تاريخ الاستلام: 12 أبريل 2023

تاريخ القبول: 7 يونيو 2023

مراجعة كتاب

تصميم اللغة وهندسة العقل مدخلًا إلى فهم الطبيعة الإنسانية

قراءة في كتاب «أي نوع من الخلائق نحن؟» لنعوم تشومسكي[1]

مراجعة: رشيد بوزيان

أستاذ اللسانيات، قسم اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب والعلوم، جامعة قطر، الدوحة، قطر.

rachid.bouziane@qu.edu.qa

Book Review

Language Design and Mind Architecture as an Approach to Understanding Human Nature: A Review of Noam Chomsky's "What Kind of Creatures Are We?"

Review by: Rachid Bouziane

Professor of Linguistics, Arabic Language and Literature Department, College of Arts and Sciences, Qatar University, Doha, Qatar

rachid.bouziane@qu.edu.qa

 

عنوان الكتاب: What Kind of Creatures Are We?

تأليف: Noam Chomsky

الناشر: Columbia University Press

مكان النشر: USA

سنة النشر: 2015

عدد الصفحات: 200صفحة

تدمك: 978-0-231-54092-6

 

للاقتباس: بوزيان، رشيد. «تصميم اللغة وهندسة العقل مدخلًا إلى فهم الطبيعة الإنسانية: قراءة في كتاب «أي نوع من الخلائق نحن؟» لنعوم تشومسكي»، مجلة أنساق، المجلد السابع، العدد 2 (2023)

https://doi.org/10.29117/Ansaq.2023.0190

© 2023، بوزيان، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. تم نشر هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه؛ طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.

 

1.    المقدمة: تحقيق بيبليوغرافي

ننوه بدايةً إلى أن النسخة المعتمدة في هذه المراجعة هي نسخة الأصل الإنجليزي للكتاب، التي نشرتها جامعة كولومبيا عام 2015 ضمن سلسلتها المشهورة "محاور فلسفية"، وتقع في 200 صفحة. وليست نسخة الترجمة العربية؛ لأجل ذلك فإن الإحالات على الكتاب الواردة في هذا المقال إحالات على تلك النسخة الأصلية[2].

نفتتح المقال بالإشارة العامة إلى بعض الحقائق التي لا يحسن؛ بل لا يستقيم تلقّي الكتاب إلا باستصحابها، وهذه الحقائق على تشعّب بعضها، فإنها ترجع في الجملة إلى أمرين؛ ننسب في أولهما الكتاب إلى جنسه وطبقته ضمن جمهرة مصنفات تشومسكي، وننسب في ثانيهما كل فصل من فصول الكتاب الأربعة إلى سياقه التداولي.

أما فيما يتصل بالنسبة الأولى نسبة الكتاب إلى طبقته ضمن جمهرة مصنفات تشومسكي؛ فما ينبغي أن يذكر بين يدي هذا المقال النقدي هو أن الكتاب ليس معدودًا ضمن كتب تشومسكي اللسانية الخالصة. ولأجل ذلك، فإنه لا يشتمل على أدنى جديد بالنسبة إلى المتخصصين في اللسانيات التوليدية، ولعل ما سنذكره في النسبة الثانية يفسر سبب ذلك. فالتصنيف الذي يناسب هذا الكتاب من كتب تشومسكي أنه كتاب في الثقافة اللسانية العامة التي يرى تشومسكي أن الفلاسفة وعلماء الاجتماع والسياسة ينبغي أن يكون لهم حظ منها؛ تحقيقًا لمستوياتٍ أفضل في فهم الطبيعة الإنسانية، ولنوعٍ جديدٍ من الفهم لطبيعة الإنسان وحقيقته الوجودية.

غاية الأمر أن تشومسكي لم يتوجه بهذا الكتاب إلى جمهور اللسانيين التوليديين، فهذه الفئة قد جرت عادة تشومسكي على مخاطبتهم بجنس خاص من تصانيفه اللسانية، وبنمط خاص من الكتابات اللسانية، وهو ذلك النمط الذي تنتسب إليه معظم الأعمال اللسانية المنجزة في حقل المقاربات الصورية للغات الطبيعية (Formal Linguistics)، فالكتاب من هذه الجهة ليس له صلة تذكر بهذه الطبقة من كتب تشومسكي اللسانية، وهي التصانيف التي تتضمن جديدًا يتعلق بهذا المسار أو ذاك من المسارات البحثية الأساسية للنظرية التوليدية، فأعمال تشومسكي اللسانية التخصصية الدقيقة، في الغالب، أعمال جديدة من العيار النوعي الثقيل في موازين المسار النمذجي والاستدلالي والمسار التطوري للنموذج اللساني التوليدي، وهي في الغالب كذلك عبارة عن منعطفات نوعية في مسار النظرية؛ حيث يتمتع تشومسكي بقدرة استثنائية على رسم الطفرات اللازمة لتطور النظرية؛ انطلاقًا من تراكم المخرجات البحثية المستجدة التي يتم إنتاجها في جهات العالم الأربع حول مختلف اللغات الطبيعية؛ حيث يكتشف لسانيون مغمورون أو مشهورون خصائص لسانية جديدة يعتمدها تشومسكي في رسم منعطفات النظرية، والمسار التطوري الذي يجب أن تسلكه في طريقها نحو تحقيق مستويات أفضل في فهم ألغاز الملكة اللغوية وتفسيرها. وحيث يكون للمعطيات اللغوية، التي تأتي في دراسة لغات هامشية أحيانًا، دور الجين الذي يحدث الطفرة النوعية في جسم النظرية؛ استكشافًا وتحليلَا واستدلالًا ونمذجةً وتمثيلًا. فاللغات الطبيعية، المركزي منها والهامشي، هي المختبر الذي تمحّص فيه الافتراضات، ويستيقن فيه من صحة التعميمات وجودتها، ومن أمثلة ما كتبه تشومسكي من هذه الطبقة في الفترة نفسها، التي كتب فيها فصول كتابه الممتدة بين 2013 و2023 من حيث زمن التصنيف، العناوين الآتية:

·       Chomsky, N. 2013. Problems of Projection.

·       Chomsky, N. 2015. Problems of projection: Extensions.

·       Chomsky, N. (2019). Some Puzzling Foundational Issues.

·       Chomsky, N. (2022). Minimalism: Where Are We Now, and Where Can We Hope to Go?

أما النسبة الثانية فتتعلق بفصول الكتاب الأربعة، فلكل فصل من تلك الفصول سياق تداولي خاص، العلم بتفاصيله ومتغيراته عامل، إن لم يكن حاسمًا، فهو على أقل تقدير عامل مؤثر في جودة تلقي الكتاب. فالكتاب لم يصنف ابتداءً ليكون كتابًا، وهذا ظاهر جلي من أسلوبه وطريقة ترتيب مادته؛ بل أصله أربع محاضرات قدمت في سياقات مختلفة نسبيًا، وأطراف كثيرة من محتوى الفصول، يغلب عليها أسلوب الارتجال الشفهي والاستطراد اللذين اشتهر بهما تشومسكي في محاضراته العامة ومداخلاته التي يخاطب بها الجمهور العام من المثقفين من غير اللسانيين المتخصصين. وكل محاضرة من تلك المحاضرات الأربع ظهرت منشورة بصيغة مقال في مجلة الجمعية الفلسفية الأمريكية، وفيما يلي بيانات النشر الخاصة بكلٍّ منها، ونبدأ بأقدمها صدورًا وهو الفصل الرابع "إلى أي مدى تخفي الطبيعة عنا ألغازها؟"[3].

هذا الفصل نُشر ثلاث مرات، وكان ظهوره الأول باللغة الفرنسية فصلًا مترجمًا من فصول كتاب "دفاتر تشومسكي"[4]، الذي صدر ضمن سلسلة (Cahiers de L'Herne) الفرنسية عام 2008، وأشرف على تحريره كل من جولي فرانك وجون بريكمون[5]، وهو نفسه الكتاب الذي نشرت نسخته الإنجليزية الأصلية لاحقا عام 2010 ضمن سلسلة موضوعات فلسفية التي تصدرها جامعة كولومبيا بعنوان "Chomsky Notebook" (Franck and Bricmont 2010).

وقبل ذلك ظهر ت محاضرة تشومسكي هذه مقالة في عدد خاص من مجلة الفلسفة[6]، مجلة الجمعية الفلسفية الأمريكية، خصص لمحور في فلسفة المعرفة وهو "معرفة الإنسان بالطبيعة والعدد" وهو العدد الرابع، المجلد 106، أبريل 2009.

غاية الأمر أن فصول الكتاب الأربعة نشرت كلها مقالات فكرية في مجلة الفلسفة، وبعضها نشر في المجلد 106 وهو الفصل الرابع، وبعضها نشر في المجلد 110 (الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب).

2.    ما أهمية هذا التحقيق البيبليوغرافي في فصول الكتاب؟

تكمن أهمية هذا التحقيق الببليوغرافي في فصول الكتاب الأربعة في كونه يقدّم إضاءات مهمّة حول السياق الذي تمّ فيه إنتاج مادّتها، وهي إضاءات ضرورية لفهم مقاصد الكاتب. فالفصول الثلاثة الأولى من الكتاب أصلها ثلاث محاضرات ألقيت في مقر الجمعية الفلسفية الأمريكية، في إطار واحدة من أشهر سلاسل المحاضرات التي تنظمها الجمعية تكريمًا للفيلسوف الأمريكي جون ديوِي John Dewey[7]، وهي "سلسلة محاضرات جون ديوي" التي نظمت في نسخة عام 2013 بعنوان "أي نوع من الخلائق نحن؟"، العنوان الذي اختاره تشومسكي للكتاب موضوع هذه المراجعة النقدية.

السؤال المحوري الذي دارت حوله هذه المحاضرات سؤال فلسفي عميق: كيف يؤثر تصميم اللغة على فهمنا للطبيعة البشرية والسؤال عما يعنيه من هذه الزاوية أن تكون إنسانًا. وبعبارة أخرى، كيف تؤثر الحقائق العلمية المكتشفة في مجال بنية اللغات وتصميمها وهندستها على النقاش الفلسفي حول حقيقة الطبيعة البشرية، كأن تشومسكي يتوجه إلى المجتمع الفلسفي الأمريكي تحديدًا بالقول إن الحقائق المكتشفة حول طبيعة اللغة وتصميمها تستدعي إعادة توجيه بوصلة النقاش الفلسفي حول الطبيعة الإنسانية نحو مسارات استكشافية وتأملية جديدة غير المسارات الفلسفية الكلاسيكية، مسارات باستشكالات جديدة وأسئلة بصيغة مختلفة تكون من جنس السؤال الآتي: كيف تبدو تجربة أن تكون إنسانا من منظور حقائق تصميم اللغة والفطرة.

الرسالة التي أراد تشومسكي أن يوجهها إلى المجتمع الفلسفي الأمريكي في هذا الشأن هذا نصها: "أنا فيلسوف مثلكم، أشارككم أسئلتكم حول حقيقة الإنسان وخصائص الطبيعة الإنسانية؛ لكنني مختلف عنكم في أنني أنظر إلى هذا السؤال من نافذة الحقائق العلمية المكتشفة في إطار المشروع التوليدي عن طبيعة اللغة وهندستها وكيفية عملها في العقل/الذهن".

ولعل بعض مفردات هذه اللغة التي تحدث بها تشومسكي لم تقع موقعًا حسنًا من بعض فلاسفة الجمعية الفلسفية الأمريكية، فتصدت طائفة منهم للرد عليه ومحاججته في عدد من القضايا التي ناقشتها هذه المحاضرات، وأشد تلك الردود حدة رد الفيلسوف الأنثروبولوجي الأمريكي المعرف كريس نايت الذي أفرد للرد على محاضرات تشومسكي كتابا كاملا بلغت عِدَّة صفحاته 265 صفحة وعنوانه "فك شفرة تشومسكي: العلوم والسياسة الثورية" (Knight 2016).

هذا عن الفصول الثلاثة الأولى "ما حقيقة اللغة؟"، "ماذا يمكننا أن نفهم؟"، "ما هو الصالح العام؟".

أما الفصل الرابع الذي ذكرنا سابقًا أنه نشر ثلاث مرات؛ فله سياقان اثنان، ذكرُهما يساعد على فهم مقاصد الكاتب؛ فأما السياق الأول، فهو أنه في الأصل محاضرة ألقيت في الجمعية الفلسفية الأمريكية، ضمن سلسلة محاضرات أخرى تدعى سلسلة "Grounds and Limits" المتخصصة في مناقشة حدود المعرفة العلمية والقيود الإدراكية على المعرفة البشرية وفي تعقيدات الفكر الفلسفي والتحديات التي تفرضها حدود المعرفة الإنسانية. وهي سلسلة يتنادى فيها مفكرو أمريكا وفلاسفتها إلى مناقشة القضايا المتعلقة بأسس المعرفة، والأخلاق، والميتافيزيقا، والسياسة، وعلم الجمال، وتقديم رؤاهم حول المعتقدات والمبادئ الأساسية التي شكلت فهمنا لهذه المجالات، فضلا عن مراجعة الافتراضات والمقدمات والحجج الأساسية التي تشكل أساس المجالات الفلسفية المختلفة، ومحاولة اكتساب فهم أعمق للأسباب الثانوية وراء قبول بعض هذه الأفكار على نطاق واسع دون غيرها أو مناقشتها والاعتراض عليها بمرور الوقت. وأما السياق الثاني، فهو أن هذا الفصل ظهر نسخةً فرنسية كما ذكرنا سابقا ضمن كتاب بتأليف مشترك عنوانه "دفاتر تشومسكي"، وكانت الغاية من إصدار هذه الدفاتر هي إعادة الاعتبار إلى سمعة تشومسكى لدى النخب الفرنسية لا سيما اليسارية منها والتي كان في نفسها شيء منه لسببين أحدهما دفاعه عن أحد منكري الهولوكوست وهو الأكاديمي الفرنسي روبير فوريسون[8] (Robert Faurisson)، والثاني ازدراؤه للفرنسيين لموقفهم منه في هذه القضية وقضايا أخرى. وفي هذا السياق تفهم شهادة جان بريكمونت وجولي فرانك المشرفين على مشروع "دفاتر تشومسكي" التي كتباها بين يدي الكتاب؛ حيث قالا: "إن تشومسكي يجدد تقليدًا تحرريًا خاصًا له جذوره في أفضل جوانب الليبرالية الكلاسيكية والنقد الماركسي للاستغلال والاغتراب". ووصفا الدفاتر بكونها تغطي بشكل شامل جميع جوانب عمل تشومسكي، وأنها أولت اهتمامًا خاصًا بالأساليب التي تستخدمها بعض النخب لتهميش أفكار تشومسكي، ووصفا عملهما في هذا الإصدار بأنه "يسعى إلى معالجة الفجوة المؤسفة التي جعلت مكانة تشومسكي في فرنسا بهذه المثابة".

3.    صيغة الاستفهام في بعض تراجم تشومسكي لكتبه

أخرج تشومسكي عنوان كتابه بصيغة الاستفهام "أي نوع من الخلائق نحن؟"، وهو نمط سائد في عدد من التراجم التي اختارها لطائفة من كتاباته الأخيرة، ومنها كتابه الذي صدر في العام نفسه "لماذا نحن فقط؟ اللغة والتطور" (Berwick & Chomsky 2017)، وهو نمط له دلالته بالنظر إلى طبيعة الأسئلة الفلسفية الفرعية المنتشرة في كل من الكتابين وبالنظر أيضا إلى حالة القلق المعرفي التي لا يخفى على متابعي كتابات تشومسكي الفلسفية أنها استبدت به غاية الاستبداد في مختلف ما كتبه في السنوات العشر الأخيرة حول حقيقة الإنسان والطبيعة الإنسانية وما تفرضه هذه الطبيعة من قيود إدراكية تحد من قدرتنا على المعرفة المفصلة والتفسير العميق للظواهر التي تقع في نطاق ملاحظته.

يعرض نعوم تشومسكي، في كتابه وجهات نظره حول مجموعة متنوعة من الموضوعات الفلسفية، وهي آراء فلسفية اعتنق معظمها منذ عقود. ولئن كانت إسهامات تشومسكي في حقل العلوم اللسانية الخالصة محل تقدير استثنائي وإجماع فريد من نوعه في تاريخ الأفكار اللسانية ومناهج البحث اللساني فإن أفكاره الفلسفية لم تحظ بمثل هذه المكانة، وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى طبيعة الفلسفة والتأمل الفلسفي في حد ذاتهما.

يقدم الكتاب تفسيرات محدثة وموجزة ومثيرة للتفكير ومستفزة أحيانا، وذلك في جميع فصوله الأربعة التي أخرجها كلها بصيغة الاستفهام أيضا على شاكلة عنوان الكتاب: "ما هي اللغة؟"، "ماذا يمكننا أن نفهم؟"، "ما هو الصالح العام؟"، و"وإلى أي حد تخفي الطبيعة عنا ألغازها؟". مادة هذه الفصول تنطوي على تأملات أصيلة تتسم بمقدار لافت من العمق (الغامض أحيانا)، ومن الثوابت التي اطردت في منهج تشومسكي في دفاعه عن وجاهة أفكاره وتأملاته براعته في “استدعاء السياقات التاريخية" الملائمة في معالجته لكل سؤال من تلك الأسئلة، وقد استأثرت قضية حدود المعرفة العلمية والقيود الإدراكية على "الفهم" و"التمثل" بالشطر الأعظم من مجمل السياقات التاريخية التي استدعاها تشومسكي في ثنايا مقاربته لمختلف مفردات تلك الأسئلة ومباحثها. وقد استخدم تشومسكي في مقاربته للسؤالين الأولين أدوات متنوعة استدعى بعضها من منظومة البحث اللساني التوليدي وبعضها الآخر من فلسفة العلوم المعرفية وتاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم. وقد كانت المفردات النظرية المحورية الأكثر ترددا في هذه المقاربة تلك المتصلة بقضية الأصول التطورية لكليات اللغة البشرية وقضية التفريق بين "المشكلات العلمية" و" الألغاز المستعصية"، وقضية العلاقة بين العقل/الذهن والدماغ وما أفضل السبل التي يمكن أن نسلكها في تصور حقيقتها على النحو الذي يقربنا أكثر من فهم جوهر الطبيعة الإنسانية.

4.   اللغة بنيةُ الفكر وأداته لا وسيلة للتواصل!

في الإجابة عن السؤال الأول "ما حقيقة اللغة؟"، استعرض تشومسكي أطروحته ذائعة الصيت في هذا الشأن، وهي أن اللغة لم تنشأ ابتداء لتكون وسيلة للتواصل بل نشأت لأداء وظائف ذهنية إدراكية داخلية مرتبطة ارتباطا عضويا ووجوديا بسمة أخرى أساسية من السمات التي انفرد بها الإنسان وهي سمة "الفكر والتفكر"، فاللغة وسيلة الإنسان لتنظيم مختلف العمليات الذهنية المرتبطة بهذه السمة، والعلاقة بين اللغة والفكر علاقة إضافية في المقام الأول وينبغي التعبير عن هذه العلاقة على هذا النحو "لغةُ الفكرِ"، وهذه الصياغة التركيبية القائمة على إضافة اللغة إلى الفكر طريقة أخرى في فهم المقالة التي اشتهرت في أواخر القرن 19 عن اللغوي الأمريكي المتخصص في فقه اللغة السنسكريتية وفيلولوجيا اللغات الهند-أوروبية، ويليام دوايت ويتني[9]، التي وصف فيها اللغة بأنها ليست شيئا آخر سوى كونها "فكرا مسموعا" (Croce 226)؛ أي أنه فكر يخرج من الشفتين ويُتلقى بالأذن. وهما جزء من الأنظمة الحسية الحركية (sensory-motor interface) المتنوعة التي تخلَّقت في الأصل لأداء وظائف حيوية (بيولوجية) أساسية لاستمرار حياة الإنسان، وقد تمكن الإنسان من استثمار تلك الأنظمة الحسية الحركية لأداء وظائف مختلفة ومتنوعة أخرى والتواصل أحد هذه الوظائف. هذا ومن الأدلة التي ذكر تشومسكي أنه يمكن الاحتجاج بها لأطروحةِ عرضيةِ العلاقة الوظيفية بين اللغة والتواصل وأن هذه العلاقة ليست مطردة، أن التواصل يمكن أن يتحقق بتوظيف أنظمة حركية حسية أخرى مختلفة غير الأنظمة النطقية والسمعية كما هو الشأن في لغة الإشارة التي لا تختلف في شيء عن اللغة المنطوقة في الوفاء بالوظيفة التواصلية إطلاقا. فالعلاقة بين اللغة والوظيفة التواصلية ليست طردية ولا عكسية، ولأجل ذلك يستحيل منطقيا افتراض صحة الأطروحة التي تقول إن اللغة إنما نَشأت وصُممت ابتداء لتكون وسيلة للتواصل. ويستدعي تشومسكي في هذا السياق دليلا آخر على أطروحته الفلسفية هاته من واقع "التناظر الهيكلي" بين هندسة المنطق الهرمي لبنية الفكر وبين هندسة العلاقات الهرمية الناظمة للعلاقات بين العناصر اللغوية، فالخاصية الأساسية التي تتميز بها الملكة اللغوية قدرتها على إنتاج عدد لا متناه من المكونات اللغوية المنظمة هرميا في جميع مستوياتها وطبقاتها (الصوتية والمقطعية والصرفية والتركيبية والدلالية ...)[10]، وربطها بالواجهة التصورية- القصدية  (The conceptual-intentional interface)، وفق نماذج صورية ومنطقية من جنس نظائرها الناظمة لنسيج هندسة "الفكر" تمامًا، وأن ذلك يتم وفق نمط الاستنساخ التكراري (Recursive) (بالمعنى الرياضي للعبارة الذي يعنى الاطراد والتواتر بإيقاع لا يتخلف).

ولأجل ذلك وبما أن العلاقة بين اللغة والفكر هي بهذه المثابة والتي لا يشك أحد في أنها حالة عامة كلية مشتركة بين أفراد النوع الإنساني، (والحديث ههنا عن حالة تلك العلاقة قبل أن تتلقفها الأنظمة الحركية الحسية) فإن تلفيظ هذه العلاقة، وإخراجها (Externalization) باستخدام واجهة الأنظمة الحركية الحسية، يرى تشومسكي أنه لا ينبغي أن يُعتد به جزءًا من الخواص المميزة للغة، (خلافًا طبعًا لما تؤول إليه تلك العلاقة في الواجهة التصورية القصدية) وفي هذا السياق يجدد تشومسكي تأكيد أطروحته الجوهرية في هذا الشأن وهي أن نظرية النحو الكلي تبقى التفسير العقلاني الوحيد لتفرد الإنسان باللغة والفكر دون غيره من الأنواع الحية، على عكس أنظمة الاتصال التي لا تمتلك هذه "الخاصية الأساسية" (8-9، 20-24)، ويستعرض تشومسكي في هذا السياق جملة من الحجج الوجيهة والمتسقة من واقع التناقضات الجليَّة بين النموذج الهرمي الناظم للبنيات اللغوية وبين نمط الترتيب الخطي الذي يبدو أكثر ملاءمة للأنظمة الحسية الحركية التي تسهل التواصل (10-13، 15-20، 22-23). يطرح تشومسكي ثلاث حجج ضد فكرة أن اللغة إنما نشأت ابتداء لأداء وظيفة التواصل (15-16). تلقي الأولى منهما والثانية بظلال قاتمة من الشك على الأبعاد الوظيفية للغة جملة وتفصيلا؛ أما الحجة الأولى فمفادها أن الإنسان لم يكن له دور في تصميم الملكة اللغوية ولا في هندسة مسارات الكيفية التي تعمل بها، خلافا للتواصل الذي هو صنعة إرادية واعية متصلة بالبعد الاجتماعي الذي انخرط فيه الإنسان بوعي وإرادة يشرف بهما الإنسان على تصميم مختلف التفاصيل المتعلقة بهذا البعد، أما الحجة الثانية فتسلط الضوء على حالة عدم اليقين الحادة في ما يتعلق بتحديد وظائف البنيات البيولوجية (مفهوم الوظيفة البيولوجية في حد ذاته غامض جدا). أما الحجة الثالثة على أن التواصل لم يكن عاملا وجوديا حاسما في نشأة اللغة ولا في تحديد مسارها التطوري، فخلاصتها أن هناك مستويات عديدة ومتنوعة من النجاح التواصلي لا يكون فيها للمعاني ولا للأصوات والبنيات اللغوية عموما أي دخل من قريب ولا من بعيد.

إن أطروحة تشومسكي هذه التي يذهب فيها إلى أن التواصل سمة هامشية وعرضية بالنظر إلى الطبيعة الأساسية للغة يتسق مع قناعته المتعلقة بتهافت المنحى البحثي الذي يتبنى فرضية أن التواصل بدأ مساره التطوري من عالم الأحياء غير العاقلة ثم انتقل إلى عالم الإنس بطريق المحاكاة. وفي هذا السياق ينبغي أن تفهم أطروحة تشومسكي في هذا الشأن والتي ذهب فيها - مستندا إلى نتائج أبحاث علم البيولوجيا التطورية القائمة على أدلة حفرية (أركيولوجية) غير نمطية ومثيرة للفضول – إلى أن اللغة، التي تتميز بالخصائص الأساسية المذكورة آنفا - لا سيما قانون حتمية اعتماد اللغة على البنية بدلا من الترتيب الخطي والتناظر بينه وبين صنوه الناظم لبنية الفكر - إنما نشأت من طفرة جينية نوعية (حدثت منذ زمن يتراوح بين خمسين ومائة ألف عام (3، 7-8، 16-20، 25، 39-40)، طفرة نتجت عنها إعادة توصيل عصبي لخلايا الدماغ، وأن الهيئة المخصوصة التي استقرت عليها تلك الخلايا والتي يتعامل معها علماء الدماغ والإدراك اليوم على أنها من ثوابت البيولوجيا البشرية، ما زالت تمثل لغزا محيرا للعلماء : لماذا استقرت على تلك الهيئة دون غيرها من الهيئات الممكنة ؟ ما زال العلماء عاجزين عن تقديم أي مقاربة تفسيرية ممكنة لهذا اللغز.

ونختم هذا الجزء من هذه المراجعة بالتنويه إلى أن تشومسكي أصدر بعد أشهر قليلة من صدور كتابه "أي نوع من الخلائق نحن؟" كتابًا آخر ترجم له بعنوان استفهامي أيضًا "لماذا نحن فقط؟ اللغة والتطور" (Berwick and Chomsky 2016)، الكتاب ظهر فيه تشومسكي مؤلفًا ثانيًا (وهو أمر نادر جدًّا) مع زميله في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) عالم الذكاء الاصطناعي واللسانيات الحاسوبية روبرت بيرويك، وقد ضمنه مقاربة تفصيلية لقضية نشأة اللغة وتطورها، مقاربة معززة بنمط خاص من الحجج والأدلة يشبه صنوه المشهور في كتاباته اللسانية الخالصة. الكتاب يستحق القراءة ولعلنا نكتب فيه مراجعة نقدية قريبا إن شاء الله.

أطروحات تشومسكي حول أصول اللغة مثيرة للاهتمام وللفضول البحثي حقا؛ لكن الأدلة الداعمة لها محدودة جدا، وتشكو من ثغرات لا يحتملها منطق البحث العلمي كما يعترف تشومسكي نفسه (25)، والشطر الأعظم من الأفكار العلمية المتداولة في هذا الشأن لا بأس بها في الجملة؛ لكنها ما زالت بعيدة عن اليقين القطعي. والطريق نحو اليقين أو ما يشبه اليقين في هذه المسألة ما زالت طويلة جدا وتحتاج إلى جهد استكشافي مضن وإلى نمط استثنائي من المقاربات التحليلية والقراءات التفسيرية للبيانات البيولوجية والحفرية (الأركيولوجية) المتاحة. ومع كل هذا المقدار من التواضع العلمي الجميل الذي اتسمت به لغة تشومسكي في هذا السياق فإنه لا يمل من تكرار أطروحته الثابتة التي يرى فيها أن فرص نجاح أي مقاربة لطبيعة اللغة، حتى تلك التي اتخذت من لحظة النشأة والتكوين ومن المسار التطوري الذي سلكته هذه اللحظة الفريدة في تاريخ النوع البشري، موضوعا لها، فرصٌ مشروطة باستصحاب قانون البنية الهرمية للغة وثوابت الهندسة الهرمية الناظمة للعلاقات بين العناصر اللغوية، وأن أي مقاربة تجرأت على تجاهل هذا القانون محكوم عليها بالفشل.

يقينية تشومسكي في هذا الشأن تستند إلى عقود من الدراسة والبحث في إطار المشروع التوليدي الذي بدأ عام 1957م، وما زالت مختبراته البحثية مستمرة إلى اليوم لا تفتأ تفاجئ المجتمع اللساني التوليدي بالكشف عن المزيد من ألغاز الظاهرة اللغوية. وما قصة التطور النوعي المفاجئ الذي حدث أخيرا في مجال تصميم نماذج الذكاء الاصطناعي المتخصصة في إنتاج اللغة عنا ببعيد. فهذه النماذج قامت في الأصل على محاكاة الذكاء الطبيعي الذي يمارسه الإنسان في سلوكه اللغوي إنتاجا وتأويلا وتحويلا، وعلى تدريب المعالجات الآلية على تطبيق الخوارزميات المناسبة ذات الصلة بهذا السلوك، وأحد مراجعها الأساسية في هذه المحاكاة كان في المقام الأول النماذج اللسانية التي صُممت على جهة المحاكاة التمثيلية لبنية الذكاء اللغوي الطبيعي، وهي المهمة التي تصدى لها برنامج اللسانيات التوليدية التحويلية منذ الخمسينيات من القرن العشرين دون غيره من النظريات اللسانية، ولعل أحد أقوى المؤشرات الدالة على هذه المرجعية اللسانية لنماذج الذكاء الاصطناعي وصف هذه الأخيرة بالرمز الاصطلاحي (GPT) وهو اختصار للعبارة Generative Pre-trained Transformers، وكفى بذلك دليلا على المرجعية التي أشرت إليها، مع التنويه إلى أن الأمر يتطلب تفصيلا لا يتحمله حجم هذا المقال، تفصيلا يتعلق بالفرق بين النسخة الطبيعية الإنسانية للتوليد والتحويل والنسخة الآلية التي جاءت العبارة الاصطلاحية الدالة عليها (المذكورة آنفا) مقيدة بلفظ pre-trained الدال على أن السلوك اللغوي الذي تتعلمه الآلة إنما تتعلمه بالتدريب القبلي وهو ما لا ينطبق على السلوك اللغوي الطبيعي.

5.    ما الذي نستطيع فهمه في ضوء ما تستمر الطبيعة في حجبه عنا من ألغازها؟ (الفصلان 2، 4)

يناقش هذان الفصلان موضوعات متقاربة نسبيًا، ولأجل ذلك اخترنا الجمع بينهما في موضع واحد من هذه القراءة. ولعل القضية المركزية الجامعة بينهما والأكثر إمساكا بتلابيب أسئلتهما قضية حدود الفهم البشري والقيود على مقدار الإدراك الذي يمكن أن يحققه العقل في مقاربته للأسئلة العلمية وفي دأبه المستمر لفك ألغاز الطبيعة وفك شفرة الكون. مذهب تشومسكي في هذا الشأن أن الغموض حقيقة بدهية (mysterianism is a truism) لا سبيل للعقل إلى الانفكاك المطلق من قبضتها. ومرجع ذلك إلى أننا نكون أحيانا كثيرة "عاجزين معرفيًا/إدراكيًا" (27) عن صياغة بعض الأسئلة العلمية الوجيهة بالطريقة الملائمة التي تتطلبها طبيعة الظاهرة المستهدفة بالبحث، إما بسب عدم الاهتداء إلى الزاوية الصحيحة للاستشكال، وإما بسبب البنية المنطقية والتصورية لمادة السؤال العلمي نفسه، وهذا ما يفسر في تقدير تشومسكي عجز العقل في كثير من الحالات عن تفسير بعض الظواهر العلمية المهمة التي تقع في نطاق ملاحظته (27-28) وكذلك عجزه عن توحيد الفهم النظري الذي نحققه في مجال معين مع الفهم النظري الذي يتحقق في مجالات أخرى( 104). ويفترض تشومسكي في هذا السياق أن "الكثير مما نسعى إلى فهمه بل "الفهم الحقيقي لأي شيء"، يمكن أن يكون خارج حدودنا المعرفية (104)، ويستشهد لمذهبه في هذا الخصوص بما ذهب إليه في مثل هذا الشأن طائفة من العلماء الذين عاشوا قبلنا ممن اشتهروا بمواقف مماثلة ويخص منهم بالذكر جاليليو وديكارت ونيوتن ولوك وهيوم وراسل، ويحذر من تجاهل مخاوف هؤلاء العلماء بشأن الفهم (85). ويدعو الباحثين والعلماء إلى التحلي بالتواضع في قضية حدود المعرفة والقيود المعرفية الإدراكية التي تكبل عقولنا؛ لأن العالم معقد بالفعل ومليء بالعديد من الأنماط والبنيات التي تتطلب تفسيرا، في حين أن قدرات عقولنا على كسر جدار الغموض وفك الشفرة ليست فعالة دائما.

يرى تشومسكي – عطفا على موقفه السابق - أن العلم في أحيان كثيرة لا يحل المشاكل "الصعبة" ولكنه بدلًا من ذلك يتخلى عنها ويعدل أهدافه ويتصالح مع "ألغاز" مزمنة صار طول أمد استعصائها عن الفهم يعطي انطباعًا قويًا جدًا (قد يكون وهما كاذبا!) بأن حلولها تقع خارج قدراتنا المعرفية، (27، 32، 53، 87، 98، 103-04، 109). فالتقدم، الذي حققته مثلا تفسيرات نيوتن للحركة والجاذبية، تركت العالم "بشكل دائم" "غير مفهوم"، أو "لا يمكن تصوره" و" يتعذر تفسيره بطريقة عقلانية"، فما استقرت عليه تلك التفسيرات أفضل ما يمكن أن يقال فيه أنها "شيء أضعف من الوضوح" (32، 53)، وهذا الموقف مبني طبعا على ما عبر عنه تشومسكي بـ"النظريات المفهومة لنا تحديدًا سواء كان ما يفترضه العلماء أصحاب تلك النظريات مفهوما أم لا"[11]. لحن حديث تشومسكي في الصفحتين (33، 53) - حيث يذهب إلى أن فقدان اللاهوت أوضح أننا نعيش في عالم غير مفهوم بشكل كبير بسبب قيودنا البيولوجية - قد يفهم منه لأول النظر أن تشومسكي قد ساوره في لحظة ما شعور بأن فقدان النظرة اللاهوتية للعالم كان له دور في العيوب التي تحدث عنها في هذا الموضع من كتابه؛ لكن لحن الحديث هذا سرعان ما يتراجع ويحل محله حديث آخر بأن الفلسفات ذات الأساس اللاهوتي قدمت إحساسا بالوضوح التام الذي لم يضاهِه العلم المعاصر؛ لكن مع ذلك فإن هذا الشعور ومعايير الوضوح المريح المرتبطة به كانت وهمية وخادعة. لا يوجد في العصر الحديث، يقول تشومسكي، كتاب طبيعة مؤلف بعقلانية على شاكلة ما صنفه الفلاسفة الطبيعيون الأوائل، ومع ذلك فإن العالم صار يفهم بشكل أفضل بكثير مما كان عليه قبل انفصال العلم عن اللاهوت. هناك بالفعل قضايا - مثل أصل الكون - لم يحرز العلم تقدمًا نوعيًا في شأنها. لكن مع هذا وذاك فإن العلم بعد نيوتن، أصبح أكثر حذرا في شأن التعلق الشديد بالتفسيرات الشاملة "النهائية" (87)، على الرغم من استمرار الطموح إلى تفسيرات شاملة وموحدة.

تناول تشومسكي في هذا السياق نظرية نيوتن في الجاذبية بمناقشة تفصيلية، ركز في شطر معتبر منها على قضية التأثير عن بعد التي أثارتها ومقدار التهديد الذي رفعته قضية التفاعل بين الأجسام المتباعدة في وجه الميكانيكا الكلاسيكية ومجمل مسلماتها وتقاليدها المتوارثة، كما أنه استعرض واصفا مرة ومفسرا أخرى جملة من مظاهر فشل الميكانيكا الحديثة المبكرة، متمثلة على وجه الخصوص في مشاكل الحركة والجاذبية التي بقي جزء منها ألغازا غامضة لم تهتد تلك الميكانيكا إلى حلها فتم التخلي عنها، (32-33، 53، 85، 90، 98). وقد خص تشومسكي بالتعليق في هذا السياق ما سماه عقدة الفشل في ميكانيكا نيوتن وهي "التحدي المتمثل في تفسير القوى المغناطيسية والجاذبية فقط من خلال الاتصال المادي بين الأجسام". وقد كانت هذه القضية بالذات موضع اقتباسات عديدة من جاليليو ولوك وهيوم ونيوتن (32-33، 52-53، 81-82، 86، 91). وهي اقتباسات مترادفة تواردت على معنى واحد وهو أن العالم غير مفهوم، أو لا يمكن تصوره ولا تفسيره عقلانيًا.

يعترف تشومسكي من حين إلى آخر، بالطبيعة المشروطة تاريخيا لملاحظات العلماء السابقين حول الغموض وعدم الوضوح. لكنه بصفة عامة يتبنى بقوة الاعتقاد السائد على نطاق واسع في تاريخ العلوم بأن فشل التفسير الميكانيكي يعادل عدم الوضوح (34، 36، 52-53، 86، 91)، ويعتد بفحوى هذه القصة معيارا في تحديد خصائص الوضوح وشروط الفهم. يبدو أنه يعتقد ذلك جازما لأن هذا الاعتقاد متسق مع مذهبه في مسألة المعرفة الحدسية ودور الحس الفطري السليم في بناء هذه المعرفة وصقلها وتهيئتها في طريق التحول إلى المعرفة اليقينية (28، 82، 84، 86، 90-91، 103-104).

خلاصة مذهب تشومسكي في هذه القضية أن سقف معايير الوضوح والفهم في أي علم محكوم عليه بالانحدار كلما ابتعد عن الحس السليم المشروط وراثيًا[12]. (لعل لفظ "الفطرة" أنسب في ترجمة المراد من هذه العبارة)، وأن التناسب طردي وعكسي بينهما من هذه الجهة. وعلى الرغم من الجهود العلمية المستمرة لفهم الجوانب العقلية للعالم، فإن بعض الأسرار الغامضة لملكة الفهم بالفطرة السليمة ستبقى مهيمنة على النشاط الذهني للإنسان إلى أجل غير مسمى. فتشومسكي، كما هو معلوم، جادل زمنا طويلا (منذ سبعينيات القرن الماضي)، حين صنف كتابه المشهور "اللسانيات الديكارتية"، بأن الاستخدام الإبداعي للغة بالمعنى الديكارتي للعبارة، أي القدرة على استخدام اللغة بطرق مبتكرة مناسبة غير مرتبطة سببيا بأي ظرف خارجي لازم، هو لغز من ألغاز العقل الإنساني والإرادة الحرة حيث يشعر البشر بالحرية في التصرف دون إكراه. وعلى الرغم من أن البشر قد يكون لديهم اعتقاد فطري بأن لديهم حرية التصرف؛ لكن قد لا يتمتعون بحرية التمسك بهذا الاعتقاد.

يبدو من لحن كلام تشومسكي في هذا السياق أنه متردد في جدوى أي جهد استكشافي يستهدف هذا الاحتمال حاليا، معتقدًا أن البحث الحالي في علم الأعصاب حول أسرار حرية الإرادة لدى الإنسان والآليات العصبية والذهنية التي تتحكم في المسافة الملغزة القائمة بين الشعور بالإرادة الحرة وتحويل هذه الإرادة إلى قرار وفعل، ما زال يفتقر إلى الموارد التجريبية والنظرية لحل لغز الشعور البشري بالإرادة الحرة (94-96).

ميزة أخرى مثيرة للاهتمام في فلسفة "الغموض" التي هيمنت على مقاربة تشومسكي للسؤال المتعلق بحدود المعرفة، وهي أطروحته الأنيقة المتعلقة بملكة "إنتاج المعرفة وبناء العلم" Science-Forming Faculty=SFF))، والتي يذهب فيها إلى أن هذه الملكة "تزود العقل البشري بمجموعة محدودة من "الفرضيات المقبولة" التي تشكل أساس البحث العلمي البشري" (28). من الواضح أن تشومسكي يفترض أنه على غرار الأنظمة البيولوجية الأخرى (مثل قدرة الفئران على التنقل في المتاهات)، فإن الملكة المذكورة (SFF) ينبغي أن يكون لها نطاق محدد وقيود تحكمها. وهذا لازمه أنها لا تزود العقل إلا بفئة الفرضيات العلمية التي يمكن للبشر الوصول إليها، وذلك على حد المسألة في قصة الملكة اللغوية والنحو الكلي تماما، فكما أن النحو الكلي (UG) لا يتصور أن يمكِّن العقل الإنساني إلا بفئة اللغات الممكنة (التي يمكن للبشر بناؤها)، فكذلك وللسبب نفسه (104-105) فإن ملكة بناء العلم وإنتاج المعرفة العلمية لا يتصور أن تزود العقل الإنساني بالافتراضات الممكنة بل يجب أن تحجب عنه "الألغاز" و"الفرضيات المستحيلة"، فالألغاز العلمية المستعصية على ملكة بناء العلم SSF يقابلها في الجانب الآخر - جانب الملكة اللغوية والنحو الكلي - ما اصطلح عليه في اللسانيات التوليدية منذ زمن باللغات المستحيلة؛ فكما أن العقل ينتج اللغة بإبداع لا حدود له بسبب قيود النحو الكلي التي تمنعه من بناء اللغات المستحيلة، وتتيح له فقط اللغات الممكنة، فإن القدرة البشرية على البحث العلمي إبداعيتها مشروطة بالخضوع للقيود التي تفرضها ملكة بناء العلم على إنتاج الفرضيات العلمية الممكنة. "القدرة البشرية على البحث العلمي ستكون مقيدة بالضرورة إذا لم يكن لها حدود!" (104-105). الألغاز التي تحجب الطبيعة عنا أسرارها أمر ضروري إذن ليستمر "العقل العلمي" في أداء وظيفته بإبداع!!

الظاهر أن قياس ملكة بناء العلم على ملكة بناء اللغة، في أطروحة تشومسكي هذه، قياسٌ مع وجود فارق محتمل بين الملكتين، فهو يتعارض، في تقديري، مع أحد أهم ثوابت النظرية المعرفية المعتمدة في المقاربة التوليدية لقضية الاكتساب اللغوي وهو عدم اعتماد هذا الأخير على" تعليمات صريحة"، وهو ما لا يصدق على اكتساب المعرفة وبناء العلم. من جهة أخرى، قد يكون هناك تناقض محتمل بين تأكيد تشومسكي على أن التمييز بين المشاكل والألغاز ينطبق على ملكة اكتساب المعرفة وبناء العلم وتوصيته بأن البحث العلمي يجب أن يسترشد بما يسميه ديفيد هيوم (Hume 261-262) بـ"الشك المخفف" (mitigated skepticism) إن تبني الشك المخفف يعني التخلي عن الفكرة المتفائلة القائلة بأن "العالم سيكون مفهوما لنا" (90). وما دام البحث العلمي ينبغي أن يسترشد بهذا المبدأ فما ضره لو تجاهل ألغاز الفطرة السليمة جملة وتفصيلا؟

ومع هذا وذاك فإن باب الاستشكال على تشومسكي يبقى مفتوحا على مصراعيه في قضية "الحس الفطري السليم" الشائكة؛ فإلى أي مدى يصح اعتبار الحس الفطري السليم معيارًا قطعيًا للوضوح أو الفهم؛ والحال أن التقدم في العلوم غالبا ما يحدث بتجاوزات صادمة لنماذج الحس الفطري السليم لكنها تحقق لنا فهما أعمق للعالم، حتى لو كان يتحدى مفاهيمنا البدهية عن الوضوح، وخير مثال على ذلك ما يحدث اليوم في فيزياء الكوانتم. هذا فضلًا عن أن الحس الفطري السليم نفسه يقضي بأنه لا يمكن أن يعتد به مرجعا عَمليا فعالا في وصف العالم المادي وصفا دقيقا يحيط بكل طبقة من طبقات سلمه الفيزيائي، وبكل تفاصيل التعقيد الهائل الذي تتسم به العلاقة بين ثوابت كل طبقة من تلك الطبقات ومتغيراتها، وخير مثال على ذلك أيضا ما يخرج من مختبرات فيزياء الكوانتم من حقائق علمية قطعية صادمة للحس الفطري المشترك.

من الزوايا الرمادية في مناقشة تشومسكي لهذه القضايا أنها لم تقدم توضيحا كافيا لمفاهيم التصور (أو التمثل) والوضوح والفهم (Conceivability, intelligibility, and understanding) ، فحديث تشومسكي في هذه المسائل (على الأقل في الكتاب الذي نراجعه في هذه المقالة) يفهم من لحنه أن العلم الحديث ما زال يفتقر إلى حظٍّ ما من هذه الثلاثة مخصوصٍ بصفات محددةٍ ومقادير معينة؛ لكن القارئ يفهم هذا المعنى على الجملة لا التفصيل، وقد كان حقه أن يفصَّل تفصيلا. فالمساحة التي اتخذها تشومسكي مضمارًا لحديثه عنها مساحة عريضة نسبيا مقارنة بغيرها من المساحات المخصصة للموضوعات الأخرى؛ لكن مع ذلك بقيت الظلال الرمادية مخيمة عليها بشكل يحجب عن القارئ (جزئيا في أفضل الأحوال) مقاصد تشومسكي في نسختها الجلية والمفصلة. ومن شواهد ذلك مثلا أنه رسم بإحكام في المواضع ذوات العدد من كتابه (32، 34، 53، 87، 90) حدودا فاصلة بين مستويين (أو نوعين) من الفهم: "فهم النظريات التفسيرية"، و"فهم العالم"، ثم اتخذ من هذه الحدود، التي أبدع حقا في بيانها، أصلا في الحكم بأن العلم الحديث يبدع في تصميم النماذج التفسيرية وفي فهم النظريات ذات العمق التفسيري التي يشتق منها تلك النماذج؛ لكنه يخفق غالبا في تحقيق فهم أفضل للعالم. إلا أن تشومسكي لم يقدم للقارئ مزيدا من التفاصيل المقنعة بوجاهة هذا الحكم، لا سيما إذا استصحب القارئ العارف حقيقة أن وسيلة العلم الوحيدة لتمثُّل العالم هو النظريات التفسيرية والنمذجة التمثيلية المشتقة من مفردات تلك النظريات ومفاصلها.

من المساحات التي كانت – في تقديري – في حاجة إلى المزيد من الإضاءة في المقاربة التي اعتمدها تشومسكي في تناوله لإشكالية التمثل والفهم والوضوح وأزمة المعايير المرجعية القطعية المتعلقة بهذه الإشكالية، هو موقع التطورات ما بعد النيوتونية من هذا المشهد، فالمشهد الذي اعتمده تشومسكي في مقاربة هذه الإشكالية لم يتجاوز أزمة نيوتن والميكانيكا الكلاسيكية، والراجح أن سبب هذا القصور مرجعه أن تشومسكي حصر إطاره الفلسفي المرجعي في القضية في ثلاثة أسماء فقط وهي جون لوك وديفيد هيوم وبرتراند راسل (28، 32، 34، 53، 82، 85، 98، 102)، وهذه الأسماء الثلاثة مقارباتهم لقضية الفهم والتمثل والإدراك لم تنفتح بالمقدار اللازم على أي مقاربات أخرى خارج دائرة النموذج النيوتوني الكلاسيكي للكون.

هذا ومن الشواهد الدالة على مركزية المرجعية النيوتونية في مقاربة تشومسكي لإشكالية الفهم والتمثل والإدراك التشبيه الذي عمد إليه بين "المشكلة الصعبة" في فلسفة المعرفة والمتمثلة في تفسير طبيعة العلاقة بين العقل/الذهن والدماغ وبين ما يعرف في تاريخ العلوم بـ"مشاكل نيوتن الصعبة". من النتائج التي تلزم من هذه المقارنة أننا ربما لا نملك بسبب قيودنا المعرفية والإدراكية القدرة على فهم مثل تلك العلاقات. لكن هذه النتيجة المستفادة من مقارنة تشومسكي آنفة الذكر بطريق اللزوم ستقع في دائرة الشك حتما إن نحن استصحبنا حقيقة أن النمذجة المنطقية القائمة على التمثل والإدراك وسيلة لا مناص منها لتحقيق "الفهم" في أي ممارسة بحثية علمية. لطالما اعتبر تشومسكي أن مشكلة العقل والجسم في صورتها التقليدية قد عفا عليها الزمن لأن "أي فكرة جادة عن الجسم أو المادة أو المادية" قد "انهارت" بعد نيوتن (35، 99، 102، 111، 120). وعلى الرغم من هذا الموقف، يعتقد تشومسكي أن البنية العضوية للدماغ هي مفهوم "جاد" بما فيه الكفاية لدرجة أن اختزال "الخصائص التي جرت العادة على وصفها بالعقلية / أو الذهنية" في البنية العضوية للدماغ "أمر لا مفر منه تقريبًا" (111، 120) في غياب أي بدائل أخرى ممكنة لتحقيق فهم أفضل في هذا الشأن.

يقدم الكتاب فيما يتعلق بالعقل/الذهن أطروحات أخرى غنية وطريفة تستحق التعليق؛ لكن المساحة المخصصة لهذه المراجعة لا تسمح باستعراض كل هذه الأطروحات ولو بإيجاز شديد، ولأجل سنختم هذا الجزء من المقال بالإشارة إلى واحدة من تلك الأطروحات، وهي تلك التي ترفض مبدأ "المرجعية /الإحالية" (Referentialism) في اللغة الطبيعية، أي الاعتقاد بأن هناك علاقة مباشرة بين الكلمات والأشياء في العالم كما تستعمل في اللغة العادية (42). لا يوضح تشومسكي ما يعنيه بكلمة "مباشر"؛ لكنه يجادل بأن "المرجع" (الإحالي) لا علاقة لها بالفكر وببنيته، وأن الذي يشير إلى الأشياء في الحقيقة هم الناس وليس الكلمات (43) فهذه الأخيرة هي أوعية حاملة لجزيئات الفكر وذراته، وتوظيفها في الإشارة إلى الأشياء الخارجية أمر عرضي فيها وليس خاصية أساسية. ومن الشواهد الدالة على عدم وجود ارتباط عضوي وجودي بين الكلمات والوظيفة الإشارية الإحالية أن الإحالة تتحقق بوسائط أخرى غير الكلمات، ويحاجج تشومسكي في هذا الشأن بأن العلاقات الدلالية الإحالية بين الكلمات ومدلولاتها أمر لا يمكن التسليم به إلا في حالة المصطلحات العلمية كالإلكترون والصوت (44) ونحوهما من الألفاظ التي تم ربطها بمدلولها الخارجي بإرادة ووعي واصطلاح بين الناس، أما اللغة الطبيعية فلا تحتمل هذا النمط من العلاقات الدلالية بين المفهوم العقلي والموضوع الخارجي، وينتهز تشومسكي سياق هذا الحجاج للتذكير بأن الوهم الذي انتشر في هذا الشأن مصدره الفيلسوفان فريج[13] وبيرس[14] اللذان ناضلا طويلا من أجل الدفاع عن أطروحة الارتباط الدلالي بين العقل والمادة؛ لكن بقي حجاجهما في هذا الشأن نظريا في شطر كبير منه؛ وذلك بسبب محدودية البعد التجريبي والتطبيقي في حججهما حيث لم يمحصا هذه الحجج بالتوسع في عرضها على بيانات اللغة والفكر في نسختهما الطبيعية لا الاصطناعية المستخدمة في الفكر العلمي واللغة الاصطلاحية.

6.    "الأناركية" والصالح العام

يجد القارئ في الفصل الثالث الذي خصصه تشومسكي لمناقشة طائفة من الأسئلة المتعلقة بمفهوم الصالح العام، حيرة واضحة في صياغة تعريف دقيق للمفهوم المركزي الذي دارت حوله رحى الحجاج السياسي الذي اتسم به هذا الفصل، وهي فكرة "الأناركية" (Anarchism) ، (أو اللا سلطوية، وهي فلسفة سياسية ترفض مبدأ احتكار الدولة لوظيفة إدارة المجتمعات والعلاقات الإنسانية بحجة أن التسلسلات الهرمية غير العادلة جزء أصيل في بنية الدولة والسلطة، وتدعو إلى إعادة تنظيم المجتمعات الإنسانية وفق مقاربة جديدة لا سلطوية وغير هرمية يتولى فيه المجتمع المدني إدارة نفسه بنفسه من خلال جمعيات تطوعية أو منتخبة).

يقر تشومسكي في معرض حديثه عن هذا المفهوم السياسي بأنه مفهوم يقاوم التوصيف المباشر والتعريف الدقيق[15] (63)، ولعل هذا ما يفسر خلو الفصل من أي عبارة تعريفية صريحة لهذا المفهوم؛ لكن القارئ يمكنه الظفر بشيء من ظلال ذلك التعريف من مثاني حديث تشومسكي عن السلطة في كل من الليبرالية الكلاسيكية والاشتراكية في نسختها التي يصفها ب"التحررية". ما يدافع عنه تشومسكي هو شكل من أشكال هذه الاشتراكية التحررية التي تتحدى "التسلسل الهرمي والسلطة والهيمنة" (63)، وتطالب الدولة بأن تشرح وتبرر لمواطنيها المنطق الذي تعتمده في ممارسة هذا النمط من السلطة، ولماذا وما الصالح العام الذي يحققه هذا النمط للفرد والمجتمع، أي ألا تقتصر الدولة على ممارسة السلطة على المجتمع دون أن تقدم الحجج الدالة على ضرورة اعتماد ذلك المنطق بعينه دون غيره من أنماط العلاقة الهرمية بين الحاكم والمحكوم، ويؤكد تشومسكي في هذا السياق أنه إذا لم تستطع السلطة تقديم مسوغات وجيهة في هذا الشأن فإن ذلك ينبغي أن يكون موجبا منطقيا لمحاسبة البنيات السلطوية والطعن في أمانتها بل تفكيكها وتعويضها بنموذج سياسي آخر "لا سلطوي" و"لا هرمي".

القضية المحورية التي شغلت تشومسكي في سجال السلطة والسياسة هذا، هي معضلة الاستغلال الاقتصادي، ويؤكد أنه يمكن القبول بأن تدار شؤون المجتمعات بمقدار معقول من عنف التسلسل الهرمي والسلطة والهيمنة، شريطة أن يكون ذلك ثمنا يدفعه المجتمع كِفاء قيمة معقولة، كأن تنبري مؤسسات الحكم لكبح الاستغلال الذي تمارسه الكيانات غير الحكومية كالشركات الصناعية والتجارية (67).وينتهز تشومسكي سياق هذا الحديث عن بنية السلطة والهيمنة في المجتمعات الرأسمالية للكشف عن تيارات خفية من النخبوية والتعالي وتقييد الديمقراطية تنتشر في كل مفاصل الليبرالية الكلاسيكية دون استثناء (75-76) ويربطها بالآراء والمواقف التي عبر عنها ماديسون أثناء إنشاء دستور الولايات المتحدة (77-79)، وهو ما يفهم منه أن جذور الأزمات الأخلاقية والإنسانية، التي غرقت في مستنقعها الليبيرالية والرأسمالية تقبع في أعماق الفلسفة السياسية التي من مشكاتها خرجت مفردات الدستور الأمريكي.

تبدو وجهات نظر تشومسكي هذه متسقة جدًّا مع المنحى العام لنسقه الفكري والسياسي الذي بدأه في وقت مبكر من حياته المهنية، والذي تميز دائما بالتزام فلسفي وسياسي عنوانه العام "المثقف المنشق عن منظومة السلطة المهيمنة التي لا تبالي بقيم العدالة والحقوق"، وهو من هذه الجهة يستحق الثناء إذ إليه يرجع الفضل في الكشف الصريح عن سلطة الشركات والبنيات الاقتصادية ونفوذها وأدواتها في فرض أنماط جديدة من الاستعباد تقوم على تدجين المجتمعات على التطبيع مع "الاستغلال" ومع كل ما يترتب عليه من تشوهات أخلاقية واجتماعية لا تمت إلى روح الديموقراطية ولا إلى قيم العدالة بصلة تذكر. وفي هذا السياق تحديدا ينبغي فهم ملاحظات تشومسكي وتعليقاته الحادة (والعنيفة أحيانًا) على ما يصفه بالعناصر أو المكونات الأرستقراطية في دستور الولايات المتحدة. الجانب الأكثر إثارة، للأسف، في النسخة الأصلية من الدستور الأمريكي هو عنصريته التي سمحت للولايات المتحدة بدعم مؤسسة العبودية والحفاظ عليها ضمانًا لمصالح منظومة الإنتاج ورأس المال المحكومة بقيم الجشع والاستبداد، القلبِ النابض لتلك المنظومة والوقودِ الحقيقي والأبدي الذي لا يمكن تشغيل أدواتها إلا به. نعم، الدستور الأمريكي تخلص لاحقًا من هذا العار؛ لكن آثاره ما زالت مستمرة إلى اليوم، وهذا ما تعبر عنه موجات حركات الاحتجاج الاجتماعي العنيفة ضد التمييز العرقي والاستغلال الاقتصادي، والتي تقودها في الغالب حركات اليسار "الأناركي" في الولايات المتحدة؛ لأن آلة الاستغلال و"الاستعباد" ما زالت تعمل بعنف شديد، إلى اليوم؛ رغم الادعاءات الكاذبة للنخب السياسية في هذا الشأن؛ فأعداد السود الذين ما زالوا يعانون قهر الاستغلال والاستعباد صادمة، ومع ذلك وبعد كل السنوات التي تفصل الأمريكيين عن دستورهم الأول، ما زال البيض في كثير من الأحيان يُثَبّطون عن التصويت من أجل الرفاه الاقتصادي لإخوانهم السود؛ بإملاء بغيض من الديناميات السياسية والعرقية المتجذرة في المجتمع، وبضغط من القوى السياسية المتشابكة بعمق مع هذه الديناميات التي ترجع جذورها إلى الدستور الأمريكي الأول.

 

المراجع

Berwick, Robert C., and Chomsky, N. Why Only Us: Language and Evolution. MIT Press, 2016.

Buckle, S., (ed.). Hume: An Enquiry Concerning Human Understanding: And Other Writings. Cambridge University Press, 2007.

Chomsky, N. What Kind of Creatures Are We? Columbia University Press, 2015.

–––. “The Dewey Lectures 2013: What Kind of Creatures Are We? Lecture I: What Is Language?” The Journal of Philosophy, vol. 110, no. 12, Dec. 2013, pp. 645–62. www.pdcnet.org, https://doi.org/10.5840/jphil2013110121.

Croce, P. J. "William Dwight Whitney and the Science of Language." Journal of American History, vol. 93, no. 1, 2006, pp. 226, https://doi.org/10.2307/4486132.

Franck, J., & Bricmont, J. (eds.). Chomsky Notebook. Columbia Themes in Philosophy series, Columbia University Press, 2010.

Hume, D. Philosophical Essays Concerning Human Understanding. A. Millar, 1748.

Jacobson, S. "Skepticism, Mitigated Skepticism, and Contextualism." In Knowledge, Teaching and Wisdom, edited by Keith Lehrer et al., Springer Netherlands, 1996, pp. 195–205. Springer Link, https://doi.org/10.1007/978-94-017-2022-9_15.

Knight, C. Decoding Chomsky: Science and Revolutionary Politics. First Edition, Yale University Press, 2016.

Stroud, B. "Hume's Skepticism: Natural Instincts and Philosophical Reflection." Philosophical Topics, vol. 19, no. 1, Spring 1991, pp. 271-291.

"The Journal of Philosophy." Philosophy Documentation Center, www.pdcnet.org/jphil.



[1] أتقدم بالشكر الجزيل لزملائي في كلية الآداب والعلوم بجامعة قطر، الأساتذة الأفاضل خالد قطب وهيثم سرحان ومحمد المحجري على تفضلهم بقراءة النسخة الأولى من هذه المراجعة، التي ضمنوها تعليقات قيمة أفدتُ منها (بما فيها التفاصيل التي خالفتهم فيها).

[2] Chomsky, N. (2015). What Kind of Creatures Are We? (p. 200 Pages). Columbia University Press.

[3] The mysteries of nature how deeply hidden?

[4] Cahiers Noam Chomsky.

[5] Jean Bricmont & Julie Franck.

[6] The journal of Philosophy, https://www.pdcnet.org/jphil.

[7] جون ديوي، فيلسوف وعالم نفس ومصلح تعليمي أمريكي، كان له تأثير كبير في مجالات التعليم والإصلاح الاجتماعي. وتكريمًا لذكراه، أنشأت مؤسسة جون ديوي والجمعية الفلسفية الأمريكية (APA) عام 2006 سلسلة محاضرات سمتها باسمه. تتكون هذه السلسلة من ثلاث محاضرات سنوية تُلقى في كل اجتماع من اجتماعات فروع الجمعية الفلسفية الأمريكية الثلاثة (الشرقية والوسطى والمحيط الهادئ) ويكون المتحدث فيها فيلسوفًا بارزًا مرموقًا من الفلاسفة المنتسبين إلى أحد تلك الفروع. المتحدث يكون عادة مدعوا إلى مشاركة جمهور الفلاسفة والمثقفين تأملاته الخاصة حول الفلسفة في أمريكا من خلال عدسة رحلته الفكرية الشخصية. وتنشر الجمعية الفلسفية الأعمال والمناقشات التي تتم في محاضرات ديوي كل عام ضمن عدد خاص من أعداد "مجلة الفلسفة" التي تصدرها.

[8] كان روبرت فوريسون أكاديميًا فرنسيًا من أصل بريطاني اشتهر بإنكاره للهولوكوست. أثار فوريسون قدرًا كبيرًا من الجدل من خلال سلسلة من المقالات المنشورة في مجلة المراجعة التاريخية وغيرها من المنافذ، وكذلك من خلال الرسائل إلى الصحف الفرنسية مثل لوموند. في هذه الأعمال، تحدى الرواية التاريخية للهولوكوست من خلال التشكيك في وجود غرف الغاز في معسكرات الموت النازية، وإنكار القتل المنهجي لليهود الأوروبيين بالغاز خلال الحرب العالمية الثانية، والتشكيك في صحة يوميات آن فرانك. نتيجة لقانون Gayssot، الذي تم سنه في عام 1990 لحظر إنكار الهولوكوست، واجه فوريسون إجراءات قانونية وتم تغريمه. في عام 1991، تم فصله من منصبه الأكاديمي.

[9] William Dwight Whitney (1827–1894).

[10] يبدو أن البشر لديهم قدرة فطرية على الحوسبة الذهنية للبنيات اللغوية المعقدة وفق نموذج هندسي يتجاوز العلاقات الخطية (مجرد تجاور الكلمات) إلى مبدأ الاعتماد على البنية والعلاقات الهرمية القائمة بين مفاصلها. بدلا من ذلك، لدينا القدرة على تعرُّفِ الهياكل الهرمية داخل اللغة واستخراجها وتحديد العنصر المركزي داخل تلك الهياكل. هذه قدرة رائعة يتقاسمها جميع البشر، وحتى الأطفال يظهرون هذه القدرة منذ سن مبكرة جدا. إنه مجال دراسي فتن اللسانيين وعلماء المعرفة والإدراك لسنوات عديدة، ولا يزال هناك الكثير لنتعلمه عن طبيعة هذه القدرة وكيف نشأت وتطورت في الدماغ البشري.

[11] عبارة تشومسكي في هذا الموضع فيها مخاتلة بعض الشيء، وهذا نصها في أصل الكتاب:

 ‘Theories that are intelligible to us whether or not what they posit is intelligible.’

[12] (GCCS) Genetically Conditioned Common Sense.

[13] Friedrich Ludwig Gottlob Frege (1848–1925).

[14] Charles Sanders Peirce (1839–1914).

[15] Resists straightforward characterization.