد في كينونتهم نزعةٌ انبساطيةٌ تسعى إلى فرض نفسها وإشراكها في كل ما يدور حولها من أحداث؛ لكن هذا يتطلب أن يكون صاحبه مكتفيًا ذاتيا، لا يشعر بأي شيءٍ ينغص نفسه ويعكر صفوها، حتى تتأتى لديه القدرة على التفاعل مع المحيط (عامود 1/417)، ولعل هذا ما جرى مع الشعراء العذريين؛ إذ تولدت في نفوسهم نزعةٌ انطوائيةٌ قياسًا إلى ما أصابهم من يأسٍ شديدٍ أفقدهم الرابط العاطفي وشعورهم بالقدرة العالية على تمثيل الوجه الذكوري في طبيعة علاقاتهم مع محبوباتهم، وقد يكون هذا ما يفسر قصر شعرهم على غرضٍ واحدٍ، وعدم الانشغال بأي قضيةٍ أخرى تجري حولهم، فلم يتطرقوا إلى قصد أي وجهةٍ في ما روي من شعرهم وما نقل من أخبارهم غير الحب والغزل.

ومما يزيد من هذا التشكيك، بعض الألفاظ التي قد لا يُلقى لها بالٌ في أثناء التلفظ بها؛ لكنها تحمل في طياتها مدلولاتٍ تظهر هواجس كامنةً في نفس قائلها، ومثل هذا قد يتجسد على هيئة هفواتٍ أو زلات لسانٍ، أو ألفاظٍ لا يدل معناها العام على فحوى دلالتها الذي ساقه هاجسٌ نفسي (فرويد 42)، ومثل هذا موجودٌ في شعر العذريين، ويحسن الاستشهاد على هذا بقول جميل لما علمت بثينة أن أهلها فطنوا إلى وجوده عندها سرا، فأخذت تحذره وتحثه على الفرار (جميل بن معمر 72):

لعمرك ما خَوفتِني مِن مخافةٍ

 

بثينُ ولا حذرْتِني موضعَ الحَذَرْ

فأقسمُ لا يُلفى ليَ اليومَ غِرةٌ

 

وفي الكف مني صارمٌ قاطعٌ ذَكَرْ

فاستعماله لفظة الذكر وصفًا لسيفه الذي نعته قبلها بالصارم القاطع، لا يبدو أمرًا ذا جدوى؛ إذ السيف الذكر هو الذي يقطع ويصرم بقوةٍ؛ لحدة شفراته (الجوهري «ذ ك ر»)؛ أي أنه وصفٌ مطابقٌ للوصفين السابقين، فاستعماله هذه اللفظة لم يأت بجديد معنى، كأنه استدعاها استدعاءً غير مبررٍ معنويا؛ ليرأب به صدعًا ما بنفسه، ويسد فيها ثلمةً، والجاحظ يقول: «ولم يتزيد أحدٌ قط إلا لنقصٍ يجده في نفسه، ولا تطاول متطاولٌ إلا لوهنٍ قد أحس به في قوته» (الجاحظ 4/175)، فلعل نقصًا ما في ذكورته أملى عليه استعمال هذا الوصف لسيفه بشكلٍ غير واعٍ منه.

وهذا يسمونه في علم النفس مفهوم الاستبدال (Displacement)، وهو «مصطلح يدل على إحدى وسائل الوقاية النفسية التي يلجأ إليها المرء تجنبا لشعوره بالضعة أو النقص؛ إذ يبادر إلى استبدال الأغراض المستعصية والأهداف العسيرة فيتخذ لنفسه أغراضاً يمكنه التحكم بها وتتيح له فرصة تحقيق ذاته» (عواد 56)، ولعل الشعر هو الفرصة الوحيدة التي كانت سامحةً للعذريين لسد ما فيهم من فراغ، وتحسن الإشارة إلى أن جميلًا لم يستعمل هذا السيف بشيءٍ، وآثر أن يلتزم بتحذير بثينة وأن يختبئ في مكانٍ ما في خبائها حتى رحيل أهلها، وبات عندها ليلةً خفيةً، ثم فارقها بعد يوم (الأصفهاني 8/305).

وتشير الروايات التاريخية إلى أن جميلًا كان قد قضى مع بثينة قبل ذلك الموقف ليلةً كاملةً، وقد بات معها ضجيعًا في فراشٍ واحدٍ (الأصفهاني 8/305)، من غير أن يخدش ذلك شيئًا من عفته معها، وهذا لا يخلو من بعض المخالفة لمنطق الفطرة البشرية الذي بني على الغريزة، إلا إذا كان باعث هذا عائدًا إلى شيءٍ ما في طبيعته الذكورية يجعلها ذات طابعٍ خارجٍ عن مألوفها الفطري.

ومما يجعل هذا الأمر أرضًا خصبةً لإعادة النظر، كثرة اللقاءات التي كانت تدور بينهما خفيةً من غير علم أهل بثينة وزوجها، لا سيما ما دار بينهما من حوارٍ حاول فيه جميلٌ أن يستشف كوامن نفسها إزاء هذا الشأن؛ إذ قال لها: «يا بثينة، أرأيت ودي إياك وشغفي بك ألا تجزينيه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين. فقالت له: يا جميل، أهذا تبغي! والله لقد كنت عندي بعيدًا منه، ولئن عاودت تعريضًا بريبةٍ لا رأيت وجهي أبدًا. فضحك وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه، ولو علمت أنك تجيبينني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري، ولو رأيت منك مساعدةً عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي، ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد» (الأصفهاني 8/298).

فهذا الكلام كأي كلامٍ آخر غيره يحتمل التصديق والتكذيب على حد سواء، فقد يكون صادقًا دفعته عفته إلى هذا السؤال، وقد يكون بخلاف ذلك، أراد منها شيئًا لكن جرأته لم تسعفه إلى حد التصريح به، وساق هذا الكلام تبريرًا؛ لإصلاح هذا الموقف.

لكن ما يلفت النظر أن الرواية تشير إلى أن أباها وأخاها قد حضرا هذا الحوار وسمعاه وهما قابضان سيفيهما، إلا أن راوي الخبر ينقل هذا القول بعد سماعهما كلامه: «قال فقال أبوها لأخيها: قم بنا، فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها، فانصرفا وتركاهما» (الأصفهاني 8/298)، فالأهل الذين رفضوا أن يزوجوها منه؛ لأنه شبب بها في شعره فقط، غيرةً وحميةً، يتركونهما هكذا وهما في هذه الحال بغير أن يظهروا أدنى امتعاضٍ من الأمر، يبدو هذا عجيبًا ومستغربًا، إلا إذا كانوا يضمرون في أنفسهم شيئًا يجنبهم الخوف على ابنتهم منه في شخصيته، وكان تركهم إياه معها تصريحًا غير مباشرٍ بتشكيكهما في عدم قدرته على إلحاق الفضيحة بها، ما يعني بالتبعية تشكيكهما في ذكورته، وما رأياه من ترددٍ منه في عرض الأمر عليها كان انعكاسًا عن شعورٍ بالنقص كامنٍ في نفسه، عزز من هذا التشكيك.

والأمر عند قيس بن الملوح ليس بعيدًا عن هذا؛ إذ تروي كتب الأخبار أنه قد «مر المجنون يومًاً بزوج ليلى وهو جالسٌ يصطلي في يومٍ شات، فوقف عليه، ثم قال:

بِرَبكَ هل ضَمَمْتَ إِلَيْكَ ليلى

 

قُبَيْلَ الصبْحِ أو قَبلْتَ فاها؟

وهل رَفتْ عَلَيْكَ قرونُ ليلى

 

رَفيفَ الأُقْحُوانَةِ في نداها؟

فقال: اللهم إذ حلفتني، فنعم. فقبض المجنون بكلتا يديه قبضةً من الجمر فما فارقهما حتى خر مغشيًا عليه، فسقط الجمر مع لحم راحتيه» (ابن المبرد 53).

وهذا الخبر إن صح لا يتوافق مع حمية العربي وغيرته على نسائه، فجواب زوج ليلى لا يخلو من برودٍ وهدوءٍ يبدوان غير لائقين، فأي رجلٍ يقبل أن يسأل عن أمرٍ بهذه الخصوصية مع زوجته من غير أن ينتفض في وجه سائله؟، فالشبق الغرائزي بادٍ في سؤال قيسٍ، إلا أنه لم يحرك غيرته وحميته، وهذا لا يصح إلا إذا كان يضمر في نفسه شعورًا بالأمان إزاء سائله، كأنه لا يخشاه ولا يغار على عرضه منه، وهذا فيه إقرارٌ بشعور نقصٍ كامنٍ في نفس قيسٍ، يفضي إلى تشكيكٍ غير واعٍ بذكورته.

إن الشعور بالنقص الذي قد يكون ناشئًا عند الشعراء العذريين جراء شك داخلي ما، ساور نفوسهم، وخلق فيهم حالةً من الاضطراب، هذا الاضطراب الذي قد يبدو بجمع الشيء ونقيضه، والتحلي بأمرين يبدوان متعاكسين، إثر الشعور بنوعٍ من الفصام، الذي يتمثل على هيئة اضطرابٍ في التفكير والعاطفة والإرادة والإدراك، يترتب عنه هلوساتٌ وضلالاتٌ قد تصل إلى حد الكآبة والشعور بالاضطهاد (عوض 80)، وهذا أمرٌ بدا في بعض ملامح شعر العذريين وأدركه بعضٌ من معاصريهم؛ إذ لمح بشعرهم تناقضٌ في بعض مواطنه يجمع بين أشياء متعاكسةٍ، كأن ذلك جرى بإسقاطٍ من نفوسهم فكان هذا انعكاسًا عما نشب فيها وتجسيدًا له.

وآية ذلك عند العذريين ما يبدو صراحةً عند جميل بن معمر، الذي قيل في بعض شعره إنه جمع بين الشدة واللين في آنٍ، كأنه كان أعرابيا غليظًا في نصف البيت الأول ثم أدركته رقة الحب فصار كأنه من أهل الحضر في نصفه الثاني، ومن هذا ما ينقله المرزباني بقوله: «أخبر الهيثم بن عدي، قال لي صالح بن حسان: هل تعرف بيتا من الشعر نصفه أعرابي في شملة، والنصف الآخر مخنث من أهل العقيق يتقصف تقصفا؟ قلت: لا والله. قال: قد أجلتك حولا. قلت: لو أجلتني حولين ما علمت ا سألتني- وقال محمد في حديثه:

لو أجلتني خمسين حولا لم أعرفه- فقال: أف لك؟ قد كنت أحسبك أجود علما مما أنت. قلت: وما هو؟ قال: أو ما سمعت قول جميل:

أَلا أَيها النوامُ وَيْحَكُمُ هُبوا

أعرابي والله يهتف في شملة، ثم أدركه اللين وضرع الحب وما يدرك العاشق، فقال (المزرباني 255):

أُسائِلْكُمُ هَلْ يَقْتُلُ الرجُلَ الحُب

كأنه والله من مخنثي العقيق يتفكك

فلعل هذا الاختلاط بين الغلظة والرقة الذي أشار إليه القدماء، فيه إحالةٌ إلى تصورٍ مبدئي حول اختلاط طباع الذكورة وطباع الأنوثة عند العذريين؛ إذ الأولى تشكلت لديهم بحكم فطرتهم التي خلقوا عليها، والأخرى اكتسبوها من شدة إذابتهم ذواتهم في ذوات من يحبونهن، وكثرة مجالسة النساء عمومًا، وعزل أنفسهم عن كل ما قد يشغل الرجال، وقصرها على ذكر الحب والغزل، إلى الحد الذي قد يجعل من ذكورتهم، غير مأمونةٍ من التأثر، ويجعلها ذكورةً غير صافية، ولا يخشى من نزواتها على انتهاك الحرم، وهذا من شأنه أن يخلق اضطرابًا واضحًا في معايير حضورها.

يستخلص مما سلف تبيانه، أن ذكورة الشعراء العذريين، التي تعد عنصرًا أساسيا من مركب الهُويَّة العذرية، متأرجحةٌ بين الحضور والغياب، فهي حاضرةٌ من حيث كونها فطرةً جبلوا عليها بحكم طبيعتهم العضوية (البيولوجية)، وهذا أمرٌ غير منعدم الأثر في توجيه بعض سلوكهم وطباعهم، إلا أنه عند العذريين كان كثير التأثر والانسلاخ من أصل خلقته، وهذا هو ما يبدي غياب ذكورتهم، الذي انبعث من جراء شدة تماهيهم مع من يحبونهن، وكثرة ارتيادهم مجالس النساء، وحريةٌ الإشارة إلى أن هذا الغياب غيابٌ من الناحية الاجتماعية والثقافية والنفسية في تعامل المحيط معهم، وليس غيابًا منبعثًا من الشعراء أنفسهم؛ فالشعراء قد اعتمدوا على هذا الغياب المتشكل عند الآخرين؛ للتمادي في عشقهم، والتلذذ بإيلام أنفسهم من ممارسة هذا العشق.

إضافةً إلى شدة خضوعهم لوطأة الانعزال السياسي الذي فرض على أبناء بيئتهم جميعًا؛ لدواعٍ أمنيةٍ من قبل السلطة الأبوية التي تمتعت بها الخلافة الأموية، الأمر الذي زاد من تأثيره فقد الرابط العاطفي الذي خلق في كينونتهم نوعًا من الاكتئاب الذي أفقدهم القدرة على مواجهة ذلك الانعزال، فعجزهم عن تمثيل الوجه الذكوري لعلاقاتهم العاطفية كان سببًا في خلق يأسٍ عميقٍ في نفوسهم، يشككهم في قدرتهم على تمثيل وجه الرفض والمواجهة أمام العزلة السياسية المفروضة عليهم.

هذا كله أفضى بهم إلى التزيي بثوبٍ يكشف ما دونه من هذه النزعات التي تخدش ذكورتهم للناس، ما كان سببًا في نقل التشكيك منهم إلى غيرهم؛ إذ صار الناس يشككون بذكورتهم بشكلٍ غير واعٍ، ولا يخشون على نسائهم منهم، وهذا التأرجح البادي بين حضور ذكورة العذريين وغيابها كفيلٌ أن يشكل تهديدًا حقيقيا لها في مكونات بناء هُوّيّتهم العام؛ لكنه استغل من العذريين لاتخاذه ذريعةً في سبيل إكمال ما هم فيه.

5.     العشق في الهُويَّة العذرية: ما بين المثالية والاضطراب النفسي

بعد ما جرى إثارته في طبيعة الذكورة المتأرجحة بين الحضور والغياب في الهُويَّة العذرية، يحسن الوقوف عند العشق بوصفه مكونًا رئيسًا من مكونات هذه الهُويَّة وعنصرًا أساسيا في مركبها، بل هو قوام ركيزتها وركن أساسها الذي لا يقوم بناؤها إلا به، فلا يمكن تفكيك أجزائها بغير الوقوف عند طبيعة العشق العذري، بعد أن رصدت الذكورة، التي تبعث الحياة في ذلك العشق؛ لكونها أحد قطبيه الرئيسين، وتبين ما فيها من إشكالاتٍ تجعلها غير مستقرةٍ من حيث حضورها وغيابها، الأمر الذي سيكون له أثرٌ في توجيه رصد طبيعة العشق العذري وتفكيك هيكليته؛ للإبانة عما كان عليه طابعه العام بين التردي برداء المثالية أو الوقوع في مهاوي الاضطراب النفسي.

لعل الطابع الأكثر شيوعًا والصورة الأكثر ذيوعًا في الاعتقاد السائد حول هذا العشق، يدوران في فلك العفة والطهارة المنبعثة من طبيعة البيئة الصحراوية والمجتمع البدوي الذي نشأ فيه هذا العشق (خليف 12)، فأسهم ما يترتب عن هذا كله من قيودٍ تكبل الشهوات وتطهر الأهواء من أعلاقها، وتصفيها من أكدارها، في إضفاء مسحةٍ روحانيةٍ منزهةٍ من الشبق المادي على ملامحه، فتجعل منه حبا مثاليا، يبتغى وحده غايةً، ليس وراءه غايةٌ أخرى، بخلاف أنماطٍ غيره من الحب قد تكون وسيلةً تسلك لتحقيق مآرب أخرى.

على الرغم من أن هذا الرأي لا يمكن الاطمئنان إليه كثيرًا؛ لأن العشق العذري يقوم على أساس الافتقار إلى الآخر الذي يولده تأجيج الطاقة النارية التي تبعث الحياة في هذا الشعور، وتبقيه حيويا ومتصلًا بالشغف والرغبة، ولا يمكن له أن يقوم على العفة وحدها وحسب، وما أفلح في تشكيل هذا الاعتقاد السائد حول طابعه العام، إضافةً إلى البيئة الصحراوية التي نشأ فيها، الإسلام الذي رقق القلوب وطهر النفوس، وأشاع بين أبنائه حب التعفف، ونقى أرواحهم من كل ما قد يعكرها من شوائب الغرائز (ضيف 21)، فأفضى ذلك إلى تزكية النفوس وتهذيبها، وولد فيها كل ما بدا جليا من سمات الحب العذري، الذي اكتسى ثوبًا أشبه بالثوب الصوفي كما يرى شوقي ضيف، الذي يقول معلقًا على هذا: «وما الحب العذري إلا صوفي خالص، صوفي في ظمئه الذي لا ينتهي إلى رؤية الحبيب ولقائه، وصوفي في تغنيه بعشقه الجامح الذي يملك كل قلبه وكل أهوائه وعواطفه ومشاعره» (ضيف 21).

فهذه كلها إشاراتٌ توحي بأن العشق العذري في الانطباع العام، يصور كأنه مغرقٌ في روحانيته المبرأة من أية نزعةٍ شبقيةٍ، مجردٌ من الشهوانية، وهاتان رغم ما بينهما من فوارق تبديهما كأنهما نقيضان، إلا أن بينهما تداخلًا قد يجعل منهما غير منبتين عن بعضهما، مصداقًا لقول أبي حيان التوحيدي، ساعة سؤاله عن الفرق بين المحبة والشهوة حيث أشار إلى أنهما انفعالان أحدهما أشد تأثرًا، إلا أن التداخل بينهما في الاستعمال ملموس؛ إذ يقول: «فكان الجواب أن الشهوة ألصق بالطبيعة، والمحبة أصدر عن النفس الفاضلة، وهما انفعالان، إلا أن أحد الانفعالين أشد تأثرًا، وهو انفعال الشهوة، وأنه يقال: شهي وأشهى، ويقال في الآخر: حب وأحب، ويتداخلان كثيرًا بالاستعمال؛ لأن اللغة جارية على التوسع، كما هي جارية على التضيق» (التوحيدي 348).

وهذا التداخل من شأنه أن يجعل محاولات التفريق بينهما غير مجديةٍ دائمًا؛ إذ كلاهما نابعٌ من النفس الإنسانية التي طبع جانبٌ منها على الغريزة والشهوة، ولا يمكن تجريدها من هذه النزعة تجريدًا كاملًا، كما حاول الذين يبدون العشق العذري بهذا الطابع؛ بل هو عشقٌ متولدٌ في نفوسٍ فطرت على كل ما فطرت عليه أي نفسٍ بشريةٍ أخرى لكن ببعض الخصوصية التي مازته وجعلته ذا طابعٍ فريد، وأما خلوه من النزعة المادية، فهذا شأنٌ سيتجلى تبيانه في مواطن قادمةٍ من هذه الدراسة.

فضلًا عن كون تقسيم الحب وتأطيره بين إطارين اثنين، بين الحسية التي يكون فيها نزوعٌ للغرائز الجنسية والشهوانية المادية، والعذرية التي يقل فيها هذا النزوع الشبقي ويصقل صقلًا روحانيًا صوفيًا، يبدو تأطيرًا مجحفًا ومتحجرًا وضيق الرؤيا؛ ذلك لأن التناظر غير مكتملٍ بين كفتي هذا الميزان؛ إذ النزعة المادية ما هي إلا تجسيدٌ للهو الذي يعد أحد مكونات الجهاز النفسي، وما يحويه من غرائز وحاجاتٍ شبقيةٍ شأنٌ فطري ليس شاذا عنها ولا خارجًا عن مألوفها، والنزعة الروحانية ما هي إلا تجسيدٌ للأنا العليا التي تعد هي الأخرى من مكونات الجهاز النفسي، وما يمثل انعكاسًا عنها من رادعٍ اجتماعي أو وازعٍ ديني، أو أي زاجرٍ من شأنه أن يشعر صاحبه بالذنب ويوقظ ضميره، فيكفه عن التفكير بالغرائز وقضائها، شأنٌ فطري غير مكتسبٍ من خارج النفس البشرية، ما يعني أن النزعتين أصلان ثابتان في أي نفسٍ إنسانيةٍ، تعيش صراعًا أبديا بينهما بما هو متوافقٌ مع فطرتها، ووجودهما في كل نفسٍ يعني أن الجمع بينهما أمرٌ ليس بمستنكر، والتأثر بهما معًا غير مستهجن، بل يكاد يكون إلزاميا؛ لكونهما راسختين في طبيعتها، وما هو غير مستساغٍ تجريد النفس من إحداهما، وحصرها في الأخرى وقصرها عليها دون الثانية فقط.

فبناءً على هذا، لا يبدو حصر الحب من حيث كونه شعورًا ساميًا تنمو في مرابعه بذور العلاقات بين الرجال والنساء، بالحسية والعذرية، أو ما يقابل هاتين اللفظتين من ألفاظٍ تحمل الدلالة المعنوية نفسها، أمرًا عادلًا؛ إذ الحب بوصفه تجربةً بشريةً عامةً مطلقة العقال، ينطوي على مجموعةٍ من الأحاسيس والأفكار والطقوس والتفاصيل والتصورات، يمتزج فيها فطريها مع مكتسبها، وآنيها مع سالفها فيؤدي هذا كله إلى خلق نموذجٍ ذي خصوصيةٍ مرتبطٍ مع كل حالةٍ على حدةٍ، تجعله مميزًا من أي تجربةٍ أخرى، ويجعل من نتائج كل منها غير قابلةٍ للقياس، ما من شأنه أن يفضي بقصر الحب على كونه حسيا أو عذريا فحسب، إلى أنه أمرٌ فيه نظر.

لكن هذا النموذج من الحب الذي رسمت ملامحه، وبنيت معالمه، في البيئة الصحراوية والمجتمع البدوي في العصر الأموي، وكان شيوعه في قبيلة بني عذرة ابتداءً، ثم في غيرها من القبائل، فألقى ذلك ظلالًا من اسمها على أي حب يكون فيه ما كان في ذلك الحب الذي راج عند بنيها، بدا بشكلٍ يجرده من أن يكون حبا عاديا، كأي شعور آخر، بل هو عشق من نوعٍ مختلف، تغذيه جذوة طاقته النارية، والرغبة الدائمة بالبحث عن اللذة المنشودة، كما سلف التبيان آنفًا، وقد أفلح هذا العشق في أن يشكل لنفسه خصوصيةً ذات طابعٍ فريدٍ، وأن يبني هُويَّة مكتملة العناصر والمكونات تجمع بين كل من أصيب بذلك الضرب من الحب، سواءٌ كان عذري القبيلة أو منتسبًا إلى غيرها، وهذا ما أسهم في إكساب هذا الحب خصوصيته، التي اختلف على كون بنائها تأسس على جذورٍ مثاليةٍ، كان باعثها فضيلة النفس العذرية، أو اضطرابٍ أصاب تلك النفس فأوجد فيها ما قل شيوعه في غيرها.

إن الإشارات التي سبق إيرادها في معرض الحديث عن الهُويَّة العذرية، والتي أفضى بها الحال إلى أن تكون وشائج تربط العشق العذري بالحب الصوفي عند بعض الدارسين، تحمل في طياتها هالةً من المثالية تحيط بهذا العشق وتكسوه ثوبها، مستندةً إلى ما في ظاهره من ملامح العفة والتنزه عن صبغ أصحابه إياه صبغةً غرائزية، وهذا بعيدٌ عن حقيقة النفس العذرية، التي لم تتنزه عن هذا عفةً، إنما لأنها لم تطق غير ذلك، ولم يتح لها قضاء وطرها الشبقي؛ بحكم ما فرض عليها من قيودٍ اجتماعيةٍ وبيئية، وما يدل على ذلك قول جميل بن معمر (جميل بن معمر 53-54):

حَلتْ بُثَيْنَةُ مِنْ قَلْبي بِمَنْزِلَةٍ

 

بَيْنَ الجَوانِحِ لَمْ يَنْزِلْ بِها أَحَدُ

صادَتْ فُؤادي بِعَيْنَيْها وَمُبْتَسِمٍ

 

كَأَنهُ حينَ أَبْدَتْهُ لَنا بَرَدُ

عَذْبٍ كَأَن ذَكِي المِسْكِ خالَطَهُ

 

والزنْجَبيلُ وَماءُ المُزْنِ والشهُدُ

وَجيدِ أَدْماءَ تَحْنوهُ إِلى رَشَأٍ

 

أَغَن لَمْ يَتبِعْها مِثْلَهُ ولدُ

رَجْراجَةٌ رَخْصَةُ الأَطْرافِ ناعِمَةٌ

 

تَكادُ مِنْ بُدْنِها في البَيْتِ تَنْخَضِدُ

خَدْلٌ مُخَلْخَلُها وَعْثٌ مُؤَزرُها

 

هَيْفاءُ لَمْ يَغْذُها بُؤْسٌ ولا وَبَدُ

نِعْمَ لِحافُ الفَتى المَقْرورِ يَجْعَلُها

 

شِعارَهُ حينَ يُخْشى القَر والصرَدُ

وَما يَضُر اِمْرأً يُمْسي وَأَنْتِ لَهُ

 

إِلا يَكونُ مِنْ الدنْيا لَهُ سَبَدُ

يا لَيْتَنا والمُنى لَيْسَتْ مُقَربَةً

 

أَنا لَقيناكِ والأَحْراسُ قَدْ رَقَدوا

فَيَسْتَفيقَ مُحِب قَدْ أَضَر بِهِ

 

شَوْقٌ إِلَيْكِ وَيُشْفى قَلْبُهُ الكَمِدُ

تِلْكُمْ بُثَيْنَةُ قَدْ شَفتْ مَوَدتُها

 

قَلْبي فَلَمْ يَبْقَ إِلا الروحُ والجَسَدُ

يبدو بجلاءٍ أن جميلًا في هذه الأبيات نسب صيد فؤاده في شباك حب محبوبته إلى مجموعةٍ من الصفات الحسية التي فصلها تفصيلًا لا يبرز فيه طغيان النزعة الروحانية على النزعة المادية أبدًا، من وصفٍ لجمال عينيها وثغرها، وبياض أسنانها كأنها البرد، وعذوبة ريقها كأنه ممزوجٌ بالمسك والعسل وصافي ماء المطر، ونعومة عنقها كأنه عنق الغزال، وهضامة كشحها، وليونة بدنها، كأنها لحافٌ يحسن التحاف الفتى به؛ لوقايته برد الشتاء، ثم يردف هذا الوصف الحسي كله بأمنيته التي ساقها بعد ذلك، وحسبها إشارةً كافيةً تبيانًا وإيضاحًا؛ إذ تمنى لو أنه يظفر بها في غفلةٍ من أعين الحراس والرقباء؛ لتشفى بذلك كبد المحب المشوق، وهذا من شأنه أن يجعل المثالية التي أضفيت إلى هذا العشق بحجة عفة قصده وتجرده من شهوانيةٍ مادية، أمرًا لا يطمأن إليه كثيرًا، والشواهد التي تثبت هذا من شعر العذريين كثيرة.

حتى إن العذريين أنفسهم، كانوا إذا سئلوا عن الأسباب التي دعتهم إلى ما هم فيه، لم يكونوا يتحرجون من الإشارة إلى بعض محاسن النساء ومفاتنهن كالعيون والشفاه بوصفها إحدى بواعث ذلك العشق، ليس ذلك الباعث الوحيد ولا الباعث الأساسي في نشوء عشقهم، إلا أنه كان ذا أثرٍ يسيرٍ في تكوينه وقدح شرارته، ما يجعله غير مبرأً من النزعة المادية مطلقًا، وما يدل على هذا، ما نقل في أخبارهم على لسان أبي عبيدة الذي يقول: «قال رجلٌ من بني فزارة لرجلٍ من عذرة: تعدون موتكم من الحب مزيةً؛ أي فضيلةً، وإنما ذلك من ضعف البنية، ووهن العقيدة، وضيق الروية، فقال العذري: أما لو أنكم رأيتم المحاجر البلج ترشق بالأعين الدعج من فوقها الحواجب الزج، والشفاه السمر تفتر عن الثنايا الغر، كأنها سرد الدر، لجعلتموها اللات والعزى، ودفعتم الإسلام وراء ظهوركم» (ابن السراج 1/37).

وهذا الخبر يحمل كذلك في خباياه شيئًا من واقع أصحاب العشق العذري وما كانوا عليه من ضعف البنية ووهن العقيدة وضيق الروية، هذه الملامح التي كان يحيلهم إليها عشقهم؛ لفرط ما لاقوه فيه من عشقٍ ووجد، حتى إن النحول والهزال صارا علامتين من علامات العشق العذري (المكتب العالمي للبحوث 51)، وهذا ما رأى فيه مدعو مثاليته دليلًا على الوفاء والإخلاص في العشق (باشا 11)، ولم يشيروا إلى أن الإفراط في الحب ضربٌ لا يقبله العقل ولا يستسيغه المنطق القويم (سلامة 18)، لعلهم استندوا في ذلك إلى ما قاله جميل بن معمر في رجلٍ سمينٍ يسمى جعفرًا (جميل بن معمر 117):

وَيُعْجِبُني مِنْ جَعْفَرٍ أَن جَعْفَرًا

 

مُلِح عَلى قُرْصٍ وَيَبْكي عَلى جُمْلِ

فَلَوْ كُنْتَ عُذْرِي العَلاقَةِ لَمْ تَكُنْ

 

بَطينًا وَأَنْساكَ الهَوى كَثْرَةَ الأَكْلِ

علاوةً على أنه لو كان عشقًا مثاليا، إلى الحد الذي يصفه به أصحاب هذا الرأي، لكان رادعًا لهم وزاجرًا إياهم عن محاولة اللقاء بمحبوباتهم غفلةً وخفيةً، وهن نساءٌ متزوجات، فالمثالية التي تولدت بعشقهم جراء تأثرهم بتعاليم الإسلام وقيود الحياة البدوية حريةٌ أن تمنعهم من ذلك، وهذا ما لا يلمح في شعرهم، مصداقًا لقول قيس بن ذريح (قيس بن ذريح 86):

أَلاَ لَيْتَ لُبْنى في خَلاءٍ تَزورُني

 

فَأَشْكو إِلَيْها لَوْعَتي ثُم تَرْجِعُ

صَحا كُل ذي لُب وَكُل مُتَيمٍ

 

وقَلْبي بِلُبْنى ما حَيِيتُ مُرَوعُ

فَيا مَنْ لِقَلْبٍ ما يُفيقُ مِنَ الهَوى

 

وَيا مَنْ لِعَيْنٍ بِالصبابَةِ تَدْمَعُ

فقيسٌ في هذه الأبيات لم يجد حرجًا من التصريح برغبته الجارفة في لقاء محبوبته خلسةً وخفيةً، في الخلاء بعيدًا عن أعين الرقباء، وهذا ما يتعارض صراحةً مع ما يمثله السمو الأخلاقي والرفعة الروحية المتنزهة عن أي غريزةٍ ماديةٍ وحاجةٍ شبقيةٍ، إنما هو ناجمٌ عن الميل الفطري إلى قضاء اللذة التي يحققها لقاء المحب حبيبه في عزلةٍ عن الناس.

ومن الملامح التي اتسم بها العشق العذري وكانت داعيًا من الدواعي التي أفضت بوسمه بالمثالية، الواحدية؛ أي أن يحب أحدهم فتاةً واحدةً حياته كلها، فلا يطوي عنها كشحًا رغم انقطاع أي أملٍ بجمعه معها (محمود 283)، ولا يرتضي غيرها نصيبًا حتى بعد زواجها من غيره، كان هذا إشارة ولاءٍ ووفاءٍ بنظر بعض الدارسين يستحق أن يكون العشق العذري مثاليا قياسًا إليه؛ إذ عشقهم هذا صيرهم خاضعين له، يطيعونه في صروفه كلها، ولا يرومون عنه سلوا قط، كما يقول قيس بن الملوح (قيس بن الملوح 139):

رَضيتُ بِقَتْلي في هَواها لِأَنني

 

أَرى حُبها حَتْمًا وَطاعَتَها فَرْضا

إِذا ذُكِرَتْ لَيْلى أَهيمُ بِذِكْرِها

 

وَكانَتْ مُنى نَفْسي وَكُنْتُ لَها أَرْضى

وَأِنْ رُمْتُ صَبْرًا أَوْ سُلُوا بِغَيْرِها

 

رَأَيْتُ جَميعَ الناسِ مِنْ دونِها بَعْضا

فهذا شاهدٌ من شواهد كثيرةٍ تبدي تعلق قيسٍ بمحبوبته تعلقًا أبديا، فيظل أسيره طوال حياته، ولا ينصرف به إلى أي فتاةٍ غيرها أبدًا، رغم استيقانه من عدم الظفر بها ما دام حيًا؛ لكنه أحب أن يمضي ما بقي من حياته تأسفًا وبكاءً، وليس هذا بمعهودٍ أو مألوفٍ في العقلية العربية، التي تأبى هذا ولا تقبله، وما ورد في سيرهم مما يؤكد هذا كثير، ومن ذلك أنه «قال عمر بن الخطاب لرجلٍ وهو أبو مريم السلولي: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم، قال: أفتمنعني حقا؟ قال: لا، قال: فلا بأس، إنما يأسف على الحب النساء» (المبرد 2/147).

فلعل في قوله إنما يأسف على الحب النساء، إشارةً إلى أن الرجال لا ينبغي لهم التأسف على الحب إلى الحد الذي يورثهم الضعف والوهن، وهو ما لا يتماهى مع معنى الذكورة التي بنيت على ملامح القوة والهيمنة والانتصار في العقلية الجمعية، وهذا كله يتنافى مع التأسف الشديد على الحب، وقصر الحياة كلها بكاءً وتلوعًا.

هذه الطبيعة من العشق العذري عدت مثاليةً؛ لما يبدو فيها من تمسكٍ بحبال محبوبةٍ واحدة، وولاءٍ ووفاءٍ لها، إلا أنه لا يخلو من إتلاف النفس في سبيل غايةٍ لم يعد بالوسع إدراكها، وهذا بعيدٌ عن المثالية بعدًا كبيرًا، إنما هو عالقٌ في شباك بعض السلوكيات التي قد لا يبدو صدورها أمرًا عاديا، بل قد يشي ببعض اضطراباتٍ نفسيةٍ، جراء حالةٍ مرضيةٍ جردت هذا العشق من ثوبه الشعوري المعهود، وكسته ثوبًا موشى بخروقٍ مرضية.

ومن أشد الأمارات الدالة على ذلك، التي من شأنها أن تحيل العشق إلى اضطرابٍ نفسي، العجز عن ضبط الانفعالات النفسية والفشل في إدارتها وتنظيمها بطريقةٍ سليمة؛ وذلك لأن التطرف المكثف في العواطف لأمدٍ بعيدٍ بشكلٍ متراكمٍ، يؤدي إلى تقويض استقرار النفس وتهديدها شعوريا (جولمان 88)، فيترك ذلك أثرًا جليا في سير عملياتها الانفعالية، ويقلق اتزان مكونات الجهاز النفسي، ما يفقد المرء القدرة على إدارة مشاعره والتحكم بضبطها، كلما بدا المحفز الذي يثيرها، وهذا ما كان عليه الواقع النفسي للشعراء العذريين، وهو ما تجلى في عشقهم، وانعكس في أشعارهم؛ إذ يقول قيس بن الملوح (قيس بن الملوح 49):

حَلَفْتُ لَها بِالمَشْعَرَيْنِ وَزَمْزَمٍ

 

وَذو العَرْشِ فَوْقَ المُقْسِمينَ رَقيبُ

لَئِنْ كانَ بَرْدُ الماءِ حَرانَ صادِيًا

 

إِلَي حَبيبًا إِنها لَحَبيبُ

وَإِني لَآتيها وَفي النفْسِ هَجْرُها

 

بَتاتًا لِأُخْرى الدهْرِ أَوْ لِتُثيبُ

فما هُوَ إِلا أَنْ أَراها فُجاءَةً

 

فَأُبْهَتُ حَتى ما أَكادُ أُجيبُ

فعاطفته المتطرفة أفقدته القدرة على قيادة زمام نفسه والسيطرة على توجهاتها السلوكية ساعة إثارتها؛ أي ساعة لقائه بمحبوبته، وتحوله من حالةٍ شعوريةٍ إلى حالةٍ أخرى غيرها، جراء اضطرابٍ أصاب مكوناتها قد ولد فيها هذا الانفعال، وهو ما عبر عنه قيسٌ في هذه الأبيات بإشارته إلى أنه بهت حين رآها، ولم يحسن الإجابة والإبانة عما يعروه من مشاعر متضخمةٍ وعواطف متطرفة، وهذا ما يلمح جليا عند قيس بن الملوح في موطنٍ آخر من شعره غداة قوله (قيس بن الملوح 226):

فَيا لَيْلَ كَمْ مِنْ حاجَةٍ لي مُهِمةٍ

 

إِذا جِئْتُكُمْ بِاللَيْلِ لَمْ أَدْرِ ما هِيا

وكذلك عند قيس بن ذريح في قوله (قيس بن الملوح 95):

بَليغٌ إِذا يَشْكو إِلى غَيْرِها الهَوى

 

وَإِنْ هُوَ لاقاها فَغَيْرُ بَليغِ

ففي هذين الموطنين كان حال الشاعرين قبل تعرضهما للمثير مغايرًا عما كان بعده، في إشارةٍ صريحةٍ إلى أن ما يعانيانه من تطرف العواطف ولد فيهما عجزًا عن إدارة انفعالاتهما وضبطها، فكان نتيجة ذلك هذا الاضطراب الذي أحدث فارقًا بين الموقفين؛ متأثرًا بلقاء المحبوبة.

علاوةً على ذلك، فإن نزوع المشاعر المتضخمة والعواطف المتطرفة لمثيرها، كفيلٌ أن يسهم إسهامًا حقيقيا في استئصال الفردانية من الذات، واستئصالها ناجمٌ عن خضوعٍ مطلقٍ لذلك المثير الذي لم تطق المشاعر الانفصال عنه، وهو أمرٌ يعززه اهتزاز ثقة الفرد بذاته (فروم 24)، فكان نتيجة ذلك قبولها ورضاها بكل ما تلقاه من ذلك المثير، وليس رضاها بما هو في صالحها فحسب، وهذا أمرٌ قد يفضي بها إلى التعرض لما يؤذيها عاطفيا ونفسيا من غير أن تبدي إزاءه مقاومةً؛ لدرئه أو إزاحته، وهذا يخلق فيها تناقضًا وجدانيا؛ إذ يكون تمسكها بمن يؤذيها وخضوعها له كبيرًا، وليس إعراضها عنه ومحاولة اجتنابه.

والناظر إلى شعر العذريين يجد فيه ضروبًا ملونةً من نزوع مشاعرهم لمثيرها نزوعًا يفضي إلى استئصال فردانيتهم، ويمعن في توليد تناقضٍ وجداني يجعلهم خاضعين لمن يلحق الإيذاء بهم، وراضين بكل ما يأتي من قبله، وهذا من شأنه أن يحدث تضاربًا في مكونات الجهاز النفسي الذي تمنعه قوًى خارجيةٌ عن مقاومة الإيذاء الذي ألم به، وهو ما يوجد فيه اضطرابًا ناجمًا عن هذا العشق العذري، ولعل تائية كثير عزة الشهيرة تعد نموذجًا صالحًا يستشهد به على ذلك كله، وهذه وقفةٌ يسيرةٌ معها، للإبانة عن هذا الاضطراب؛ إذ يقول كثيرٌ فيها (كثير عزة 54-55):

وَما أَنْصَفَتْ أَما النساءُ فَبَغضَتْ

 

إِلَيْنا وَأَما بالنوالِ فَضَنتِ

فَقَدْ حَلَفَتْ جَهْدًا بِما نَحَرَتْ لَهُ

 

قُرَيْشٌ غَداةَ المَأْزَمَيْنِ وَصَلتِ

أُناديكِ ما حَج الحَجيجُ وَكَبرَتْ

 

بِفَيْفاءِ آلٍ رُفْقَةٌ وَأَهَلتِ

وَما كَبرَتْ مِنْ فَوْقِ رُكْبَةَ رُفْقَةٌ

 

وَمِنْ ذي غَزالٍ أَشْعَرَتْ واسْتَهَلتِ

وَكانَتْ لِقَطْعِ الحَبْلِ بَيْني وَبَيْنَها

 

كَناذِرَةٍ نَذْرًا وَفَتْ فَأَحَلتِ

فَقُلْتُ لَها يا عَز كُل مُصيبَةٍ

 

إِذا وُطنَتْ يَوْمًا لَها النفْسُ ذَلتِ

وَلَمْ يَلْقَ إِنْسانٌ مِنَ الحُب مَيْعَةً

 

تَعُم وَلا عَمْياءَ إِلا تَجَلتِ

فَإِنْ سَأَلَ الواشونَ فيمَ صَرَمْتَها

 

فَقُلْ نَفْسُ حُر سُليَتْ فَتَسَلتِ

كَأَني أُنادي صَخْرَةً حينَ أَعْرَضَتْ

 

مِنَ الصم لَوْ تَمْشي بِها العُصْمُ زَلتِ

صَفوحٌ فَما تَلْقاكَ إِلا بَخيلَةً

 

فَمَنْ مَل مِنْها ذَلِكَ الوَصْلَ مَلتِ

أَباحَتْ حِمًى لَمْ يَرْعَهُ الناسُ قَبْلَها

 

وَحَلتْ تِلاعًا لَمْ تَكُنْ قَبْلُ حُلتِ

إذ يبدي الشاعر في هذه الأبيات مدى صرامة محبوبته وقسوتها، وعزمها الدؤوب على قطع حباله والإعراض عنه، كأنها نذرت بذلك نذرًا تريد الوفاء به؛ إشارةً إلى سعيها الحثيث إلى الصد والهجر، فقسوتها كانت كالصخر لشدة بخلها وضنها بالنوال، رغم أنها مكينةٌ في قلبه إلى الحد الذي جعلها تبيح ما لا يباح، وتحل ما لا يحل، وقدرتها على ذلك أمارةٌ على أن الشاعر أمعن في خضوعه لها رغم ما أبانه من إيذاءٍ صريحٍ ألحقته به في بخلها وعزمها على التنائي؛ لكن ذلك لم يجنبه السماح لها بتلك الإباحة وذلك الحلول.

وسماحه هذا رغم ما سبقه من صروف العذاب التي لقيها منها، كفيلٌ أن يفسر بكون كثيرٍ ذا مشاعر فاقدةٍ القدرة على ضبط انفعالاتها، وقيادة زمامها، إلى المدى الذي يجعلها تنزع إلى محفزها المثير، نزوعًا كاملًا، وتغرق في إلغاء فردانية صاحبها، التي لو كان لها وجودٌ فعلي في هذا الموطن، لما رضي بأن تنال تلك الحظوة.

ثم يردف قوله السالف بقوله (كثيّر عزة 56-57):

أُريدُ الثواءَ عِنْدَها وَأَظُنها

 

إِذا ما أَطَلْنا عِنْدَها المُكْثَ مَلتِ

يُكَلفُها الخِنْزيرُ شَتْمي وَما بِها

 

هَواني وَلكِنْ للمَليكِ اِسْتَزَلتِ

هَنيئًا مَريئًا غَيْرَ داءٍ مُخامِرٍ

 

لِعَزةَ مِنْ أَعْراضِنا ما اَسْتَحَلتِ

وَواللهِ ما قارَبْتُ إِلا تَباعَدَتْ

 

بِصَرْمٍ وَلا أَكْثَرْتُ إِلا أَقَلتِ

وَلي زَفراتٌ لَوْ يَدُمْنَ قَتَلْنَني

 

تُوالي التي تَأْتي المُنى قَدْ تَوَلتِ

وَكُنا سَلَكْنا في صعودٍ مِنَ الهَوى

 

فَلَما تَوافَيْنا ثَبَت وَزَلتِ

وَكُنا عَقَدْنا عُقْدَةَ الوَصْلِ بَيْنَنا

 

فَلَما تَواثَقْنا شَدَدْتُ وَحَلتِ

فَإِنْ تَكُنِ العُتْبى فَأَهْلًا وَمَرْحَبًا

 

وَحُقتْ لَها العُتْبى لَدَيْنا وَقَلتِ

وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرى فَإِن وَراءَنا

 

بِلادًا إِذا كَلفْتُها العِيسَ كَلتِ

خَليلَي إِن الحاجِبِيةَ طَلحَتْ

 

قَلوصَيْكُما وَناقَتي قَدْ أَكَلتِ

فَلا يَبْعُدَنْ وَصْلٌ لِعَزةَ أَصْبَحَتْ

 

بِعاقِبَةٍ أَسْبابُهُ قَدْ تَوَلتِ

أَسيئي بِنا أَوْ أَحْسِني لا مَلومَةً

 

لَدَيْنا وَلا مَقْلِيةً إِنْ تَقَلتِ

وَلكِنْ أَنيلي واذْكُري مِنْ مَوَدةٍ

 

لَنا خُلةً كانَتْ لَدَيْكُمْ فَضَلتِ

وَإِني وَإِنْ صَدتْ لَمُثْنٍ وَصادِقٌ

 

عَلَيْها بِما كانَتْ إِلَيْنا أَزَلتِ

فَما أَنا بالداعي لِعَزةَ بالردى

 

وَلا شامِتٍ إِنْ نَعْلُ عَزةَ زَلتِ

يشير الشاعر في بداية هذه الأبيات إلى رغبته الجامحة في البقاء عند محبوبته، وهي رغبةٌ محفوفةٌ بإقراره أنها تمل طول ذاك البقاء منه؛ لكن هذا لم يكن سببًا كافيًا لكف هواه وزجر رغبته بالبقاء قريبًا منها، رغم ما يتكبده من تكليف زوجها لها بشتمه، وما كان منه بعد هذا كله إلا أن أباح لها ذلك وأحل لها ما تشاء من أعراضه، مهنئًا إياها على ذلك، وهذا ما يبدي مخالفةً صريحةً لأي غلو أتى به العشاق

قبلًا؛ إذ مهما بلغ بهم شطط الحب فإنه لا يجعلهم يسوقون أعراضهم ليستحلها الناس، الأمر الذي لا يتماهى مع عقلية العربي التي بنيت على الغيرة والحميّة، ما يشي بكون هذا الشطط الذي أفرزه غلوه لا يمكن أن ينجم عن حالةٍ مثاليةٍ للحب، بل هو ناجمٌ عن تجل صريحٍ لاضطرابٍ أصابه بحالةٍ جردته من ثوبه الطبيعي.

ثم يعود سيرته الأولى من إبداء ملامح صرمها، وردها مقاربته بالتباعد، وإكثاره بالإقلال، وثبوته بالزلل، وشده بالحل؛ لكن ذلك كله لم يستطع الرد عليه بما يماثله، بل قال لها إنها غير ملومةٍ مهما فعلت، سواءٌ أكان فعلها إحسانًا أم إساءةً، فهو مكتفٍ منها بذكر صحبته مودةً، وسيبقى مثنيًا عليها، غير شامتٍ بها إن تقلبت بها صروف الدهر، ولا غرابة من ذلك، فهذا تجل لملامح فردانيته المستأصلة، نتيجة نزوع مشاعره لمحبوبته، نزوعًا أفضى بخلق هذا الاضطراب النفسي الذي هيمن على طبيعة عشقه، الخارج عن كونه حالةً طبيعية.

خاتمة

توصل البحث إلى جملةٍ من النتائج والتوصيات التالية:

أولًا: النتائج

-      خلق التشابه الكبير في السيرة العذرية بين أبنائها، بالتجربة والمصير، شريحةً جماهيريةً مركبةً من السمات التي يشتركون فيها جميعًا.

-      قام العشق العذري على طاقةٍ ناريةٍ تحرك جذوتها المشاعر النفسية نحو التمسك بهذا العشق؛ لأنه يقوى بالافتقار إلى الطرف الآخر، والبحث الدؤوب عن اللذة.

-      أبرز البحث المحور العاطفي؛ بوصفه الملمح الأسمى للهُويَّة العذرية الذي أعطى لذكورة أصحابها دورًا مهمًا في ضبط معاييرها، مع ما يقابلها تناظرًا وهي الأنوثة، وكذا العشق الذي يعد الرابط الأقوى بينهما.

-      أنبأ البحث أن ذكورة الشعراء العذريين متأرجحةٌ بين الحضور والغياب، فهي حاضرةٌ؛ لكونها ملمحًا فطريًا جبلوا عليه، وهي غائبةٌ؛ لبعض العوامل التي جعلت ذكورتهم غير آمنة من الاختلال.

-      توصل البحث إلى أن العشق العذري كان أقرب إلى اضطرابٍ أصاب مكونات الجهاز النفسي عند العذريين، لما عرفوه من استئصالٍ للفردانية، وتطرفٍ مكثفٍ للعواطف.

ثانيًا: التوصيات

يوصي الباحث بضرورة النظر إلى الشعر العذري من منظارٍ نفسي؛ لاستخراج ما يموج فيه من المخبوءات المضمرة في اللاوعي الجمعي عند أصحاب هذا الفن، وبجدوى الوقوف عند العشق والذكورة بوصفهما مرتكزين أساسيين من مرتكزات الهُويَّة النفسية الذي يضم وعاؤها شعراء الغزل العذري في إطارٍ عامٍ؛ لتلمس أثر ذلك في بناء نفسيات الشعراء وفنهم.


 

المراجع

أولًا: العربية

ابن المبرد، يوسف بن حسن الحنبلي. نزهة المسامر في أخبار مجنون بني عامر. تحقيق: محمود التاونجي، عالم الكتب، بيروت، 1994.

ابن حزم الأندلسي، أبو محمد علي بن أحمد. طوق الحمامة في الألفة والأُلَّاف. تحقيق إحسان عباس. ط2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1987.

ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم. الشعر والشعراء. تحقيق: أحمد محمد شاكر. ط2، دار الحديث، القاهرة، 1423هـ.

أبو رحاب، حسان. الغزل عند العرب. ط1، مطبعة مصر، القاهرة، 1947.

الأشول، عادل عز الدين. علم نفس النمو من الجنين إلى الشيخوخة. مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 2008.

الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين. الأغاني. ط1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1415هـ.

باشا، أحمد تيمور. الحب عند العرب. ط1، دار الآفاق العربية، القاهرة، 2000.

بكار، يوسف حسين. اتجاهات الغزل في القرن الثاني الهجري. ط1، دار المعارف، القاهرة، 1971.

البكري، عبد الله بن عبد العزيز. سمط اللآلي في شرح أمالي القالي. تحقيق عبد العزيز الميمني، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، [د.ت].

بورزيجة، رؤوف. مفهوم الهُويَّة حسب المنظور التحليلي. المؤسسة العربية للاستشارات العلمية، الجزائر، 2012.

التوحيدي، أبو حيان علي بن محمد. الإمتاع والمؤانسة. ط1، المكتبة العصرية، بيروت، 1420هـ.

الجاحظ، عمرو بن بحر. البيان والتبيين. دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1423هـ.

–––. رسائل الجاحظ. تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1964.

الجزار، هاني. أزمة الهُويَّة والتعصب دراسة في سيكلوجية الشباب. ط1، هلا للنشر والتوزيع، مصر، 2011.

جميل بن معمر. الديوان، تحقيق: بطرس البستاني، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، 1966.

جولمان، دانييل. الذكاء العاطفي، ترجمة: ليلى الجبالي، مراجعة: محمد يونس، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2000.

الجوهري، أبو نصر إسماعيل بن حماد. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية. ط4، دار العلم للملايين، بيروت، 1987.

حسين، طه. حديث الأربعاء. مكتبة الأسرة، 1997.

حمداوي، جميل. نظريات القراءة في النقد الأدبي. ط1، 2015.

الخفاجي، محمد عبد المنعم. الحياة الأدبية في عصر بني أمية. ط2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1973.

خليف، يوسف. الحب المثالي عند العرب. دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1997.

سلامة، أمين. الحب في الميزان. مؤسسة هنداوي، 2022.

سلامة، معتز. تلقي جماليات الخطاب العذري. الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2019.

ضيف، أحمد شوقي عبد السلام. تاريخ الأدب العربي. ط7، دار المعارف، القاهرة، 1963.

–––. التطور والتجديد في الشعر الأموي. ط8، دار المعارف، القاهرة، 1959.

–––. الحب العذري عند العرب. ط1، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 1999.

عامود، بدر الدين. علم النفس في القرن العشرين. اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001.

العظم، صادق جلال. في الحب والحب العذري. ط5، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق.

العقاد، عباس محمود. جميل بثينة. مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر.

عواد، محمود. معجم الطب النفسي والعقلي. دار أسامة للنشر والتوزيع، عمّان، 2011.

عويضة، كامل محمد. التحليل النفسي. مراجعة محمد رجب البيومي. ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996.

عيد، صلاح. الغزل العذري حقيقة الظاهرة وخصائص الفن. ط1، مكتبة الأدب، القاهرة، 1993.

فروم، إريك. فن الحب. ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار العودة، بيروت، 1980.

فرويد، سيجموند. التحليل النفسي للهستيريا. ترجمة: جورج طرابيشي. ط1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت.

–––. علم نفس الجماهير. ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت.

–––. ما فوق مبدأ اللذة. ترجمة إسحق رمزي. ط5، دار المعارف، مصر.

–––. مدخل إلى التحليل النفسي. ترجمة: جورج طرابيشي. ط3، دار الطليعة، بيروت، 1995.

القط، عبد القادر. في الشعر الإسلامي والأموي. دار النهضة العربية، بيروت، 1987.

قيس بن الملوح. الديوان. تحقيق عبد الستار أحمد فراج، دار مصر للطباعة.

قيس بن ذريح. الديوان. تحقيق عبد الرحمن المصطاوي. ط2، دار المعرفة، بيروت، 2004.

كثير عزة. الديوان. تحقيق: مجيد طراد، دار الكتاب العربي، بيروت، 1993.

لبيب، الطاهر. سوسيولوجيا الغزل العربي الشعر العذري نموذجًا. ترجمة: مصطفى المسناوي. ط2، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1987.

لو بون، غوستاف. سايكلوجية الجماهير. ترجمة: هاشم صالح. ط1، دار الساقي، 1991.

المبرد، محمد بن يزيد. الكامل في اللغة والأدب. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. ط3، دار الفكر العربي، القاهرة، 1997.

المرزباني، محمد بن عمران. الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء. تحقيق: محمد حسين شمس الدين. ط1، دار الكتب العلمية، 1995.

مصطفى، محمود. الأدب العربي وتاريخه في عصر صدر الإسلام والدولة الأموية. ط2، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة، 1937.

المغربي، شهاب الدين أحمد بن أبي حجلة. ديوان الصبابة. دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر، بيروت، 1989.

المكتب العالمي للبحوث. الحب عند العرب. دراسة أدبية تاريخية، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، ط1.

النيسابوري، أبو القاسم الحسن بن محمد، عقلاء المجانين. تحقيق محمد السعيد بن بسيوني. ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1985م.

اليوسف، يوسف. الغزل العذري: دراسة في الحب المقموع. ط3، دار الحقائق، بيروت، 1982.

يونج، كارل. جدلية الأنا واللاوعي. ترجمة نبيل محسن، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، 1997.

–––. علم النفس التحليلي. ترجمة نهاد خياطة. ط2، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، 1997.

ثانيًا:                                                                                                                                                               References

Abu Rihab, Hassan. Al-Ghazal 'Ind al-'Arab (in Arabic). 1st ed., Matba'at Misr, Cairo, 1947.

Al-ʻAqqād, ʻAbbās Maḥmūd. Jamīl Buthaynah (in Arabic). Muʼassasat Hindāwī lil-taʻlīm wa-al-Thaqāfah, Egypt.

Al-Asfahani, Abu al-Faraj 'Ali ibn al-Husayn. Al-Aghani (in Arabic). 1st ed., Dar Ihya' al-Turath al-'Arabi, Beirut, 1415AH.

Al-Ashwal, 'Adil 'Izz al-Din. 'Ilm Nafs al-Numu' min al-Janīn ila al-Shaykhūkha (in Arabic). Maktabat al-Anglo al-Misriyya, 2008.

Al-ʻAẓm, Ṣādiq Jalāl. fī al-ḥubb wa-al-ḥubb al-ʻudhrī (in Arabic). 5th ed., Dār al-Madá lil-Thaqāfah wa-al-Nashr, Dimashq.

Al-Bakri, Abu 'Ubayd 'Abd Allah ibn 'Abd al-'Aziz. Samt al-La'ali fi Sharh 'Amali al-Qali (in Arabic), ed. 'Abd al-'Aziz al-Maimani, 1st ed., Dar al-Kutub al-'Ilmiyya, Beirut,

Al-Jahiz, 'Amr ibn Bahr. Al-Bayan wa-l-Tabyin (in Arabic). Dar wa-Maktabat al-Hilal, Beirut, 1423AH.

–––. Rasa'il al-Jahiz (in Arabic), ed. 'Abd al-Salam Harun, Maktabat al-Khanji, Cairo, 1964.

Al-Jawhari, Abu Nasr Isma'il ibn Hammad. Al-Sihah Taj al-Lugha wa-Sihah al-'Arabiyya (in Arabic). 4th ed., Dar al-'Ilm lil-Malayin, Beirut, 1987.

Al-Jazzār, Hānī. Azmat alhūyyah wa-al-taʻaṣṣub dirāsah fī saykulūjīyat al-Shabāb (in Arabic). 1st ed., Halā lil-Nashr wa-al-Tawzīʻ, Egypt, 2011.

Al-Khafājī, Muḥammad ʻAbd al-Munʻim. al-ḥayāh al-adabīyah fī ʻaṣr Banī Umayyah (in Arabic). 2nd ed., Dār al-Kitāb al-Lubnānī, Beirut, 1973.

Al-Maghribī, Shihāb al-Dīn Aḥmad ibn Abī Ḥajalah. Dīwān al-ṣabābah (in Arabic). Dār wa-Maktabat al-Hilāl lil-Ṭibāʻah wa-al-Nashr, Beirut, 1989.

Al-Maktab al-ʻĀlamī lil-Buḥūth. al-ḥubb ʻinda al-ʻArab. dirāsah adabīyah tārīkhīyah (in Arabic). 1st ed., Manshūrāt Dār Maktabat al-ḥayāh, Beirut.

Al-Marzubani, Muhammad ibn 'Imran. Al-Muwashshah fi Ma'akhidh al-'Ulama 'ala al-Shu'ara (in Arabic), ed. Muhammad Husayn Shams al-Din, 1st ed., Dar al-Kutub al-'Ilmiyya, 1995.

Al-Mubarrad, Muhammad ibn Yazid. Al-Kamil fi al-Lugha wa-l-Adab (in Arabic), ed. Muhammad Abu al-Fadl Ibrahim, 3rd ed., Dar al-Fikr al-'Arabi, Cairo, 1997.

Al-Nīsābūrī, Abū al-Qāsim al-Ḥasan ibn Muḥammad, ʻAqlāʼ al-majānīn (in Arabic). Ed.: Muḥammad al-Saʻīd ibn Basyūnī. 1st ed., Dār al-Kutub al-ʻIlmīyah, Beirut, 1985.

Al-Qiṭṭ, ʻAbd al-Qādir. fī al-shiʻr al-Islāmī wa-al-Umawī (in Arabic). Dār al-Nahḍah al-ʻArabīyah, Beirut, 1987.

Al-Tawhidi, Abu Hayyan 'Ali ibn Muhammad. Al-Imta' wa-l-Mu'anasah (in Arabic). 1st ed., Al-Maktaba al-'Asriyya, Beirut, 1420 AH.

Al-Yūsuf, Yūsuf. al-ghazal al-ʻudhrī : dirāsah fī al-ḥubb almqmw (in Arabic). 3rd ed., Dār al-ḥaqāʼiq, Beirut, 1982.

ʻĀmūd, Badr al-Dīn. ʻilm al-nafs fī al-qarn al-ʻishrīn (in Arabic). Ittiḥād al-Kitāb al-ʻArab, Dimashq, 2001.

'Awwad, Mahmud. Mu'jam al-Tibb al-Nafsi wa-l-'Aqli (in Arabic). Dar Usama lil-Nashr wa-l-Tawzi', Jordan, 2011.

Bakkar, Yusuf Husayn. Ittijahat al-Ghazal fi al-Qarn al-Thani al-Hijri (in Arabic). 1st ed., Dar al-Ma'arif, Cairo, 1971.

Bāshā, Aḥmad Taymūr. al-ḥubb ʻinda al-ʻArab (in Arabic). 1st ed., Dār al-Āfāq al-ʻArabīyah, Cairo, 2000.

Burzija, Ra'uf. Mafhum al-Hawiyya Hasaba al-Manthur al-Tahlili (in Arabic). Algeria: Al-Mu'assasa al-'Arabiyya lil-Istisharat al-'Ilmiyya wa-Tanmiyat al-Mawardi al-Bashariyya, 2012.

Di'f, Ahmad Shawqi 'Abd al-Salam. Al-Hubb al-'Udhri 'Ind al-'Arab (in Arabic). 1st ed., Al-Dar al-Masriyya al-Lubnaniyya, Cairo, 1999.

–––. Al-Tatawwur wa-l-Tajdid fi al-Shi'r al-Umayy (in Arabic). 8th ed., Dar al-Ma'arif, Cairo, 1959.

–––. Tarikh al-Adab al-'Arabi (in Arabic). 7th ed., Dar al-Ma'arif, Cairo, 1963.

Freud, Sigmund. 'Ilm Nafs al-Jamahir (in Arabic), trans. George Tarabishi, Dar al-Tali'a lil-Tiba'a wa-l-Nashr, Beirut.

 –––. Madkhal ilá al-Taḥlīl al-nafsī (in Arabic). trans:: Jūrj Ṭarābīshī. 3rd ed., Dār al-Ṭalīʻah, Beirut, 1995.

–––.al-Taḥlīl al-nafsī llhstyryā (in Arabic). trans:: Jūrj Ṭarābīshī. 1st ed., Dār al-Ṭalīʻah lil-Ṭibāʻah wa-al-Nashr, Beirut.

–––. Mā fawqa Mabdaʼ al-ladhdhah (in Arabic). trans: Isḥāq Ramzī. 5th ed., Dār al-Maʻārif, Miṣr.

Frawm, Irīk. Fann al-ḥubb. Trans:: Mujāhid ʻAbd al-Munʻim Mujāhid, Dār al-ʻAwdah, Beirut, 1980.

Ḥamdāwī, Jamīl. naẓarīyāt al-qirāʼah fī al-naqd al-Adabī (in Arabic). 1st ed., [n.p.], 2015.

Ḥusayn, Ṭāhā. Ḥadīth al-Arbiʻāʼ(in Arabic) Maktabat al-usrah, 1997.

Ibn al-Mibrad, Yūsuf ibn Ḥasan al-Ḥanbalī. Nuzhat al-musāmir fī Akhbār majnūn Banī ʻĀmir(in Arabic). Ed.: Maḥmūd altāwnjy, ʻĀlam al-Kutub, Beirut, 1994.

Ibn Hazm al-Andalusi, Abu Muhammad 'Ali ibn Ahmad. Tawq al-Hamama fi al-Ulfa wa-l-Alaf (in Arabic), ed. Ihsan 'Abbas, 2nd ed., Al-Mu'assasa al-'Arabiyya lil-Dirasat wa-l-Nashr, Beirut, 1987.

Ibn Qutayba, 'Abd Allah ibn Muslim. Al-Shi'r wa-l-Shu'ara' (in Arabic), ed. Ahmad Muhammad Shakir, 2nd ed., Dar al-Hadith, Cairo, 1423AH.

ʻĪd, Ṣalāḥ. al-ghazal al-ʻudhrī Ḥaqīqat al-ẓāhirah wa-khaṣāʼiṣ al-fann (in Arabic). 1st ed., Maktabat al-adab, Cairo, 1993.

Jamīl ibn Muʻammar. al-Dīwān (in Arabic). ed. Buṭrus al-Bustānī, Dār Ṣādir lil-Ṭibāʻah wa-al-Nashr, Beirut, 1966.

Julman, Daniel. Al-Dhaka' al-'Atifi (in Arabic), trans. Layla al-Jabali, rev. Muhammad Yunus, Al-Majlis al-Watani lil-Thaqafa wa-l-Funun wa-l-Adab, Kuwait, 2000.

Kathīr ʻAzzah. al-Dīwān (in Arabic). Ed. Majīd Ṭarrād, Dār al-Kitāb al-ʻArabī, Beirut, 1993.

Khallif, Yusuf. Al-Hubb al-Mithali 'Ind al-'Arab (in Arabic). Dar Qiba' lil-Tiba'a wa-l-Nashr wa-l-Tawzi'.

Law Būn, Ghūstāf. sāyklwjyh al-Jamāhīr (in Arabic). Trans:: Hāshim Ṣāliḥ, 1st ed., Dār al-Sāqī, 1991.

Labīb, al-Ṭāhir. Sūsiyūlūjiyā al-ghazal al-ʻArabī al-shiʻr al-ʻudhrī namūdhajan (in Arabic), trans: Muṣṭafá al-Misnāwī. 2nd ed., Dār al-Ṭalīʻah lil-Ṭibāʻah wa-al-Nashr, Beirut, 1987.

Muṣṭafá, Maḥmūd. al-adab al-ʻArabī wa-tārīkhuhu fī ʻaṣr Ṣadr al-Islām wa-al-dawlah al-Umawīyah (in Arabic). 2nd ed., Maṭbaʻat Muṣṭafá al-Bābī al-Ḥalabī wa-Awlāduh, Cairo, 1937.

Qays ibn al-Mulawwaḥ. al-Dīwān (in Arabic). ed. ʻAbd al-Sattār Aḥmad Farrāj, Dār Miṣr lil-Ṭibāʻah, Cairo.

Qays ibn Dharīḥ. al-Dīwān (in Arabic). ed. ʻAbd al-Raḥmān almṣṭāwy. 2nded., Dār al-Maʻrifah, Beirut, 2004.

Salāmah, Amīn. al-ḥubb fī al-mīzān (in Arabic). Muʼassasat Hindāwī, 2022.

Salāmah, Muʻtazz. talaqqī Jamālīyāt al-khiṭāb al-ʻudhrī (in Arabic). al-Hayʼah al-Miṣrīyah al-ʻĀmmah lil-Kitāb, Cairo.

ʻUwayḍah, Kāmil Muḥammad. al-Taḥlīl al-nafsī (in Arabic). murājaʻat Muḥammad Rajab al-Bayyūmī. 1st ed., Dār al-Kutub al-ʻIlmīyah, Beirut, 1996.

Yūngh, Kārl. Jadalīyat al-anā wāllāwʻy (in Arabic). trans: Nabīl Muḥsin, Dār al-Ḥiwār lil-Nashr wa-al-Tawzīʻ, Sūriyā, 1997.

–––. ʻIlm al-nafs al-taḥlīlī (in Arabic). trans: Nihād Khayyāṭah. 2nd ed., Dār al-Ḥiwār lil-Nashr wa-al-Tawzīʻ, Syria, 1997.



* البحث مستل من رسالة ماجستير بعنوان: «تفكيك الهُوّيّة الذكورية عند شعراء الغزل العذري في العصر الأموي: قراءةٌ نفسيةٌ»، للباحث ليث النيص، في تخصص اللغة العربية وآدابها بكلية الدراسات العليا، جامعة النجاح الوطنية، أجيز في 9/2023.

* The research is derived/extracted from a doctoral/master’s thesis entitled: “The Deconstruction of Masculine Identity Among Platonic Ghazal Poets in The Umayyad Era a Psychological Reading,” by Laith Al-Nais, in completion of Arabic Language and Literature at the College of Graduate Studies, University An-Najah National University, awarded in 9/2023