تاريخ الاستلام: 04 يناير2023
تاريخ التحكيم: 31 يناير 2023
تاريخ القبول: 22 فبراير 2024
زاهر بن بدر الغسيني
أستاذ مُشارك، قسم اللغة العربية، جامعة السلطان قابوس – سلطنة عُمان
zahir@squ.edu.om
إدريس بن عبد الله الحضرمي
ماجستير في الأدب العربي، مدرس وباحث، وزارة التربية والتعليم – سلطنة عُمان
arwaid9@gmail.com
يهدف البحث إلى دراسة الوعي اللوني بالأبيض والأسود في الشعر الأندلسي والشعر العُماني من خلال اختيار أنموذجين: ابن خفاجة الأندلسي وسليمان بن مظفر النبهاني، بُغية الوصول إلى مدى وعي الشاعر الأندلسي والشاعر العُماني باللون وتبايناته المختلفة، ومدى تمكنهما من توظيف الألوان في نقل همومهما وعُقدهما النفسية، التي أخرجها لنا الإبداع الشعري من مكامن اللاشعور، لكون الألوان ثيمة شعرية متباينة التوظيف، والتجربة الشعرية اللونية تمثل تشكيلًا لواقع يُعيد الشاعر ترتيبه وفق ظروفٍ نفسية يئن تحت وطأتها، فكان الإسقاط اللوني خَلاصًا له. ويعتمد البحث نظرية التحليل النفسي لسيغموند فرويد منهجًا عِلميًا، كونها تبحث في اللاشعور، وبوصف الإبداع الشعري أحد منافذ التعبير عن الأمور المكبوتة عند الإنسان. وجاء اختيار اللونين الأبيض والأسود لكونهما الأكثر شيوعًا في ديواني الشاعرين، واستطاع الشاعران من خلالهما نقل تجارب نفسية حياتية مختلفة، ممَّا يستوجب دراسة اللون في الشعر من خلال ربطه بسياق النص الشعري؛ لاستنطاق وظيفته التعبيرية وفاعليته الوظيفية عن طريق التحليل المعتمد على السياق الذي وَرَد فيه اللون.
الكلمات المفتاحية: اللون، الحالة النفسية، ابن خفاجة، سليمان النبهاني، سيغموند فرويد، اللاشعور
للاقتباس: الغسيني، زاهر بن بدر والحضرمي، إدريس بن عبد الله. »الوعيُ اللونيُّ بالأبيض والأسود في الشِّعرين الأندلسي والعُماني: ابن خفاجة وسليمان النبهاني أنموذجًا «. أنساق في الآداب والعلوم الإنسانية، المجلد الثامن، العدد 1، 2024، ص157-185. https://doi.org/10.29117/Ansaq.2024.0202
© 2024، الغسيني والحضرمي، الجهة المرخص لها: كلية الآداب والعلوم، دار نشر جامعة قطر. نُشرت هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0
Received: 04 January 2023
Reviewed: 31 January 2023
Accepted: 22 February 2024
Zahir B. Al-Ghusaini
Associate Professor, Arabic Language Department, Sultan Qaboos University–Sultanate of Oman
Idris A. Al Hadhrami
MA in Arabic Literature, Teacher and Researcher, Ministry of Education–Sultanate of Oman
This study delves into the nuanced perception of black and white colors within the realm of Andalusian and Omani poetry, focusing on the works of Ibn Khafaja and Sulaiman bin Muzaffar al-Nabhani. It aims to uncover the depth of these poets' engagement with color, examining how they utilize black and white to articulate their personal dilemmas and psychological intricacies that surface through their poetic expressions. This exploration is anchored in the belief that color serves as a versatile poetic motif, with the poetic rendition of color experiences offering a reconstitution of reality tailored by the poets' psychological states, thereby rendering color projection as a means of catharsis. Employing Sigmund Freud's psychoanalytic theory as its foundational methodology, this research probes into the unconscious elements of poetic creation, viewing it as a vehicle for expressing the suppressed aspects of the human psyche. The selection of black and white, predominant in the poets' anthologies, facilitates an exploration of diverse psychological and existential experiences, necessitating an analysis of color within poetry through its contextual integration to unveil its expressive and functional potency.
Keywords: Color; Psychological State; Ibn Khafaja; Sulaiman al-Nabhani; Sigmund Freud; The Subconsciousness
Cite this article as: Al-Ghusaini, Z.B. & Al Hadhrami, Idris A. "The Chromatic Awareness of Black and White in Andalusian and Omani Poetry: Ibn Khafaja and Sulaiman al-Nabhani as a Model". Ansaq in Arts and Humanities, Vol. 8, Issue 1, 2024, pp. 157-185. https://doi.org/10.29117/Ansaq.2024.0202
© 2024, Al-Ghusaini & Al Hadhrami, licensee, College of Arts and Sciences & QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited. https://creativecommons.org/licenses/by-nc/4.0
تُعدُّ الألوان مكونًا أساسًا في بنية النص الشعري، إذ يسعى الشاعر من خلالها إلى إيجاد مفاهيم جديدة ينزاح بها عن الصورة النمطية للون في ظاهره، وفي ذلك ما يؤكد طابع الخصوصية في توظيف الألوان، الذي يختلف من شاعر لآخر، ومن تجربةٍ لأخرى، فالشاعر لحظة شعره «يكون قد انتقل من حال (الرؤية) إلى حال (الرؤيا)؛ ليكون الشعر في حينها مزيج من الرؤية والرؤيا؛ وفي إطار لغةٍ تتم على مستويين: الأول: من حيث علاقتها بقاموس اللغة العام، والثاني: من حيث إن لهذه اللغة علاقة بالتجربة الداخلية للمبدع» (الطريسي 23، 63).
ومثَّلت الألوان في الشعر الأندلسي والشعر العُماني قيمة فنية، ودلالة إثرائية شعرية شكَّلت حضورًا لافتًا في الشعرين معًا، انطلق فيه الشاعران الأندلسي والعُماني من مرجعيات نفسية، أثَّرت في تغير إحساس الشاعر باللون، وهو يوظف درجات الألوان للتعبير عن الحالة التي تُلازمه، سيَّما وأن دلالة التعبير باللون في النص الشعري إمَّا تصريحًا لفظيًا، وإمَّا لفظًا ضمنيًّا؛ وإما صورة جمالية، تختلف والمعاناة الداخلية المراد إسقاطها في أعماق النص. وتكمن مشكلة البحث في أن الأدبين الأندلسي والعُماني ما زالا يبحثان عن الدراسات المُعمقة التي تتنبه إلى القضايا الضمنية، وتكمن جدة هذا البحث في أنه يدرس موضوعًا لم يتنبه إليه الباحثون من خلال الموازنة في الحضور اللوني بين الأدب الأندلسي والأدب العُماني.
يُعدُّ «سيغموند فرويد» (1958-1939م) المؤسس الأول للتحليل النفسي القائم على استنطاق اللاشعور، بعدما ظلَّ الناس فترة زمنية يتعاملون فقط مع الشعور، واستلهم فرويد هذه النظرية من إشارات سابقة تعرض لها الفلاسفة، تحت ما يُسمى «التأويل»، أو فن «العرافة» (فرويد 12)، ويرى فرويد أن الشطر الأكبر من انفعالات الإنسان وسلوكه يعود إلى اللاشعور الذي يؤثر في السلوك الفردي؛ لكونه «يحتوي على كل المكبوتات من الخبرات والعقد، ويصعب استدعاء وتذكر ما يحويه من هذه الخبرات إلا بواسطة الأحلام في أعراض بعض الأمراض النفسية» (سفيان 73). وتتشابه مرحلة اللاشعور مع مرحلة ما قبل الشعور التي تجُول بتجارب عقلية لا يشعر بها الإنسان، وتخالفه في كون هذه التجارب عبارة عن رغبات لم تتحقق، أو مخاوف هزت كيان الإنسان، أو آمال لم يسمح بها النظام المجتمعي، فانحدرت إلى اللاشعور بفعل الكبت الذي تعرضت له بفعل الرقيب «الأنا الأعلى» (الماضي 135، 136، 137)، وانصبَّ تركيز فرويد على اللاشعور؛ ليصل إلى ما وراءه من عقد عايشها المبدع في فترة ما، ثمَّ انتقلت بسبب كبتٍ ما إلى منطقة اللاشعور.
أدركتْ العقلية العربية علاقة الأدب بالنفس البشرية وأحوالها، وتحدثت الشخصية العربية عن هذا الجانب في الكثير من المؤلفات، منها مثًلا ما أشار إليه ابن قتيبة: «قيل للحطيئة، أي الناس أشعر؟ فأخرج لسانًا دقيقًا كأنه لسان حية، فقال: هذا إذا طمع»، وروي أيضًا: «قال عبد الملك بن مروان لأرطأة بن سُهية: هل تقول الآن شعرًا؟ قال: (كيف أقول وأنا) ما أشرب ولا أطرب ولا أغضب، وإنما يكون الشعر بواحدة من هذه»، وهنا يربط ابن سهية قول الشعر بواحدة من حالات النفس (الشرب، الغضب، الطرب)، ولعله أتى بهذه الثلاث من قبيل التمثيل، والأمر نفسه نجده عند الشنفرى لما أُسر، فقيل له: «أنشد، فقال: الإنشاد على حين المسرّة» (الدينوري 79، 80). أمَّا في القرن العشرين؛ فقد بدأت هذه العلاقة تأخذ منحىً علميًا، يسعى إلى تحليلها، سيما بعد ظهور كتاب «تفسير الأحلام» (1900م) لـ«فرويد»، الذي وسَّع مفهوم الأحلام إلى الأحلام التي يخترعها الكتّاب، فكان فرويد يُحلل في كتابه «التحليل النفسي والفن» شخصيتين أدبيتين، هما: «دافنشي»، و«دستوفيسكي»، من خلال الغوص في حياتهما، وتتبع أعمالهما، ثم أخذ التحليل النفسي يتغلغل في الأعمال الأدبية، إذ نجد تفسيرات نفسية لمسرحية «هاملت» لـ«شكسبير»، وتحليلات لأعمال «دستوفيسكي» و«جوته» و«بودلير»، وغيرهم، ثم وجد التحليل النفسي طريقه في النقد العربي عند العقاد والنويهي في تحليل شخصية أبي نواس، وطه حسين في تحليل شخصية المتنبي، وشخصية أبي العلاء،... إلخ.
يُحتم المسار المنهجي للبحث التعريف بالشاعرين قَيد البحث، فابن خفاجة هو أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الفتح بن عبيد الله بن خفاجة الهوَّاري، وعُرف بـ(ابن خفاجة)، عاش خلال الفترة (450-533هـ)، وُلد في بلدة (شُقْر) في بلنسية، وقال عنه صاحب (الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة): «الناظم المطبوع، الذي شهد بتقديمه الجميع، المتصرف بين حكمه وتحكمه البديع، تصرف في فنون الإبداع كيف شاء...» (الشنتريني 541).
ويُمثل شعر ابن خفاجة الأندلسي نقًلًا للحالة النفسية التي يعيشها؛ سيما وأنه عاش في فترة سياسية مضطربة من فترات الأندلس، وهي عصر الطوائف، وما شهدته الأندلس من تمزق سياسي، فكانت الطبيعة ملاذًا يُسقط عليها معاناته، الذي يُعدُّ من وجهة نظرية التحليل النفسي من أقوى المُعينات لإخراج ما يغلي في النفس البشرية، وعلى هذا أخرج ابن خفاجة اللون من معناه النمطي الظاهر للعين إلى دلالات عاطفية عميقة. وتكشف قراءة التوظيف اللوني للأبيض في شعر ابن خفاجة أنه جاء انعكاسًا لمتغيرات حياته، والواقع والنفسية التي يئن تحت وطأتها، فتباين التوظيف اللوني في بداية حياته حيث الألوان المشرقة الباهية، التي تحوَّلت إلى ألوان قاتمة في المرحلة الثانية من حياته، وارتكزت حول: الموت، العزلة، القلق الوجودي، والغربة النفسية التي ظلَّت تُلازمه، وسوف يعتمد هذا البحث على ديواني الشاعرين: ديوان ابن خفاجة، لسيد غازي، الصادر في طبعته الثانية عام 1979عن مطبعة منشأة دار المعارف بمصر.
إن قراءة التوظيف اللوني في ديوان ابن خفاجة تؤكد أن اللون الأبيض يحتل المرتبة الثانية بعد اللون الأسود، وبَدَا اللون الأبيض عند ابن خفاجة مُشرقًا في بداية حياته، منها قوله:
وَنَهْرًا
كما
ابْيَضَّ
المُقبَّلُ
سَلْسَلًا |
|
وجِزْعًا
كما
اخْضَرَّ
العِذارُ
خضيبا |
لقد حاول ابن خفاجة من خلال توظيف اللون الأبيض أن يربط صورة النهر (كما ابْيَضَّ المُقبِّلُ) بصورة ثغر المرأة، في إسقاط نفسي تُشير إليه مَقْصِدِيَّةَ الشاعر في التوظيف اللوني للأبيض وعلاقته بألوانٍ تعكس بياض الطبيعة واخضرارها. وخلافًا لذلك، فقد تباين التوظيف اللوني للأبيض عند ابن خفاجة، حين وضعه في إطارٍ مُغلَّفٍ بالأحزان، التي كانت انعكاسًا لنفسيته، إذ يقول:
وأرْشُفُ نَثرَ الطلَّ من كُلِّ وردةٍ |
|
مَكَانَ
بَيَاضَ
الثَّغرِ من
حُوَّةِ
اللَّمى |
وفي سياق آخر يَقْرِنُ اللون الأبيض بالصبح، في تضاد لوني يترجم خوف الشاعر من الزمن؛ فكان اللون الأبيض ملجأ له:
وإِني
إذا ما
الليلُ جاء
بِفَحْمةٍ |
|
لَأَورِى
زِنَادَ
الهَّمِّ
فيها
فأقْدِحُ |
وألقى
بياضُ
الصُبْحِ
يَسْوَدُّ
وَحشَةً |
|
فأحسَبُنِي
أُمْسِي على
حِينِ
أُصْبِحُ |
إن البياض اللوني هنا يأتي انعكاسًا لحالة القلق الوجودي التي تُلازم الشاعر، نتيجة خوفه من الزمن؛ فكان (بياض الصبح) أشبه بمحاولة الانزياح اللوني عن المباشرة، إذ انصهر اللون الأبيض بعد أن بَسَطَ الليلُ رِدَاءَهُ؛ فتحوَّل إلى غياهب ظلام أسود (يسودُّ وحشةً). والأمر نفسه يظهر في توظيف الثنائية الضدية بين الأبيض والأسود:
وإنما
ضَاءَ بليلِ
الصِّبَا |
|
صُبْحُ
مَشيبٍ
ساءَنِي أنْ
أَضَا |
لاحَ
ففي عينيَّ
نُورُ
الهُدى |
|
مِنهُ
وفي قَلبيَ
نارُ الغَضَا |
وابْيَضَّ
من فَوْدي
بهِ أسْوَدٌ |
|
كُنتُ
أرى اللّيلَ
بهِ أبْيَضا |
وفي قوله:
نَسَخَ
الضَّريبُ
بها
الظَّلامَ
حَمَامةً |
|
فابيضَّ
كلُّ غُرابِ
ليلٍ أسودِ |
إن هذا الجمع الضدي بين الأبيض والأسود في السياق نفسه يعكس فوضى الحواس والحالة النفسية التي يعيشها الشاعر، وهو يجمع اللونين المتضادين معًا، وبينهما مساحة من قلقٍ وتناقضٍ مشاعري عند ابن خفاجة، ودلالة التضاد من التفاؤل والتشاؤم، واليأس والأمل.
أمَّا الشاعر العُماني في هذا البحث فهو سليمان بن سليمان بن مظفر بن سليمان النبهاني، أحد ملوك الحقبة الأولى من ملوك بني نبهان في عُمان، وأقصى المؤرخون أغلب تاريخه، ولكن لم يذكر أي مرجع من المراجع تاريخ ولادته، ويحددون تاريخ وفاته بعام (906هـ)؛ وميلاده في النصف الأول من القرن التاسع على التقريب. (الأزكوي 84، ابن رزيق 110). وسوف يعتمد هذا البحث على ديوان النبهاني بتحقيق عز الدين التنوخي، الصادر في طبعته الثالثة عام 2017 عن وزارة التراث والثقافة (بمسماها القديم/ وزارة التراث والسياحة بمسماها الجديد) في سلطنة عُمان.
ويُعدُّ النبهاني من الشعراء الذين نقلوا تجاربهم الشخصية، ومعاناتهم النفسية، عن طريق التسجيل الحسيِّ، والتصوير التخيليِّ، مستفيدًا من براعته الشعرية، ومقدرته اللغوية، مستخدمًا الألفاظ المباشرة، والألفاظ الضمنية الموحية طورًا، والصور البيانية والمحسنات البديعية طورًا آخر، وذلك ما يتضح من توظيفه للون، إذ لم يعتمد على استنطاق الدلالة اللونية بألفاظها المباشرة فحسب، بل استخدم الألفاظ الموحية باللون في مواضع كثيرة تفوق استخدامه الألفاظ اللونية المباشرة، ولجأ إلى التشبيه والاستعارة والكناية في مواضع أخرى.
ولا غرابة أن يكون اللون الأبيض أكثر الألوان شيوعًا في الشعر العربي بوصفه اللون الأقرب من النفس البشرية، وقد فطن إليه الشعراء العرب، فوظَّفوه في أشعارهم بصوره المختلفة المباشرة منها وغير المباشرة. وأكثر النبهاني من استخدام اللون الأبيض مستفيدًا من الدلالات الكثيرة التي تنبع منه، إذ إن اللون الأبيض أكثر الألوان شيوعًا في ديوانه، وقد ورد بلفظه المباشر، مراوحًا بين صيغ البياض المختلفة (أَبْيَض، بَيْضَاء، بِيْض، بَيَاْض، مُبْيَضَّة)، ووردَ أيضًا بألفاظ مضمَّنة للون الأبيض مثل:(دُرِّيَة الثَّغْرِ، الإِبْرِيْز، الْعِيْس، الصَّبَاح الأَبْلَج، نُوْر الأَقَاحِ، يَقَق، مُزْهِر، وَجْه مُشْرِق، المُنَوَّر، نُصَّع، لُؤْلُؤْيِات) وغيرها من الألفاظ الموحية باللون الأبيض.
وباستقراء اللون الأبيض في ديوان النبهاني، يتضح أن الأبيض أشد الألوان التصاقًا بشخصية النبهاني، إذ استعان به ليعبِّر عمَّا يختلج في أعماق نفسه من أحاسيس ومشاعر، ومن صراعات نفسية مكبوتة في اللاشعور، تهيج وتموج تريد الخروج إلى عالم الشعور. وحضر اللون الأبيض كثيرًا في غزل الشاعر بمحبوباته الثلاث عشرة اللائي أراد إظهار مواطن الجمال لديهنَّ، ولإبراز هذا الجمال - بشقيه المعنوي والشكلي - كان لا بُد من الاستعانة باللون الأبيض، فاللون الأبيض كان ولا يزال أكثر الألوان حضورًا في الغزل، إذ توصف به وجوه المحبوبات، وأسنانهن، وصدورهن، ويكون أيضًا وصفًا لنقائهن وصفائهن. يقول سليمان النبهاني متغزلًا بسُكَيْنَة:
وَسُكَينَة
تُصمِي
القُلُوبَ |
|
إِذَا
جَلَتْ
وَجهًا
وَخَدًّا |
بَيْضَاءُ
بَاكَرَهَا
النَّعِيمُ |
|
فَأَشْرَقَت
عَجْزًا
ونَهْدًا |
يذكر الشاعر هنا أنه صرف باله عن محبوباته (سُكَيْنَة، هِنْد، أُمْ الرَّبَاب، دَعْد)، إلا إنه لم يستطع مقاومة جمال سُكَينة وملامح وجهها، ولم يكتفِ الشاعر بذلك، بل صرَّح في البيت الثاني بلفظة (بَيْضَاء) على وزن (فَعْلَاء)، وهذا البياض من النعيم والراحة اللذين باكرَا هذه المحبوبة، وليزيد المعنى وضوحًا، استعان بلفظٍ مُضَمَّنٍ شدة البياض، وهو (أَشْرَقَتْ)، أي: كأنها الشمس المنيرة من شدة بياضها، وهذا البيت يُحيل إلى بيت مجنون ليلى:
بَيضَاءُ
بَاكَرَها
النَّعِيمُ
كَأَنَّهَا |
|
قَمَرٌ
تَوَسَّطَ
جُنْحَ
لَيْلٍ
أَسْوَدِ |
وفي تجربة تؤكد على المعنى ذاته، ينتقل بنا الشاعر في قصيدة أخرى إلى محبوبة طالما تغزَّل بها، بل هي أكثر المحبوبات حضورًا في ديوانه، وهي رَايَة، إذ يقول إنها فائقة الجمال: (غَرَّاءُ مُسْفِرَةُ التَّرَائِبِ) أي: بيضاء الصدر، وعيناها كعيني الغزال الأغيد:
تَسْبِي
العُقُولَ
بِصُبْحِ
وَجْهٍ
أَبْيَضٍ |
|
بَادِي
الضْيَاءِ
ولَيْلِ
فَرْعٍ
أَسْوَدِ |
وَمَتَى
ظَلَلْنَا
فِي
غَيَاهِبِ
لَيْلَةٍ |
|
تُسْفِر
فَنُبْصِرُ
فِي
الظَلامِ
وَنَهتَدِي |
يستعين النبهاني باللون الأبيض صراحة في إبراز جمال وجه محبوبته، هذا الجمال الذي يَسْبِي العقول، واستخدم الشاعر هنا لفظة (أَبْيَضَ) على وزن (أَفْعَلَ) وصفًا للوجه، ولم يقف عند ذلك؛ بل استخدم لفظين آخرين يَشِيَان بشدة بياض هذا الوجه: (صُبْحٌ، بَادِيْ الضْيَاءِ)، وفي هذا البيت محسن بديعي بين صبحِ وليلٍ، وأبيض وأسود، فجمال المحبوبة واقع بين بياض الوجه وسواد الشَّعر، ويرسم النبهاني في البيت الثاني صورة لونية حسيَّةً تصل إلى ذهن المتلقي؛ فتنطبع في نفسه. وفي قصيدة أخرى يقول عن رَاْيَةَ أيضًا:
وَرَايةُ
أحْسَنُ
الخَفَرَات
وَجْهًا |
|
وأَكْثَرُهُنَّ
عَنْ فُحْشٍ
نِفَارًا |
يَشُوبُ
بَيَاضُهَا
الْحرُّ
اصْفِرَارًا |
|
يَلُوْحُ
كَفِضَّةٍ
مُسَّتْ
نُضَارًا |
جاءت هذه الأبيات بعد مجموعة من صفات الجمال التي أسبغها الشاعر على راية، فشَعر راية (كَجُنْحِ الَّلَيْلِ دَاجٍ)، ووجهها (مُشْرقٌ يَحْكِي النَّهَارَا)، وريقها (صَافِي الشَّهْدِ عَلُّ)، وقدُّها مثل (خُوْطِ الْبَانِ لَدْنٌ)، وردفها (كَمَوْجِ الْبَحْرِ فَعْمٌ)، ثم عاد الشاعر إلى وجهها مرة أخرى؛ ليؤكد أنَّه وجه مشرق منير، وأنه أجمل الوجوه وأحسنها، ثم استخدم لفظة (بياض) صراحة؛ ليزيد هذا المعنى تأكيدًا، ولكن هذا البياض مشوب بصفرة، ولكن ليست صفرة المرض، بل الصفرة التي تُزَيِّنُ البياض، التي طالما تغزَّل بها الشعراء، والنبهاني يؤكد على هذا المعنى في الشطر الثاني، عندما شبَّه هذا البياض المشوب بصفرة، بالفضة البيضاء التي مازجها الذهب. وفي تجربة عاطفية مع محبوبة أخرى، لم يصَّرِح باسمها، يقول النبهاني:
وَبَيْضَاءَ
كَالْبَيْضَاءِ
بِكْرًا
طَرَقْتُهَا |
|
وَأَتْرَابَهَا
وَالليْلُ
خُضْرٌ
كَلاكِلُه |
في هذا البيت وما تلاه من أبيات يخوض الشاعر إحدى مغامراته الليلية، التي يقتحم فيها خِبَاء النساء، أشبه بمغامرات عمر بن أبي ربيعة، ويستعين النبهاني باللون الأبيض في إبراز جمال المرأة التي طرق خباءها، فهي بيضاء، وزاد المعنى وضوحًا عندما شبَّهها بالبيضاء (بَيْضَاءُ كَالْبَيْضَاءِ).
ومن المغامرات الغرامية الأخرى التي عاشها الشاعر في زمن ما، ثم استحضرها يومًا متحسرًا على انقضائها وذهابها، يقول:
نَلهُو
وَنَمْرَحُ
بَيْنَ
بِيضٍ
نُهَّدٍ |
|
غِيدٍ
عَطَابِلَ
كالْعَوَاهِجِ
خُذَّلِ |
تَفْتَرُّ
عَنْ غُرٍ
كَأَنَّ
وَمِيْضَهَا |
|
بَرْقٌ
أَضَاءَ
بِعَارِضٍ
مُتَهَللِ |
وَلَهَا
مُحيَّا
كَالْغَزَالَةِ
مُشْرِقٌ |
|
مِنْ
تَحْتِ
مُنْسَدِلِ
الْغَدَائِرِ
مُرْسَلِ |
كالْغُصْنِ
فَوْقَ
الدَّعْصِ
رُكِّبَ فَوقَهُ |
|
بَدْرٌ
تَلأَلأَ
تَحْتَ
لَيْلٍ
أَلْيَلِ |
يحضر اللون الأبيض في هذه المغامرة بشكلٍ مكثَّف: (عَطَابِلُ، الْعَوَاهِجُ، خُذَّلُ، غُرُّ، ومِيْضُ، بَرْقُ، أَضَاْء، مُشْرقٌ، بَدْرٌ، تَلَأْلَأَ)، كُلُّ ذلك جاء لإبراز جمال هذه النساء، فالشاعر لم يكتف بلفظ (بِيْضٍ)، بل أتى بألفاظ تُعمِّق هذه الدلالة، وتزيدها وضوحًا، سيَّما في البيت الأخير، الذي شبَّه فيه إحدى هذه النساء، بالغصن النابت في التراب المستدير، وقد رُكِّب في طرفه بدرٌ متلألِأ، تشبيهًا لوجه المرأة المشرق بياضًا.
وعليه؛ فقد اعتمد الشاعر على اللون الأبيض الصريح في مغامراته الغزلية، التي اتسمت بالشطط العاطفي، والنرجسية، سواء أكان الغزل بالجمال الشكلي، كقوله: «ومن ملك البيض الحسان زمامه»، وقوله: «بَيْضَاءُ رَيَّا السَّاقِ رَيَّا المَنْطِقِ»، وقوله: «وَأَوْجَفَتْ بِنَا الْعِيْسُ لِلْبِيْضِ الْحِسَانِ»، وقوله: «مُقَاْمٌ لِبَيْضَاءَ وَهْنَاْنَةٍ»، أم كان الغزل بشيء معنوي، كالحسب مثلا في قوله: «لَهَاْ حَسَبٌ كَالشَّمْسِ أَبْيَضَ نَاصِع»، ولم يستخدم النبهاني هذا اللون في شيء يخص الإنسان غير الغزل، إلا في موضع يتيم، جاء في معرِض الفخر بقومه، وذلك في قوله:
فَصَدَّكُمُ
عَنهُ منَّا
مَعْشَرٌ
أُنُفٌ |
|
بِيْضٌ
قَلامِسُ
مَهْمَا
حَارَبُوا
ظَفَرُوا |
جاء هذا البيت في معرض الفخر بقومه، ووصفهم الشاعر بالبِيض، وإطلاق اللون الأبيض على الرجل عند العرب لا يقصد به الجمال الخَلْقِي، فالشاعر أراد به هنا إضفاء صفة النقاء والصفاء مع الكرم؛ لأنه أعقبها بلفظ «قَلَامِس»، ومن معانيها «البَحْرُ، والرَّجُلُ الخَيِّرُ المِعْطَاء» (الفيروز آبادي 1361).
أما الألفاظ التي جاءت موحية باللون الأبيض من غير أن يُذْكَر معها لفظ الأبيض صراحة، فهي مبثوثة في سياقات عدة في الديوان، منها تَذَكُّرُهُ محبوبتيه: بَرَارَةَ ومُوْذِيَة، فقال في جمالهما:
بَرَارَةُ
كَالْبُدُورِ
تُضِيءُ
نُورًا |
|
وَلَكِنْ
لَا تَخَافُ
بِهِ
مُحَاقَا |
وَمُوذِيَةٌ
تَفُوقُ
الْكُلَّ
حُسْنًا |
|
وَوَجْهًا
فَاقَ
مَنْظَرهُ
ورَاقَا |
يستعين الشاعر لبيان جمال بَرَارَةَ ومُوْذِيَة بألفاظ توحي ببياضهما (الْبُدُور، تُضِيءُ نُورًا، لَا تَخَافُ بِهِ مُحَاقَا، تَفُوقُ الْكُلَّ حُسْنًا، فَاقَ مَنْظَرهُ)، إذ يبدأ الشاعر بتشبيه نور وجه بَرَارَةَ بالبدور، وفي ذلك زيادة تأكيد، إذ لا يكتفي ببدرٍ واحدٍ، بل بمجموعة بدور، وكأنه يقول إنَّ جمالها يفوق جمال البدر منفردًا، فلا بد من جمع عدة بدور لمجاراة جمالها، ثم يأتي بكلمتين تؤكدان شدة جمالها، وهما (تضيء، نورًا)، وقبل أن يتسلل إلى عقل المتلقي أنَّ وجهها منير في وقت، ومظلم في وقت آخر، مثل البدور الطبيعية؛ يفاجئه الشاعر بالشطر الثاني، وهو أنَّ بدرها لا يصيبه المحاق، وذلك يعني أنه مشرق أبيض اللون في كل وقت وحين. والحال كذلك في مُوْذِيَةَ، فهي فائقة الحسن والجمال، سيَّما وجهها الذي تَفَوَّقَ في الإشراق على كلِّ وجه. ومن قبيل ذلك قوله متغزلًا في صويحبات مُوْذِيَة:
خُرَّدٌ
غُنٌ
حِسَانٌ
بُهَّجٌ |
|
وُضَّحٌ
يَسْحَبَنَ
أَذْيَالَ
السَّرَقْ |
لُؤلُؤيَاتُ
الثَّنَايَا
شُمَّسٌ |
|
نَاعِمَاتٌ
عَنْبَرِيَاتُ
العَرَقْ |
عَطِرَاتٌ
عَوهَجِيَاتُ
الطِّلَى |
|
خَطِرَاتٌ
نَرْجَسِيَّاتُ
الحَدَقْ |
هذه الأبيات جزء من لوحة فنية رسمها الشاعر لصاحبات محبوبته مُوْذِيَة، وفيها ينثر الشاعر عليهن صفات البهاء والجمال، مستخدمًا ألفاظًا حلَّت محلَّ اللون الأبيض المباشر، وكانت الدلالة فيها أبلغ، منها لفظة (حِسَانٍ) التي أعقبها بألفاظ صيغ المبالغة ليدل على شدة البياض (بُهَّج، وُضَّح)، على وزن صيغة المبالغة «فُعَّل»، والبُهَّجُ الوُضَّحُ تعنيان واضحات الجباه مشرقات الوجوه، وهذه الجميلات المنيرات المشرقات، يسحبن ملابس من حرير أبيض(السَّرق)، ثمّ أتى في البيتين الآخرين بثلاثة ألفاظ توحي بالبياض، يدل الأول على شدة بياض الأسنان (لُؤْلُؤْيِات الثَّنَايَا)، والثاني على شدة بياض الوجه (شُمَّس)، والأخير على شدة بياض حدقة العين (نَرْجَسِيَّاتُ الحَدَقْ). كل هذه الألوان البيضاء التي اشتملت عليها هذه اللوحة، جاءت ممزوجة بألفاظ رقيقة تَشِيْ بالجمال، تتناسب والبياض (خُرَّد، غُنٍّ، نَاْعِمَات، عَنْبَرِيَّات، عَطِرَات، خَطِرَات). وتكاد تحضر الألفاظ الموحية باللون الأبيض في كل قصيدة غزل يطرقها الشاعر، ومن ذلك قوله: «أَرَتْكَ سَنَا الْقَبَسِ الْمُضْرَمِ» وقوله: «تَبَسَّمُ عَنْ وَاضِحٍ أَشْبَمِ»، وقوله: «وَمِنْ تَحْتِهِ مُشْرِقٌ مُسْفِرٌ جَبِيْنٌ لَهَا كَهِلَالِ التَّمَاْمِ» (التنوخي 271) وقوله:
تَفْتَرُّ
عن ذي غروبٍ
نَاصِعٍ
يَقَقٍ |
|
كَأَنَّهُ
لُؤْلُؤٌ
فِي
السِّلكِ
مَنظُومِ |
لَهَا
جَبِينٌ
كَبَدْرِ
السَّعدِ
تَمَّ لَهُ |
|
تِسْعٌ
وخَمْسٌ
وَلَيلُ
الْفَرْعِ
دَيمُومِ |
لم يكن اللون الأبيض حِكْرًا على الإنسان عند النبهاني، بل تعدى ذلك إلى الحيوانات مثل: (الخيول، الإبل، الظبا، حمار الوحش)، وإلى الجمادات، سيما أدوات الحرب من سيوف ودروع، ولكون النبهاني شخصية مولعة بالحرب، فقد أكثر من وصف الحرب وصفًا ينمُّ عن وعي بدلالات الألوان، وكان اللون الأبيض الأكثر حضورًا، من ذلك قوله متحدثًا عن خيله وسيفه ودرعه:
كَالسَّهمِ
بَلْ
كالرِّيحِ
لَا بَلْ
دُونَهُ |
|
فِيْ
مَرِّه
الْبَرقُ
إِذَا
البَرْقُ
أَضَا |
وَفِيْ
يَمِيْني
مُرْهَفٌ
ذُو
رَوْنَقٍ |
|
أَبْيَضَ
كَالْمِلْحَةِ
مَفْتُوقَ
الشِّبَا |
وَقَدْ
لَبِسْتُ
نَثْرَةً
فَضْفَاضَةً |
|
مُبْيَضَّةٍ
كَأَنَّها
مَتْنُ
الأَضَا |
هذه الأبيات جزء من قصيدة «المقصورة النبهانية»، التي بلغت (سبعةً وسبعين بيتًا)، جاء أكثرها في الفخر بالنفس، جارى فيها مقصورة الشاعر العُماني ابن دريد، وقد تجلت النرجسية فيها بصورة كبيرة، إذ أكثر الشاعر من استخدام ضمائر المتكلم، فنسب إلى نفسه صفات القوة والشجاعة والكرم وغيرها، وتجلى جنون العظمة في أوضح صوره، فالشاعر ليس من تراب، بل من ذهب (إِنِيْ أَنَاْ الإِبْرِيْزُ)، وبقية الناس (صِفْرٌ بِالدَّقِيْقِ يُشْتَرَى)، وفي يمين الشاعر ويسراه (بَحَرَاْنِ مِنْ مَنُوْنٍ وَمُنَى)، والشاعر أقوى من الموت (جَدَلْتُهُ بِالْمُرْهَفِ الْمَاضِيْ الشَّبَا)، وغيرها من الأمور الخارجة عن حدود العقل والمنطق. وقد حضر غير لونٍ في هذه القصيدة، أبرزها اللون الأبيض الذي استخدمه الشاعر في الفخر بالنفس، كما في الأبيات الثلاثة السابقة، إذ يفتخر الشاعر بثلاثة أشياء: (الخيل، السيف، الدرع)، وقد أغدق الوصف على خيله، وكان مما قاله: إن خيله شديد السرعة، فأتى بشيء يوضِّح تلك السرعة الخاطفة، فبدأ بالسهم، ثم الريح، لكنه استقرَّ أخيرًا أن خيله أسرع منهما، فهو كالبرق في إضاءته، ومن المعلوم أن إضاءة البرق البيضاء سريعة خاطفة. ثم جاء اللون الأبيض وصفًا لسيفه، ودرعه، اللذين اختار لهما البياض الناصع؛ لأنهما سبب نصره وعزته وقوته، فكان حقيقًا بهما هذا اللون، وليزيد اللون الأبيض نصوعًا، شبَّه السيف بالملح، والدرع بغدير الماء الصافي. وتأكيدًا على هذا المعنى، يقول في قصيدة أخرى:
وَفِيْ
يَمِينِي
أَبْيَضُ
مَشْرَفِيٌ |
|
طَلِيقُ
الْحَدِّ
مَاضٍ
كالشِّهَاب |
وتأثر النبهاني بشخصية المتنبي؛ إذ كلاهما يعيش حالة من عدم الاستقرار النفسي، المتمثل في جنون العظمة والنرجسية، وهاجس الوصول إلى السُّلطة، يقول النبهاني في معرض ذكره للأمور العظيمة التي يمتاز بها:
فَالْبِيْضُ
والسُّمْرُ
والْهَيْجَاءُ
تَعْرِفُنِي |
|
والَّليْلُ
والْخَيْلُ
والشُّوسُ
الهَلَالِيلُ |
وقوله:
وَالتَّاجُ
والتَّخْتُ
والْعَلْيَاءٌ
تَعْرفُنِي |
|
والسُّمْرُ
والْبِيِضُ
والْجُرْدُ
الَّلهَامِيمُ |
نلاحظ في هذين البيتين أنَّ الشاعر لم يتأثر بالمتنبي في نفسيته فحسب، بل تأثر به في أسلوب نسج الشعر، وصياغة العبارات، والبحر العروضي. وفي البيتين السابقين نجد اللون الأبيض حاضرًا في الفخر بالسيف، فسيف النبهاني في كل قصيدة، وفي كل موضع لا يكون إلا أبيض اللون، ذلك اللون الناصع المشرق في شكله، القاطع في فعله، وكأنه يعكس به نفسه، تلك النفس الجامحة التي ترى أنها قادرة على فعل كل ما تريد، فهي والسيف واحد، في المضاء والقوة؛ لذلك شبَّه السيف به، في قوله:
بِغِرَارِ
أَبْيَضَ
صَارِمٍ ذِي
رَوْنَقٍ |
|
مِثْلِي
إِذَا
نُسِبَ
السِّيُوفُ
يَمَانِي |
ومثلما افتخر النبهاني بالسيف الأبيض، افتخر كذلك بالخيل التي آثرها العرب بالطعام والعناية أكثر مما يؤثرون به أنفسهم وأولادهم، «حتى أن الرجل من العرب ليبيت طاويًا، ويشبع فرسه، ويؤثره على نفسه وأهله وولده، فيسقيه المحض، ويشربون الماء القراح...» (التيمي 2)، ولكن ما الذي دفعهم إلى ذلك، ولماذا يعتنون بالخيل كل هذا الاعتناء، رغم شدة حالهم في معيشتهم؟ كل ذلك «لما كان لهم فيها من العزة والمنعة والجمال»، أو كما قال الكلبي تـ(206هـ) في كتابه «نسب الخيل»: «كانت العرب تربط الخيل في الجاهلية والإسلام، معرفة بفضلها، وما جعل الله تعالى فيها من العزِّ، وتَشَرُّفًا بها» (ابن الكلبي 23)، وإذا كان هذا حال عامة الناس فما بالك بالملوك، الذين أولوا الخيل عناية فائقة، حتى أنهم كانوا يعتنون بها بأنفسهم، فيعلفونها ويقومون بخدمتها وغسلها، والنبهاني واحد من هؤلاء الملوك المولعين بحب الخيل؛ لذلك كان كثير الاهتمام والعناية بها، وهو من أخبر الناس بصفاتها، وأعلمهم بمميزاتها، وقد اختار النجائب، واقتنى المنتخبات، وله فيها غير قصيدة، يصفها وصف الخبير العالم، ويتكلم عن خصائصها حديث المجرب البارع، من ذلك قصيدته المشهورة «في الخيل، وما يمدح منها، والمختار أيضًا، وما يكره»، ومطلعها:
قُلْ
لِلْمَشْغُوفِ
بِحُبِّ
الْخَيْ |
|
ـلِ
وَمَنْ لَمْ
يَصْبُ إِلى
الإِبِلِ |
لَا
تَغْشَ
الْحَرَبَ
بِغيْر
وَأْيٍ |
|
مَمْسُوْدِ
الخِلْقَةِ
كالْحَبْلِ |
بَدَقِيقِ
المَذْبَحِ
عَارِيْ
الْوَجْـ |
|
ـهِ
سَلِيْبِ
النَّاهِقِ
مُعْتَدِلِ |
ويسير على ذلك النحو في سبعةٍ وعشرين بيتًا، يفصِّلُ مناقِب الخيل، ويفنِّد مثالبها، ويزعم في نهاية القصيدة أنه بيطار الخيل وخبيرها:
وَأَنَا
بَيطَارُ
ضُرُوبِ
الْخَيـ |
|
ـلِ
فَإِنْ تَكُ
ذَا شَكٍّ
فَسَلِ |
والشاعر في هذه القصيدة - وفي غيرها - وظَّف اللون الأبيض وغيره من الألوان في وصف الخيل، فالخيل أصناف وأنواع وألوان، منها ما يكون فيها البياض ممدوحًا، ومنها ما يكون فيها مذمومًا، وكذلك بقية الألوان. وجاء اللون الأبيض في الأبيات أدناه مُضمَنًا في ألفاظ موحية به في سياق معرض مدح البياض وذمه في الخيل، يقول النبهاني:
وَاخشَ
العَجَّان
ومَنْ هُوَ
ذُو |
|
تَحْجِيْلِ
الْكَلْبِ
وَذَا
الرِّجل |
وَتَصُونُ
الأَرْجُلَ
غُرَّتَهُ |
|
والْحِلْيُ
يَزِينُ
أَخَا
الْعَطَلِ |
وَأَقِلِ
الْمَلْطُوم
وَمَنْ هُوَ
ذُو |
|
بَلَقٍ
فِيْ
الْخَيْلِ
وَذُو
حَوَلِ |
وَذَوُ
الأَحْجَالِ
بِلَا
غُرَرٍ |
|
أَضْدَادُ
الْغُرِّ
بِلا حَجَلِ |
فَأَغَرُّ
الْوَجْهِ
بِلَا
حَجَلٍ |
|
حَسَنٌ
لَمْ يُشْكَ
وَلَمْ
يُبَلِ |
يُبرِز الشاعر من خلال هذه الأبيات خبرته ومعرفته بالخيل، معتمدًا على ظهور اللون الأبيض في بعض أعضاء الخيل (تَحْجِيْلُ الأَرْجُلِ، غُرَّةُ الوَجْهِ)؛ إذ قد تدلان على عيب في الخيل، وقد تدلان على مزية فيها، فمن العيوب أن يكون اللون الأبيض في رجل واحدة، أو أن يكون كتحجيل الكلب، أو أن تكون الخيل محجلة الأرجل بلا غرة في الوجه، ومن العيوب كذلك البَلَقُ في الخيل، والحصان الأبلق ما ارتفع اللون الأبيض فيه من التحجيل إلى باقي الجسم. إن هذه الدقة في الوصف، والبراعة في التعبير عن عيوب ومميزات الخيل، لا تصدر إلا عن شخص خبير عارف بها، وهو ما حاول النبهاني إبرازه هنا، وفي ذلك لمحة من نرجسية لم يستطع النبهاني إخفاءها في نفسه، بل أظهرها في آخر القصيدة عندما طلب من مخاطبه أن يستغني بهذا الوصف عن كل وصف، فهو وصف مليك الأرض، يقول:
فَاسْتَغْنِ
بِنَعْتِ
مَلِيْكِ
الأَرْ |
|
ضِ
سُلَيْمَانَ
القِرْمِ
البَطَلِ |
وكذلك بتكرار ضمير المتكلم «أنا» مرتين في قوله: «وَأَنَا بَيْطَارُ ضُرُوبِ الْخَيْلِ»، و«أَنَاْ ابْنُ الْخِيْرَةِ مِنْ يَمنٍ». وفي قصائد أخرى لا يكتفي الشاعر بذكر اللون الأبيض في بعض أجزاء الخيل، بل يفتخر أنَّ من مقتنياته الخيول البيضاء، يقول واصفًا خيله:
أَو
لَهَقٍ
فَرْدٍ
شَبُوبٍ
نَاشِطٍ |
|
مُطَّرِدُ
الرُوْقَيْنِ
مَدمُومُ
الصُّلا |
أراد أن حصانه أبيض اللون يُشبِه (الْلَهَق)، وهو ثور الوحش الأبيض، وهو كذلك (شَبُوبٌ)، أي مضيء اللون كالنار. والحال كذلك في الإبل، فقد اقتنى منها ما يميل إلى البياض، وهي التي تسميها العرب بالعِيْسِ، يقول في ذلك:
وَدَيْمُومَةٍ
خَرْقٍ
خَرَقْتُ
بُطُوْنَهَا |
|
بِعِيْسٍ
لِبَطْنَانِ
المَوَامِي
خَوَارِق |
وقوله:
أَخَذْنَا
بِأَطْرَافِ
الْحَدِيْثِ
وَأَوْجَفَتْ |
|
بِنَا
الْعِيْسُ
لِلْبِيْضِ
الْحِسَانِ
الرَّوَانِقِ |
وفي البيتين السابقين يستخدم الشاعر لقضاء حاجاته الإبل العيس «الإِبِلُ البِيضُ يخَالِطُ بَيَاضَها شُقرَة»، وافتخر الشاعر أنه يمتلك من الإبل البيضاء؛ لأنها قادرة على قطع الفيافي القاحلة، التي لا حياة فيها من ماء أو شجر.
وعلى هذا؛ نجد أنَّ النبهاني وظَّف اللون الأبيض في الحيوان والجماد بتجلياته المباشرة والمضمَّنة؛ ليعكس لنا ما تُكنِّه نفسه من حُبِّ التباهي والتفاخر، وذلك في جانبين: الأول: أنَّه خبير ضليع بأوصاف الخيل ومسمياتها، ومناقبها ومثالبها، إذ جاء اللون الأبيض شاهدًا على ذلك، من ذلك قوله في وصف خيله:
ضَخْمُ
المَنَاكِبِ
شَيْظَمٌ
عَبِل
الشَّوَى |
|
نَهْدٌ
مَرَاكِلُهُ
أَغَرُّ
مُحَجَّلِ |
وَكَأَنَّهُ
وَطِيءَ
الصَّبَاحَ
وَقَدْ بَدَا |
|
فِيْ
وَجْهِهِ
كَالْكَوْكَبِ
الْمُتَهَلِّلِ |
يصف حصانه بأروع الأوصاف، (ضَخْمُ الْمَنَاكِبِ، شَيْظَم، عَبْلُ الشَّوَى، نَهْدٌ مَرَاكِلُه) ومن هذه الأوصاف أنَّه (أَغَرُّ مُحَجَّلِ)، وإذا اجتمعت الغرة مع التحجيل، كان الحصان من أجمل الخيول، يقول النمري عن التحجيل والغرة في الخيل: «وإنما تُوصَفُ بالغرة والحجول لحسنهما» (النمري 39). ويزيد النبهاني هذا الوصف جمالًا بصورة بيانية، يشبِّه فيها تحجيل الخيل بالصباح، ويشبَّه الغرة في وجهها بالكوكب المتهلل. الأمر الآخر: افتخاره وتباهيه باقتناء بِيضِ الأدوات من سيوف ودروع وخوذات، وبِيض الدواب من خيول وإبل، فسيفه (أَبْيَضُ ذُوْ رَوْنَقٍ مُخْذَمِ)، ودرعه (مُبْيَضَةٌ كَأَنَّهَا مَتْنُ الأَضَا)، وخوذته (بَيْضَةٌ مِثْلَ نَجْمِ الصُّبْحِ لَاْمِعَةٌ)، وبعيره (أَعْيَس دُوَارِ المَلاطِينِ صُلْهُب).
ارتبطت الصورة النمطية للون الأسود في الذهنية العربية بـ: الموت، التشاؤم، الوحشة، الحزن، الكآبة، والخوف من المجهول، وأخذ هذا اللون هذه المعاني من طبيعته القائمة على انعدام الضوء، وهذه الدلالات ليست مرتبطة بعالم الشهادة وحسب، بل حتى في الأحلام؛ إذ إن وُرُوْد اللون الأسود في المنام غالبًا يحمل معاني سلبية، يقول ابن سيرين: «إنَّ السَّواد في المنام للمريض يدلُّ على الموت، ورؤية العنب الأسود تعني المرض، والخوف» (البصري 119). واستعمل العرب اللون الأسود في الكنايات للتعبير عن أشياء تثير التشاؤم من قبيل: يوم أسود.
ورغم أنَّ اللون الأسود في الأصل يحمل دلالات سلبية مخيفة، إلا أنه يحمل في جوانب أخرى دلالاتٍ ترتبط بالفخامة. وارتبط اللون الأسود عند العرب منذ القدم بالجَمَال، سيَّما ارتباطه بالمرأة، (سواد شَعرها، كحل عينيها، سواد مقلتيها، لَمَى شفتيها)، لذلك تفنَّن الشعراء العرب منذ العصور الأولى للشِّعر إلى يومنا هذا، في رسم صورة إيجابية للون الأسود، تطغى على صورته السلبية، من ذلك قول عنترة متغزلًا: (التبريزي 43) (الكامل)
فِيهِنَّ
هَيْفَاءُ
الْقَوَامِ
كَأَنَّهَا |
|
فُلْكٌ
مُشَرَّعَةٌ
عَلَى
الأَمْوَاجِ |
خَطَفَ
الظَّلامُ
كَسَارقٍ
مِن
شَعْرِهَا |
|
فَكَأَنَّمَا
قَرَنَ
الدُّجَى
بِدَيَاجِي |
وتكشف قراءة ديوان ابن خفاجة هيمنة اللون الأسود الذي جاء عكس نفسية الشاعر والقلق الذي تحمله، فكان يربط الواقع المحيط به باللون الأسود، مثل قوله:
وَخُضْتُ
ظَلَامَ
الليلِ
يسْوَدُّ
فَحْمَةً |
|
وَدُسْتُ
عَرينَ
الليثِ
يَنظُرُ عن
جَمْرِ |
وجئتُ
ديار الحي
والليلُ
مطرقٌ |
|
مُنمنمُ
ثوب الأفق
بالأنجمِ
الزهرِ |
إذ يُشير أعلاه إلى المجهول باعتبار (دَوْسَتِهِ) لعرينَ الليثِ، أما (جَمْرِيَّةُ) إبصارِ الليثِ فتشيرُ إلى الشرِّ في عينيه، وبالتالي فإن التلوينات في (الليل، الظلام، يسْوَدُّ، فَحْمةً) تؤدي بالتقريب والتناسب مُؤدى واحد؛ وشَحْذُ الشاعر لها في شطرٍ واحدٍ يدل على مُحاولة تكثيفه لحالته النفسية التي تنطبع بالسواد. وتتغير دلالة اللون الأسود في موضع آخر من هذا التشاؤم إلى صورة حسنة عندما يتغزل بثغر المحبوبة في قوله:
وَأَسْوَدَ
مَعسْولِ
المُجَاجِ
لو أنَّهُ |
|
لَمَى
شَفَةٍ لَمْ
أرْوَ يومًا
مِنَ القُبَلِ |
حكى
ليلة الهجر
اسودادًا
وإنه |
|
لأشهى
وأندى منْ
جنى ليلة
الوصل |
ويُطفئ اللون الأسود أيضًا ظمأ الشاعر من وصال المرأة وسط الطبيعة:
وَسُودِ
الوُجُوهِ
كَلَونِ
الصُّدُودْ |
|
تَبَسَّمن
تحت عُبوسِ
الغَبَشْ |
إذا
ما تجلَّى
بياضُ
الضُحى |
|
تَطَلّعْنَ
في وجههِ
كالنَّمَشْ |
إن تناقض الصورة الشعرية هنا يكشف اضطراب ابن خفاجة وقلقه النفسي، فكيف تكون صور التين حزينة سوداء: (وَسُودِ الوُجُوهِ كَلَونِ الصُّدُودْ)، ثم تبدو مبتسمة في: (تَبَسَّمن تحت عُبوسِ الغبش). والأمر نفسه يتكرر في وصف العنب:
حَكَى
لَيْلَةَ
الهَجْرِ
اسْودادًا
وإنَّهُ |
|
لَأَشهَى
وأَنْدَى
مِنْ جَنَى
لَيْلَةِ
الوَصلِ |
ويكشف اللون الأسود عن نفس الشاعر اليائسة التي تعاني وطأة الزمن:
مِنْ
ليلةٍ أرْخى
عَليَّ
جَنَاحه |
|
فيها
غُرابُ
دُجُنةٍ لمْ
يُزْجَرِ |
جاءت ضمنية اللون الأسود هنا مع الليل والغراب، الذي يكشف لنا رؤية واعية لفكرة السوداوية عند ابن خفاجة، بوصفه لونًا غير مرغوب في العمق النفسي، وكأنه يُحاكي قول امرئ القيس في معلقته (الزوزني 29):
وليلٍ
كموجِ البحر
أرخى
سُدُولَهُ |
|
عَليَّ
بأنواعِ
الهُمُومِ
ليبْتلي |
فَقُلْتُ
لَهُ
لـمَّـا
تَمَطَّى
بصُلْبِهِ |
|
وأرْدَفَ
أعْجازًا
ونَاءَ
بكَلْكَلِ |
ألا
أيُّها
الليلُ
الطَّويلُ
ألا انْجَلي |
|
بصُبْحٍ
وما
الإصْباحُ
مِنكَ
بأمْثَلِ |
إن ما يمكن قوله هنا إن الأمثلة المذكورة ليست سوى نماذج من منظومة لونية سوداوية تؤكد تغلغل اللون الأسود في حياة ابن خفاجة وما بها من إشكاليات، فتمكَّن من استيعاب معاناة الشاعر ونفسه القلقة من الحياة، منها:
وافترَّ
مُبتسمُ
الصباحِ
كأنهُ |
|
وضحٌ
بقادمةِ
الغراب
الأعصم |
وأيضًا:
ومفازة
ٍ لا نجم
في ظلمائها |
|
يَسرِي
ولا فَلَكٌ
بها
دَوَّارُ |
تَتَلَهبُ
الشِّعرَى
بها
وكأنَّها |
|
في
كفِّ زنجيِّ
الدُّجى
دينارُ |
وإن كان التناقض بدا سمة للشاعر هنا، من خلال الثنائية الضدية، إلا أنه يبدو طبيعيًا جرَّاء المعاناة التي يئنّ تحتها الشاعر؛ إذ «يحرص على أن يُخبِرنا في مطلع قصيدته أن الليل حالك دامس، لا أثرٌ فيه لنجم ولا فلك، لا يلبث في البيت الذي يليه حتى يقول مباشرة إن الشعرى تلتهب في داخله، وكأنه نسي ما بادرنا به، وما عمد إليه من نفسي للجنس في مطلع أبياته» (الدقاق 238)، ويذهب أحد الباحثين خلافًا لذلك بقوله: «لو توقفنا قليلًا عند لفظة (مفازة) التي يُبيِّن الدقاق معناها بالصحراء الواسعة التي تؤدي بمن فيها إلى الهلاك، وقد أسماها العرب بذلك تيمنًا بالفوز والنجاة. وبالتالي ألا يكون من قبيل التيمن بالفوز والنجاة في هذه الصحراء أن تتجه رؤية الشاعر النفسية لا البصرية إلى تصور إمكانية وجود بصيصٍ من أمل في نجمة الشِّعرَى الوضيئة أن تلمع في سواد الليل؟» (المغربي 112).
أما النبهاني؛ فقد وظف اللون الأسود في شعره بدلالتيه السوداوية والمشرقة، ففي الجانب المشرق، حضر اللون الأسود ليعكس جانبًا من نفسيته المتعلقة بالتجارب العاطفية؛ لذلك وَرَد هذا اللون في وصف محبوباته. وإذا كان «فرويد» قد تكلم عن التماهي عند الأطفال في تقمصهم شخصية الوالدين من خلال مراقبة سلوكياتهم، ثمَّ تبني تلك السلوكيات في تعاملهم مع أنفسهم، ثم يؤول بهم الحال أن يصبحوا مثلهم استنادًا إلى نماذج الأنا العليا الأبوية (بيرلبرج 34)، فنحن نتكلم هنا عن نطاق أوسع للتماهي، يتجاوز حدود التماهي مع الوالدين إلى التماهي مع شخصيات تاريخية مؤثرة؛ إذ يجد المتتبع لشخصية النبهاني أنه يتقمص شخصيات عاشت قبله، ومرَّت بتجارب نفسية شبيهة بتجاربه؛ إذ تقمص شخصية امرئ القيس حينًا للتشابه بينهما، كونهما ملكين شاعرين عاشا معاناة وتجاربًا نفسية، وشخصية طرفة بن العبد حينًا أخرى؛ لاشتراكهما في وصف الناقة والرحلة وما فيها من مشقة، ولأن بينهما تشابهًا في الشاعرية الفذَّة، إذ كتب طرفة معلقته وهو شاب في مقتبل عمره، وذلك ما يراه الشاعر في نفسه أيضًا، وشخصية عمر بن أبي ربيعة حينًا؛ لاشتراكهما في مغامرات العشق، واقتحام الخدور، وكون كل منهما مطلوبًا من النساء؛ وشخصية المتنبي حينًا؛ لكون كليهما يشتركان في الإعجاب بالنفس والفخر بها، وكون كليهما مصابًا بـ«البارنوريا»، وهي جنون العظمة والإحساس بالاضطهاد، وقد وجدنا من قبل تقاربًا بين النبهاني وبين بعضهم في استخدام اللون الأبيض، وسنجد تقاربًا أيضًا بين استخداماتهم واستخدامه للون الأسود، من ذلك التغزُّل بالشعر الأسود، يقول النبهاني متغزلًا:
وَلَهَا
مُحَيَّا
كَالْغَزَالَةِ
مُشْرِقٌ |
|
مِنْ
تَحْتِ
مُنْسَدِلِ
الْغَدَائِرِ
مُرسَلِ |
كَالْكَرْمِ
مَالَ عَلَى
الدَّعَائِمِ
فَاحِمٌ |
|
أَو
مِثْلِ
قِنْوِ
النَّخْلَةِ
المُتَعَثْكِلِ |
كَالْغُصْنِ
فَوْقَ
الدَّعْصِ
رُكِّبَ فَوقَهُ |
|
بَدْرٌ
تَلَألَأَ
تَحْتَ
لَيْلٍ
أَلْيَلِ |
يجمع لنا الشاعر في تغزله بـ(مُحيَّا المحبوبة، وشَعرها) اللون الأسود (فاحم، ليل، أليل) مع نقيضه الأبيض (مُشرق، بدر، تلألأ)؛ ليبرِز جمال كلٍ منهما؛ لأنَّ «اجتماع الأسود مع الأبيض يزيد قوة الشيء، ويزيد الجمال لاجتماع الضدين، لذا؛ فقد أكثر الشعراء من الجمع بين بياض البشرة وسواد الشَّعر» (أبو عون 54)، والشاعر يعمد لتبيان شدة سواد شَعر محبوبته بمُعينات تَدُلُّ على ذلك، مثل: (كَالْكَرْمِ مَالَ عَلَى الدَّعَائِمِ فَاحِمٌ)، و(مِثْلِ قِنْوِ النَّخْلَةِ المثتَعَثْكِلِ)، و(تَحْتَ لَيْلٍ أَلْيَلِ)، ولا شكَّ أنَّ هذه المُعينات رَسَمَت في مخيلتنا صورة واضحة لجمال شعر محبوبته الفاحم.
ونجد النبهاني يتماهى مع شاعرين جاهليين كبيرين، فتأثر بهما، هما: امرؤ القيس، والنابغة الذبياني، فأتى بشطر من هذا وشطر من ذاك، أما شطر امرئ القيس فمأخوذ من قوله: (الزوزني 26) (الطويل)
وَفَرْعٍ
يَزِينُ
المَتْنَ
أَسوَدَ
فَاحِمٍ |
|
أَثِيثٍ
كَقِنْوِ
النَّخْلَةِ
المُتَعَثْكِلِ |
وشَطْرُ النابغة مأخوذ من قوله: (الذبياني 109) (الكامل)
وَبِفَاحِمٍ
رَجْلٍ أَثِيْثٍ
نَبْتُهُ |
|
كالْكَرْمِ
مَالَ عَلَى
الدَّعَامِ
الْمُسْنَدِ |
ولا نعلمُ إن كان هذا التأثر من قبيل الإعجاب بالشاعرين أم لإبراز عظمة نفسه القادرة على مجاراتهما، حين يجمع ما قالاه في بيت واحد. ومن الأبيات التي جمع الشاعر فيها بين اللون الأسود صراحة وبين كلمة موحية به، في وصف الشَّعر، قوله:
تَسْبِيْ
العُقُولَ
بِصُبْحِ
وَجْهٍ أَبْيَضٍ |
|
بَادِيْ
الضِّيَاءِ
ولَيْلِ
فَرْعٍ
أَسْوَدِ |
يلجأ الشاعر مرة أخرى إلى التضاد اللوني بين النقيضين (الأبيض والأسود)، مُمَثلًا في تصريح وتضمين يحملان الأبيض (صُبْحِ وَجْهٍ أَبْيَضٍ بَادِيْ الضِّيَاءِ)، مقابل تصريح وتضمين في الجهة الأخرى، (وَلَيْلِ شَعْرٍ أَسْوَدِ)، بهدف جعل الفكرة أسرع وصولًا، إذ يتحد الضدان لإبراز ما يريد الشاعر أن يوصله إلى المتلقي. ويبدو أنَّ النبهاني مولعٌ بالتضاد اللوني بين الأبيض والأسود، وغالبًا ما يرد هذا التضاد عنده بين بياض الوجه، وسواد الشعر، ومن ذلك قوله:
وَبِفَاحِمٍ
كَالَّليْلِ
مُنْسَدِلٍ
عَلَى |
|
وَجهٍ
كَغُرَةِ
صُبْحِهِ
الْمُتَبَلِّجِ |
وقوله أيضًا:
لَهَا
فَرْعٌ
كَجُنْحِ
الَّلَيْلِ
دَاجٍ |
|
وَوَجْهٌ
مُشْرِقٌ
يَحْكِي
النَّهَاْرَا |
إذ تكررت مفردات السواد (فاحم، الليل، داجٍ، جنح الليل) في مقابل مفردات البياض (غرة، صبح، متبلِّج، مشرق، نهارا). إضافة إلى ذلك؛ فهناك حالات أخرى جاء فيها ذكر سواد الشعر غير مقرونٍ بالبياض، منها قوله:
وَأَسْحَمٌ
فَاحِمٌ
مُسْحَنْكِكٌ
كَثِفٌ |
|
جَثْلٌ
طَوِيلٌ
أَثِيْثُ
النَّبْتِ
يَحْمُومُ |
وفي البيت السابق حضور كثيف للون الأسود، إذ استخدم الشاعر أربعة ألفاظ تدلُّ على شدة سواد شعر محبوبته: (أَسْحَم، فَاحِم، مُسْحَنْكِك، يَحْمُوم). واستخدم النبهاني أيضًا اللون الأسود لبيان جمال محبوباته في موضع آخر من جسم المرأة المتمثل في الشفاه، التي طالما تغزل الشعراء بلونها الضارب إلى السواد، مستخدمين في ذلك لفظ «أَلْمَى» أو «لَمْيَاء»، يقول النبهاني متغزلًا بمحبوبته مُوْذِيَة:
بَعِيْدَةِ
مَهْوَى
الْقِرْطِ
لَمْيَاءَ كَاعِب |
|
ضَخِيْمَةِ
مَجْرَى
الْحِجْلِ
غَرَّاءَ مِحْجَالِ |
في هذه القصيدة، وقبل هذا البيت ذكر الشاعر أوصاف الجمال التي تزدان بها محبوبته، مستخدمًا بعض الكنايات في ذلك من قبيل «نؤوم الضحى»، «مِكْسَال»، «مُخْطَّفَة الْحَشَا»، وأكمل هذه الكنايات في هذا البيت حين قال: «بَعِيْدَةِ مَهْوَى الْقِرْطِ»، «ضَخِيْمَةِ مَجْرَى الْحِجْلِ»، ويذكرنا الشاعر بكنايتي «نَؤُوم الضُّحى»، و«بَعِيْدَة مَهْوَى الْقِرْطِ»، بامرئ القيس، الذي سبق إليهما. والشاعر هنا يوظِف لفظة «لَمَيَاء» لبيان جمال شفتي محبوبته. وفي موضع آخر، يقول النبهاني:
دُرِّيَةُ
الثَّغْرِ
مُنِيْرٌ
صَلْتُهَا |
|
عَذْبَةُ
سِلْسَالِ
الثُّغُورِ
واللَّمَى |
ويتجلى وعي الشاعر بالعلاقة بين اللونين الأبيض والأسود حين يجمع في البيت أعلاه بين بياض الوجه والأسنان، وبين الشفاه المائلة للسمرة، وفي الشعر العربي كثيرًا ما كانت ترد الشفة اللمياء، مقرونة ببياض الأسنان، أو بياض الوجه. ويجمع اللونين مرة أخرى في القصيدة التي نجد فيها ضمنية بُردة كعب بن زهير؛ إذ ورد فيها «عَجْزَاءُ لَا قِصَرٌ فِيهَا وَلَا طُولُ»، وفيها «عَنِّي فَقَلْبِيَ فِيْ الأَظْعَانِ مَتْبُوْلُ»، وفي هذه القصيدة وصف محبوبته أنها لمياء، واضحة الخدين، منيرة الغُرَّة، يقول:
خَرِيْدَةٌ
غَضَّةُ
الأَطْرَافِ
خُرْعُبَةٌ |
|
لَمْيَاءُ
وَاضِحَةُ
الْخَدَّيْنِ
عُطْبُوْلُ |
تَجْلُو
ظَلَامَ
الدُّجَى
أَنْوَارُ
غُرَّتِهَا |
|
كَأَنَّ
غُرَّتَهَا
فِي
اللَّيْلِ
قِنْدِيلُ |
جمع النبهاني في البيتين أعلاه صورتين ملونتين بالأبيض، مقابل صورتين مضادتين تحملان اللون الأسود، فلمياء يقابلها بيضاء الخدَّين، وظلام الدجى يقابله غرة منيرة كالقنديل، ومن ذلك قوله:
وَصدْرٌ
مُنِيْرٌ
كالسَّجَنْجَلِ
مُشْرِقٌ |
|
ثَنَا
لَوْنُه
الْجَادِيُّ
بالنَّضْحِ
أَصْفَرَا |
وَتُرْخِي
عَلَى
المَتْنَيْنِ
أَسْحَمَ فَاحِمًا |
|
غَدَائِرُهُ
يَحْمِلْنَ
مِسْكًا وَعَنْبَرا |
وَتَبْسِمُ
عَنْ حُمِّ
الْمَرَاكِزِ
نُصَّعٍ |
|
عِذَابٍ
يُحَاكِيْنَ
الأَقَاحَ
المُنَوَّرا |
فالصدر منير مشرق كالمرآة المصقولة، والشَّعر أسحم فاحم مضَمَّخٌ بالمسك والعنبر، والأسنان بِيْضٌ كالأقاح المنور، والشفاه حُمٌّ، والحُمٌّ: وجاء في قاموس الألوان «قال ابن سيدة: الحُمَّةُ لون بين الكُمْتَةِ والدُّهْمَةِ. يقال فرس أَحَمُ بَيِّنُ الحُمَّةِ والأَحَمُّ الأَسود من كل شيء» (إبراهيم 53).
لقد سبقت الإشارة إلى أنَّ النبهاني عاشقٌ للخيل عشق العربي القديم لها، فامتلاكها فخر بالنسبة له، ورؤيتها راحة، ومعرفة مميزاتها ومثالبها ضرورة مُلِحَّة؛ لذلك اتضح - عند الإشارة للون الأبيض - كيف أنَّ النبهاني يرى نفسه «بيطار ضروب الخيل». وملك مولع بالخيل كالنبهاني، لا شكَّ أنه يقتني أجمل الخيول وأقواها؛ لذلك سنلاحظ أنّه لا يقتصر على نوع واحد من الخيل، وأيضًا لا يقتصر في إعجابه بها على لون واحد. وإذا كان الشاعر قد استخدم الخيل البيضاء في الرحلة؛ لسرعتها، فإنه اختار لخوض غمار الحرب الخيل السوداء، لقوتها، وقدرتها على الصبر، يقول في وصف خيل له سوداء شهد بها الغارة:
وَلَقَدْ
شَهِدْتُ
الْخَيْلَ
وَهِيَ مُغِيْرةٌ |
|
فِي
سَرْجِ
أَدْهَمَ
بِالظَّلَامِ
مُسَرْبَلِ |
صَافِي
الأَدِيْمِ
كَأَنَّ
صَهْوةَ
مَتْنِهِ |
|
تَحْتَ
الْكَمِيِّ
أَرَنْدَجٌ
لَمْ يُنْعَلِ |
يذكر النبهاني أنَّه شهد غارة الحرب راكبًا على فرس أدهم اللون، والأدهم مثل قول النمري: «إذا كان الفرس أسود اللون فهو أدهم» (النمري 72)، وكان من شدة سواد هذا الفرس، أن جعله النبهاني متسربلًا بالظلام، صافٍ أديمه كأنه الأرندج «جلد أسود تُعْمَل منه الأحذية». وفي قصيدة أخرى يتباهى الشاعر بنفسه وهو يمتطي خيله الأسود، أمام رَايَةَ وصويحباتها مما جعلهنَّ يبرزن من خبائهنَّ لرؤيته:
إِذَا
أَبْصَرْنَنِي
يَخْتَالُ
رَهْوًا |
|
بِيَ
المُهْرُ
المطَهَّمُ
حِيْنَ
سَارَا |
بَرَزْنَ
مِنَ
الْخِبَا
مُتَتَابِعَاتٍ |
|
كَمَا
قَدْ
يَقْذِفُ
الزَّندُ
الشَّرَارَا |
والمهر المُطَهَّم، هو المهر الأسود، واختار النبهاني لأحد خيوله اسم (الغراب)، يقول في وصفه:
إِنَّ
السَّوَابِقَ
كُلَّهَا |
|
يقْصُرْنَ
عَنْ جَرْيِ
الْغُرَابْ |
ولا نظن أنَّ النبهاني اختار هذا الاسم تَطَيُّرًا، كعادة العرب من الغراب، بل أسماه من قبيل لونه الأسود الفاحم، أو من قبيل تشبيهه بأحد فحول الخيل المشهورة عند العرب، التي ذكرها الكلبيُّ في «نسب الخيل»: «فكان مما سَمَّو لنا من جياد فحولها وإناثها المنجبات: (الغُراب) و(الوجيه) و(لاحِق) و(الْمُذَّهَب) و(ومكتوم)» (الكلبي 32)، وربَّما سُمي بهذا الاسم من قبيل لونه الأسود الفاحم، فالعرب كانت تستقي أسماء الأشياء من المحسوسات التي تعايشها، من قبيل جعل بياض المرأة كالريم، فصار ذكر الريم موحيًا بالمرأة البيضاء، ومن قبيل ذلك تشبيه شعرها بالليل البهيم، وغيرها من الأمور المحسوسة. أما مجيءُ اللون الأسود في تجارب الشاعر المختلفة، فكثير جدًا، سيَّما وأنَّ الشاعر غارق في دوامة متعبة من الصراعات النفسية الداخلية، والصراعات الخارجية التي يخوضها؛ لتثبيت البيت النبهاني، ولذلك نجد الليل بسواده حاضرًا، وهذا الحضور موزعٌ بين تجاربه العاطفية، وصراعاته للقضاء على أعدائه، ويُلاحظ فيما يأتي أن اللون الأسود عند الشاعر أخذ جانبين: جانب مأساوي حزين، وجانب آخر استغله الشاعر ليُظهر نفسه القادرة على فعل أصعب الأشياء في الظلام البهيم، ففي الجانب المأساوي، يقول:
أَلَا
مَالِ هَذَا
الفَجْرِ
لَمْ يَبْدُ
نُورُهُ |
|
وَمَا
بَالُ
لَيْلِي
لَاْ
تَغُوْرُ
كَوَاكِبهْ |
إِذَا
قُلْتُ
يَنْجَابُ
الظَّلَامَ
تَرَادَفَتْ |
|
كَتَائِبُ
هَمِّي
خَلْفَهُ
وَكَتَائِبُهْ |
يعكس الشاعر في الأبيات السابقة نفسية مُتعبة أنهكتها الصراعات والحروب حتى طال ليلها، وامتدَّ، وجاء اللون الأسود في ألفاظ موحية به: (لَمْ يَبْدُ نُورُهُ، لَيْلِيْ لَاْ تَغُوْرُ كَوَاكِبهْ، الظَّلَامَ). وهذه الأبيات، جاءت في قصيدة طويلة قالها الشاعر في رحلته لطلب العون من بلاد فارس بعدما مُنِيَ بهزائم في الداخل، ولا شك أنَّ الشاعر يعيش همومًا وآلامًا سببها الهزيمة التي لحقت بالبيت النبهاني الذي يتزعمه، هذا الأمر جعله يلجأ إلى طلب العون من عدو الأمس، وكأننا بشخصية النبهاني المتعالية المتكبرة، تتهاوى ضعفًا أمام هذا الأمر الجلل؛ لذلك كان ليله ليلًا طويلًا مظلمًا، يعيش فيه بين ألمين: ألم الهزيمة وخسارة بعض المدن التي كانت تحت ظل الدولة النبهانية من جانب، وألم طلب العون من العدو الخارجي، الذي يتربص بعُمان، ولكن هل سقطت تلك النفس المولعة بالقوة والتباهي والعزة والكبرياء؟ لا نظن أنَّ نفسًا مصابة بجنون العظمة تنهار بسهولة، وهي التي امتازت بسمات خاصة، جعلتها تظنُّ أنَّ لديها من القدرة والقوة ما تتجاوز به حدود العقل والمنطق، هذه النفس التي ترى الناس مضطهدين لها لا يمكن أن تسقط بهذه السهولة، فذلك يفتح الباب لأعدائها للنيل منها؛ لذلك أسرع النبهاني إلى تعليل فعله بأشياء ترفع من قيمة نفسه، منها: أنه لم يكن في هذا الأمر بِدْعًا، وإنما فعل ما فعله جده الأكبر سيف بن ذي يزن، فالأمر كما يبدو ليس من قبيل الضعف فحسب، بل يُجهز الشاعر مفاجأة لأعدائه، إذ سيأتي بفيلق لا يهزم، ومن هنا يعود إلى الفخر بنفسه مرة أخرى، هاربًا من وصمة الاستنجاد بالعدو بطريقة ملتوية. أمَّا في جانب عذابات الغرام، والشوق للمحبوب، يقول النبهاني:
إِذَا
جَنَّهُ
الَّلَيْلُ
الْبَهِيْمُ
تَأَوَّبتْ |
|
عَلَيْهِ
سَوَارِيْ
الْهَمِّ
مِنْ كُلِّ جَانِبِ |
كَأَنَّ
السُّهَى
واللَّيْلُ
مُلْقٍ
بِرَكْبِه |
|
غَرِيقٌ
يُقَاسِي
زَاخِرًا
فِي
الْمَغَايِبِ |
عبَّر الشاعر بلفظتي «الليل» و«البهيم» الموحيتين بالسَّواد عن المعاناة التي يعيشها شوقًا لمحبوبته رَايَةَ، مشبِّها هذا الحال بالسُّهى، وهو كوكب صغير خفيٌّ في بنات نعش، يقابَل به بياض القمر، إذ يُقال: رأيتَ السُّهَى وظننتَ القمر، أو أريها السُّها وتريني القمر. وذكر في قصيدة أخرى أوصافًا متشحة بالسَّواد لمواضع كانت تقطنها محبوباته، وآل بها الحال إلى السواد بعد ظعن أهلها عنها، من ذلك قوله:
فَلَمْ
يَبْقَ
مِنْهَا
غَيْرُ
سُفْعٍ جَواثِمٍ |
|
وَمُكهَوْهِبٍ
جُونٍ وَنُؤيٍ
مُدَعْثَرِ |
يصف الشاعر شيئًا ممَّا تبقى من ديار محبوبته الذي رآه بعد أن زار المكان وقد هجره أهله، فهيَّج فيه عاطفتي الشوق والحزن معًا. يصف هنا ما تبقى من الأثافي المتشحة بالسواد، التي تركها أهلها، ومُكهَوْهِبٍ ولعله يقصد به الرَّماد تحت الأثافي، إذ الْكُهْبَةُ لون أغبر يَضْرِب إلى السواد، أو بتعبير المعاجم «الكُهْبَةُ: غُبرةٌ مُشْرَبةٌ سوادًا في الإبل...والْكُهْبَةُ: الدُّهْمَة» (إبراهيم 222)، وزاد عليه صفة السواد بإطلاق لفظ جُوْن عليه؛ إذ الجُوْن هو «الأسود اليحمومي» (إبراهيم 38). ومن قبيل ذلك قوله يصف أطلال محبوبته راية:
وَجُونٍ
يَحَامِيمٍ
ثَلَاثٍ
رَوَاكِدٍ |
|
عَلَى
هَامِدٍ
مُسْتَطْحِلِ
الَّلوْنِ
حَائِلِ |
استخدم النبهاني ثلاث كلمات تَشيْ بالسواد: الجُوْن، يَحَامِيم، مُسْتَطْحِل. وكلما ذَكَرَ النبهاني الأطلال في ديوانه، حضر اللون الأسود معه، من ذلك قوله يصف أطلالًا غيرت معالمها السُّحُب السُّود:
وَقّفْتُ
بِرَبْعِ
الدَّارِ
قَدْ
غَيَّرَ الْبِلَى |
|
مَعَارِفَهُ
والْمُدْجِنَاتُ
السَّوَاجِمُ |
أُسائِلُهُ
عَنْ
أَهْلِهِ
مَاْ
دَهَاهُمُ |
|
وَهَلْ
يُرْجِعُ
التِّسْآلُ
سُفْعٌ
جَوَاثِمُ |
وفي أحيانٍ أخرى يستخدم غُراب البين، تعبيرًا عن شؤم يوم الرحيل، يقول مُستاءً لرحيل قوم إحدى محبوباته:
وَلَعَ
الأَيَانِقُ
وَالْغُرَابُ
بِبَيْنِهَا |
|
وَالْبَرْقُ
إِذَ نَهَضَ
الْعِشَاءُ
فَلَاحا |
أَفَمُرْسِلٌ
هَذَا
الْغُرَابَ
فَعِلْمُهُ |
|
بِالْغَيْبِ
جَاءَ مِنَ
السَّمَاءِ
مُتَاحَا |
واستعمله أيضًا في موضع آخر متطيرًا به كعادة العرب، وقد عبَّر عنه بلفظ «أَسْحَم»؛ ليزيد السواد تأكيدًا، فهو لا يذكره باسمه بل بلفظ تأكيد السواد، وذلك ما يعكس شدة تطيره منه:
وَقَدْ
رَاعَنِيْ
بِالأَمْسِ
أَسْحَمُ نَاعبٌ |
|
غَدَا
نَاعِقًا
فَازْدَدْتُ
مِنْهُ تَطَيُّرَا |
إن النبهاني - كما أسلفنا - يستعمل اللون الأسود للتعبير عن نفسيته بشطريها، فإن كان قد استخدمه للتعبير عن حالات الصراع والأرق والحزن والشوق، لم يفته كذلك أن يستفيد منه في تعظيم ذاته، وإبراز قيمة نفسه عند خوضها الصعاب، وقطعها الفيافي في الليالي المظلمة، حتى إنَّ أُلفةً صارت بينه وبين الليل، فمن الأمور التي يفتخر بها أنَّ الليل يعرفه:
فَالْبِيضُ
والسُّمْرُ
والْهَيْجَاءُ
تَعْرِفُنِي |
|
واللَّيْلُ
والْخَيْلُ
والشُّوسُ
الهَلَالِيلُ |
وكأن به يحاكي قول المتنبي (المتنبي 332):
الخَيْلُ
وَاللّيْلُ
وَالبَيْداءُ
تَعرِفُني |
|
وَالسّيفُ
وَالرّمحُ والقرْطاسُ
وَالقَلَمُ
|
وليزيد النبهاني من رفعة نفسه وعظمتها، يخبرنا في غير موضع أنه يحب قضاء حوائجه في أحلك الأوقات وأصعبها، ولا أصعب من الليل البهيم شديد الظلمة في الفيافي المقفرة الموحشة، ومن ذلك انتقاؤه الليلة السوداء التي لا ضوء ينيرها؛ ليقضي فيها ما يريد من حاجات صعاب، يقول واصفًا إحدى مغامراته الليلية:
وَيَا
رُبَّ
لَيْلٍ
كَمَوْجِ
الخِضَمِّ |
|
كَثِيْرٌ
تَهَاوِيلُهُ
مُظْلِمِ |
كَأَنَّ
الثُّرَيَّا
بِهِ غُرَّة |
|
عَلَتْ
هَامَةَ
الْفَرَسِ
الأَدْهَمِ |
تَدَرَّعْتُه
رَاكِبًا
جَسْرَةً |
|
تَرضُّ
الحِجَارَةَ
بالْمَنْسَمِ |
يلبس الشَّاعر الليل درعًا؛ ليقضي فيه حاجاته؛ إذ شجاعته ومقدرته تجعلان الليل المظلم الكثير الهول شيئًا سهلًا، ولا يكتفي الشاعر هنا بوصف الليل بالظلمة فحسب، بل يأتي لنا بصورة حسيَّة يمتزج فيها الأسود بالأبيض؛ ليبرز كلَّ لونٍ منهما لون الآخر، وهي صورة الثريا في الليلة الظلماء بصورة الغرة في وجه الفرس الأدهم، ومن المعلوم أنَّ الليلة التي تلمع فيها الثريا أكثر، هي الليلة المظلمة التي لا قمر ينيرها، وبذلك يكون الشاعر قد انتقاها انتقاء، لإبراز ما تكنه نفسه من جنون العظمة، الذي يجعله يختار أصعب الأوقات لقضاء حوائجه. ويتكرّرُ الأمر نفسه في مواضع كثيرة في الديوان، منها قوله:
وَيَا
رُبَّ دَوٍّ
قَدْ
قَطَعْتُ
وَمنْهَلٍ |
|
وَرَدتُ
وجُونُ
الَّلَيْلِ
أَسْفَعُ
قَاتِمُ |
وقوله:
وَلَقَدْ
أَطْوِي
الَّدَمَامِيمَ
إِذَا |
|
رَوَّقَ
الَّلَيْلَ
هُدُوءًا
وَادْلَهَمْ |
وقوله:
وَلَيْلٍ
مِثْلَ
لَوْن
النِّيلِ
دَاجٍ |
|
لَبِستُ
لِنَيْلِ
حَاجَاتٍ
صِعَابِ |
في هذه الأبيات وفي غيرها، يغدق الشاعر على الليل أوصافًا تزيد من ظلمته وعتمته (جُوْن، أَسْفَع، قَاتِم، ادْلَهَم، مِثل لون النيل دَاجٍ)؛ ليدلل على قوته وشجاعته، فكلما ازداد الليل حلكة كان المفضل عند الشاعر لقضاء حاجاته وأهدافه. وفي جانب آخر؛ يحضر اللون الأسود، في معرض وصف النبهاني للحرب، وهي مكانه المفضل، فيه تنتشي روحه، وتعظم نفسه؛ لذلك كان وصفه لها وصفًا دقيقًا تتداخل فيه الألوان مع الحركة في مشاهد تعكس لك ولع هذا الشاعر بالحرب، وكان للون الأسود حضوره المميز ممثلًا في الظلمة التي تثيرها الخيول، فيتحول النهار إلى ليل قاتم، وحينها يبرز الشاعر مستغلًا ذلك الوضع البهيم، الذي يخاف فيه الفارس من ضربة تفاجئه؛ للقضاء على خصومه، يقول عن إحدى منازلاته:
فَنَازَلْتُهُ
تَحْتَ
ظِلِّ
العَجَاجِ |
|
بِيَوْمِ
وَغى
عَابِسٍ
مُظْلِمِ |
كِلَانَا
أشَمُّ
شَدِيدُ
الْمِرَاس |
|
يَفِلُّ
الْجِيُوْشَ
وَلَمْ
يُهزَمِ |
فَخَرَّ
صَرِيعًا
لِحرِّ
الجَبِينِ |
|
يُفَحِّصُ
عَنْ
فَرْثِهِ
والدَّمِ |
يُحدثنا النبهاني عن نزالٍ قويٍ بينه وبين فارس متمرِّسٍ آخر في يوم وقيعة سوداء، فهي سوداء حقيقة؛ لكثرة عجاج الخيل، وسوداء مجازًا؛ لكثرة القتل فيها. ويحضر اللون الأسود في هذه الأبيات في ألفاظٍ موحية بذلك (ظِلِّ العِجَاج)، (عَابسٍ مظْلمِ)، وفي هذه الأبيات وما قبلها مَلفتٌ نفسيٌّ آخر عند النبهاني؛ إذ نراه يُغدِق على خصمه صفات القوة والشجاعة، (أشمُّ، شديد المراس، يَفِل الجيوش، لم يُهزَم)، وليس ذلك من عادة النبهاني، إذ ليس من عادته أن يمدح أعداءه، فهو يكن لهم أشد العداوة والبغضاء، فلماذا يمدح عدوَّه هنا؟ إنَّ شخصية النبهاني ليست مولعةً بالمدح، لكنه هنا يهدف إلى إبراز قوته وشجاعته في النزال، فكان لا بد أن يختار فارسًا مغوارًا يجاريه في شجاعته، وإلا فلن يكون قتله مدعاة لكل هذا الفخر، وهذا الوضع يتكرر مع النبهاني في غير موضع من الديوان، إذ يختار لِمُنازِليه صفات القوة والشجاعة والفروسية؛ ليختم الأمر أنه استطاع القضاء عليهم. وعليه، فهو أفرس الفرسان، وأشجع الشجعان. وفي قصيدة أخرى، يتحدَّث عن إحدى المعارك قائلًا:
وَرَكَبْتُ
جَفْلَةَ
والرِّمَاحُ
شَوَارِع |
|
وَالْخَيْلُ
بَيْنَ
تَضَارُبٍ
وتَطَاعُنِ |
والشُّوسُ
تَهْتِفُ
بِالرِّجَالِ
حَمَاسَةً |
|
وَالجَوُّ
مُدَّرِعٌ
بِنَقْعٍ
شَاحِنِ |
فِي
صَارِخٍ
خَرِجٍ
كَأنَّ
قُتَامَهُ |
|
وَالْبِيضُ
غَيْهَبُ
ذِي
كَوَاكِبَ
دَاجِنِ |
هذه الأبيات جزء من مشهد من مشاهد إحدى غزواته، يصف فيها جوَّ المعركة، وقد ركب فيها خيله «جَفْلةَ» بين التضارب والتطاعن، وقد تطاير غبار المعركة حتى كأن الجو من شدة عجاج المعركة قد تدرع بالنَّقع، حتى اشتدَّ ظلامه فصار ليلًا مدجنًا، ولا يشق ظلام هذا الليل إلا السيوف البيض، في صورة تُذكرنا بالصورة البديعة، التي رسمها بشار بن برد عندما وصف مشهد النقع المتطاير والسيوف التي تشقه، وذلك في قوله: (برد 318) (الطويل)
كَأَنَّ
مَثَارِ
النَّقْعِ
فَوقَ رُؤُوسِنَا |
|
وأَسْيَافِنا
لَيلٌ تَهَاوَت
كَوَاكِبُهْ |
ووظَّف اللون الأسود في مواضع أخرى - غير الحرب - افتخر فيها بنفسه، من قبيل قوله:
إِذَا
نَزَلَتْ
بِالنَّاسِ
شَهْبَاءُ
لَزْبَةٌ |
|
جَحُوفٌ
كَفَتْ
كُلَّ
الأَنَامِ
هِبَاتِي |
وَجُونٍ
يَحَامِيمٍ
نَصَبْتُ
لِمَفْخَرِي |
|
يُخَرذِلُ
فِيهَا
اللَّحمُ
فِي
الحُجُرَاتِ |
وظَّف الشاعر اللون الأسود بثلاثة ألفاظ موحية باللون الأسود (شَهْبَاء، جُوْن، يَحَامِيْم)، وهنا يفخر النبهاني أنَّ هباته كفت كلَّ الناس في السنة الشهباء، وهي كناية عن السنة السوداء التي يكون فيها القحط والجدب، ودلَّت كلمتا (جُوْنٌ، يَحَامِيْم) على القدور التي اكتست باللون الأسود من كثرة الطبخ فيها؛ لإطعام المحتاجين. ومن ذلك افتخاره بإكرام ضيفه بالقُدُور الدُّهْم، أي السود، يقول:
أَعْدَدْتُ
لِلأَضْيَافِ
دُهْمًا |
|
دُفِّـقَتْ
لَحْمًا
وثَرْدَا |
وعليه؛ يمكن القول إن النبهاني عبَّر باللون الأسود المباشر وغير المباشر، عمَّا يجول في نفسه من أمورٍ نفسية متباينة؛ حملت دلالات سلبية في مواضع قليلة، وذلك عند حديثه عن القلق والسهر الذي لازمه بسبب الخسائر المتوالية، وعند بكائه على ديار محبوباته، وحملتْ أيضًا دلالات إيجابية كثيرة، تنوعت بين إضفاء صفات الجمال على المحبوبات، وبين تعظيم الذات.
ومن خلال النماذج المُختارة في هذا البحث واستقراء النماذج اللونية في ديواني الشاعرين الأندلسي والعُماني؛ يوضح التحليل الإحصائي أدناه درجة الوعي اللوني من خلال عدد مرات حضور اللونين الأبيض والأسود:
شكل (1): التحليل الإحصائي لدرجة الوعي اللوني للأسود والأبيض عند الشاعرين
يُشير المخطط البياني أعلاه إلى ملمح واضح يتمثل في اختلاف درجة الوعي اللوني بين الشاعرين الأندلسي والعُماني، إذ شغل اللون الأسود حيزًا كبيرًا في شعر ابن خفاجة، وبلغت المواضع التي ذكر فيها الأسود مباشرة في ديوانه (52) سياقًا شعريًا، وتزامنت هذه السوداوية مع إشكالات حياته، ومحاولته الهروب من هواجسه المتمثلة في: الخوف من الموت، ذهاب الشباب، فظلَّت الغربة النفسية الداخلية تُلازمه، ويئن تحت وطأتها، ممَّا أعطى مساحة لظهور اللون الأسود، فأصبح ثيمة مهيمنة على باقي الألوان، فالتصق الأسود بابن خفاجة بصورة لا مناص منها. واحتلَّ اللون الأبيض المرتبة الثانية في عدد مرات التوظيف اللوني عند ابن خفاجة، فجاء في (34) سياقًا شعريًا، ليعكس جوانب شتى من حياته. أما الشاعر العُماني سليمان النبهاني؛ فقد تباين لديه التوظيف اللوني، إذ احتلَّ اللون الأبيض صدارة التوظيف اللوني بعدد (58) سياقًا شعريًا بخلاف ابن خفاجة، فارتبط اللون الأبيض عند النبهاني بأيامه المشرقة مع محبوباته، فكان متنفسًا طبيعيًا يحتوي مشاعره وعاطفته، وعلى النقيض، فقد بلغت مواضع توظيف اللون الأسود (47) سياقًا شعريًا.
بعد استقراء ديواني: الشاعر الأندلسي ابن خفاجة، والشاعر العُماني سليمان النبهاني للوقوف على الوعي اللوني للأبيض والأسود في الشِّعرين الأندلسي والعُماني؛ خلصَ البحث إلى الاستنتاجات الآتية:
- ترتبط الألوان بالسياق النصي من جهة والأثر النفسي المتمثل في التجربة الشعرية والمعاناة الداخلية من جهة أخرى.
- تشابهت شخصية الشاعرين الأندلسي والعُماني في الوعي اللوني بالأبيض والأسود، وما يُحسب للشاعرين: ابن خفاجة، وسليمان النبهاني تمكنهما من إيجاد لغة شعرية ارتكزت على التعبير عن الألوان بدرجاتها المختلفة، ودلالاتها المتباينة.
- تفوق الشاعر الأندلسي ابن خفاجة في الوعي باللون الأسود، إذ احتلَّ صدارة التوظيف الشعري بعدد (52) سياقًا شعريًا، بخلاف الشاعر العُماني سليمان النبهاني، إذ احتلَّ اللون الأسود لديه المرتبة الثانية بعد الأبيض بعدد (47) سياقًا شعريًا.
- تفوق الشاعر العُماني سليمان النبهاني في الوعي باللون للأبيض، إذ احتلَّ صدارة الترتيب بعدد (58) سياقًا شعريًا، بخلاف الشاعر الأندلسي ابن خفاجة، إذ ورد اللون الأبيض في (34) سياقًا شعريًا.
- عَروضيًا؛ تشابه الشاعران في توظيف البحر الطويل والبحر الكامل، إذ هيمن البحران على سياقات التوظيف اللوني للأبيض والأسود، وهو توظيف تحكمه ظروف النص الشعري، وتقارب المعاناة الذاتية للشاعرين معًا.
- تمكَّن الشاعران الأندلسي والعُماني - من خلال الوعي اللوني بالأبيض والأسود - من إيجاد تفاعل بين الصورة الذهنية والواقع الخارجي، ونقل تجاربهما النفسية. ويُمكن أيضًا تفسير التشابه بالوعي اللوني في مشابهة الظروف التي عاشها الشاعران، فألقت بظلالها في شعريهما، ناهيك عن وعي الشاعرين معًا بقيمة الأبيض والأسود في تعميق الدلالة النفسية للموقف الشعري، إذ استخدم النبهاني اللونين الأبيض والأسود؛ لينقلنا إلى عالمه الخاص، المليء بـ: الاضطراب، الصراع، والقلق، والأمر نفسه عند ابن خفاجة الأندلسي، جرَّاء الإشكالات التي لازمته طوال حياته.
ويوصي البحث بضرورة تشجيع الباحثين للاقتراب من دراسة الكثير من القضايا في الأدبين الأندلسي والعُماني، نظير الثراء المعرفي الذي يتضمنه هذان الأدبان، بهدف الوقوف على جوانب الاتفاق والاختلاف في الملامح الثقافية بين الأدبين الأندلسي والعُماني.
أولًا: العربية
إبراهيم، عبد الحميد. قاموس الألوان عند العرب. الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1989.
ابن عاشور، محمد الطاهر. ديوان بشار بن برد) شرح). مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1950.
أبو الحسن، علي بسام. الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق إحسان عباس. دار الثقافة، بيروت، 1979.
أبو عون، أمل. اللون وأبعاده في الشعر الجاهلي: شعراء المعلقات نموذجًا. [رسالة ماجستير]، جامعة النجاح، فلسطين، 2003.
بيرلبرج، روزين. فرويد قراءة عصرية، ترجمة. زياد إبراهيم، مؤسسة هنداوي، مصر، 2017.
التبريزي، الخطيب. شرح ديوان عنترة (1992). ط1، دار الكتاب العربي، بيروت، 1992.
التنوخي، عز الدين. ديوان النبهاني (تحقيق وشرح). ط3، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عُمان، 2017.
التيمي، معمر. كتاب الخيل. ط1، مطبعة المعارف العثمانية، حيدر آباد، 1965.
الخويسكي، زين. معجم الألوان في اللغة والأدب. ط1، مكتبة لبنان، بيروت، 1992.
الدقاق، عمر. ملامح الشعر الأندلسي. دار الشرق العربي، القاهرة، 1975.
الدينوري، ابن قتيبة. الشعر والشعراء، تحقيق أحمد شاكر. ط3، دار الحديث، القاهرة، 2001.
ديوان المتنبي. دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1983.
ديوان امرىء القيس. دار صادر، بيروت، [د.ت].
الزوزني، الحسين، شرح المعلقات السبع. الدار العالمية للنشر، بيروت، 1992.
سفيان، نبيل. المختصر في الشخصية والإرشاد النفسي. ط1، إيتراك للنشر والتوزيع، القاهرة، 2004.
سيرين، محمد. تفسير الأحلام الكبير. ط1، دار الفكر، بيروت، 1996.
الطريسي، أحمد. الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب. ط1، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، المملكة المغربية، 1987.
العاني، نزار. النبهاني بين الاتباع والابتداع. ط2، مطابع النهضة، سلطنة عُمان، 2006.
عبد الستار، عباس. ديوان النابغة الذبياني (تحقيق وشرح). ط3، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996.
غازي، سيد. ديوان ابن خفاجة. ط2، منشأة دار المعارف، الإسكندرية، مصر، 1979.
فرويد، سيغموند. تفسير الأحلام، ترجمة مصطفى صفوان. ط1، دار المعارف، القاهرة، 1969.
الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب. القاموس المحيط. ط8، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2005.
الكلبي، هشام. نسب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها. تحقيق: حاتم الضامن. ط1، دار البشائر، دمشق، 2003.
الماضي، شكري. في نظرية الأدب. ط1، دار المنتخب العربي، بيروت، 1993.
المغربي، حافظ. صورة اللون في الشعر الأندلسي: دراسة دلالية وفنية. ط1، دار المناهل للطباعة والنشر، الأردن، 2009.
النمري، أبو عبد الله الحسين. المُلمَّع، تحقيق وجيهة السطل. مكتبة زيد بن ثابت، دمشق، 1976.
ثانيًا:
References:
ʻAbd al-Sattār, ʻAbbās, (ed.). Dīwān al-Nābighah al-Dhubyānī (in Arabic). 3st ed., Dār al-Kutub al-ʻIlmīyah, Beirut, 1996.
Abū al-Ḥasan, ʻAlī Bassām. al-Dhakhīrah fī Maḥāsin ahl al-Jazīrah (in Arabic). ed. Iḥsān ʻAbbās, Dār al-Thaqāfah, Beirut, 1979.
Abū ʻAwn, Amal. al-lawn wa-abʻāduhu fī al-shiʻr al-Jāhilī: shuʻarāʼ al-Muʻallaqāt namūdhajan (in Arabic). Risālat mājistīr, Jāmiʻat al-Najāḥ, Palestine, 2003.
al-ʻĀnī, Nizār. al-Nabhānī bayna al-ittibāʻ wa-al-ibtidāʻ (in Arabic). 2st ed., Maṭābiʻ al-Nahḍah, Oman, 2006.
al-Daqqāq, ʻUmar. Malāmiḥ al-shiʻr al-Andalusī (in Arabic). Dār al-Sharq al-ʻArabī, Beirut, 1975.
al-Dīnawarī, Ibn Qutaybah, al-shiʻr wa-al-shuʻarāʼ (in Arabic). 3st ed., ed. Aḥmad Shākir, Dār al-ḥadīth, Beirut, 2001.
al-Fayrūz Ābādī, Muḥammad b. Yaʻqūb. al-Qāmūs al-muḥīṭ (in Arabic). 8st ed., Maktabat taḥqīq al-Turāth fī Muʼassasat al-Risālah, Beirut, 2005.
al-Kalbī, Hishām. nasab al-Khayl fī al-Jāhilīyah wa-al-Islām wa-akhbāruhā (in Arabic). 1st ed., ed. Ḥātim al-Ḍāmin, Dār al-Bashāʼir, Damascus, 2003.
al-Khuwaysikī, Zayn. Muʻjam al-alwān fī al-lughah wa-al-adab (in Arabic). Maktabat Lubnān, Lebanon, 1st ed., 1992.
al-māḍī, Shukrī. fī Naẓarīyat al-adab (in Arabic). Dār al-Muntakhab al-ʻArabī Lebanon, 1st ed., 1993.
al-Maghribī, Ḥāfiẓ. Ṣūrat al-lawn fī al-shiʻr al-Andalusī: dirāsah dalālīyah wa-fannīyah (in Arabic). 1st ed., Dār al-Manāhil lil-Ṭibāʻah wa-al-Nashr, Beirut, 2009.
al-Nimrī, Abū ʻAbd Allāh al-Ḥusayn. almulmmaʻ (in Arabic). ed. Wajīhah al-Saṭil, Maktabat Zayd ibn Thābit, Damascu, 1976.
al-Tabrīzī, al-Khaṭīb. sharḥ Dīwān ʻAntarah (in Arabic). 1st ed., Dār al-Kitāb al-ʻArabī, Beirut, 1992.
al-Tanūkhī, ʻIzz al-Dīn. Dīwān al-Nabhānī, taḥqīq wa-sharḥ (in Arabic). Wizārat al-Turāth wa-al-Thaqāfah, Oman, 3st ed., 2017.
al-Ṭarīsī, Aḥmad. al-ruʼyah wa-al-fann fī al-shiʻr al-ʻArabī al-ḥadīth bi-al-Maghrib (in Arabic). 1st ed., al-Muʼassasah al-ḥadīthah lil-Nashr wa-al-Tawzīʻ, Morocco, 1987.
al-Taymī, Muʻammar. Kitāb al-Khayl (in Arabic (, Maṭbaʻat al-Maʻārif al-ʻUthmānīyah, India. 1939.
al-Zawzanī. al-Ḥusayn, sharḥ. al-Muʻallaqāt al-sabʻ, (in Arabic). al-Dār al-ʻĀlamīyah lil-Nashr, Beirut,1992.
byrlbrj, Rūzīn. Frūyid qirāʼah ʻaṣrīyah (in Arabic). tr. Ziyād Ibrāhīm, Muʼassasat Hindāwī, Cairo, 2017.
Dīwān al-Mutanabbī (in Arabic). Dār Bayrūt lil-Ṭibāʻah wa-al-Nashr, Beirut, 1983.
Dīwān Imriʼ al-Qays (in Arabic). Dār Ṣādir, Beirut.
Frūyid, Syghmwnd. tafsīr al-aḥlām (in Arabic). 1st ed., tr. Muṣṭafá Ṣafwān), Dār al-Maʻārif, Cairo, 1969.
Ghāzī, Sayyid. Dīwān Ibn Khafājah (in Arabic). 2st ed., Maṭbaʻat Munshaʼat Dār al-Maʻārif, Cairo, 1979.
Ibn ʻĀshūr, Muḥammad al-Ṭāhir. Dīwān Bashshār ibn Burd (in Arabic). Maṭbaʻat Lajnat al-Taʼlīf wa-al-Tarjamah wa-al-Nashr, Cairo, 1950.
Ibrāhīm, ʻAbd al-Ḥamīd. Qāmūs al-alwān ʻinda al-ʻArab (in Arabic). al-Hayʼah al-Miṣrīyah al-ʻĀmmah lil-Kitāb, Cairo, 1989.
Sīrīn, Muḥammad. tafsīr al-aḥlām al-kabīr (in Arabic). 1st ed., Dār al-Fikr, Beirut, 1996.
Sufyān, Nabīl. al-Mukhtaṣar fī al-shakhṣīyah wa-al-Irshād al-nafsī (in Arabic). 1st ed., Ītrāk lil-Nashr wa-al-Tawzīʻ al-Qāhirah, 2004.