تاريخ الإرسال: 16 ديسمبر 2022

تاريخ التحكيم: 12 يناير 2023

تاريخ القبول: 2 أبريل 2023

مقالة بحثية (مترجمة)

من سوسّور إلى فلسفة اللغة، لأوزفالد ديكرو*

ترجمة: سعيد غردي

أستاذ اللسانيات والتداوليات، قسم اللغة العربية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي، المملكة المغربية

sghardi@uae.ac.ma

ملخص

بينما يمثّل اللسان في تصور سوسّور كلًّا مجردًا من المعطى المادي للّغة؛ يمثّل الكلام مختلف التمظهرات اللغوية البيولوجية والاجتماعية والنفسية، ولأن الأمر يتعلق بتأسيس موضوع خاص لعلم اللغة؛ فقد اعتُبر اجتهاد سوسّور بمثابة فتح جديد رسم الحدود الدقيقة للدراسة العلمية للغة. من هنا نشأ الاستشكال الذي طرحه ديكرو (O. Ducrot) في هذه المقدمة، وهو السؤال الجوهري الذي سعى إلى الإجابة عنه في مقدمة الترجمة الفرنسية لكتاب سيرل 1969 (Speechact): ما موقع العبارة الاصطلاحية لـ (سيرل): "فعل اللغة" (Speech Act) داخل تمييز سوسّور بين اللسان والكلام؟ إذ بينما يضع التقليد السوسّوري "الكلام" خارج المجال الاجتماعي للّسان، مسندًا إليه طابعًا فرديًا، لا شيء في الكلام يفسر انفصاله عن المواضعات الاجتماعية التي تؤطر حدوده بجملة من الإكراهات التي لا تقل أهميّةً، في قيمتها ودرجتها، عن الإكراه الاجتماعي الذي يميز ظاهرة اللسان. من تلك المواضعات؛ أن ينخرط المتكلم في صدق ما يقوله، وأن "يلتزم" بوعد يُقدّمه، وأن يمتثل المستمع لأمر يصدر عن المتكلم بشكل متبادل؛ يجعل من الفعل الكلامي نسقًا من القواعد الاستعمالية للغة؛ حيث وضع استقلال اللسان بالمفهوم السوسّوري في مأزق حقيقي. ولسوف يجد القارئ في هذا المقال جوابًا عن سؤال مفاده؛ إلى أيِّ حدٍّ تؤزم أم تتجاوزنظرية أفعال اللغة عند سيرل المنظور السوسّوري للكلام؟

الكلمات المفتاحية: اللغة، اللسان، الكلام، الإنجاز، الاقتضاء

للاقتباس: غردي، سعيد [مترجم]. «من سوسّور إلى فلسفة اللغة، لأوزفالد ديكرو»، مجلة أنساق، المجلد السابع، العدد 2 (2023)

https://doi.org/10.29117/Ansaq.2023.0189

© 2023، غردي، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. تم نشر هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه؛ طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.


 

Received: 16 December 2022

Reviewed: 12 January 2023

Accepted: 2 April 2023

Research Article (Translated)

From Saussure to Language Philosophy: Oswald Ducrot's Perspective *

Translated by Said Ghardi

Professor of Linguistics & Pragmatics, Department of Arabic Language and Literature, Faculty of Arts and Humanities, Abdelmalek Essaadi University, Morocco

Abstract

What is the location of Searle’s idiomatic phrase "speech act" within the Saussurean distinction between tongue and speech? This is an important question that Ducrot seeks to answer in the introduction to the French translation of Searle’s Speech Act (1969). While the language in the Saussurean conception represents a whole that is devoid of the materialistic linguistic dimension, speech represents the various biological, social, and psychological linguistic manifestations, for it is about establishing a special subject for linguistics. He regarded the Saussurean interpretation as an unprecedented contribution that drew the precise boundaries of the scientific study of language. Therefore, the origin of the problem that Ducrot raised in this introduction was that while the Saussurean tradition places "speech" outside the social sphere of the tongue, attributing to it an individual character, nothing in speech explains its separation from the social contexts that frame its borders with a number of constraints whose value and degree are no less than the social coercion that characterizes the phenomenon of the tongue. One of these arguments is that the speaker engages in the sincerity of what he says. He ‘commits’ to a promise he makes, and one of them is that the listener obeys an order issued by the speaker in a mutual manner that makes the verbal act a system of using rules for the language that puts the independence of the tongue in the Saussurean concept. In this article, the reader will find to what extent Searle’s theory of speech acts is related to the Saussurean perspective of speech.

Keywords: Language; Tongue; Speech; Achievement; Adequacy

Cite this article as: Ghardi, S. [Translator]. "From Saussure to Language Philosophy: Oswald Ducrot's Perspective," Ansaq, Vol. 7, Issue 2 (2023)

https://doi.org/10.29117/Ansaq.2023.0189

© 2023, Ghardi, licensee QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication dif changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited.


 

المقدمة

إذا ما رُمنا ترجمة عمل سيرل Searle أفعال اللغة Speech acts من زاوية اللسان والكلام والفعل اللغوي؛ فإنه يقوم على لَبس لا يخفى، ذلك أنه كان يمكن أن تُستعمل عبارة «أفعال الكلام» التي شاعت عند بعض اللسانيين مؤخرًا، وهذا سيؤدي إلى سوء فهم كبير مع إخفاء ما كان أصليًا في العمل الذي تضمن قضايا لسانية مهمة؛ لأن سيرل حين يشير إلى تمييز سوسّور بين اللسان والكلام، فإنه يصر على أن الإشكالية التي تطرحها عبارة Speech acts تقع تلقائيًا ضمن مجال اللسان؛ بحيث تكون الترجمة الأقرب هي «أفعال اللسان»؛ ولكن هذه العبارة سمجة مرغوب عنها. وما دام سيرل نفسه يشير إلى تمييز سوسّور الشهير؛ فإننا سنحاول معرفة موقع أفعال اللغة هذه مقارنة بالتقليد السوسّوري.

 يُعد التمييز الذي وضعه سوسّور بين موضوع علم اللسانيات ومادته (De Saussure ch 2 et 3) من إسهاماته الأقل إثارة للجدل في تطوير هذا االعلم. فمادة اللسانيات هي ما نجده باعتباره معطًى، وهو مجموع الأحداث الفيزيولوجية والنفسية والاجتماعية المرتبطة باستعمال اللغة من قبل المجتمع؛ أي كل ما يتعلق بالنشاط اللغوي من شروط ونتائج وما يقتضيه التواصل اللغوي. من هنا، فإن مادة اللسانيات، كما تم تصورها، تستعصي للأسف دراستها دراسة مباشرة؛ إذ إن الظواهر التي تشكلها متنوعة ومتشعبة للغاية وغير متجانسة ومرتبطة ببعضها البعض في كثير من الأحيان بطريقة جد فضفاضة بحيث سرعان ما يجد اللساني نفسه أمام معضلة، مفادها؛ إما أن يجمع كل ما يتعلق بهذه الظواهر المتداخلة دون استثناء، وأمام هذا الخيار، سنكون أبعد ما يكون عن بناء علم، ونكتفي بمجموعة غير منظمة من الرموز المتنافرة، وإما أن يحدد مجالًا معينًا داخل هذه المادة (على سبيل المثال، أن يحدد العمليات الفكرية المرتبطة بممارسة اللغة)، لكن هذا الخيار سيضعنا أمام تهمة الانحياز؛ أي أننا ننحاز إلى بعض الظواهر على حساب أخرى، أو ربما نكون متَّهمين بأننا نشوه الواقع حين جزأناه، إضافة إلى أنه ليس لنا ما يضمن فهم هذه الظواهر حين تُدرس معزولة.

لتجنب هذه المعضلة، يقترح سوسّور على اللساني أن يبني موضوعًا لا يكون منطقة بسيطة محدودة داخل المعطى، أي لا يكون جزءًا من المادة؛ بل يكون مجردًا منها (وليس مستخرجًا)، ويمثل جانبًا مميزًا وليس قطاعًا مميزًا من الظواهر. ومن ثم، فإن سوسّور قد دشن في اللسانيات الانعكاس الكوبرنيكي الذي يفتح، حسب كانط، الطريق الملكي لأي تخصص، ويطلب من اللساني أن يختار قبل الشروع في أي بحث وجهة النظر التي سيُسائل بموجبها الظواهر، التي ستسمح له ببناء الموضوع العلمي في حد ذاته[1]. يُفرض شرطان فقط لوجهة النظر هاته يحددان بطريقة ضرورية وكافية مدى صلاحيتها: يجب أولًا، أن يكون الموضوع المبنى انطلاقًا منها «كل في حد ذاته» ونعني بذلك أنه يشكل نسقًا مغلقًا تحكمه قوانين داخلية، ثم «مبدأ التصنيف» يكون قادرًا على إضفاء النظام على لبس المعطى. نحن نعلم أن موضوع اللسانيات هذا يسميه سوسّور «اللسان».

يتفق كثير من اللسانيين اليوم على الهروب من المعطى، غير أن الصعوبات تبدأ عندما يتعلق الأمر بتعريف اللسان؛ إذ إن سوسّور يميزه تارة عن «القدرة على اللغو» وتارة أخرى وهذا ما يهمنا عمّا يسميه بـ«الكلام». يُقدَّم هذا التمييز في حد ذاته في شكل تعارضين يعتبرهما سوسّور متساويين: التعارض بين الجانب الاجتماعي والجانب الفردي والتعارض بين الجانب النشط والجانب السلبي للسان. في الواقع، يُعرَّف اللسان بوصفه مؤسسة بأنه مجموعة من المواضعات التي تكشف الاعتباطية طابعها الاجتماعي. ولكن في الوقت نفسه، من خصائص اللسان) أن تكون العلاقة سلبية أو اعتباطية بين عدد معين من الأصوات (الدالات) وعدد معين من الأفكار (المدلولات) بغض النظر عن أيّ نشاط لغوي. لذا، يظهر الكلام في آن واحد باعتباره نشاطا وصفة مميزة للفرد. إنه نشاط؛ لأنه ليس سوى استعمال للسان من قبل المتكلمين، وتنفيذ هذه العلاقات بين التصورات والأصوات هو الذي يشكل جوهر اللسان. بهذا المعنى، يُقارَن اللسان بالمقطوعة الموسيقية والكلام بـ«أداء» هذه المقطوعة من قبل الفنانين. من هذا التصور الأول، تنبثق فكرة أن الكلام فردي لأن الأفراد هم الذين يقومون بـ«أداء» اللسان. لكن، ماذا نعني بهذا بالضبط؟ إذا كان سوسّور يعني ببساطة أن الأفراد هم من يتكلم، فهذا أمرٌ لا يمكن الطعن فيه، بل لا يمكن الطعن فيه بما يكفي ليكون مثيرًا للاهتمام: سيلاحظ المرء على الأكثر أنه في بعض المجتمعات يمكن أن يكون الكلام نشاطًا جماعيًا؛ حيث تكون المجموعة بوصفها مجموعة تُعيد تأكيد معتقداتها الخاصة وأنه لم يُثبت أن وظيفة اللغة هذه التي اندثرت في الوقت الحاضر (على الأقل في المظهر) هي هامشية صرفة، وشبه مَرَضية. إذا أراد سوسّور أن يقول إن استعمال اللغة يعتمد على المبادرة الفردية البسيطة وإنه من بين جميع أنشطتنا يشكل تدفقا للحرية مستقلا عن الضغوط الاجتماعية، فإن هذه الأطروحة تبدو أقل خطورة ونحن لا نرى سببا لإتاحة الفرصة لفعل الكلام أكثر من غيره للهروب من إكراهات الوسط الاجتماعي يبدو أن سوسّور كان مُدركا بشكل خاص لهذه الإكراهات، على الرغم من أن هذا لا يظهر في كتاب محاضرات في علم اللغة العام كما نُشر، ولكن فقط من خلال ما تمكننا من إعادة بنائه انطلاقًا من مادته الشفهية (Godel 145 – 6). فوفقا لملاحظات بعض الطلاب، كان سوسّور بالفعل يُلح على حقيقة أن الكلام تحكمُهُ إلى حد كبير عوامل اجتماعية وينتمي إلى «المجال الاجتماعي» للغة. لذلك، يجب أن نسأل أنفسنا لماذا، على الرغم من ذلك، يُعد الكلام في النص الأساس للمحاضرات «فرديا».

هب أنني أقول لك: «بيير سيغادر غًدا»، فأثناء القيام بذلك، أقوم بفعل ما وهذا الفعل مشروط بوضعي الاجتماعي بلا شك. لكن ما يقومُ عليَّ هو طبيعة الفعل الذي قمت به حسب إذا ما كنت أرغب في إرضائك أو إغضابك، لأقلقك أو أُحذرك، سيكون فعل صداقة أو عداء أو تهديد أو تحذير... بالطبع، فمن الضروري تضمين الشرط الاجتماعي لفهم سبب رغبتي في القيام بمثل هذا الفعل وليس غيره (لماذا أردت أن أكون عدائيا وليس خيّرا)، ولكن حقيقة أن كلماتي تُشكل بالضبط نوع الفعل الذي تشكله، فهذا يقوم قبل كل شيء على ما قصدته بنطقها. لذلك يمكننا الاعتراف بأن نيتي الفردية تُحدد لفعل التلفظ قيمتَه الخاصة وتعترف بوجود سببية اجتماعية تشرح إلى حد جيد أنني قمت بفعل له حقا هذه القيمة.

باختصار، يبدو لنا أن السوسّوري سيُميز ثلاثة عوامل في أي ظاهرة لغوية: 1- المواضعات الاجتماعية – أي اللسان التي تجعل لملفوظ معين (بصرف النظر عن التلفظ به) دلالة معينة؛ 2 الدوافع الفردية التي تجعل فعلا تلفّظ هذا الملفوظ هذه الدلالة أو تلك (هذه الطبيعة أو تلك)، وهذه السمة لفعل التلفّظ تقع أساسًا ضمن مجال الكلام؛ 3 مجموعة معقدة للغاية من الشروط ذات طبيعة اجتماعية إلى حد كبير هي التي تحدد لماذا اخْتيرَ هذا النوع من الفعل دون غيره من قبل المتكلم. تبدو لنا أطروحة سوسّور الأساسية أن العامل الأول يمكن ويجب عزله ليُشكل في حد ذاته موضوعا للسانيات. بتعبير آخر، فإن المواضعات الاجتماعية التي تحدد دلالة ملفوظ ما من شأنها أن تُشكّل «كلاّ في حد ذاته» مستقلا ليس فقط عن الإكراهات (ذات الطابع الاجتماعي في الغالب) التي تشرح سببيا تلفظ هذا الملفوظ (العامل 3)، ولكن أيضا عن القيمة التي من المرجح أن تكون للملفوظ في التلقظ ومن خلاله (العامل 2). باستعمال المصطلحات التي أصبحت متداولة من قبل المناطقة الوضعيين الجدد، فإن النظرية السوسّورية ترجع إلى القول إنه من الشرعي والضروري التمييز بين العلاقة الدلالية القائمة بين الملفوظ ومعناه وقيمته التداولية، حال تحققه الصوتي دون الحديث عن مختلف المسببات التي هي أصل التلفظ.

لئن كان بإمكاننا التعامل بشكل منفصل مع دلالة الملفوظ الذي ستُحدده مؤسسة اجتماعية وقيمته التلفظية التي يقوم تحديدها على علم النفس الفردي، فإننا نرى أن عددا قليلا من اللسانيين شككوا في هذه المسألة، أو بالأحرى، أولئك الذين يعارضون سوسّور في هذه النقطة إنما يفعلون ذلك عموما كما هو الحال مع (ف. برونو) F. Brunot، وبشكل أقل وضوحًا مع (ش. بالي) Ch. Bally، برفض أي وجود حقيقي لإحدى مقولتي التمييز، لكن دون إنكار الصلاحية النظرية للتمييز نفسه. فحسب برونو، من المستحيل تحديد معنى الملفوظ ما دمنا نستطيع عند استعماله في ظروف مناسبة أن نُقَوّله الأشياء الأكثر تنوعا: الاحتمالات اللانهائية التي تُفتح لحظة التلفظ (برونو يتحدث بالأحرى عن الاستعمال) تحظر أو تجعل التوصيف الدلالي للملفوظ عديم الفائدة. ولكن إذا كان برونو، عكس سوسّور، لا يرى أن اللغة قادرة على مقاومة التلفظ، فإنه يتفق مع سوسّور في عدّ التلفظ فضاء للإبداع الفردي، فاحتمالات التلفظ بوصفها لا نهائية لا يمكن تشفيرها، وبالتالي فهي بالتأكيد لا تندرج تحت مؤسسة: يحافظ نشاط المتحدثين عند برونو على الطابع الفوضوي الذي بموجبه رفض سوسّور اعتباره موضوعا للعلم. لذلك، نحن نفهم نوع العدمية اللغوية التي اقترحها برونو. كلُّ ما يُعطى للتلفظ يُسحبُ في نفس الوقت من التشريع. في الواقع، إذا حددنا مثل سوسّور النشاط اللغوي بالمبادرة الفردية، فلا يمكننا إبراز الأولى دون التأكيد في الوقت نفسه أن الثانية (أي المبادرة الفردية) هي التي تحكم معظم ظواهر اللغة على الأقل في المجال الدلالي. ولذلك، تبدو جميع الدلالات اللغوية وهمًا، ويظل البحث الأسلوبي وحده مفتوحًا فيما يتعلق بمشاكل المعنى، بشرط ألا يهتم بإصدار قواعد، ولا يجد في الأسلوب شكلًا جديدًا من المواضعة.

1.الأفعال الأدائية

 إذا كانت أعمال الفلسفة التحليلية الإنجليزية التي يُعتبر عمل سيرل في كثير من النواحي استمرارًا لها قد أثارت اهتمام اللسانيين؛ فذلك لأنها تقطع بشكل أعمق بكثير من برونو مع مفهوم سوسّور للسان وخاصة مع استيعاب النشاط اللغوي والإبداع الفردي. في الوقت نفسه، وبحكم الواقع لم يعد ما يقترحونه يؤخذ من المؤسسة الاجتماعية، إنما أصبح من الممكن الاعتراف بالقوة المخصوصة المُدمَجَة في فعل اللغة دون أن يُقادوا إلى ما أسميناه، بشكل درامي، عدمية برونو.

في أصل هذا التيار، يجب علينا بلا شك وضع بحوث ج.ل. أوستين بشأن الملفوظات الأدائية. من المعلوم أن أوستين يعين بهذه الطريقة بعض الملفوظات ذات صيغة المتكلم الحاضر (التي تُقدم باعتبارها صفات لأحداث) ولكنها تمتلك هذه الخاصية التي من خلالها يُحقق تلفظها الحدَثَ الذي يصفه. وهكذا، بقولي أعدك بالمجيء، فإنني أقوم بالفعل المذكور في الملفوظ: أعد. يسمح اختبار بسيط بالكشف عن هذه الملفوظات: سلوكها عند ترجمتها من أسلوب مباشر إلى أسلوب غير مباشر؛ فجملة قال لي: «أعدك بكتاب» يمكن تفسيرها بأسلوب غير مباشر بـ«وعدني بكتاب» بينما قال لي: «سأحضر لك كتابا» لا يمكن أن تكون معادلة لـ «أحضَرَ لي كتابا». عندما نقول إن تلفظ الفعل الأدائي يُنجز الفعل الموصوف في الملفوظ، يجب أن نفهم من خلال هذا أن إنجاز هذا الفعل هو وظيفة التلفظ وليس فقط أحد نتائجه غير المباشرة. وهكذا، فإن الملفوظ «أنا أُكَلمُك» ليس أداءً، على الرغم من أن تلفظه يعني ضمنا أننا نتكلم. إذا كان تلفظ عبارة «أنا أكلمك» لا يمكن أن يكون دون كلام، فإن استعمال هذه الصيغة لا يهدف في الأساس إلى كلام وإنما إلى جذب انتباه سامع متشتت الذهن أو متمرد. يؤكد اختبار معيار الكلام غير المباشر أيضا نتائج التحليل الحدسي: لا يمكن اعتبار «كلَّمَني» بشكل عام على أنها ترجمة لـ«قال لي: أنا أكلمك».

 يشكل اكتشاف الأفعال الأدائية بلا شك خطوة أولى في تقريب اللسان بوصفه مؤسسة اجتماعية من نشاط التلفظ؛ لسببين: أولا؛ لأنه يقدم مثالا عن المواضعات الاجتماعية التي لا تحدد قيمة الملفوظات فحسب بل قيمة أفعال التلفظ أيضا؛ لأن مواضعة ما هي التي تجعل لاستخدام صيغة معينة أثرا ملزما على الشخص الذي يتلفظ بها وتخلق التزاما بالنسبة إليه. وهذا الأثر وهذه هي النقطة المهمة ليس نتيجة خارجية بسيطة لفعل التلفظ يمكن للمرء تجاهلها والاحتفاظ مع ذلك بإمكانية وصف الفعل وتمييزه. تكون لخلق هذا الالتزام علاقة أوثق مع فعل التلفظ «أعدك» من تلك التي تربط، على سبيل المثال، عقوبة وفعل يُعتبران اجتماعيا جريمة. فلا يزال من الممكن وصف السرقة والقتل دون الإشارة إلى الإدانة التي هما موضوعا لها. لكن فعل الوعد اللغوي لن يكون مجرد محاكاة أو سخرية إذا لم يُلزم الشخص الذي ينجزه؛ إذ يفقد طبيعته بمجرد توقفه عن خلق التزام. هذا هو سبب استعمالنا لكلمة "قيمة" (كان من الممكن أن نقول "معنى" أو "مضمون"، لكن فضلنا الاحتفاظ مؤقتا بهذه الكلمات إلى حين الحديث عن الملفوظات). إن المواضعة الاجتماعية التي تربط الالتزام بفعل الوعد لا تنفصل عن قيمة هذا الفعل[2].

إذا أظهر التفكير في الأداء أن المواضعات لا تحدد فقط معنى الملفوظات وإنما أيضا قيمة التلفظات وإذا كان يدعو بالتالي إلى التشكيك في أطروحة سوسّور التي تُعيّن النشاط اللغوي والمبادرة الفردية، فإنه لا يمنع مع ذلك من الحفاظ على جزء كبير من هذه الأطروحة مع مراعاة بعض التنازلات وإجراء بعض التعديلات وتنقيح بعض التفاصيل. في الواقع كما رأينا لا تشكل الأفعال الأدائية، بعد كل شيء، سوى فئة محدودة إلى حد ما من الملفوظات، محددة بوضوح ولها وضع هامشي في اللغة. من ناحية أخرى، فإن التعبيرات «أعدك» و«آمرك» صيغ نمطية تقريبا تجعل المرء يفكر في نوع من الطقوس غير المقدسة rituel désacralisé، فلا أحد يستطيع إنكار أن بعض الأديان تنسب إلى نطق كلمات معينة فعالية خاصة (الصلوات والعبارات المحظورة مثلا). ربما تكون الأفعال الأدائية مجرد حالة خاصة لهذه الظاهرة أو ما تبقى منها. لشرح هذه العبارات، يكفي أن نضيف إلى أطروحة سوسّور قيدا يمكن اعتباره طبيعيا جدا؛ يمكننا أن نميز من بين المؤسسات الاجتماعية التي تهتم باللسان: المؤسسة اللغوية نفسها التي تحدد معنى الملفوظات والامتدادات اللغوية لمختلف المؤسسات (الدينية والقانونية مثلا) التي تُعد غريبة جدا عن اللسان، ولكن تجد نفسها نظرا لاحتياجاتها الخاصة تفرض قيمة معينة على بعض الملفوظات. يمكننا بعد ذلك أن نؤكد مع سوسّور أن المواضعات الاجتماعية لا تهم التلفظ: يكفي أن نُبين أننا نتحدث عن المواضعات التي تنتمي إلى المؤسسة اللغوية في حد ذاتها دون الأخذ في الاعتبار المواضعات التي قد تُضيفها المؤسسات خارج اللغوية أحيانا إلى اللسان.

ومع ذلك، هناك جانب ثان من مفهوم اللسان يهدده مفهوم الأداء؛ إذ وفقا لخطاطة سوسّور، يجب أن يكون تحديد معنى الملفوظات مستقلا عن القيمة التي يمكن أن تأخذها عند التلفظ. يمكن للنشاط اللغوي، على الأكثر، تعديل معنى موجود مسبقا أو إضافة بعض الفروق إليه. الآن، يبدو من الصعب إعطاء معنى للملفوظ "أعد" دون أن نشير، بطريقة أو أخرى، في وصف هذا المعنى، إلى أن التلفظ بهذه العبارة يُشكل فعل وعد. لتبسيط المناقشة، دعنا نسمي «موضوعيا» الوصف الدلالي لعبارة ما عندما لا يشير إلى القوة التي يمتلكها تلفظ هذه العبارة (ونسميه «ذاتيا» خلاف ذلك). وبالتالي، فإن الوصف الدلالي لـ"أعد" ينبغي أن يتجنب القول إن استعمال هذه الكلمة يعادل الوعد. بالطبع، إنه إذا تعلق الأمر فقط بفعل promettre دون الإحالة على فاعله، فسيكون التعريف الموضوعي سهلا نسبيًا (حتى لو فرضنا على أنفسنا عدم اللجوء إلى عبارات مثل التعهد والالتزام التي تطرح بدورها المشاكل نفسها) وبالتالي، يمكن التفكير في إضافة مادة إلى القاموس تشمل المعادلة التالية: وعد=إنجاز فعل تلفظي يصبح بعده المتكلم خاضعا لالتزام معين (لاحظ أن هذا التعريف موضوعي بالمعنى الوارد أعلاه، رغم أنه يستعمل مفهوم التلفظ؛ إذ إن التلفظ المقصود هنا ليس هو تلفظ العبارة التي تم تعريفها). علاوة على ذلك، يجب أن نعقد أكثر التعريف من خلال اشتراط، على سبيل المثال، أن يقصد صاحب التلفظ أن يصبح موضوعا لالتزام. دعنا نعترف أنه مع تحديدات من هذا القبيل يمكننا الوصول إلى نتيجة مُرضية بالنسبة إلى فعل" وعد". لا زالت هناك صعوبة رئيسة تكمن في الانتقال إلى تعريف موضوعي لفعل "وعد"؛ لأن هذا التعبير لا يدل على أن المتكلم يقوم بفعل يجد نفسه بموجبه (أو يرغب بموجبه في أن يكون) ملزما بفعل شيء ما. إذا كان بالفعل هذا هو الحال فسيكون ممكنا على الأقل في ظروف معينة أنني بقولي "أعد" أعني أنني أقدم لك معلومات أو تعليقا على سلوكي وأصف لك ما أفعله مثلما هو الحال عندما أقول لك أمشي. لكن يحدث أن التلفظ بـ"أعد" عندما يكون حرفيا في صيغة المتكلم الحاضر، لا ينقل أي خبر كيفما كان، فكيف ننسب إذن إلى التعبير نفسه محتوى إخباري؟ نشهد من خلال الملفوظات الأدائية انعكاس العلاقة التي قبلها السوسّوريون بين معنى الملفوظات وق وقيمتها التلفظية؛ إذ إن فهم الملفوظات مرهون بإعطاء أولوية خاصة لعملية تلفظها.

2. الأفعال الأدائية والأفعال الإنجازية

ومع ذلك، سيظل اكتشاف أوستين قليل الأهمية إذا شكلت الأفعال الأدائية استثناءً في اللسان وكان من الممكن الحفاظ على تمييز سوسّور في أي مكان آخر. نحن نعلم أن أوستين بعد تردد انحاز بشكل واضح ضد مثل هذا التقييد وأنه قام ببناء مفهوم جديد هو الفعل الإنجازي الذي يهدف ضمَّ تصور الأداء بوصفه حالة خاصة؛ نظرًا لأن سيرل يستعمل هذا المفهوم كثيرا، فقد يكون من المفيد قول بضع كلمات عنه وبضع كلمات أيضًا عن المقاومة التي واجهته.

هبْ أنني قمت بصياغة جملة الاستفهام الآتية: هل سيكون الطقس مشمسا غدا؟ فأثناء القيام بذلك، أنجزتُحسب أوستين ثلاثة أفعال مختلفة تمامًا: أولا، الفعل الكلامي؛ كما هو الحال بالنسبة إلى أي تلفظ (مثل الأمر والوعد والوصف)، كان عليَّ أن أُنجِزَ في الآن نفسه نشاطًا ذا طابع صوتي (النطق بأصواتٍ معينة وفقًا لقواعد علم الأصوات العربي) ونشاطا آخر ذا طابع نحوي (رتبتُ مورفيمات وفقا لقواعد التركيب العربي) فيما كان الثالث عملية دلالية صرفة (سعيتُ إلى التعبير باستعمال ملفوظ عن معنى معين)[3]. هذا النشاط الكلامي ضروري بالنسبة إلى جميع التلفظات التي تحمل المعنى ويكون مستقلاًّ على ما يبدو عن الموقف الخطابي الذي أُوجِدَ فيه. يطرح كل من الإنجاز التلفظي للجملة وتنظيمها النحوي المشاكل نفسها. على سبيل المثال، ما إذا كانت الجملة قد قيلت كأنها لم تكن مُوجَّهة لأحد à la cantonnade أو موجهة إلى سامع بعينه. هذا هو السبب في أنه من الضروري تمييز بدقة شديدة الفعل الكلامي عن الفعل الذي يشكل تلفظه عندما نأخذ في الاعتبار العلاقات التي يقيمها (هذا التلفظ) مع محاوري. لنعُدْ إلى مثالنا، إذا كانت جملة: هل سيكون الطقس مشمسا غدا؟ مجرد استفهام بلاغي في خطبة، فلن تكون سوى تعبير عن شك أو قلق. أما إذا كانت موجهة إلى سامعين محددين، فستكون لها قيمة مختلفة تمامًا؛ إذ ستصبح سؤالا وسيضطر محاوري تحت وطأة عدم التأدب إلى الإجابة. هذه الخصائص التي يتخذها التلفظ عندما يوضع في علاقات الخطاب يسميها أوستين «الإنجازية». ومع ذلك، يظل التعريف على هذا النحوِ عامًّا للغاية؛ لأن من شأنه أن يؤدي إلى اعتبار جميع العلاقات التي تُقام بين المتحاورين بمناسبة الخطاب وجميع المناورات التي يكون الكلام وسيلة لها إنجازية. افترضْ أنّني أنطق الجملة: هل سيكون الطقس مشمسا غدا؟ بوصفها سؤالاً موجَّهًا إلى سامع مُلزم بالرد، ربما قد أنتظر بوصفي متكلمًا نتائج مختلفة للغاية: إلزام السامع بالإجابة بأنه لا يعرف شيئا عن هذا الأمر وإظهار جهله أو منحه على العكس من ذلك الفرصة لعرض معرفته بالأرصاد الجوية أمام الجمهور (من أجل الرفع من شأنه أو السخرية منه)، أو حتى أجعله يرافقني اليوم في نزهة كان مخططًا لها غدًا أو ببساطة أبدأ الحوار أو أتظاهر ببدء الحوار مرة أخرى...إلخ. يكون الفعل المُنجز مختلفًا بالتأكيد اعتمادًا على النتيجة المقصودة كما يُغيِّر التلفظ قيمته تمامًا. وتجدر الإشارة، مع ذلك، إلى أنه في جميع الحالات التي استعرضناها على التو، لا يزال الأمر متعلقًا فيها بسؤال، بمعنى أن قواعد الخطاب تفرض على السامع الإجابة مهما كانت نية المتكلم (وهو ما لم يكن بالنسبة إلى الاستفهام البلاغي). علاوة على ذلك، وفي جميع الأحوال، إذا اختار المتكلم وضع سؤال فلأنه يحتاج لسبب أو لآخر أن يجعل مخاطبه يتكلم؛ لذلك هناك مصلحة في التمييز بين طبيعة السؤال التي يمتلكها الفعل المنجز وجميع الخصائص الأخرى التي يمكن أن تنضاف إليه من خلال نوايا المتكلم. ولتحقيق هذا الأمر، يميز أوستين من بين الأفعال المتعلقة بحالة الخطاب الأفعال الإنجازية والأفعال التأثيرية. أما الأفعال الأولى فتُحدَّد من خلال قواعد خاصة للخطاب (إنها قاعدة أن الملفوظات في مثل هذه الصيغة والمنطوقة بهذه الطريقة إذا وُجهت في مثل هذا النوع من الظروف إلى سامعين محددين تُلزمهم بالإجابة: فإن التلفظ بها يشكل إذا استوفيت الشروط المناسبة الفعل الإنجازي الاستفهامي) أما الأفعال التأثيرية فتشمل قوانين يتجاوز نطاقها مجال الخطاب. بالعودة إلى المثال السابق، فهناك آليات نفسية عامة للغاية تجعل المرء يشعر بالإعجاب (أو بالازدراء) بالنسبة إلى أولئك الذين يتباهون بعلمهم، إنها ضرورة منطقية لا علاقة لها بالخطاب هي التي تجعل اعترافًا بالجهل يتعارض مع ادعاءِ بالعلم بكل شيء... تختلف دوافع الفعل التأثيري عن دوافع الفعل الإنجازي (حتى لو كان بالإمكان اكتشاف حالات حدودية يصعب اتخاذ قرار بشأنها). مثلما يمكن أن يُوفر الفعل الإنجازي مادةً لأفعال إنجازية مختلفة، فإنه غالبا ما يكون وسيلة تكتيكية لاستراتيجيات تأثيرية مختلفة تمامًا. بمجرد قبول هذه الفروق، نرى أن الملفوظات الأدائية لا تصبح استثناءً في اللسان ويمكن للمرء أن يقول على الأكثر إنها تُبرز بطريقة واضحة ومذهلة التمييز بين الأفعال الكلامية والأفعال الإنجازية؛ فعندما أستعمل لاستفهام سامع الفعل الأدائي: «أسألك عمَّا إذا كان الطقس سيكون لطيفًا غدا؟»، فإن الفعل الكلامي ا المُنجَز عبارة عن ملفوظ تعييني indicatif (مثل: «الجو لطيف») ورغم ذلك، فإن هذا الفعل الإنجازي هو سؤال يفرض على السامع الرد. تُشبه هذه الظاهرة ما يحدث في الاستفهام البلاغي الذي يُعد استفهامًا فقط من وجهة نظر كلامية. أما من وجهة نظر إنجازية، فإنه ليس سؤالا؛ لأنه لا يفرض الإجابة على السامع وفقاً لقوانين الخطاب.

لئن كان مفهوم الأداء لم يلقَ قبولا سيّئًا حتى بين اللسانيين، فإن فكرة الأفعال الإنجازية قد أثارت بمجرد أن أصبحت معروفة العديد من التحفظات حتى بين الفلاسفة (Cohen 118-157). أكثر من ذلك، فلساني مثل بينفنيست Beneveniste الذي أدرك أهمية نظرية الأداء انفصل عن أوستين بمجرد أن ب شرع في بناء فكرة القوة الإنجازية التي هددت بضَمِّ نظرية الأداء (Beneveniste 267-276)، ومن السهل فهم سبب ذلك؛ فإذا أظهر اكتشاف الأفعال الأدائية ضعف تمييز سوسّور الذي يجب بموجبه وصف العبارات بشكل مستقل عن فعل التلفظ، كما حاولنا إبراز ذلك، فقد وُجدت لدى بعض اللسانيين من ضمنهم بينفنيست على وجه الخصوص ملاحظات مماثلة تتعلق بقوة الإحالة الذاتية لبعض عبارات اللغة؛ فكيف يمكن وصف الضمير «أنا» دون أن يُذكرَ أنه يحيل إلى الشخص الذي ينطقه؟ وماذا نقول عن «أنتَ» سوى أنها تُعيِّن الشخص الذي نخاطبه؟ ما المعنى الذي ينبغي أن يُعطى للمورفيمات اللفظية للحاضر والماضي والمستقبل إذا لم تُحدّد على أنها تُستعمل للإشارة إلى زمنٍ معاصرٍ أو سابقٍ أو لاحقٍ لزمن التلفظ بها؟ والكثير من التوصيفات التي اتفقنا على تسميتها «ذاتية». عند هذه النقطة، كان اللسانيون مستعدين تمامًا للترحيب بفكرة الملفوظ الأدائي؛ ألن تكون في الواقع قوة الإحالة الذاتية للغة هي التي تُفسر الطابع الأدائي للملفوظ «أعِدُ»؟ لقد رأينا أنه يمكننا أن نقترح لهذا الملفوظ المعنى الآتي: «ينجز المتكلم فعل تلفظ يجعله موضوع التزام طوعي» ووجدنا هذا المعنى غير مقبول؛ لأنه يعادل على الأقل أحيانًا إعطاء معلومات على سلوك المتكلم، والحال ليس كذلك؛ لأن التلفظ ب أعِدُ لا يعني الحديث عن وعد وإنما هو وعد. لكن قد تعود هذه القوة الخاصة ل أعِدُ وهذا هو رأي بينفينست إلى حقيقة أن الملفوظ صادر في صيغة المتكلم المفرد في الحاضر؛ أي وفق شروط إحالة ذاتية مميزة؛ بما أن التلفظ بـ أكذِبُ يحيل على ذاته ويؤكد بالتالي أنه كذب (ومن هنا جاءت المفارقات المعروفة)، فإن التلفظ ب أعدُ يحيل أيضًا على ذاته وبالتالي يؤكد أنه مصدر التزام طوعي. علاوة على ذلك، إذا لم يكن للعبارة قيمة سوى تقديم نفسها بوصفها مصدر التزام طوعي، أ فليس من الطبيعي أن تُشكل إذا نُطقت بجدية وعدًا؟ لذلك لا يجد عالم لغوي مثل بينفينست حرجًا في شرح أن التلفظ بـ أعدُ، رغم أنه يبدو تعليقا على سلوك فهو في الواقع سلوك، وهذا لن يتأتى إلا من حقيقة أن التلفظ يكون مطابقا لما يتحدث عنه تبعًا للتكوين النحوي البسيط للملفوظ. إن القوة الفريدة التي يملكها التلفظ لإنشاء التزام تقوم فقط على حقيقة أنه بالحديث عن ذاته يقدمها على أنها مصدر التزام. إذا كان الأمر كذلك، فإن استخدام ضمير وزمن فعل ذاتيي الإحالة ضروري لبروز ظاهرة الأداء[4]، وهو الذي يجعل ملفوظا يحتوي على الإشارة إلى أن اللغة القانونية توضح، بشكل محرج، بمساعدة عبارات مثل «بهذه الوثيقة» «par la présente» وبفضل هذا التلفظ يمكن أن يشكل التلفظ لمعانا ذاتيا ويُنجز بالتالي الفعل الذي يرمي إنجازه. لعل النتيجة الطبيعية لهذا التحليل هو أننا نمتنع عن مقارنة الأفعال الأدائية بالملفوظات غير ذاتية—الإحالة مثل الأمر (تعالَ) والاستفهام مثل (هل سيكون الطقس مشمسا غدا؟) لم يعد الأمر إذن يتعلق بقبول فئة عامة للإنجاز. في ظل هذه الظروف كما نرى يصبح نطاق النقد الذي وجهناه إلى مفهوم اللسان عند سوسّور مُقَيَّدًا؛ فعندما نفكر في الملفوظات التي تتضمن إحالة صريحة على التلفظ (بفضل العبارات ذاتية الإحالة)، فإن معنى الملفوظ يحوي باعتباره جزءًا لا يتجزأ قيمة تلفظه. أما بالنسبة إلى الملفوظات الأخرى، فيمكننا الحفاظ على تمييز سوسّور. لنفترض من ناحية أخرى أننا نقبل بنظرية أوستين الخاصة بالأفعال الإنجازية، يجب في هذه الحالة بالنسبة إلى جميع الملفوظات تقريبا، أن ندمج في حدود معناها الأثر الذي تُنسبُه قوانين الخطاب إلى التلفظ بها؛ عندئذ لن تكون ظاهرة الإحالة الذاتية سوى تطبيق واحد من ضمن العديد من التطبيقات الأخرى لقاعدة أساسية للغة. لذلك دعونا نعود إلى الملفوظات الأمرية والاستفهامية، هناك طريقتان مختلفتان تماما لرفض طابعها الإنجازي: أولا؛ يمكن القول: إن القوة التداولية المرتبطة بنطقها هي نتيجة بسيطة لمعناها وبالتالي فهي تابعة منطقيا لهذا المعنى ولا يمكن أن تُشكله، سيكون المعنى الحقيقي للاستفهام هو أننا عند استعماله نقوم بإنجاز فعل محدد للغاية نسميه «وضع السؤال»؛ عندما أسأل «هل سيكون الطقس جميلا؟» سيكون الأثر الاستفهامي لكلامي قابلا للاستنتاج تماما من «مضمون» الكلمات المستعملة دون الحاجة إلى أي شيء عدا الآليات اللغوية الأكثر شيوعا؛ تلك على سبيل المثال التي بحكمها عندما أستعمل كلمة قلم رصاص أجد نفسي أتحدث عن شيء يمتلك الخصائص المحددة في تعريف هذه الكلمة. لذلك نحتاج إلى معرفة ما إذا كان بإمكاننا تصور تعريف للحرف هل يشبه تعريف كلمات المعجم أو المورفيمات النحوية مثل الصفات العددية والنفي والشرط وما إلى ذلك؛ تعريف لا يشير إلى التغييرات التي يُدخلها استعمال المصطلح المحدد في حالة الخطاب وإنما يسمح لنا بفهمها.

لنأخذ المثالين الآتيين:

1-   أود أن أعرف ما إذا كان الطقس سيكون جميلًا غدًا.

2-   هل سيكون الطقس جميلًا غدًا؟

أولًا: سوف نلاحظ من وجهة نظر تجريبية تماما أن 1 و2 ليس لهما التوزيع نفسه في هذا النص الذي يشكل الخطاب فالملاحظ الأكثر إيجابية سينتبه إلى أن الإجابات المحتملة لمتلقي هذين الملفوظين مختلفة بشكل كبير: بعد 1، يمكن أن تكون الإجابة «أنا أيضا» وهي مستحيلة بعد 2 والعكس صحيح، «نعم» و«لا» و«لا أعرف» تكون إجابات متكررة بعد 2 واستثنائية بعد 1، فحتى اللسانيين الأكثر حرصا على عدم الابتعاد عن «اللسانيات الصلبة» يضطرون إلى النظر في مثل هذه الوقائع. ثانيا: ما لم نحظر أي بحث لا يكون مجرد ملاحظة (الذي لا نفهم الفائدة منه)، فسيتعين علينا شرح الوقائع التوزيعية المسجلة. ومن أجل هذا الشرح وهنا نعود إلى مشكلة الأفعال الإنجازية من الصعب للغاية الاعتماد فقط على «مضامين» الملفوظات المعينة، على ما تُعبر عنه؛ لأنه من الواضح تماما أنها تعبر عن الشيء نفسه: عدم اليقين والرغبة في الخروج من حالة عدم اليقين. لا يمكننا حتى القول إن الاستفهام يعبر أكثر من الإثبات على الاعتقاد بأن المخاطب قادر على إزالة هذا الشك؛ لأنه لا يُمنع وضع سؤال دون معرفة أن المتلقي بإمكانه تقديم المعلومات المطلوبة؛ فالإجابة «لا أعرف» تعد من الإجابات المقبولة ولا تشكل بالضرورة سلوكا عدوانيا من قبل المستفهَم من شأنه «استبعاد» السؤال وجعله غير لائق أو غير مناسب.

في الواقع، يبدو من الضروري بالنسبة إلينا لتمييز 1 من 2 أن نأخذ في الاعتبار قواعد معينة للخطاب، قواعد معينة لهذه اللعبة المعينة التي تسمى خطابا والتي بموجبها ينبغي على المرء أن يجيب على الأسئلة الموجهة إليه: أي النطق بجمل من نوع خاص تُعد وحدها ذات قيمة الإجابات. إن عدم الرد يعني الانسحاب من المحادثة والتخلي عن لعبة الخطاب كما ينسحب المرء من لعبة البريدج إذا رفض مدَّ ورقة عندما يتعين عليه القيام بذلك. لذا، من العبث البحث عن أي «مضمون» لمورفيم الاستفهام وكل ما يمكن قوله هو أن استعماله له نتيجة وضع المخاطب في موقف معين؛ حيث يكون ملزما بالإقدام على هذا النوع من السلوك الذي يسمى «إجابة». لكن يبدو لنا السؤال عن معنى الصيغة الاستفهامية غير واعد (حتى في حالة الاستفهام البلاغي) مثل البحث عن معنى «الحملة المضادة» في لعبة البريدج أو «التماس» في لعبة الركبي؛ لأن معناها هو الطريقة التي نُغير بها عند استعمالنا لها وضعية المنافس[5]. يمكننا النظر في اعتراض ثان ضد مفهوم الفعل الإنجازي (قدمه على سبيل المثال بنيفينست)، وهو عكس الاعتراض السابق تماما. لن نحاول بعد الآن استنباط القوة التداولية للتلفظ من «معنى» الملفوظ بل على العكس سنعلن أن هذه القوة تُضاف إلى الملفوظ بطريقة غير متوقعة ولا علاقة لها بالتالي باللغة، أيا كان المعنى الذي نعطيه لهذا المصطلح. وقد حاول بينفينست البرهنة على ذلك من خلال فعل الأمر، فسعى جاهدا إلى إظهار أن الملفوظ «تعالَ» يخلو من أي قرينة إلى الأمر وأي قيمة «طلبية مُلزمة». يُطرح صنفان من الأسباب: أولا؛ ليس للأمر حقا زمن؛ لأنه ليس سوى عرض بسيط لجذع الفعل (دلالية عارية)، أي أن الملفوظ «Viens» لا يفيد أكثر من فكرة بسيطة عن المجيء[6]؛ إذ إن القيمة «الطلبية» ليس لها نقطة ربط في الدلالة الخاصة للملفوظ. يبدو أن هذا الرأي تؤكده الحاجة في اللغة الشفوية إلى إضافة تنغيما خاصا إلى الأمر إذا أراد المرء الحصول على النتيجة المطلوبة. يقود سبب ثان بينفينست إلى النتيجة نفسها؛ إذ يقال لنا إن فعل الأمر يهدف فقط إلى «جعل السامع يتصرف» لإنتاج نتيجة تجريبية: بقولنا: «تعال!» يتضح أننا نميل إلى إحضار الشخص الذي نتحدث إليه. من الواضح الآن أن اللساني لا يأخذ في الحسبان النتائج التجريبية التي تكون للكلمات، وإلا أين ستنتهي اللسانيات؟ إلى جانب حقيقة أنه ليس من الضروري أن نقول: «تعالَ!» لإحضار المخاطب، فالإيماءة قد تكون كافية جدا. يثبت هذا الواقع أن القيمة الطلبية للأمر لا ترتبط بالضرورة بـ«بحقيقته اللغوية». إن حجة بينفينست هي بالضبط عكس ما قدمناه من قبل: إنها ليست مسألة استنتاج قيمة التلفظ من الملفوظ، بل على العكس من ذلك، إقامة فصل بينهما. ومع ذلك، فإن لهاتين الحجتين نتيجة متطابقة: لا جدوى من إدخال أي ذكر للقيمة التداولية في الوصف الدلالي للملفوظات (ما عدا في حالة الأفعال الأدائية وذاتية الإحالة بشكل عام). ما الذي يمكن قوله عن حجة بينفينست؟ من الصعب أن نناقش هنا الأطروحة التي تجعل الأمر مجرد تقديم دلالة عارية؛ لأنها جزء من نظرية عامة معقدة وعميقة للغاية في تصريف الأفعال. لكن الشيء المهم من وجهة نظرنا هو قبل كل شيء ما يقال عن تلفظ أفعال الأمر؛ إذ إن «النتيجة التجريبية» لهذا التلفظ هي ببساطة إحضار الشخص الذي نتحدث إليه. وبالفعل، فإنها مسألة تجريبية معرفة ما إذا كانت الأوامر قد نُفذت أم لا، بل إنها مسألة تجريبية أيضا معرفة ما إذا كان الشخص الآمر يريد دائما أن يُطاع (من الواضح تماما أن هناك حالات يُصدر فيها أمر لأسباب مختلفة كإظهار سلطة المرء أو إهانة المخاطب بل دفعه إلى فعل عكس ما طُلب منه) لكن كل فعل أمر له على الأقل نتيجة أخرى غير تجريبية (التي لم تعد تجريبية): هي أن الشخص المأمور يجد نفسه الآن في مواجهة موقف جديد تماما، في مواجهة بديل طاعة أو عصيان ناتج مباشرة عن التلفظ، بل يمكن أن يُقال: تم إنشاؤه بواسطة التلفظ. فبمجرد إصدار الأمر، فإن سلوكا معينا ذلك الذي وُصفَ يأخذ سمة لم يكن ليحصل عليها لولا ذلك؛ فيصبح فعل طاعة ويصبح الفعل المعاكس بشكل منهجي فعل عصيان. ومن ثم، تُعاد بنينة التصرفات المحتملة فجأة بالنسبة إلى الشخص المأمور ويظهر بُعدٌ جديدٌ يفرض مقياسا جديدا للسلوك وإعادة التنظيم هذه ليست واقعة تجريبية أو حادث تمَّ بمناسبة الملفوظ وإنما هي وحدها التي تجعل التلفظ بالجملة أمرا. فلا داع للادعاء أن الأمر كما هو قد لا يُسمع أو يُفهم وبالتالي لا يُغير الموقف الحقيقي للسامع؛ لأننا قد نقصر تحليلنا على نوايا المتكلم. فبالنسبة إلى هذا الأخير، فإرادة إصدار أمر وإرادة إحداث هذا التغيير إنما هما شيء واحد (مشروعان متماثلان). إذا كنت لا أنوي وضع السامع بكلامي أمام بديل الطاعة أو العصيان، فإن ما أريده لم يعد أمرا وإنما على الأكثر تعبير عن رغبة أو مجرد رأي بسيط حول ما هو مرغوب فيه، ولن نكسب أي شيء بالاعتراض على أنه بإمكاننا تحقيق الأمر بطريقة غير لغوية، عن طريق إيماءة على سبيل المثال؛ لأن الشيء نفسه ينطبق على كل ما يمكن أن تُعبر عنه اللغة، فيمكننا دائما اختراع شفرة أخرى تسمح لنا بالدلالة عليه. حتى مبرهنة غوديل (theoreme de Godel, 1931) يمكن الدلالة عليها بإيماءة إذا اتفقنا أولًا أن هذه الإيماءة تدل على ن تلك المبرهنة. لماذا يجب أن تتوقف الدلالة عن كونها لغوية بحجة أنه يمكن نقلها بواسطة شفرة أخرى؟ الشيء المهم بالنسبة إلينا يبدو أنها في عرضها اللغوي مرتبطة بطريقة تواطئية بوقائع معينة من اللغة، وهذا هو الحال بالنسبة إلى الطلب.

لذلك، قدمت لنا الأفعال الاستفهامية والأفعال الأمرية أمثلة على الملفوظات التي دون أن تكون ذاتية الإحالة يمكن ويجب وصفها قياسا بالنتيجة المرتبطة تواطؤا بتلفظها. قد تكون البرهنة أكثر إقناعا إذا تمكننا من إظهار أن الأفعال الأدائية نفسها لا تدين بقيمتها الخاصة لطابعها الإحالي الذاتي أو هذا ما سنحاول إظهاره: إن طابعها الإحالي الذاتي هو نتيجة لضرورة أعمق ذات صبغة إنجازية؛ فبقولي: «أعدك»، أعني ونحن نتبع بينفنيست هنا أن «الكلام الذي أنطقه حاليا هو وعد» ولكن ما سبب هذا الأمر؟ بدا لنا في وقت سابق أن المورفيمات النحوية لضمير المتكلم والحاضر تكفي لشرح هذه الحقيقة وقدمنا كحجة أن «أنا أكذب» تعني أن «الفعل الذي أُنجزه بكلامي هو كذب». لكن في الواقع، لا تحمل عبارة «أنا أكذب» هذا المعنى إلا في كتب الفلسفة وإذا نُطقت هذه الجملة في أي مكان آخر، فستُفسر بشكل مختلف تماما وستأخذ معنى إثبات عام يعادل «أنا كاذب»؛ لأنه حتى في صيغة ضمير المتكلم الحاضر، فإن التلفظ بعلق على نفسه فقط في حالات خاصة جدا وعلى وجه التحديد في حالة الملفوظات الأدائية. لا تعني عبارة «أتمنى لك التوفيق» أن «كلماتي هذه تهدف إلى مواساتك» ولكن «أنا أطردك» و«أنا أُوظفك» وبالطبع «أنا أعدك» كلمات تحيل على نفسها (تعكس ذاتها). لكي يكون التلفظ ذاتي الإحالة ينبغي أن يكون الفعل الذي يحمله من بين الأفعال التي يمكن إنجازها مواضعة من خلال اللغة. إذا كانت عبارة «<أنا أعدك» ذاتية الإحالة وبالتالي أدائية؛ فذلك لأن الأمر يتعلق في هذا الملفوظ بوعد والوعد في مجتمعاتنا جزء من «أفعال اللغة». لذلك، يمكن أن تكون أيضا عبارة «أتمنى لك التوفيق» ذاتية الإحالة وأدائية إذا رُبط استعمال هذه الكلمات مواضعة بقيمة خاصة: أي إذا اعتُرف في مجتمعنا أنه بقولنا لشخص ما: «أتمنى لك التوفيق»، فإننا نمارس تأثيرًا إيجابيا عليه.

من خلال ربط الطابع الأدائي للملفوظات بقيمتها الإحالية الذاتية، فإننا ندحض في الظاهر فقط التعميم الذي أدى في فكر أوستين إلى مفهوم الأفعال الإنجازية؛ لأنه اتضح أن هذه القيمة الإحالة الذاتية بحد ذاتها ممكنة فقط عند استعمال المصطلحات التي تحيل على الأفعال الإنجازية. لذلك، من غير المجدي السعي إلى عزل هذه الأفعال عن عبارات اللغة الأخرى، فهي ممكنة فقط؛ لأنه بصفة عامة يمكن إنجاز أفعال معينة باستعمال صيغ معينة وهذه الصيغ سمتها الدلالية الأساسية هي السماح بهذه الأفعال كما أن اقتراحنا لدمج القيمة التداولية للتلفظ في وصف الملفوظات يمكن أن يعتمد أيضا على أعمال بينفينست والتي تذهب في رأينا أبعد من تفكيره في الأداء كما هو الحال على سبيل المثال في دراسته» للأفعال المنحوتة» (Beneveniste, 277 – 85). هكذا يسمي بينفينست فئة من الأفعال غير المشتقة من الأسماء أو الأفعال الأخرى وإنما من «الأقوال» والتي تعني: تنفيذ الفعل الذي نقوم به عندما نستعمل هذا القول، وبالتالي فإن أشكر لا يأتي من الاسم شكرًا! (الذي يظهر في عبارة الشكر)، ولكن من الصيغة العرفية شكرا مما يعني إذا سُمح لنا باستعمال مصطلحات أوستين «القيام بالفعل الإنجازي «عند استخدامنا للصيغة شكرًا! علاوة على ذلك، يمكن أن تتعدد أمثلة الأفعال المنحوتة كما يوضح بينفنست أن هذه الظاهرة موجودة، وبشكل كبير، في العديد من اللغات.

يبدو أن هذا الاكتشاف الذي تم انطلاقا من بحث صرفي لغوي صرف يدعم بوضوح التفكير الفلسفي لأوستين. إذا اعترفنا في الواقع أن الاشتقاقات التي تؤدي إليها الكلمة توضح ما هو أساس بالنسبة إلى المتحاورين، أي: النواة الدلالية لهذه الكلمة، يجب أن نستنتج أن الكلمات أو العبارات ذات المشتقات المنحوتة تشمل من بين خصائصها الدلالية الأساسية الوظيفة التي يؤديها التلفظ بها. تميل اللغة نفسها (هذا التجسيد لا يبدو لنا خطيرًا هنا) إلى اعتبار بعض ملفوظاتها لا تمثل «مدلولات» موضوعية وإنما كونها وسائل تواطئية للحصول على بعض التأثيرات المحددة في الخطاب. على عكس فكر سوسّور، لم يعد اعتبار قيمة الكلمة أو الجملة في النشاط اللغوي نتيجة لمعنى مسبق تم تسجيله بصرف النظر عن أي استعمال في هذا الكنز الذي تشكله اللغة[7]. لم يعد بإمكاننا قبول التمييز بين اللغة التي توفر المعاني والكلام الذي ينقل هذه المعاني بعد ذلك بطريقة تلبي الحاجات المختلفة للمتحاورين. لقد أظهرنا على العكس من ذلك أن بعض تأثيرات الكلام على الموقف الخطابي (تلك التي يسميها أوستين الإنجازية) تخضع للمواضعات وأن هذه المواضعات المتعلقة بالاستعمال تشكل إلى حد كبير الواقع الدلالي لعناصر اللغة. إذا حافظنا لتعيين هذا الواقع على مصطلح «معنى» فسيكون من الضروري استيعاب على الأقل جزئيًا معنى الكلمات والجمل في اللغة مع القواعد التي تضبط مواضعة تأثيرها في الخطاب. إنها ليست مسألة تمييع المعنى في الاستعمال[8] كما يحاول برونو أن يفعل أو مسألة إنكار أن الاستعمال يعتمد دائما على معرفة مسبقة باللغة، نريد فقط أن نُظهر أن المعنى المسجل بواسطة اللغة يشمل كجزء راسخ بعض المواضعات التي تحدد بشكل اعتباطي آثار الاستعمال على موقف الخطاب.

3. الفعل الكلامي والفعل الإنجازي

سمح لنا تمييز أوستين بين الفعل الإنجازي والفعل التأثيري بإدخال آثار معينة للخطاب في اللغة دون إجبار اللساني على أن يأخذ في الاعتبار جميع النوايا المحتملة للمتكلمين: يمكننا بالتالي أن نفرض على مجال بحثنا حدّا أعلى دقيقا نسبيا: إنه مفهوم الفعل الكلامي[9] الذي يجب فحصه الآن. نتذكر أن أوستين يحدد ثلاثة أنواع من الأفعال: الأفعال الصوتية (النطق بفونيمات) والأفعال التركيبية (الجمع بين مورفيمات) والأفعال الدلالية (التعبير عن معنى معين) والتي ستكون مستقلة عن القوة الإنجازية للتلفظ ومن المحتمل الحفاظ عليها عندما تتنوع هذه الأخيرة. لا يمكن الاعتراض على النوعين الأولين؛ فقيود الصوتيات والنحو هي في الواقع نفسها في الأمر أو الوعد أو الاستفهام، أي أن توليفات المورفيمات أو الفونيمات المحظورة في أحد هذه الأفعال محظورة في الأفعال الأخرى. لكن ما الفعل الدلالي؟ ما هو هذا المعنى الذي لا تكون له علاقة مباشرة بالقوة الإنجازية؟

يبدو لنا أن التعارض بين الكلام والإنجاز يخلط بين تمييزين غير متكافئين على الإطلاق: الأول ذو وظيفة سببية بين السمات الدلالية المرتبطة بالملفوظ المعزول وتلك التي يحددها سياق التلفظ. خذ الملفوظ الآتي: «سأذهب إلى الجبل هذا الصيف»، فاعتمادا على الظروف التي استُعمل فيها، سيكون إما خبرا أو وعدا (لدينا الاحتمال الأول إذا كان الملفوظ جوابا على السؤال "ماذا ستفعل هذا الصيف؟" والثاني إذا كان موجها لمحاور يريد أن يراك تذهب إلى الجبل)؛ لكن مهما كان سياق الخطاب، فالجملة تعبر عن القضية نفسها. لذلك يمكننا أن نتفق على الاحتفاظ بمصطلح «الإنجاز» للقيمة المرتبطة بظروف التلفظ وأن نسمي «الكلام» ما يبقى قائما في جميع الحالات. غير أن هذا التعريف كما سنُلاحظ مختلف تماما عن التعريف الذي استخدمناه حتى الآن؛ فملفوظ أدائي مثل «أنا أعدك بالمجيء» يحتفظ بقيمة الوعد بغض النظر عن مواقف الخطاب (ما لم نتخيل مواقف استثنائية تماما)، وبالتالي سنكون مضطرين بحكم التعريف السابق لإنكار السمة الإنجازية لهذه القيمة. إذا رفضنا مثل هذا التعريف، يجب أن نعطي للتمييز بين الكلام والإنجاز تفسيرا مختلفا تماما والذي لن يتعلق بعد الآن بالشروط التي تحدد المعنى. سوف نسمي «كلامية» بعض الخصائص الدلالية للملفوظ إذا كان من الممكن تحديدها بشكل مستقل عن النتائج المترتبة عن تلفظ الملفوظ في حالة الخطاب. سيكون هذا في اعتقادنا هو التعريف الوحيد للدلالة الكلامية الذي من شأنه أن يجعل هذا المفهوم متماثلا مع تصور الفعل الإنجازي كما استعملناه حتى الآن. غير أن هذا التعريف الجديد الذي سنحاول اقتراحه على التو يُخشى ألا يتوفر على موضوع وازن ويشير فقط إلى فئة فارغة على الأقل فيما يتعلق باللغات الطبيعية.

في الواقع، إن أي بحث في الدلالة اللسانية بمجرد أن يتعمق شيئا ما يميل إلى تقديم تحديدات ذات طابع تداولي. لتحقيق الطبيعة المفاجئة لهذا التأكيد، دعونا نوضح أن هذا ليس تصريحا بالمبادئ ولكنه تعميم ربما يكون مجازفا بناء ً على دراسات مفصلة. لذلك، لا يوجد تبرير صارم ممكن، خاصة أن الأمثلة القليلة التي ستُقدَّم لا يمكن أن تدعي أن لها قيمة توضيحية.

يستعمل الكثير من اللسانيين بإيحاء من البحث الفلسفي أو المنطقي في الأصل مفهوم الاقتضاء على نطاق واسع (Strawson 320-344) إذا كان علَيَّ أن أصف الملفوظ إن بيير هو من جاء فينبغي أن أُشير إلى أن ثلاثة من المعلومات على الأقل تُنقل من خلال هذا الجملة:

1-   جاء شخص ما.

2-   جاء شخص واحد فقط (من بين أولئك الذين يدور حولهم الحوار).

3-   جاء بيير.

من ناحية أخرى، هناك أسباب تركيبية بحتة لتشكيل فئتين بين هذه المعلومات من خلال معارضة (ج) للمجموعة المكونة من (أ) و(ب). السبب الأكثر إلحاحا ولكنه بعيد كل البعد عن كونه الوحيد، هو أنه في الجملة المنفية ليس بيير هو الذي جاء نجد المعلومات (أ) و(ب) دون تغيير ولكن ليس المعلومة (ج). للتعبير عن هذا الواقع، سنقول: إن (أ) و(ب) مُقتضان من خلال الملفوظ بينما (ج) مُقتضي. من خلال تطبيق معيار النفي بشكل منهجي على ملفوظات اللغة، ندرك أن معظمها يتطلب التمييز بين المقتضي والمقتضى وهو تمييز يكشف عن أهمية عامة: كيف يمكننا الآن وصف هذا التمييز دلاليا؟ ما السمة المشتركة بين جميع المعلومات المقتضاة والتي تميزها عما هو مقتضي؟ بالنسبة إلينا، يبدو أنه لا يوجد جواب ممكن لا يتضمن مفهوم الإنجاز.

بالطبع، يمكننا الاستعانة بمفهوم الوضوح لوصف الفروق الدقيقة المضافة إلى المعلومة من خلال واقع أنها مقتضاة. لكن يجب أن نرى أن اقتضاء معرفة ما لا يعود إلى التأكيد على أنها من نافلة القول والإعلان أنها بديهية؛ لأن الوضوح المراد لا يتم التصريح به أو تأكيده مما يمنحه طابعًا صريحًا، وبالتالي يجعله موضوعا محتملا للنقاش. في حالة الاقتضاء، تُلعب البداهة. بقولنا إن بيير هو من جاء، نتصرف كما لو كان من المستحيل الشك في أن شخصا واحدا وواحدا فقط قد جاء، نتصرف كما لو أن المعلومة الجديدة الوحيدة التي يقدمها الملفوظ الوحيدة التي يمكن مناقشتها تتعلق بهوية الشخص القادم. ولكن ما الذي يمكن أن يعنيه لعبُ البداهة jouer une évidence؟ كيف يمكن تقديم محتوى فكري على أنه غير قابل للشك، وهو أمر كما رأينا مختلف تماما عن قولنا: إننا نعتقد أنه كذلك؟ ربما يكون الحل مرة أخرى هو النظر في آثار الكلام على كل حالة من المتحاورين؛ لأنه في لعبة الخطاب؛ حيث يمكن لعبُ البداهة. تُظهر دراسة نفسية حول استراتيجية الحوار وهي دراسة يمكن دعمها بمؤشرات لغوية صورية، أنه موقف مختلف تماما معارضة ما طرحه المحاور وما اقتضاه. في الحالة الأولى، يمكن أن يبقى النقد داخل الحوار: نرفض ما قيل ولكن نعترف بحق الآخر في قوله. أما في الحالة الثانية على العكس من ذلك فيأخذ الخلاف طابعا عدوانيا بالضرورة ويهدف إلى استبعاد المحاور. إذا كان الأمر كذلك، فمن خلال إدراج بعض الاقتضاءات في كلامي، أضع مستمعي أمام خيار إما أن يقبل أساسا معينا للمناقشة اخترتُهُ أو يرفض المناقشة نفسها. نفهم بالتالي بشكل أفضل نوع البداهة المرتبط بالاقتضاءات. إذا قُدمت الاقتضاءات على أنها لا تقبل الجدل؛ فذلك لأنها تشكل إطارا للحوار الذي أقترحُه وأنها مثل هذا الحوار تُؤخذ أو تُترك. بقدر ارتباطها بحكم قوانين الخطاب باستمرار المحادثة، فإنها تدمج الاهتمام الذي قد يكون لدى المحاورين لهذه المحادثة؛ إذ إن أهمية هذه الاقتضاءات هي أهمية الحوار الذي تشكل شرطا له وضرورتها هي الضرورة الضمنية لمواصلة الحديث[10].

إذا سمحنا لأنفسنا فيما ينبغي أن يكون تمهيدًا لـ "سيرل" بتقديم مفهوم الاقتضاء هذا والذي لا يستخدمه هو نفسه بشكل منهجي؛ فذلك لأنه يوضح الدور الذي يمكن أن تلعبه في اللسانيات المبادئ العامة لفلسفة اللغة[11]. للعثور على تعريف مُرضِ لظاهرة مثل الاقتضاء وهي ظاهرة يمكن تحديدها وفق معايير تركيبية دقيقة ، كان من الضروري بالنسبة إلينا ربطها بالقواعد التي تحكم مواضعة لعبة اللغة ووصف الاقتضاء ارتباطا بالمناورات التي يكون موضوعا لها: فحقيقة الاقتضاء، مثلها مثل حقيقة لعبة الشطرنج، تكمن فقط في جعل اللعبة ممكنة.

هناك نوع ثان من الأمثلة سيًقدم من خلال البحث اللساني التفصيلي والذي لم يعد يتعلق بظاهرة عامة مثل الاقتضاء وإنما بمورفيم محدد. هنا مرة أخرى، يتطلب الوصف الدلالي أن نضع أنفسنا في خضم نشاط الخطاب. افترض أننا نريد وصف قيمة كلمة حتى في جمل من نوع (أ) و(ب)؛ حيث (أ) و(ب) قضيتان. خذ على سبيل المثال الملفوظ: قام جاك بواجباته المدرسية وحتى أنه تناول حساءه دون أن يشتكي. يمكننا محاولة تقديم تعريف «موضوعي» إن وجود حتى يعني ضمنيا أن القضية الثانية هي أكثر إثارة للدهشة وأكثر جدلا من الأولى. ومع هذا، عند القيام بذلك، نهمل فارقا مهما للغاية تُضيفُه (تجلبه) حتى (على وجه التحديد هو الذي يشرح استخدام الظرف المستعمل للتعبير عن الهوية). لنفرض أن جاك قام بعمل مذهل مثل تناول الحساء، ولكن هذه المرة في مجال المحظورات. هبْ ن على سبيل المثال، أن تكون القضية التي تعبر عن أن جاك ضرب جدته، سيكون من العبث استبدال ن في الجملة السابقة لـ تناول حساءه دون تذمر. بتعبير آخر، ينبغي أن تسير القضية المقدمة من قبل حتى في الاتجاه نفسه الذي تسير فيه القضية التي تسبقها. لكن، ماذا نقول بالضبط عندما نقول إن قضيتين تسيران في الاتجاه نفسه؟ هذا يعني في الحالة قيد النقاش أن (أ) و(ب) تسمحان لي بدعم الاستنتاج نفسه وأنهما راسختان في الحجاج نفسه. وبالتالي، فإن ما يجب أن يكون مشتركا بين (أ) و(ب) هو قوتهما الإنجازية: إنه فعل اللغة الذي يساهمان فيه. ولهذا، فإن الوصف الدلالي لـ«حتى» مقيد، إذا أراد أن يكون مخلصًا على الإطلاق، بأخذ هذه الأفعال في الاعتبار. دعونا نعترف مع ذلك أن مثال حتى يختلف تماما عن الأمثلة السابقة. في الواقع، لم نُعطِ هذه الكلمة تعريفًا إنجازيًا مماثلا لذلك المقترح للاستفهام أو الأمر أو الاقتضاء، فلتعريف حتى لم نبحث عن التغييرات التي يحدثها استعمالها في الموقف الخطابي: لا نرى في الواقع أن مثل هذه القوة مرتبطة بها مواضعة[12]. لقد أشرنا فقط إلى أن حتى تنقل حكما ضمنيا على الأفعال الإنجازية المؤداة بمساعدة الملفوظات التي تحيط بها: لهذا السبب، لا يمكن وصف حتى في لسانيات من النوع السوسّوري التي تعارض جذريا بين اللغة وفعل استعمال اللغة وتمنع اللساني من أخذ هذا الفعل في الاعتبار.

كتوضيح أخير لنفس الأطروحة، سننظر في مورفيم يشكل استعماله على عكس ما يحدث مع حتى في حد ذاته فعلا إنجازيا: نريد التحدث عن الرابط الفرنسي puisque والذي سنحاول وصفه في مقابل parce que. من السهل جدا الوقوف على الفرق بين المصطلحين. إذا أردت أن أشرح واقعة ما، على سبيل المثال، أن صديقي بيير جاء لرؤيتي، فسأقدم بمساعدة parce que القضية المعبرة عن سبب هذه الواقعة Il est venu me voir parce quil désirait me voir (جاء لأنه أراد رؤيتي)، غير أنه إذا أردت أن أبرر إثباتا من خلال إثبات ادعاء آخر لا جدال فيه بالنسبة إليّ والذي يشكل على ما يبدو حجة على الأول فإني أفضل استعمالpuisque: Il est venu puisque sa voiture est en bas (لقد جاء بما أن سيارته في الأسفل). بمجرد أن حُددت شروط استعمال puisque وparce que، تبقى محاولة وصف المورفيمات. ومع ذلك، يبدو إن في (أ) parce que (ب)، تُقدم parce que (ب) كسبب ل (أ) ومن ناحية أخرى في (أ) puisque (ب) تُقدم (ب) كدليل على (أ). في الحالة الأولى، يعلن المتكلم أن الواقعة المعبر عنها بواسطة (ب) تفسر (أ) وفي الثانية أن هذه الواقعة تسمح لنا باستنتاج (أ). إجمالا، parce que من شأنها أن تعبر عن علاقة السببية (بالمعنى الواسع للغاية) وpuisque عن علاقة قابلية الاستنتاج.

لسوء الحظ، يترك هذا التعريف الذي هو تعريف كلامي محض جانبا بعض الحقائق التي نعتقد أنها ضرورية؛ فبقولي (أ) puisque (ب) لا أنوي إبلاغ السامع أنه يمكن استنتاج (أ) من (ب)[13]، وإلا فإننا بالكاد نفهم هذه الحقيقة التي لا جدال فيها لغويا وهي أنه من المستحيل تحويل جملة تتضمن puisque نفيا أو استفهاما أو دمجها كجملة مضافة (تابعة)subordonnée في ملفوظ أكثر تعقيدًا. في الواقع، لا تقول وما هو أكثر إثارة للاهتمام لا ترغب في أن تقول: هل جاء بيير إذ إن puisque سيارته في الطابق الأسفل؟ ولا أيضا: من الخطأ أن يكون بيير قد جاء puisque (لأن) سيارته... ولا: أنا سعيد لأن بيير جاء puisque سيارته[14] ... ما هو مهم في برهنتنا هو أن التحولات نفسها ممكنة تماما في الجمل التي تحتوي على parce que مثل هل جاء بيير parce que لأنه أراد رؤيتي؟ لذلك إذا كان الاختلاف بين puisque وparce que يكمن فقط في طبيعة العلاقة المعبر عنها (السببية أو قابلية الاستنتاج)، فمن الصعب معرفة لماذا لا تكون التحولات الممكنة في حالة ممكنة في الحالة الأخرى. لماذا لا تُنفى قابلية الاستنتاج مثل السببية؟ لماذا نتساءل عما إذا كانت إحدى الوقائع محددة من قبل واقعة أخرى وليس ما إذا كانت إحدى القضايا متضمنة في قضية أخرى؟

تتطلب الإجابة الوحيدة، التي بدت لنا ممكنةً، اللجوء إلى فكرة الفعل الإنجازي. بقولي: (أ) puisque (ب) فأنا لا أعبر عن أن (أ) تُستنتَج من (ب)؛ بل أستنتج فعليًا (أ) من (ب). أنا لا أثبت إمكانية أو ضرورة الاستدلال، وإنما أستدل[15]. تمامًا مثل استعمالي لملفوظ استفهامي، فأنا لا أعبر عن سؤال إنما أستفهم. وبالمثل، باستعمالي puisque فانا لا أعبر عن علاقة استنتاجية لكنني أستنتج. لذلك، من الصعب معرفة كيف يمكن للنحوي أو عالم المعجم أن يقدم تعريفًا لـ puisque يأخذ في الاعتبار معارضته لـ parce que إذا لم يذكر الفعل المنجَز بتلفظ puisque وإذا لم يشر إلى أن هذا المورفيم يساهم في تحويل الكلام إلى برهنة. لكن كيف نعرف الآن فكرة البرهنة دون الرجوع إلى استراتيجية الخطاب وإلى الموقف الذي يوضع فيه السامع؟ بما أن السمة الأساسية للاستفهام هي أن يفرض على السامع التزاما بالإجابة وبما أن الأمر هو أمر فقط إذا كان يخلق بديلا للطاعة أو العصيان، فإن فكرة البرهنة نفسها تستدعي أن يُطلبَ من السامع بمجرد عرض برهنة عليه، إما قبول ما قيل أو محاولة تفنيد الحجج المقدمة له. وبالتالي، فإن لاستعمال puisque تأثيرًا، وهذا التأثير يمثل القيمة الأساسية لهذا المورفيم الذي يجعل مثل هذا الاختيار ضروريا ويمنع الردود المراوغة مثل حقا! وجيد! وربما! مرة أخرى، يعود الوصف الدلالي إلى شرح قواعد اللعبة اللغوية.

 ما الذي يتبقى إذًا من هذه الدلالة الكلامية التي تعارض وفقًا لأوستين القوة الإنجازية؟ أو مرة أخرى، إذا فضلنا وضع السؤال نفسه بطريقة لسانية، فما الخصائص التي تنتمي إلى المعجم la lexis[16]؟ في الوقت الحاضر، لا يمكننا تقديم إجابة شافية لهذا المشكل؛ ولكننا نستطيع فقط وصف الانطباع الحاصل من الأعمال الحديثة المختلفة. ومع ذلك، تُظهر هذه الأعمال أن مجال الكلامي (المعجمي) هزيل مثل جلد الحزن une peau de chagrin لا يتوقف عن الانكماش وحتى إذا كنا مقتنعين أن هذه الحركة ستتوقف بالفعل يوما ما، فلا يمكننا أن نتخيل الحد التي سيتم فيه ذلك؛ فبمجرد النظر في الحد، يتم تجاوزه على الفور. انطلاقا من الدلالة الكلامية التي حددها أوستين، يحاول سيرل إنقاذ ما يسميه «الأفعال القضوية»[17]. غير أن وصفه لها كما سنرى يكاد يمحو اختلافها مع الأفعال الإنجازية. في كلتا الحالتين، فإن قيمة الفعل بعيدا عن كونها نتاجا لمعنى مسبق تُشكَّل من خلال القواعد التي تحكمه. من الأكيد أن سيرل في الصفحات التي خصصها للفعل الدلالي[18] كان مضطرًا من أجل تعريف هذا الفعل أن يرتكز على فكرة أن للجمل بدورها معنى ربما يكون بالضبط هو المعنى الذي خصه أوستين لتعريف الفعل الكلامي. غير أننا سنلاحظ أن سيرل يقول القليل عن هذا الفعل الذي يظل إذا جاز التعبير في أفق بحثه مثل الموضوع في بعض الفلسفات المثالية.

الخاتمة

على الرغم من الصعوبات التي تواجه المرء عندما يريد التخلص من فكرة المعنى المستقل عن فعل التلفظ وسواء كانت هذه الصعوبة ناتجة عن خجل الباحث أو عن مقاومة الأشياء، فيبدو أنه تم اتخاذ خطوة حاسمة مند سوسّور بظهور عمل سيرل. فبالنسبة إلى سوسّور، كان الأمر سيان: تأكيد الطابع الاجتماعي للغة واستقلالها عن النشاط اللغوي. لكن هذا كان خلطًا بين شيئين مختلفين: الأول بالكاد قابل للنقاش هو أن المتكلم في اللحظة التي يتكلم فيها يعتمد على الاصطلاحات الدلالية المتجذرة في المجتمع والموجودة مسبقا عن فعل الكلام الذي تسمح بإنجازه. يمكن أن نسمي اللغة مجموعة هذه الاصطلاحات التي يجب أن يحيل عليها التلفظ إذا أُريد أن يُفهم. بهذا المعنى، من المعقول تحديد اكتشاف اللغة موضوعا للسانيات مع التنبيه كما فعل سوسّور على أن هذا الاكتشاف هو بالضرورة بناء؛ لأنه يتعلق باصطلاحات غير مكتوبة وفي جزء كبير منها غير واعية. لكن، الوجه الثاني من العقيدة السوسّورية الذي مُيز بشكل سيء عن الأول، يتمثل في أن الاصطلاحات المعنية لا تحدد بشكل مباشر بالنسبة إلى الملفوظات المختلفة نوع الفعل الذي تسمح بإنجازه في هذه الظروف أو تلك: إنها تربط فقط الملفوظات بالمعاني التي فيما بعد وبحكم الظروف النفسية والاجتماعية للتلفظ سوف تشرح الوظائف التي يمكن أن تؤديها الملفوظات في النشاط اللغوي. هذه الأطروحة هي التي تبدو قابلة للنقد أكثر؛ إذ إن اكتشاف الأفعال الأدائية ثم تعميمها في نظرية الأفعال الإنجازية، يوضح أن بعض الملفوظات لا يمكن وصفها دلاليًا دون إشراك بعض آثار تلفظها. وهذه الآثار ليست نتائج ثانوية يستلزمها نقل المعني في سياقات معينة وتحت تأثير بعض القوانين النفسية الاجتماعية. على العكس من ذلك، لتحديد معنى الملفوظ أو معانيه إذا كان يغيرها وفقا للسياقات يصبح من الضروري توقع التداعيات التي ستكون له بحكم مواضعات اللغة على الموقف الخطابي. إذا حافظنا على رأي سوسّور بأن الاعتباطية هي معيار اللغوي؛ فلن تصبح العلاقة بين الدال والمدلول هي العلاقة الاعتباطية وبالتالي اللغوية، وإنما العلاقة بين الدال وبعض آثار لفظه. ثم يأخذ التشابه الذي وضعه سوسّور بين اللغة ولعبة الشطرنج قوة جديدة ويجب وصف القيمة الدلالية للملفوظ مثل تلك الخاصة بقطعة الشطرنج جزئيًا على الأقل كقيمة جدلية. هل يجب أن نحافظ «جزئيًا» على هذه؟ هل لعناصر اللغة إلى جانب قيمتها الجدلية، محتوى مستقل؟ هل توجد في اللغة نواة للدلالة غير قابلة للاختزال في النشاط الإنجازي؟ هذا هو المشكل المشترك الذي يجمع بين اللسانيات وفلسفة اللغة اليوم.

المراجع

References:

Benveniste, E. Problèmes de linguistique générale. Seuil, 1966.

Cohen, L. Jonathan. "Do illocutionnary forces exist? " Philosophical Review, 14, 1964.

Culioli, A."La formalisation linguistique," Cahiers pour l’analyse, juillet 1968.

De Saussure, F. Cours de linguistique générale. Payot, Paris, 1972.

Ducrot, O. "La description sémantique des énonçés français et la notion de présupposition". L’Homme, 1968.

Fillmore, C. J. "Deictic categories in the semantic of com". Foundations of language, 1966.

Gochet, P. "Performatif et force illocutionnaire". Logique et analyse, 1967.

Godel, R. Les Sources manuscrites du Cours de Linguistique Générale Genève, 1957.

Searle, J. R. "Austin on locutionary and illocutionary acts," hilosophical Review, Oct 1968.

–––. Les actes de langage, Essai de philosophie du langage. Collection Savoir – Hermann, Paris, 1972.

Strawson, P. F. "On refering" Mind, 1950.



* هذا البحث ترجمة للمقدمة التي كتبها اللساني الفرنسي أوزفالد ديكرو للترجمة الفرنسية لكتاب جون ر. سيرل: Les actes de langage Essai de philosophie du langage. Collection Savoir-Hermann, Paris, 1972، وأوزفالد ديكرو (1930) هو أحد أبرز اللسانيين الفرنسيين المعاصرين، وصاحب نظرية الحِجاج في اللسانيات مع جون كلود أسكومبر، له أعمال كثيرة، ويساهم بشكل فعال في الدراسات التداولية والتلفظية في فرنسا.

* This research is a translation of the introduction written by the French linguist Oswald Ducrot for the French translation of John R. Searle's book: « Les Actes of Language, Essai of Philosophy of Language. Collection Savoir-Hermann, Paris, 1972 » Oswald Ducrot (1930), one of the most prominent contemporary French linguists. He is the author of the argument theory in linguistics with Jean-Claude Ascomber. He has many works and contributes effectively to pragmatic and pronunciation studies in France.

[1]- من هنا جاءت عبارة «إن وجهة النظر تخلق الموضوع»، وهي عبارة سخيفة؛ لو لم يكن الموضوع أي شيء آخر غير المعطى التجريبي.

[2]- يعبّر سيرل عن هذا الأمر بقوله: إن الالتزام هنا عنصر مُكون للفعل.

[3]- يسمي أوستين على التوالي الصوتي والتركيبي والدلالي هذه الأفعال الفرعية الثلاثة من الفعل الكلامي lacte locutionnaire، تجدر الإشارة هنا إلى أننا سنستعمل مصطلح الكلام للدلالة على La parole، ومصطلح الفعل الكلامي للدلالة على La locution.

[4]- يعترف بينفنيست بحالة واحدة فقط لوجود الأداء؛ على الرغم من أن الملفوظ المستعمل ليس من النوع الإحالي الذاتي، ويكون ذلك عندما توفر ظروف التلفظ بوضوح إشارة الإحالة الذاتية. فعلى سبيل المثال، عندما يعلن رئيس جلسة بصفته الوظيفية أن الجلسة مفتوحة. فهذا الموقف يكفي لإثبات أن الأمر يتعلق بإضمار ل (أعلن افتتاح الجلسة).

[5]- قارن سيرل بإسهاب بين اللغة واللعب؛ لكننا لا نفهم سبب تقييده نطاق هذه المقارنة عندما يضيف أن اللغة عكس الشطرنج تحمل معنى. (cf.p 83). بالنسبة إلينا، فإن المعنى سواء كان في الاستفهام أو في ضربة الشطرنج موجود بالكامل في التعديلات التي يجريها على الموقف الخطابي. وغني عن القول إن المواضعات التي تحدد قيمة الملفوظات أكثر تعقيدًا من قواعد الشطرنج وذات طابع نسقي، في حين أن قواعد الشطرنج مستقل نسبيًا بعضها عن بعض. لقد طورنا هذه الفكرة في مقال بعنوان" Le structuralisme linguistique" نُشر في: (Quest-ce que cest le structuralisme? Paris: Le Seuil, 1968)؛ حيث نقارن اللغة بلعبة.

[6]- من المعروف أنه في اللاتينية، على سبيل المثال، يكون المخاطب المفرد في صيغة الآمر مشابها لجذع الفعل (Ama, Mone, Audietc).

[7]- نحن نعلم أن سوسّور لا يتحدث عن المعنى أو الدلالة، وإنما عن "المدلول"، ولسوء الحظ، فهو لا يستعمل كثيرًا في الواقع هذا التمييز.

[8]- الانتقاد الذي وجهه سيرل لشعار أصحاب فيجنشتاين "Meaning is use" (ص 197) (من كتابه الأفعال اللغوية، بحث في فلسفة اللغة، الترجمة الفرنسية، هرمان، باريس، 1972) (المترجم).

[9]- نوقش مفهوم الفعل الكلامي من قبل سيرل في مقالة "Austin on locutionary and illocutionary acts"، ص405-424.

[10]- تجدر الإشارة إلى أن المحادثة يمكن أن تستمر؛ وإن رُفضت الاقتضاءات ولكنها - في الواقع - تعد محادثة أخرى، ذات موضوع وبنية مختلفين وتحدث في عالم خطابي آخر. إن تبادل الكلمات الذي يبدو من وجهة نظر زمكانية مستمرا قد يتضمن في الواقع عدة حوارات متتالية. ونرى أن الحفاظ على الاقتضاءات هو أحد المعايير التي تحدد الهوية الداخلية للحوار.

[11]- مثل عالم المنطق والفيلسوف صاحب المفهوم ستراوسن، يميل سيرل إلى تقديم اقتضاءات ملفوظ ما كشروط استعمال لهذا الملفوظ. بالنسبة إلينا، إنه أثر إنجازي مرتبط مواضعة بالملفوظ.

[12]- بعبارة أدق، فإن هذه القوة لا ترتبط بـ "حتى" إلا بشكل غير مباشر، طالما أنها تحمل اقتضاءْ (هو الطابع المتناقض للقضية المقدمة من قبل حتى)، وتحول بالتالي الموقف الخاص بالمتحاورين وفقًا للقواعد العامة للاقتضاء.

[13]- من الممكن أن نُظهر باستعمال المصطلحات السالفة الذكر أن هذا الاستنتاج مُقتضى (أ) puisque (ب)؟؟؟؟.

[14]- بتعبير أدق، يستحيل جعل النفي أو الاستفهام أو التبعية مرتبطًا بالعلاقة المعبَّر عنها بـ puisque، لكن يمكننا القول: (Il est faux que Pierre soit venu, puisque sa voiture)؛ أي (من الخطأ أن يكون بيير قد جاء، لأن سيارته...)

[15]- خطأ أخيل في مفارقة السلحفاة (وفقًا للنسخة المنطقية للويس كارول) هو أنه لا يستدل أبدًا، ويكتفي بكتابة علاقات الاستنتاج على دفتره.

[16]- Culioli, Antoine, "La formalisation linguistique."

[17]- المرجع السابق، فقرة 4 و5.

[18]- لمرجع نفسه، ص83.