تاريخ الاستلام: 28 نوفمبر 2022
تاريخ التحكيم: 12 ديسمبر 2022
تاريخ القبول: 26 يناير 2023
محمود محمد ناصر كحيل
أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية، كلية الآداب والعلوم، جامعة قطر
يسعى هذا البحث إلى استجلاء أبرز عناصر المنظومة القيَميّة ورموزها التراثية التي استلهمها الشعراء الشعبيون في قطر، واستطاعوا توظيفها فنيًّا في أحد أهم أنواع الشعر الشعبي، وهو فنّ الموّال (الزّهيري).
ولما كان لفنّ الموّال بُعده التاريخي الذي يعود إلى أواسط العصر العباسي، وعمقه التراثي الذي يتضمن مجموعة القيم العربية والإسلامية المتوارثة، ويشكّل أحد الفنون السبعة التي شغلت جانبًا واضحًا من التراث الشعري العربي؛ فإنه من المفترض السؤال: إلى أي مدى عكس فنّ الموّال ما اختزنه من تلك القيم ورموزها الدينية والتاريخية والشعبية، في أساليب تعبيره الفنية الخاصة على نحوٍ تتضح فيه سماته الشعبية العامة، وقيمه التراثية التي عرف بها ولا سيما في قطر.
والهدف من البحث هو رصد تمثيلات هذه القيم ورموزها في شعر الموّال، وأثرها في إغنائها واستمرارها حتى يومنا هذا، من خلال دراسته، وتبيّن ملامحه، وفق منهج وصفي تحليلي.
الكلمات المفتاحية: الموّال، الزهيري، الشعر الشعبي، القيم، قطر، التراث العربي
للاقتباس: كحيل، محمود محمد ناصر. «استلهام القيم والرموز التراثية في شعر الموّال الشعبي في قطر»، مجلة أنساق، المجلد السابع، العدد 1 (2023)، عدد خاص عن "الأدب القطري"
© 2023، كحيل، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. تم نشر هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه؛ طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.
Received: 28 November 2022
Reviewed: 12 December 2022
Accepted: 26 January 2023
Mahmoud Mohamed Nasser Kaheel
Assistant Professor, Department of Arabic Language, College of Arts and Sciences, Qatar University
mahmoud.kaheel@qu.edu.qa
This research seeks to elucidate the most prominent elements of the value system and its traditional symbols that were inspired by the popular poets in Qatar, and how the poets were able to employ them artistically in one of the most important types of popular poetry, which is the art of the Mawwal (Al-Zuhairi).
The art of Mawwal has its historical dimension, which dates back to the middle of the Abbasid era, and its heritage depth includes a set of inherited Arab and Islamic values. In addition to that it constitutes one of the seven arts that occupied a clear aspect of the Arab poetic heritage. Therefore, it is necessary to ask the following question: To what extent does the art of Al Mawwal reflect what it has been stored of those values and their religious, historical and popular symbols, in its own artistic methods of expression in a manner that reveals its general popular features and its heritage values that it was known for, mainly in Qatar.
The aim of the research is to monitor the representations of those values and their symbols in the poetry of Al-Mawwal and their impact on its enrichment and continuity to this day, by studying it and identifying its features, according to a descriptive and analytical approach.
Keywords: Al-Mawwal; Al-Zuhairi; Popular poetry; Values; Qatar; Arab heritage
Cite this article as:, Kaheel, Mahmoud Mohamed Nasser. "Inspiration of Traditional Values and Symbols in the poetry of the popular Mawwal in Qatar"," Ansaq, Vol. 7, Issue 1 (2023), Special Issue on “Qatari Literature”
© 2023, Kaheel, licensee QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited.
لا ريب أن لكلّ حضارة قِيَمَها ورموزها، ولكل مجتمعِ مفاهيمه ونماذجه، وأن هذه القيم والمفاهيم وما يمثلها من رموز ونماذج هي ما يميّز حضارة من غيرها، ومجتمعًا من سواه. ومما لا ريب فيه أيضًا أن تلك القيم تشكل قوام الحضارة وأساسها وروحها، بوصفها من أبرز ركائز المجتمع السليم الآمن المستقر.
ولا جدوى من القيم - مهما بلغت من الرفعة والسموّ والمثالية - ما لم يكن لها وجود حقيقي في الواقع المعيش، من خلال الفعل الإنساني، المتمثل بالنماذج الإنسانية، التي تتحول بمرور الزمن إلى رموز مضيئة لتلك القيم.
وثمة علاقة وشيجة لا يمكن إنكارها أوتجاهلها بين القيم الثابتة الباقية والشعر، الذي يسعى دائمًا إلى تحقيق غاياته الجمالية بتجاوزه ما هو كائن إلى الإيحاء بما ينبغي أن يكون، ولا شيء أبلغ ولا أصدق في التعبير عن ذلك مثل تحقيق التآزر بين الجمالي والأخلاقي، والانسجام بين الواقعي والمثالي.
والعلاقة بين الفن والأخلاق مرتبطة بأكثر من وجه من وجوه العمل الفني، ولا سيما حينما يكون معبرًا عن مشاعر وعواطف تحمل في ذاتها مميزات أخلاقية، اكتسبتها من كونها تجسّد الوجدان الفياض بالانفعالات والعواطف الإنسانية تجسيدًا فنيًّا جماليًّا، وذلك بالتعبيرعن الذات، وما تعكسه من قيمٍ ومثُل قائمة في المجتمع، أو تتطلع إليها.
ولقد عرف العرب للقيمة مفهومها ودوافعها وغاياتها منذ القديم، وجعلوها معيارًا يميزون به الحَسَن من القبيح، والحقّ من الباطل، وكان لكلٍّ من تلك القيم ما يُعدّ رمزًا لها عُرف بها وعُرفت به، وقد عبّر عنها العرب بما كانوا يعدّونه "مكارم الأخلاق"؛ أي المنظومة الأخلاقية التي كانت سائدة آنذاك.
ولعل الشعر الشعبي العربي لا يختلف كثيرًا عن الشعر الفصيح في أخذه بتلك القيم، واستيحائها في منجزه الفني، بشتى أنواعه، من زجلٍ وأغانٍ ومواويل وقصائد وغيرها من الفنون الشعبية.
والشعر الشعبي هو قسيم فنون النثر الشعبية من حكاية وخرافة ووصايا وأمثال وغيرها. ولذلك فهو يشكل شطر الأدب الشعبي، الذي "يعبر عن مشاعر الشعب وأحاسيسه... ووجدانه، ويمثل تفكيره، ويعكس اتجاهاته ومستوياته الحضارية... وأكثر ما يميز هذا الأدب الشعبي أن لغته سهلة عاميّة أو أقرب إليها من الفصحى" (نصّار 11)، وهذا ما أشار إليه إحسان عباس أيضًا؛ إذ يقول: "وللتراث الشعبي ميزة هامة، لأنه تراث قريب حي... [و] أنه يمثل جسرًا ممتدًا بين الشاعر والناس من حوله، ... فهناك إحساس بأن الاتكاء على هذا التراث، لا يكفل التجاوب الأوسع مع ذلك الشعر وحسب، بل يقدم أيضًا شهادة على الاعتزاز بالموروث المشترك، ويكشف عن خوف دخيل من ضياع رابطة تعدّ مقدسة..." (118). وفضلًا عن ذلك فإن التراث القديم "جزء من الواقع ومكنوناته النفسية، وما زال التراث القديم بأفكاره وتصوراته موجهًا لسلوك الجماهير في حياتهم اليومية" (حنفي 16).
يفترض البحث أن شعر"الموَّال" ما يزال أحد أبرز أوجه النشاط الإبداعي الشعبي العربي، وربما كان الشعر الشعبي عامة، والموّال خاصة، هو الأكثر تعبيرًا عن نبض الحياة العامة وأشد التصاقًا بأخبار الشعب، بعيدًا عن مظاهر التأنق والتكلف.
و إذا كان شعر الموّال عامة و(الزهيري) خاصة لا يزال حيًا نابضًا في وجدان المجتمع الشعبي في الخليج، حتى اليوم بالرغم من انتهاء عصر الغوص والسفر، وهو الفن الشعري الذي يلتقي فيه الوجدان الذاتي للمبدع الفرد بالوجدان الجمعي للشعب (النجار123)، فإنه يصحّ التساؤل عن مدى نشدان الشاعر الشعبي القيمَ الأصيلة الموروثة، وعن مبلغ تعبيره عن طبيعته التي تلح في طلب القيمة الإيجابية وتشخيصها في نماذج إنسانية قريبة؛ لأنه يعيش الواقع بكل تفاصيله ويحيا المعاناة اليومية، وهو أكثر مَن يبحث عن القيمة متمثلة متجسدة، وأكثر من يقدّرها ويصورها في فنه الذي يحسنه؛ ذلك أنَّ تمسُّك الشاعر الشعبي بإبراز الرموز التراثية التي تمثل القِيم سواء أكانت دينية أم تاريخية أم أدبية أم غير ذلك، يُفترض أن يعكس بوضوح ما يمكن تسميته بـ"أنْسَنة" القيم وتجسيدها مما يهيّيء للاحتكاك بها وتمثّلها والانتفاع بها، على نحوٍ واقعي، بعيداً عن فضاء النظرية والمجاز والمبالغة.
لقراءة ظاهرة استلهام القيم ورموزها التراثية في شعر"الموّال" في قطر لا بد من نبذة قصيرة من أجل تعريفه وتأريخه وبيان أنواعه وخصائصه، ومن ثمّ رصد هذه الظاهرة ووصفها، وتحليل بعض نماذج الموّال، وإبراز الأبعاد الدينية أو الشعبية أو الاجتماعية وغيرها مما يتسم به، بالاعتماد على أبرز المصادر والكتب التي جمعت نصوصه وشرحته وحققته، وهي: (شعراء الموال "الزهيري" في قطر)، و(الموّال في قطر - بحث في سيرة الموال وأربابه)، على الرغم من وجود كثير من النصوص نفسها في الكتابين معًا، وفي كتاب (مواويل من الخليج) بجزأيه. وقد جمع نصوص هذين الكتابين وشرحها وحققها علي شبيب المنّاعي، الذي اعتنى بجمع شعر الموّال القطري عناية بالغة، وحرص على توثيقه وتحقيقه والتعريف به.
ولما كان معظم ما كُتب حول شعر الموّال يتناول جمعه وشرحه، وتأصيله تاريخيًا، والتعرض لأنواعه وأشكاله وأساليب نظمه؛ فإن ولوج أفق جديد مغاير في درسه وتحليله وفقًا لمناهج مختلفة واتجاهات ورؤى متعددة بات ضرورة، من أجل إثراء مناحي البحث في معينٍ إبداعي قلّ وُرَّاده، وندر من يُعنى بدرسه وتحليله ونقده.
ربما كان من الطبيعي أن تختلف الآراء حول تسمية هذا الفن الشعري الشعبي بالموَّال؛ نظرًا لأنه يعدّ من الفنون الشعرية الشفاهية، التي انتقلت بالحفظ والرواية، حتى عهود قريبة، ومن تلك الآراء أنه سُمِّي بالموال لأن هذه الكلمة اشتُقت من كلمة (وامواليا) أو (يا مواليا)، التي ندبت بها جاريةٌ ساداتها من البرامكة بعد نكبتهم أيام الخليفة العباسي هارون الرشيد؛ إذ قالت:
يَا دَارُ أَيْنَ مُلُوكُ الأرْضِ أينَ الفُرْسْ |
|
أَيْنَ الّذينَ حَمَوْهَــــــــــــا بالْقَنَـا والتُّرْسْ |
قالَتْ: تَرَاهُمْ رِمَمْ تحتَ الأرَاضِي الدّرْسْ |
|
سُكُوتْ بَعْدِ الفَصَاحَةْ أَلْسِنَتْهُمْ خُرْسْ |
ثم صاحت الجارية: وامواليا وامواليا، فشاعت هذه التسمية (شهاب الدين 2/105).
وقد اتفق كثير من الباحثين[1] الذين كتبوا في موضوع (الموَّال) على أن أول ظهوره كان في العراق، وأن أهالي مدينة بغداد هم الذين احتضنوه، وطوّروه أول الأمر، فحذفوا منه الإعراب، واعتمدوا سهولة الألفاظ ورشاقة المعاني، ونوّعوا في أغراضه وأساليبه. وفي أواسط القرن الثالث عشر الميلادي وبعد سقوط مدينة بغداد انتقل فنّ الموال الرباعي إلى بلاد الشام، ثم تابع إلى مصر؛ إذ تطوّر واغتني بتلوينات وأنماط مختلفة تبعًا لطبيعة البيئة الإقليمية والمحليّـة التي استقرّ فيها.
ومن المرجّح أن أول من تحدث عن الموّال، أو المواليا - كما كان يسمّى - الشاعر صفي الدين الحِلّي (667-752هـ)، فقد جاء في كتابه (العاطل الحالي والمرخص الغالي)، حديثه عن المواليا ضمن فنون الشعر السبعة؛ إذ يقول: "وعند جميع المحققين أن هذه الفنون السبعة؛ منها ثلاثة معربة أبدًا، لا يُغتفر اللّحن فيها؛ وهي: الشعر، والموشح، والدُّوبيت،... ومنها ثلاثة ملحونة أبدًا، وهي: الزجل، والكان وكان والقُوما، ومنها واحد وهو البرزخ بينهما، يحتمل اللحن والإعراب، وإنما اللحن فيه أحسن وأليق وهو المواليا، ... وجعلوه معربًا كالشعر البسيط إلا أنه كلٌّ بيتين منها أربعة أقفال بقافية واحدة. وتغزلوا به ومدحوا، وهجوا، والجميع معرب إلى أن وصل إلى البغاددة، فلطّفوه، ولَحَنوه، وسلكوا فيه غاية لا تدرك" (الحلّي 3، 4). ويضيف في موضع آخر من الكتاب أن المُوَالي "له وزن واحد، وأربع قواف على روي واحد، ومخترعوه من أهل واسط، ... ثم شاع في الأمصار، وتداوله الناس في الأسفار. وإنما سمي بهذا الاسم؛ لأن الواسطيين لما اخترعوه، وكان سهل التناول لقصره، تعلّمه عبيدهم المتسلّمون عمارة بساتينهم، والفُعول، والمعامرة، والأبّارون؛ فكانوا يغنّون به في رؤوس النخيل، وعلى سقي المياه، ويقولون في آخر كل صوت مع الترنّم: يامواليا، إشارة إلى ساداتهم، فغلب عليه هذا الاسم وعُرف به" (الحلّي 105و107).
وينقل ابن خلدون (732-808هـ) في (مقدّمته) عن صفي الدين الحلّي قائلًا: "ورأيت في ديوان الصَّفيِّ الحِلِّيّ من كلامه أنّ المواليا من بحر البسيط، هو ذو أربعة أغصانٍ وأربع قوافٍ، ويسمى صوتًا وبَيْتَين، وأنه من مخترعات أهل واسط" (837).
وقد تابع الحلّيَّ وابنَ خلدون في ذلك ابنُ حجّة الحموي، (767-837هـ) في كتابه (بلوغ الأمل في فن الزجل)، فرأى أن المواليا هو أحد الفنون السبعة إلى جانب الشعر والموشح والدوبيت والزجل والكان كان والقوما، وأما فن المواليا فهو بين الإعراب واللحن، ولذا سمّي بـ(البرزخ). واللحن فيه أحسن وأليق (138-139).
وجاء في كتاب (سفينة الملك ونفيسة الفلك): "اعلمْ أنه قد قيلَ: إنَّ أوَّلَ مَن نطقَ بالمُوَالَى أهلُ وَاسِط، وإنَّ أوَّلَ ما تكلَّمُوا به منه قول بعضهم:
مَنَازِلٌ
كنتَ فيها
بعدَ بُعْدَكْ
دُرْسْ |
|
خَرَابْ
لا لِلعَزَا
تَصْلُحْ
ولا
لِلعُرْسْ |
فأينَ
عَيْنَيْكَ
تَنْظُرْ
كيفَ فيها
الفُرْسْ |
|
تَحْكُمْ
وأَلْسِنَةُ
المُدَّاحْ
عنها خُرْسْ |
وقد اختُلِفَ في سببِ تسميتهِ بهذا، فقيلَ: سمِّي بهِ لِمُوَالاةِ بعضِ قَوَافِيهِ بعضًا، وقيلَ: لأنَّ أوَّلَ مَن نطقَ بهِ مَوَالِي بني بَرْمَكْ، أو لأنَّهُ كانَ أحدُهُمْ إذا نَعَى مَوَالِيَهُ قالَ: يا مَوَالِيَّا كما نقل عن الجلال، فهو على الأوَّل مُوَالَى، بِضَمِّ الميمِ وفتحِ الواوِ مخفَّفةً، وبعد الألفِ لامٌ مفتوحةٌ، على صيغةِ اسمِ المفعول، مِن وَالاهُ يُوَالِيه، إذا تابعه. وعلى الثانية مَوَالِي بفتح الميم والواو وكسر اللام على صيغة الجمع، أو مَوَالِيَّا بزيادة ياء المتكلم وإدغام الياء ولُحُوقِ الألفِ للإشباع، ويحتملُ عدمُ تشديدِ الياءِ تخفيفًا، فإني لم أَرَ نصَّا على ضبطه. وهو من بحرِ البسيط، ووزنُهُ واحدٌ على اختلافِ تنويعِ آخرهِ مع قوافيهِ إلى وزنِ فَاعِلْ ومَفْعُولْ وفَعَّال وفَعَّل وافْعَلْ، وغير ذلك.
فَمِمَّا كانَ على وزنِ فاعِل قولُ بعضِهم:
يَا
نَفْسُ
قَاسِيْ
صَبَابَاتِ
الهَوَى قَاسِيْ |
|
الحِبّْ
مِنْ بَعْدِ
لِيْنُهْ قد
غَدَا
قَاسِيْ |
وقَدْ
مَلا مِنْ
مُدَامِ
الهَجْرِ
لِيْ
كَاْسِيْ |
|
حتَّى
غَدَا
بِثِيَابِ
السُّقْمِ
لِيْ كَاسِيْ |
وعلى هذا فَقِسْ. وبالجملةِ فهو مِن الفُنونِ التي لا يَلْزَمُ فيها مراعاةُ قوانينِ العربيَّة،... وهو يَنقَسِمُ إلى رُبَاعِيٍّ وأَعْرَجَ ونُعْمَانِيّ (شهاب الدين 2/105 ومابعدها).
تطور شعر الموّال عبر الزمان، فتعددت أنواعه وأشكاله، وقد كان الموّال ذو الشطرات الأربع والقافية الواحدة هو الأصل، كما جاء في النماذج الأولى المرتبطة ببداياته، ثم تعدد ت أنواعه إلى الخماسي والسباعي والمطاول وغيره (قلعجي 14)، والموّال السباعي هو نفسه البغدادي والنعماني والزهيري، ومردّ اختلاف التسمية إلى اختلاف البيئة والإقليم الذي شاع فيه هذا الفن الشعري، فقد انتقل من موطنه الأصلي في واسط، فبغداد في العراق إلى كلٍّ من الخليج العربي وإلى الشام ومصر، فهو النعماني والزهيري في العراق والخليج، وهو السبعاوي والشرقاوي في الشام، والسباعي أو المربوط في مصر (النجار 123 ومابعدها؛ قلعجي 10 ومابعدها).
ويتكون الموال الزهيري من حيث الشكل من "سبع شطرات، كل ثلاث منها تشكل مجموعة مشتركة أو متفقة أو متجانسة في قوافيها (عتبة + ردفة)؛ أما الشطرة السابعة فترجع إلى قافية المجموعة الأولى، وتشترك معها في حرف الروي، وتسمى الغطاء أو الرباط؛ لأنها تربط الموال كله في وحدة واحدة" (النجار 123 ومابعدها)، وعلى هذا يكون شكل الموال وترتيب شطراته وقوافيه على النحو الآتي: (أ. أ. أ – ب. ب. ب - أ)؛ أي تتفق الشطرات الثلاث الأولى والسابعة في رويٍّ واحد وقافية واحدة، في حين تكون الشطرات الرابعة والخامسة والسادسة على رويٍّ آخر وقافية أخرى، ولكن كلمات القوافي جميعها تعتمد الجناس (اتفاق الألفاظ واختلاف المعاني). وأما وزن الموّال فهو على البحر البسيط كما تقدم، اعتمادًا على النطق واللفظ بحسب اللهجة المحكيّة وليس على الكتابة، ولذك يكثر في ضبطه التسكين والإمالة والحذف والزيادة.
وللموّال الزهيري في قطر والخليج - فضلًا عن كونه لونًا شعريًا من ألوان الشعر الشعبي وفرعًا من فروع الموّال بمفهومه العام - بُعدٌ وطني يصل الماضي بالحاضر ويبشر بالمستقبل، لكونه معبّرًا أصدق التعبير عن معاناة الآباء والأجداد وكفاحهم في سبيل العيش وطلب الرزق، وصراعهم مع الطبيعة، من خلال ارتباط عملهم بالبحر والغوص على اللؤلؤ، ومكوثهم بعيدًا عن الأهل والديار زمنًا طويلا. وربما انعكس ذلك في شعر الموال بِسماتٍ مختلفة، لعل أبرزها مسحة الحزن المشوب بالأسى والحنين، وارتباطه بالغناء، الذي كان يقوم به ما يعرف بالنَّهام (المالكي 5، 6).
ويتسم الموّال الزهيري في قطر بالرقيّ في أسلوبه وفي طريقة سبكه ورسم صوره ومعانيه وإحكام قوافيه، وهو مقصور في الغالب على الشعراء المقتدرين فنيًّا من أمثال الشاعر الفيحاني، فهو: "أحد أبرز أساتذة الشعر الشعبي لقدرته الفائقة على سكب معانيه الرقيقة؛ إن كان في أبيات قصائده الرائعة أو في أشطر مواويله، بل إنه طوّر في تقطيع جمل موّاله وإكسابها جملًا لحنية، إضافة إلى الإيقاع الموسيقي الثابت لشطر الموال" (الفياض والمناعي271).
ولعل من نافلة القول إن التراث الديني الإسلامي الحافل كان المعين الذي لا ينضب أمام شعراء الموّال (الزهيري) والشعراء الشعبيين في قطر خاصة والشعراء عامة، يستلهمون منه ما يعبّرون عنه أو به عن تجاربهم الإنسانية المختلفة والمتباينة، ونعني بالتراث الديني القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، وكل ما جاء فيهما أو واكبهما من قصص وأحداث، وشخصيات ماضية أو لاحقة.
يعدّ "التراث الديني في كل العصور ولدى كل الأمم مصدرًا سخيًّا من مصادر الإلهام الشعري، حيث يستمد منه الشعراء نماذج وموضوعات وصورًا أدبية ... فلم يكن غريبًا إذًا أن يكون الموروث الديني مصدرًا أساسيًّا من المصادر التي عكف عليها شعراؤنا المعاصرون واستمدّوا منها شخصيات تراثية عبروا من خلالها عن جوانب من تجاربهم الخاصة". (زايد 75، 76).
وهذا لا يقتصر على شعراء الفصحى فحسب، وإنما ينطبق على الشعراء الشعبيين أيضًا، ومنهم شعراء الموّال في قطر وغيرها. فالشعر الشعبي يحفل بالكثير من الرموز والإشارات إلى الحوادث المهمة القديمة أو الحديثة. ويعلل أحد الباحثين وفرة تلك الإشارات والرموز التي تشير إلى حوادث تاريخية أو أساطير أو بعض المعتقدات، بأن "تلك الحوادث معروفة بخطوطها العامة في أذهان أغلب الناس، وإن كانت صور المعرفة مختلفة ومتباينة في التفاصيل. فكلمة (أيوب) ترد في الشعر والنثر لتدل على الصبر العظيم يقاسيه الشخص كحال أيوب النبي، ولفظة (يوسف) تذكر للإشارة إلى الجمال الفائق، كما أن لفظة (يعقوب) تذكر للإشارة إلى مقدار ما يعانيه الأب عند فقد ولده" (السامرائي 38، 39).
لقد استمدّ الشعراء الشعبيون رموزهم من مصادر التراث المختلفة، ووظفوها في نصوصهم، ولا ريب أنّ أسلوب التعبير بهذه الرموز يعتمد على الحصيلة المعرفية التي تتّصل بالأديان والتاريخ القديم في مجتمع ما، بحيث تصبح هذه المعرفة جزءًا من الوجدان الجماعي. وبمجرّد أن يُلْمِح الشاعر إلى فكرة تتعلّق بشيء من هذه المعرفة الجماعية بكلمة أو عبارة، فإنّ الذاكرة تستحضر مجموعة من الأفكار والصور التي تضيء جانبًا من تاريخ دين أو شعب، أو سيرة بعض رجالاته ورموزه.
ومن أبرز تلك المصادر القرآن الكريم بما اشتمل عليه من قصص الأنبياء، والصالحين، وبما أشار إليه من مفاهيم وقيمٍ أخلاقية تتصل بالفرد والمجتمع والإنسانية عامة، ولم يقتصر صنيع أولئك الشعراء على استدعاء تلك الرموز والإشارة إليها، أو الاستشهاد بها؛ لتعزيز فكرة، أو صورة أو موقف، وإنما تجاوزوا مرحلة التعبير عنها والتمثل بها إلى مرحلة توظيفها والتعبير بها عن أفكارهم وصورهم ومواقفهم. فأكدوا بذلك عمق الصلة التي تربطهم بتلك الرموز والقيم الموروثة، والحرص على تأكيدها وترسيخها من خلال استدعائها من عصرها القديم وإعادة إنتاجها كلّ على طريقته وأسلوبه، مما أثرى تجاربهم وأغنى وسائل التعبير الفني لديهم، وعزَّز ارتباطهم بمجتمعهم وثقافته.
كثيرًا ما لجأ شاعر الموّال الشعبي إلى مصادر تراثية عربية وإسلامية، يستمد منها مقولات وعبارات ومفاهيم وقيمًا، يستمزجها ويحرص على ترصيع نصوصه بها، تأكيدًا للهوية وتعزيزًا للانتماء، وحجّةً ودليلًا يقدمه بين يدي الفكرة أو المعنى أو الصورة، مما يشكل قوام نص الموّال عنده، وربما اتخذ منها زينة وحلية. وهو في هذه الأحوال جميعها إنما يعكس من خلالها أنماطًا من الثقافة الشعبية السائدة في المجتمع.
ولعل من أبرز هذه المقولات والعبارات والألفاظ التي وظفها الشاعر الشعبي في شعره، تلك التي تنتمي إلى المصدر الديني الإسلامي، وأول ما يذكر من ذلك الاستلهام من آيات القرآن الكريم، لفظًا ومعنًى، وقيمًا ومفاهيمَ، وقصصًا وشخصيات. وفي قراءة نصوص الموال لا نكاد نجد نصًا منها يخلو من مثل ذلك الاستلهام أو الاقتباس أوالتناص، الكلّي أو الجزئي للآية القرآنية، أو القصة أو المشهد.
وذلك من مثل: بَعْثِ الأمل بالفرج بعد الضيق وباليُسر بعد العسر، كما في ختام أحد مواويل عبد الله بن سعد المهندي؛ إذ يقول: "راجي رِجا مِنْ إذا ما راد لي سرّني.. كم أبدَلَ الله حالاتِ العِسِرْ باليِسِر" (المناعي: شعراء 101)، وكما في قول صالح بن سلطان الكواري يخاطب سعود بو مطر الكواري: "ويش الحَول يالزيمي في ضيعة البسمله.. بآموت من سِبّتِه وِقروا لي الفاتحة" (المناعي: شعراء 78). وقال سعيد بن سالم البديد المناعي من موّال له يشكو فيه حاله (المناعي: شعراء 48):
ياالله ياخالقي تِفرجْ همومِ القَلِبْ يا عالم الحَالْ يالّلي بالفلكْ دايرْ
ويعبّر يوسف المالكي عن الإيمان المطلق والتسليم الكامل لأمر الله عزّ وجلّ، فيقول: "الأمر لله وحِكمِهْ في الخلقْ جاريه" (المناعي: شعراء 180). ومن الشعراء من يقسم ببعض سور القرآن الكريم (الفرقان والنّحل) على صدقه (المناعي: شعراء 167)، ومنهم من يردد أن المرء لن ينفعه شيء من الدنيا في قبره بعد موته إلا الله وما قدّم من صالح الأعمال: "ما ينفعكْ غير ربّك في القبر وِالعَملْ" (المناعي: شعراء 168)، أو يذكّر بأن الخلود مستحيل والحياة لا تدوم لأحد حتى الأنبياء: "ما دامت الفانية لآدمْ ولامِنْ نِسَلْ" (المناعي: شعراء 169)، أو ينصح بتلاوة بعض الآيات القرآنية مثل: السبع المثاني، ولامات الجلالة (لاإله إلا الله)؛ للتحصّن من الحسد (المناعي: شعراء 113). وهذا في شعر الموّال في قطر كثير كثرةً تتناسب ووُسْعَ ثقافة المجتمع العربية الإسلامية.
ولاستيضاح هذا المنحى في استلهام التراث الديني المتمثل بالقرآن الكريم ومفاهيم الإسلام وقيمه وشعائره، ومايتصل بذلك نقف على بعض النماذج الكاملة من نصوص الموّال في قطر، فنجد أن معظم ما جاء في هذا السياق فضلًا عمّا تقدّم ذِكره كان من قبيل الدعاء لله بتفريج الكرب أو الشفاء من الأسقام، وكشف الضرّ، وتيسير ما تعسّر من الأمور، والتوبة وطلب المغفرة. فثمة من الشعراء من دعا الله مستشفعًا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وببعض الأنبياء، ومن ذلك هذا الموال الذي أنشده يوسف عبد الله المالكي، وكان مريضًا (المالكي 19):
ياالله بجـــــاه النبيّ وآياتهِ العظمى |
|
تِغفِـرْ ذنوبي معْ زلاتيَ العظمـــى |
مالي سواكْ أرتجي ياكاشف العظمى |
|
مولاي كلّ الخلايق ترتجي رحمتك |
كم من سقيمٍ تعافى والسّببْ رحمتك |
|
أيوب يـــومْ ابتلى ادّاركتْ رحمتك |
سبحانْ رَبِّ كَشفْ عنْ نوحْ كلّ عظمى |
ومن نافلة القول، أن حرص الشاعر على ذكر كلٍّ من النبي أيوب ونوح عليهما السلام بالتحديد كان منسجمًا كل الانسجام مع فحوى دعائه وتضرّعه إلى الله، لما في تجربتيهما من صلة وثيقة بحال الشاعر في سقمه الذي يعانيه، فهو يستلهم من صبر النبي أيوب على ما ابتلي به من الأسقام، راجيًا من الله نهاية لعذابه وألمه كنهاية عذاب النبي بالشفاء التام، وكذلك ما يتعلق بالنبي نوح عليه السلام الذي عانى من قومه وتكذيبهم إياه واستهزائهم به زمنًا طويلًا، إلى أن تكلل صبره بالنجاة من الطوفان العظيم مع من آمن به. ولعل القيمة المشتركة بين أيوب ونوح عليهما السلام هي الإيمان القوي والصبر الجميل.
واستلهام القيم في المواويل على هذا النحو ليس بدعًا؛ فهي، كما يرى حسن حنفي، كلها تحضّ على الصبر (18). ولا ريب أن ذكره للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في البداية وتشفعه به لما له عند ربه من الكرامة والفضل وأنه الرحمة المرسلة للعالمين يشير بوضوح إلى إيمان الشاعر وصدق مشاعره من جهة، وإلى ما هو راسخ في الثقافة الشعبية، ومرجعيّتها الروحية الإسلامية، من جهة ثانية.
وللشاعر سعيد بن سالم البديد المناعي مسبّحًا وداعيًا المولى عزّ وجلّ قوله (المناعي: شعراء 53):
سبحان رَبِّ العَرشْ لا راد حِمْلِكْ يِضَعْ |
|
غفَّار لِذْنوبْ يِرفَعْ كِلِّ حِمْلٍ يِضَعْ |
لاتشتِكي لِلّذي مثلي فلا هَــــــوْ يِضَعْ |
|
إدْعِ الإلـهِ الّذي بِسْمِهْ لَـــهْ الرَّادِهْ |
غفّــــار لِذنوبْ يِسْمَحْ لك عِــذِرْ رادِهْ |
|
إلاّ الذي قـــدْ عَصَوْا للنارْ ورَّادِهْ |
يَغْفِرْ لِمنْ تابْ وِيِرْفَعْ كلِّ حِمْلٍ يِضعْ[2] |
وقال الشاعر يوسف المالكي(المناعي: شعراء182):
يــــاالله يــارافـعٍ سَبْعٍ وِباسِـطْ سَبِعْ |
|
أسألكِ بَاسْماكْ وآيـــــاتِ المثاني سَبِعْ |
أسألكِ بَاسْماكْ وآياتِ المثاني سَـــبِعْ |
|
ياكاشِفِ الضُّرّ عنْ "أيُّوب" يـوم ابْتلى |
"يُونِسْ" بِوِسْطِ البَحَرْ يِسْألْك يَومِ ابتلى |
|
وماخابْ عبدٍ سَــألْ مولاه يَـــوُمِ ابتلى |
بالكافْ وِالنُّونْ إِرْحَمْ مِنْ شِــكى لك سَبعْ[3] |
وكما هو واضح في المثالين السابقين فإن شعراء الموّال لا ينفكّون عن تمثّل القيم الإسلامية واستلهام ما يرمز إليها، سواء أكان ذلك من خلال ألفاظ ومعان وقيمٍ ومفاهيم قرآنية إسلامية، أم كان ذلك من خلال استدعاء أسماء لشخصيات تمثل تلك القيم وترمز إليها عبر العصور، ولا سيما أسماء الأنبياء وشخصياتهم، وأبرز أحداث حيواتهم مما يتصل بالقيم التي تجلّت في شخصياتهم، وغدوا رموزًا لها. فالتسبيح والتوحيد وطلب المغفرة، والتذكير بآلاء الله وقوته وعظمته ورحمته، كل ذلك مما يؤكد المنحى الأول، وكذلك فإن التركيز على بعض شخصيات الأنبياء ممن تتكرر تجاربهم في الابتلاء والصبر والمحن ومن ثم البشرى والفرج والطمأنينة، من مثل أيوب ونوح ويونس ويعقوب عليهم السلام، يؤكد نزوع الشعراء الدائم نحو وصل الحاضر بالماضي والاستئناس بتجارب السابقين ونجاحهم فيها، مما يبعث في النفوس القوة على مجابهة الصعاب، ويجدد الآمال بالمستقبل الأفضل، ويمدّ الإنسان المؤمن بطاقة كبيرة يستعين بها على مشاق الحياة ومصائب الدنيا.
لا شك أن ما تقدم في الفقرة السابقة في الحديث عن استلهام شعراء الموال في قطر شخصيات بعض الأنبياء والمرسلين، واستدعائها لكونها تمثل رموزًا للقيم السامية التي ينشدها الإنسان، لا ينفصل البتّة عن مضمون هذه الفقرة ومادتها المعرفية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى عدم القدرة على الفصل بين ما هو ديني وما هو تاريخي وربما أسطوري فيما يتعلق بشخصيات الأنبياء، وما رسخ في الذاكرة الجمعية الشعبية من المعلومات والأخبار والمرويات والتصورات المتداخلة التي تتعلق بهم. ذلك أن "الأواصر بين المصادر التراثية شديدة التشابك وأن التمييز بينها ليس حاسمًا، وأنه من الممكن أن تتوزع الشخصية بين أكثر من مصدر تراثي" (عشري 186).
بيد أن ما يمكن الاطمئنان إليه أن شخصيات أولئك الأنبياء في التصور الشعبي يقوم على المعرفة الدينية أساسًا، كما جاء في أخبارهم وقصصهم في القرآن الكريم، وليس من التاريخ. وربما كان لنماذج من التفسير القرآني البسيط المتداول أثر في تشكيل الصورة النهائية لهم، ولذلك نجد أن الشاعر الشعبي يركّز على جانب معين، أو حادثة بعينها، أو صفة محددة في شخصية هذا النبي أو ذاك، وبعبارة أخرى إن شاعر الموّال كان يعكس الثقافة الدينية البسيطة للمجتمع في تعبيره الفني، ولا يكاد يجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك حتى ولو كان على قدر وافر من المعرفة والثقافة والعلم، فالنبي نوح عليه السلام رمز للحياة المديدة والصبر الطويل، والامتثال لأمر الله، الذي كان من نتيجته النجاة من الغرق، وبثّ الأمل بحياة جديدة صالحة، وقد مرّ بنا أمثلة على ذلك، وربما كان في المثالين الآتيين ما يؤكد ذلك. وفي هذا المعنى يخاطب الشاعرحمد بن مبارك البودهيم المالكي عوض اليامي من أهالي مدينة الخور بقطر (المناعي: شعراء 36):
حَطّيتَ أنَـــا للفِهِمْ بِلْدٍ مَعَا نْايلـــهِ |
|
ومَرْكب َرامي مِشى مِسْتَعْمِلِ النايْلِــــه |
ومَرْكب َرامي مِشى مِستَعْمِلِ النايْلِه |
|
يا مِنْجِيٍ "نوح" مِنْ عِقْبِ الغريقِ بْفَرَجْ |
كِلّ الخلايـــقْ تِسالِكْ تِرْتجِيِّ الفَرَجْ |
|
وبيسٍ بَها دار فيهـــــا "نصيب وفَرَجْ" |
لك بَشْتكي يا "عَوَضْ" .. يا راعي الطَّايْلَة[4] |
وقد يجد الشاعر في قصة كلٍّ من النبيّ يعقوب والنبي أيوب عليهما السلام رمزًا لقيمة الصبر، والاعتصام بها لاجتياز المحنة مهما طال أمدها، فيستلهمها في أحد نصوصه ليجعل منها ملهمًا لكل من يريد التغلب على الشدائد وأسوة لمن يسعى إلى تجاوز المحن والمصائب، كما في قول ابن ربيعة (ابن ربيعة 49):
لي صَكْ عليك الزمان دْرُوبَهْ عليكْ بالصَّبِرْ |
|
النَّبِيْ أيّوبْ بَرِي يومٍ تِمَسَّكْ بالصَّبِرْ |
ويعقوب يـــــومٍ فَقَدْ يوسفْ تِزَيَّنْ بالصّبرْ |
|
وُلْد الحمايلْ يظهرْ وقتِ الشَّدايــــدْ |
لي طاحِ الجملْ طاح اللّي على الشَّدايـــــدْ |
|
مِنْ صبَرْ هانتْ عليه أهوال شدايــدْ |
يا من صبّر أولو العزم .. جمّلنا بالصبر[5] |
ويروى أن الشاعر القطري يوسف عبد الله المالكي سافر مع ابنه يعقوب إلى الهند للعلاج هناك ولكنها لم تعجبه، فنظم هذا الموال سنة 1401هـ (المالكي 35):
الهنـــــد ما وافقت ويّـــاي يا يعقوب |
|
عوار في الرأس وأيّا صدام يا يعقوب |
الله كريـــــــم يزول الهــــمّ يايعقوب |
|
الألم في الراس وأرجو رحمتك يارب |
أشكي لك الحال وارحم غربتي يارب |
|
ناجاك يونس وفرّجت كربته يــارب |
أنجيت يوسف ورجّعته على يعقوب |
ففي كلا الموّالين السابقين تظهر بوضوح ملامح من المعاني والمفاهيم التي تصدرعن منظومة إيمانية روحية جماعية، تعكس ثقافتها الدينية والمجتمعية السائدة، وهي بلاشك ثقافة شعبية تمتح من المفاهيم والقيم الإسلامية، متجلية في أحداث تاريخية ترتبط بشخصيات الأنبياء(نوح ويعقوب ويونس ويوسف) عليهم السلام، والجامع بينهم قيم الصبر والتقوى والحزن، التي تمسّك بها أولئك الأنبياء، فكان جزاء ذلك النجاة والفَرَج والفرح. ولعل في اختيار هؤلاء الأنبياء بالذات للتعبير عن تجربة الشاعر ما يؤكد أنهم كانوا يمثّلون رموزًا لتلك القيم في نظر الكثير من أفراد المجتمع، فلولا صبر نوح على قومه الجاحدين المستهزئين، ودأبه في التعلق بالوعد الإلهي بالنصر، والمتمثل في نجاته مع من آمن به وغرق سائر الآخرين ممن كذّبوه وضايقوه. ولولا صبر يعقوب على فقد أحبّ أبنائه إليه سنين طويلة، والابتلاء بالعمى حزنًا عليه، وتقوى يونس وصبره على العقوبة في بطن الحوت، إلى أن جاءه الفرج، وأفاض الله عليه النّعَم الجزيلة والعطاء الجمّ، لولا ذلك كله لما كان للقيم التي تجّلت في شخصياتهم وفي أعمالهم وسلوكهم ما يدعو إلى تمثّلها والتحلّي بها وممارستها في الواقع المعيش، وامتداح من تتجلى في شخصيته وسلوكه.
وما من شك في أن قصة النبي يوسف عليه السلام تحفل بأنواع من الدلالات، وضروب من الرمز، تفتح آفاقًا رحبة للتفسير والتأويل، مما هيّأ لتوظيفها في النصوص الإبداعية على نحو غير محدود. فثمة عناصر كثيرة انطوت عليها أحداث القصة وشخصياتها، تحولت إلى رموز تختزن قيمًا جوهرية صالحة للتمثّل في كل زمان ومكان، ولاريب أن الشخصية المحورية لتلك القيم ورموزها هي شخصية النبي يوسف عليه السلام، فإذا كانت شخصيته تمثل المركز فإن الشخصيات والأحداث الأخرى الواردة في القصة - في إطارها الزماني والمكاني المتغير - هي الأطراف المقابلة المرتبطة بالمركز، وهي: إخوته، وأبوه، وبائعوه، وامرأة العزيز، ونساء المدينة، وصاحباه في السجن، والملك وأخوه الصغير. ومن الأحداث والأشياء: الجبّ والذئب والقميص، والباب، والسّكين، والقافلة، والبضاعة، وصواع الملك.
والحق أن أكثر ما كان يجذب الشعراء من تلك العناصر والرموز هو ما اتصل بفكرة غدرالإخوة وكيدهم بيوسف الغلام، وحزن الأب عليه، وقصة النبي يوسف الشاب الوسيم مع امرأة العزيز، والأحلام وتأويلها.
بيد أن الشعراء الشعبيين ولا سيما شعراء الموّال في قطر والخليج خاصة ركزوا في استلهام قصة يوسف عليه السلام على أمرين، الأول: البعد الجمالي المتمثل في شخصية يوسف الذي فاق البشر حسنًا وجمالًا، وعناصر الفتنة والغواية التي أحاطت به، والثاني: البعد المأساوي، في علاقة الوالد المحب العاجز بالولد المحبوب المظلوم. وبالتالي نهاية القصة بانتصار قيم الصبر والعفة والتسامح على نزعات الحسد والغواية والغدر. فمن ذلك قول الشاعر صالح بن سلطان الكواري يخاطب الشاعر يوسف بن عبد الله المالكي (المناعي: شعراء 80):
يامَنْ غرامَهْ بِلِبِّ احشاكْ يايوسفْ |
|
من تابَعْ الخُودْ تاهْ الرِّشــدْ يايوسفْ |
قبلَكْ سِــمِيِّكْ نبيِّ الله يـايوسفْ |
|
هَمَّتْ زلِيخــةْ وِهَمّ اْبْها غَرامُ وْعِشِقْ |
لُولا رأى مِنْ إلهَهْ كانْ رَوَّحْ عِشِقْ |
|
قَدّتْ قميصَهْ وِخَرَّتْ من جَمَالَهْ عِشِقْ |
عُقْبِ السِّجنْ حَصْحَصَتْ بالحقّ يا يوسفْ[6] |
وقد ردّ عليه الشاعر يوسف المالكي مجانسًا بموّال قال فيه (المناعي: شعراء 81):
أهـــلًا بِقيلٍ لِفَى ويقــــولْ يايوسـفْ |
|
من صاحبٍ في المعاني يمتحنْ يوسفْ |
أبشِرْ بما تِهتِوي من صاحبكْ يوســفْ |
|
شَقَّتْ قميصَهْ، وِأَخْفَتْ كَيدَها وِالعِشِقْ |
لُولا رأى براهين ربّي كانْ رَوَّحْ عِشِقْ |
|
إعْذِرْ وإسْمَحْ ترى قيلي عليهُمْ عِشــقْ |
جَاهْ الفرَجْ في السِّجنْ حتّى نِجَا يوسفْ يا يوسفْ[7] |
ولا ريب أن إمعان النظر في قراءة هذين النصّين من الموّال سوف يفضي بالقارئ إلى مقاربة وجدانية جمالية لدى الشاعرين، فالشاعر صالح الكواري يستفيد من التناص الكامل بين اسم صديقه الشاعر يوسف المالكي والنبيّ يوسف عليه السلام ليشرع في مداعبة لطيفة، يفترض فيها أن صديقه الشاعر يوسف عاشق متيّم تعبث بقلبه الغيد الحسان، مما قد يفقده رشده، فيقدّم له النصح من خلال استعراض ما دبّرته امرأة العزيز للنبي يوسف عليه السلام من الوقوع في الفتنة لولا أن الله عصمه بما أراه من البرهان، ومع ذلك فقد كان جزاؤه السجن على الرغم من اعترافها بالحق فيما بعد. وقد جاء ردّ الشاعر يوسف المالكي منسجمًا مع كونه سميَّ النبيّ يوسف عليه السلام، ومفنّدًا صنيعه مع امرأة العزيز، وأنه كان على الحق، ملتمسًا العذر أمام توهج العواطف وجبروت العشق، على أن ذلك كله مع مكوثه في السجن بضع سنين كان إعدادًا له ليحظى بالنجاة والفرج، وليتبوّأ المكانة التي يستحق.
وهذا يؤكد بجلاء أن كلا الشاعرين كان يستلهم من هذه القصة القرآنية القيم النبيلة التي كانت نتيجة المحن التي حاقت بالنبي يوسف عليه السلام، وما كان جزاؤها من المنح الإلهية، ولا شك أن التركيز هنا كان على قيمة العفة التي تجلت في شخصية النبي، بل إنه غدا رمزًا لها على مر الزمان.
وربما كان اللافت هنا توظيف الشاعر الأول لاسم يوسف المشترك بين النبي وصديقه، والبناء على ذلك بعدئذٍ مما جاء في الموّال الأول، ومقابلة ذلك في الموال الثاني بالاستمرار في السياق نفسه، ولكن من أجل الوصول إلى نهاية أخرى غير تلك التي توقف عندها الشاعر الأول وهي اعتراف المرأة بخطئها ولكن بعد أن قضى النبي يوسف أجمل أيام عمره في السجن، لأن سياق الموال الأول هو النصح والتحذير على سبيل المداعبة الأخوية، في حين أن سياق الموال الثاني كان يقوم على إبراز قيم الصبر والتسامح والنجاة والفرَج.
وقد يتخذ استلهام الشاعر جوانب من قصة يوسف عليه السلام أسلوب التناص مع مقولة وردت في القصة، من غير الالتفات إلى العناصر الأخرى المتصلة بها أو المسوّغة لها، وهذا ما يتضح في قول يوسف ملا صالح على لسان محبوبة ضاقت ذرعًا بلوم اللائمات على حبها، فبعد أن ينقل حديثها عن خيانة صاحباتها، ووصفها شدة لوعتها في حبها، يقول (المناعي والكواري 2/108):
بالصوتِ زِعْقَتْ إلى لُـوَّامها قالت: هذا العزيــــز الذي لِمتُنَّني فيــه
فكأنها - كما يصورها الشاعر - قد تقمصت شخصية امرأة العزيز، أوتماهت فيها لشدة ما أصابها من لوعة الحبّ، وكأن محبوبها الذي شغفها حبّاَ يبدو في نظرها يمثل الجمال اليوسفيّ. وهكذا يتجاوز الشاعر التعبير عن القيمة الجمالية إلى التعبير بها عن الحالة العاطفية التي أراد إبرازها. وهذا ما يشير إليه علي عشري زايد إذ يرى أن الشعراء حاولوا توظيف العناصر التراثية توظيفًا فنيًّا، أو التعبير بالموروث عن القضايا والهموم المعاصرة، بعد إعادة تأويلها واستخلاص دلالتها الشاملة المستمرة، وأن الشاعر أصبح يعبر بعناصر التراث عن أبعاد من تجربته المعاصرة (عشري49).
ومن البدهي أن يقتصر بعض الشعراء في استلهام قصة يوسف عليه السلام على جانب مهم، ربما كان راسخًا في الذاكرة الشعبية، أكثر من غيره، وهو الجانب المأساوي فيها، والمتمثل بألم الفقد الذي عاناه النبي يعقوب إثر ضياع ولده الحبيب منه، بعد أن كاد له إخوته وأخبروا أباهم كذبًا أنه مات. حتى غدا يعقوب رمزًا للحزن الأبوي ويوسف رمزًا للفتى المظلوم المعذّب، كما في هذا الموّال (المناعي: مواويل 125):
يا صَاحِبي مِنْ وِدادِكْ راعني بأَهْوَنْ |
|
لا لَذِّ لي نومْ، ولا جَرْحَ الضمِير أَهْوَنْ |
فُراقِ يُوسفْ على يعقوب كان أَهْوَنْ |
|
شِرِبْتِ مُــــرِّ الليـــــالي مِحْتِرِمْ عِينَاكْ |
وِبْقيتْ يُوم الرَحِيلِ مْشَاهدٍ عِينَـــاك |
|
إِنتَ الذي يا وَلَدْ دِسْت الوَعَـرْ، عِينَاك |
قالوا: تَصَّبَر، وِقِلْت: الموت لي أَهْوَنْ[8] |
بيد أن الشاعر هنا يوظف رمزية شخصية النبي يعقوب في مجال آخر من الحزن، وهو الحزن الذي يسببه فراق الحبيب والبعد عنه، ويجعل من نفسه رمزًا للحزن يفوق ما كابده يعقوب النبيّ عليه السلام.
ويستلهم الشاعر محمد الفيحاني من قصة النبي يوسف عليه السلام ما يوظّفه في قوله (الفياض والمناعي 278):
أنا الذي سابعٍ قلبي زِمــــــاني سَــــــبِعْ |
|
صايِدْ فؤادي مِنِ الفَرقَــــا بِمْصايِد سِبِعْ |
قِلْتِ: المَهَلْ، قال: خَلْ (عَنْكِ) الجَدال السَّبِعْ |
|
نَفسِكْ وِلُوْ هي عليكِ مْنِ الذَّخايرْ غَلَتْ؟! |
لِعْيُونْ مِنْ مُهجِتِكْ مِنْ زَوْدْ حِبِّــــــهْ غَلتْ |
|
قَلْتِ: الليـــــــالي علَيَّ بْجُورَها أو غَلَتْ |
ماجَتْ سِمانٍ، عُقُبْ ما هي عِجافٍ سَبِعْ[9] |
ومن الواضح توظيف الشاعر جانبًا من قصة النبي يوسف عليه السلام[10]، حينما كان في السجن، وجاءه أحد صاحبيه - اللذين أوّل لهما رؤياه قبل سنوات - يسأله أن يؤوّل رؤيا عزيز مصر في البقرات السبع السّمان والبقرات العجاف الأخريات التي أكلتها، ورمزية الرؤيا لما سيحل في مصر من قحط وجدب إلى أن يأتي عام يغاث الناس فيه.
بيد أن الشاعر لم يشأ أن يوظف تأويل الرؤيا اليوسفية بدلالتها الرمزية كما وردت في القصة القرآنية؛ إذ جعل النهاية قاتمة بائسة بعد أن صبر سبعًا من السنين على فراق من يحبّ وهو يكابد تباريح الشوق والحنين، منتظرًا مجيء سنوات الفَرَج وأيام الوصال واللقاء، ولكنها لم تأت! في حين أن رؤيا يوسف عليه السلام قد وعدت بمجيء سنوات الخير والعطاء والغوث، مما يبعث على الأمل، ويجدد العزيمة ويعين على الصبر.
ويستلهم الشاعر بن سعد المسند موّال الشاعر محمد عبد الوهاب الفيحاني السابق مجانسًا ([11])، فيقول (المناعي: شعراء 109):
أنا الذي ماصِفَتْ لي عَشْرْ وِدِّي سـَـــــبِعْ |
|
من عِينْ مِنْ خَرْزِتَهْ تِشْبِعْ فؤادي سَـــبِعْ |
كِنَّهْ مِن ْالْحُور في حَسْبَةْ ثِمانِ أو سَـــــــبِعْ |
|
بَسْخي لها الرُّوح إلو منها المقاصدْ غَلَتْ |
ومْراجِل الشّوقْ لي بأقصى الضِّمايرْ غَلَتْ |
|
قِلْتِ: السَّببْ ليش حاجاتي عليكُمْ غَلَتْ؟! |
قالْ: إصْبِرِ العَشَرْ، وِاتْبَعْها ثمَانِ وْسَبِعْ |
ونقع على مثل هذا التوظيف واستلهام دلالات السنين العجاف والسّمان من قصة النبي يوسف عليه السلام، في نص موّال يردّ فيه الشاعر صالح بن سلطان على الشاعر سعد بن راشد الكواري؛ إذ يقول فيه (المناعي: شعراء 85):
ذكَرْت لي يالّلخو عِقْب السَّبِعْ أسبوع |
|
هذي العِجافِ التي تاكلْ سِمِانِ أسبوع[12] |
وكما نرى فإن صنيع أولئك الشعراء لم يقتصرعلى استدعاء تلك الرموز والإشارة إليها، أو الاستشهاد بها لتعزيز فكرة، أو صورة أو موقف، وإنما تجاوزوا مرحلة التعبير عنها والتمثل بها إلى مرحلة توظيفها والتعبير بها عن أفكارهم وصورهم ومواقفهم. فأكدوا بذلك عمق الصلة التي تربطهم بتلك الرموز والقيم الموروثة، والحرص على تأكيدها وترسيخها من خلال استدعائها من عصرها القديم وإعادة إنتاجها كلّ على طريقته وأسلوبه، مما أغنى تجاربهم وأغنى وسائل التعبير الفني لديهم، وربطهم بمجتمعهم وثقافته.
كثيرًا ما يتجه الشاعر إلى التراث يستمزج منه ما يتناسب والتجربة التي يعبر عنها ويصورها، ولا سيما حينما يجد في قيمه ورموزه ما يعكس تجربته ويعبر عنها على نحو شديد الإيحاء، واضح الدلالة، يقول عشري زايد: "ولقد أدرك الشاعر المعاصر أنه باستغلاله هذه الإمكانات يكون قد وصل تجربته بمعين لا ينضب من القدرة على الإيحاء والتأثير؛ وذلك لأن المعطيات التراثية تكتسب لونًا خاصًا من القداسة في نفوس الأمة ونوعًا من اللصوق بوجدانها، لما للتراث من حضور حي ودائم في وجدان الأمة" (16). ويقول في مكان آخر: "ويعدّ كتاب ألف ليلة وليلة من "أهم المصادر... وأغناها بالشخصيات ذات الدلالات الثريّة" (152).
وربما تجلّى ذلك في قول الشاعر صالح بن سلطان مخاطبًا صديقه الشاعر يوسف المالكي (المناعي: الموّال 170، 171):
يازينِ الاْوصَافْ تَيَّهْ في غرامِكْ حَسَن |
|
وِمْنِ المحبَّــة تِمَشْكَلْ في المصايِبْ حَسَنْ |
|
|
كمْ مرَّةٍ في الهوى تَهْلَكْ بِنَفْسِــهْ حَسَنْ |
|
مِنْ دارْ بغدادْ روَّحْ إِلْ جِزايِــــــرْ وَاقْ |
|
|
غَرْقانْ، شَرْقانْ، تايِـهْ في جِزايِرْ واقْ |
|
جاتِهْ شَواهي، وقالتْ: مَيدِكْ جِزايِرْ واقْ |
|
|
|
سَمِّ وْتِفضَّلْ، وهاذي زُوجِتَكْ ياحَسَنْ |
|||
فأجابه الشاعر يوسف المالكي:
اسمَعْ لِقِصّةْ حسَن وِيَّا جِزايرْ وَاقْ |
|
وِمِنْ فاهِمٍ في المعاني قد تِذكّرْ وَاقْ |
|
|
لُولا زُبَيدة حَسَنْ ما كانْ يُوصلْ وَاقْ |
|
مسكينْ لى مِنْ تِتِهلَكْ في هواهـــا |
|
|
على مَنَارْ السِّنة تَيَّهْ غرامه حَسَنْ |
|
ولولا قضيبٍ وِطاقيّهْ مَلَكْها حسنْ |
|
|
|
لُولاهْ ما كان يِرجَعْ من جزايرْ واقْ[13] |
|||
ومن الواضح في كلا النصّين كيف يتجلّى سعي كلٍّ من الشاعرين إلى توظيف إحدى قصص ألف ليلة وليلة الشهيرة قصة حسن البصري توظيفًا رمزيًّا، يستعير من خلاله دلالات الحكاية الشعبية ورمزيتها المتمثلة بأبرز شخصيات الحكاية وأحداثها ومظاهرها، فالشاعران يحيلان المتلقي إلى موروث حكائي شعبي حافل بعناصر الإغراء الزمانية والمكانية والجمالية والعجائبية؛ إذ تُستجمع في الموّال الأول للشاعر صالح بن سلطان أبرز شخصيات القصة وأحداثها، من بداية رحلة الصائغ حسن من بغداد ووصوله إلى جزر)الواق واق(بعد صراع ٍطويل مع الأحداث المهلكة في البرّ والبحر، وصبرٍ على المعاناة، وأمل بتحقيق غايته في استرجاع زوجه وأولاده، إلى أن استطاع ذلك وعاد إلى بغداد سالمًا. في حين أنّ الشاعر يوسف المالكي ضمّن ردّه في الموال الثاني فهمَه الخاص لجوهر القصة وسرّ نجاة بطلها، المتمثل بالأداتين السحريتين (القضيب والطاقية). ولما كان الشعر يختلف عن القصّ والسرد في أنه يختزل المعاني والأفكار ويقدمها من خلال الصورة والإيحاء، وأنه لا يُعنى بالتفاصيل والجزئيات، وتوالي الأحداث وتصاعدها؛ لذا فقد اقتصر النصّان على أبرزِ معالم القصة، وأظهرِ شخصياتها، وركز على الخاتمة السعيدة والنهاية المرجوّة. وكأن القصد من ذلك استبطان ما فيها من الحكمة، واستجلاء ما توحي به من الدلالة، بوصفها تصوّر واقعًا خارج الزمان والمكان، واقعًا يتحرر فيه الحلم الإنساني من قيوده، وينسج فيه الخيال عالمًا تتحقق فيه الآمال ولو بعد المكابدة، وتخلد فيه النفوس إلى السعادة بعد الذي مسّها من الشقاء لبلوغ الغاية القصوى.
وتشكل قصة حسن البصري في كتاب ألف ليلة وليلة جزءًا مهمًا من الكتاب، فقد جاءت القصة مجزّأةً في نحوٍ من ستين ليلة من الكتاب، بدءًا من الليلة 726 وحتى الليلة 887، (ألف ليلة وليلة 3/303، 4/55)، وهي قصة مكتملة من ضمن مجموعة من القصص الخيالية والغرائبية كسائر الحكايات، مثل: قصص علاء الدين، وعلي بابا، وعجوز البحر، وشهرزاد، والسندباد البحار" (ديلاهونتي ورفيقاه، 69).
وإن ما يتصل ببحثنا من مسألة توظيف قصة حسن البصري بما تنطوي عليه من قيم ورموز في شعر الموّال الشعبي القطري، ليس هو ما تختزنه تلك القصة العجائبية من عناصر رمزية لمفاهيم الحياة وقيمها، بقدر ما هو محاولة من الشاعرين لاستحضار الفعل الإنساني الخارق، الذي يتجاوز المكان ويختصر الزمان، ويمتلك القوة على تحديد المصير إلى حدٍّ بعيد. ليتجلّى في العمل الفني الحاضر بكل أبعاده وإيحاءاته، بوصفه تكرارًا للخبرة الحياتية والإنسانية، بإعادة سردها، والتماهي فيها، كما تجلّى ذلك في الليالي الستين التي حكت فيها شهرزاد قصة الصائغ حسن البصري. وربما يصحّ تفسير ذلك بما جاء في كتاب ألف ليلة وليلة لسهير القلماوي؛ إذ ترى في نزوع الناس في المجتمعات التي تصورها حكايات ألف ليلة وليلة نحو السحر والقوى الخارقة للحصول على المال والثراء أو الحصول على المحبوب أنه نوع من التفريج عن الحرمان، فتقول: "واتُّخِذت آلات السحر وسبله آلات للوصول إلى الكنوز وسبلًا إلى الفوز بالثراء المادي... هذه هي العناصر الأساسية التي تمثلها موضوعات الخوارق في الليالي" (131). وتضيف موضحة سرّ افتتان الإنسان المعاصر بتلك القصص والحكايات وماتحمله من قيم ورموز قائلةً: "وأكثر ما تقوم به العفاريت أو الجن من دور في الليالي، هو حمل البطل إلى مسافات بعيدة أو إلى بلاد لا يستطيع أن يصل إليها إنسيّ" (138). "وهكذا تمتلئ الليالي بأشياء عجيبة إذا حازها إنسان فقد حاز السلطان على ناحية معينة من القوى الخارقة ... والعظمة تتجلى عنده في استطاعة ما لا يستطاع عادة" (142). وهكذا فقيم الإيمان بالله ونصرته المظلوم والمضطرّ، وقيم الأمل بالقادم الأجمل والصبرعلى المشاقّ، والبطولة والتضحية من أجل المحبوب، والوفاء والانتصار له، مما استلهمه بعض شعراء الموّال في نصوصهم، كلّ ذلك مدعاة لشحذ الهمم في النفوس، ودفعها إلى التمسك بالمبادئ الأصيلة، والاعتصام بالقيم الإنسانية الرفيعة، ومحاولة ممارستها تأثّرًا بما يحققه العمل الأدبي أو الفني من أثر في الحياة.
يضمّ التراث العربي والإسلامي مجموعة من القيم، ولا سيّما ما يتصل بالجانب الأخلاقي، مثل: الكرم والشجاعة والجود والسخاء والتديُّن أو "التّقوى" والوفاء والإيثار والحريّة، والمروءة والفتوّة والأخوّة والسماحة،... وغير ذلك، مما كان يشكّل مجمل أجزاء المنظومة القيمية اجتماعيًّا وثقافيًّا.
وقد احتلّ الجانب الأخلاقي منزلة سامية عند العرب قبل الإسلام، وتمثّل في حبّهم لمكارم الأخلاق ومحاسنها والتغنّي بها. واعتقادهم أنّها طبع إنسانيّ راسخ في النفس، ذلك أنّ الخُلُق في اللغة: حال للنفس راسخة، تصدر عنها الأفعال من خير أو شرّ، من غير حاجة إلى فكر ورويّة، وهي توصف بالحسن أو القبح لارتباطها بالخير أو الشرّ (لسان العرب والمعجم الوسيط: خَلُق) وما زال العربي المعاصر يتشوف إلى تلك الفضائل والقيم، وينشدها متمثلة في أشخاص يراهم ويرونه، ويحتكّ ويتأسّى بهم.
ويكاد يكون الشعراء هم أكثر الناس حديثًا عن القيم والأخلاق، وامتداحها، بل امتداح من يستأثر بها، ويتحلّى بها، بصرف النظر عن كون حديثهم حقيقة أو ضربًا من المبالغة والغلو المسرف. وفي هذه الفقرة نستعرض بعض النماذج التي تجزئ عن غيرها، فيما انطوت عليه من تلك القيم، ورمزيتها.
فمن ذلك، قول الشاعر علي بن ارحمه البودهيم المالكي (المناعي والكواري 211):
وَجْدِ الْمسامَتْ وِهَجْر الريم هو خَلِّني |
|
مَا اقْوَى على طول صَدِّه والهَجِرْ خَلِّني |
يا عَمِّ لي من هَبَشْتَه قال لي: خَلِّنـــي |
|
أراك تِسْفَه وِليفك يا وِجيم الطــــول |
جودك على جود مَيِّك زايدٍ بالطــول |
|
وآخيف يا عَمِّ من هَجْرَهْ عَلَيِّ يْطـــول |
و قول الشاعر ارحمه بن غانم المالكي في صديقه محمّد أبو حراقة، يمدحه ويشكو إليه (المناعي: شعراء 21):
نار الغضا في ضميري شبِّ صاليها |
|
مِنِ الوقُوتْ الّذي عَسْرِةْ واصاليهــــــا |
"محمّدْ" وِيا مِنْوَة الهِشَّالْ صاليهـــا |
|
يا مِكْرِم الضِّيف ويا مِقْعِدْ صَغا مِنْ عَالْ |
ويا سامحٍ زَلَّة المِخطي إلى من عال |
|
في شَفِّكم بَاقْطعِ الرّيدة بِغَيرِ نْعــــــــالْ |
وبادوسْ نارِ الغضَا لو شَبِّ صاليها[14] |
ويقول الشاعر سعيد بن محمد البديد (المناعي: الموال 145):
عود النِّفَلْ كِلِّ عــــودٍ مَنْبِتهْ طيِّبْ |
|
يابنِ الأكارمْ وإِبنِ الجــودْ والطّيّبْ |
مَسّيتْ رِدَّ المِسا، ويقول لي طيّبْ |
|
أهلِكْ هَلِ الجود للجيران سِتْرُ وحَيا |
لَينَ أمحَلِ الرّوض جادَنْ بالأراضي حَيا |
|
كِرامْ وَأهلِ المكارمْ للوفودُ وحَيا |
أهلِ الوفا مَنقَع الجودات والطّيّبْ |
وكما يبدو أن الشاعر الشعبي في النصوص السابقة يحاول رسم صورة متكاملة لشخصية من يمتدحه، صورة تغتني بالصفات الخُلقية المثالية، فهو لا يكتفي بالامتداح بالجود والمروءة، فيضيف إلى ذلك قيم الطيب والسماحة وإكرام الضيف، والوفاء. وبذلك تتجلَّى في شخصية الممدوح مجمل الفضائل الأخلاقية، فضلًا عن خلَّة الجود.
وقال الشاعرمحمد الفيحاني في قيمة الوفاء (الفياض والمناعي273):
مات الوِفا يا "عليّ" وِلعِصبِته خلِّفَوا |
|
سَلْهُمْ على مِلّتِهْ من بالوِفـــــــــا خلِّفَوا |
ألفِيتْ أنا خِلَّتي بِعهُودِهِـــــــــــمْ خلِّفَوا |
|
تِمَسَّكوا بالخيانِة والغَــــدِرْ خِلِّهُـــمْ |
ولارَعَوْا حَقِّ راعيهُمْ ولا خِلِّهُــــمْ |
|
شَوري عليكْ إنْ قِبَلْتِ نْصِيحِتي خَلِّهُمْ |
مات الوِفا يا "عليّ" وِلعِصبِتَه خَلّفَوْا |
وواضح في هذا النص كيف أن الشاعر الفيحاني يأسى لما آلت إليه قيمة الوفاء من المصير، بل إنه يرثيها بعد موتها، ويشهد كيف حلّت محلّها صفات الغدر والخيانة، وإن سقوط لبنةٍ صالحة من بناء شامخ يؤذن بانهياره عاجلًا أم آجلًا. بيد أنّ الشاعر حينما يشير إلى هذا لا يعني أنه يفتقد قيمة أو فضيلة بعينها، ضمن منظومتها الكبيرة إلى الأبد، وإنما هو ينعى وجودها الواقعي وحضورها الإنساني، ولعل في حقيقة بكائه عليها ما يوحي برغبة دفينة أن تعود أو تبعث من جديد في نموذج صالح آخر غير ذاك الذي قيّدها أو أماتها.
وللشاعر سعيد بن سالم البديد المناعي يمدح أبناء ناصر بن سلطان البدرعام 1989م بعد أن جاورهم مدة طويلة (المناعي: شعراء51):
شَلِّيتْ من داركمْ ياهْلِ الكرمْ والوِفا |
|
إِنْتوا هَلِ الجود وِالمعروفْ وأهلِ الوِفا |
بينِ المَلا ذِكركمْ أعَلا وساد الوفــا |
|
يا "أولاد ناصر" أنا في داركمْ ما منْ |
أحسبِ الأيام بالرّاحة وأنا مــا مِنْ |
|
حَشى حَشَى مثلكمْ بين الملا مــا مِنْ |
إنتوا هَلِ الجُودْ وِانتو حَايزِينِ الوِفا |
وفيما يتصل بالقيم الجمالية، فإنه قلّما نجد الشاعر الشعبي يعلي من القيم الجمالية خالصة إلا وتمتزج لديه بقيم الوفاء والإخلاص، سواء أصوّرها متمثلة في شخصه بوصفه محبًا عاشقًا، أم أشار إلى افتقادها في شخص المحبوب، وأحلّ محلها صفات الغدر والخيانة ونكث العهد، التي ينسبها إلى محبوبه تارة وإلى الدهر والزمان تارة ثانية. وكثيرًا ما يكون للقيود الاجتماعية والعادات والتقاليد اليد الطولى في حرمان المحب من محبوبه، فيغدو المحبّ عندئذٍ - وهو الشاعر في معظم الحالات - رمزًا لقيم الوفاء والإخلاص والتضحية والفداء، ويتحمل من ألوان العذاب والحرمان ما لا قبل لغيره به، وتغدو المحبوبة رمزًا للقيم السلبية من هجر وغدر، مما يورث الأسى والحزن في قلب الشاعر فيلجأ إلى شعره يغني آلامه ومواجعه.
ولعل هذا ما يفسر رسوخ نزعة الألم في كثير من نماذج الشعر الشعبي، ولا سيما الموّال الزهيري في مختلف بيئاته واتجاهاته (السامرائي 95). ولعل ذلك يتضح في ردَّ الشاعر يوسف بن عبد الله المالكي على صديقه الشاعر "بن سلطان الكواري" الذي كان قد مدحه قائلًا (المناعي: شعراء 83):
عيناك يامشتكي من صاحبٍ كَهْربَه |
|
وهذا معاني الهوى ياصاحبي كَهْربَه |
قبلك أنا شغل قلبي على كهربـــــــه |
|
تشكي وتبكي من الهجران مِتْكَهرِبْ |
كم شوّط القلب من شكواك مِتْكَهربْ |
|
مجنونٍ وِسْط الفلا هايم، ومتكهرب |
عنتر بعبلة تولع والهوى كهربه |
وهنا يتضح السياق الذي ورد فيه اسم عنترة والمجنون وهو سياق تاريخي اجتماعي أدبي، ذلك أن عنترة قد أفصح في عدد من قصائده الشعرية عن حبّه عبلة ابنة عمه، وعبّر عن أشواقه وصور معاناته في حبها، بوصفه شاعرًا، وكذلك الشأن فيما يتعلق بالمجنون وهو الشاعر العاشق العذري قيس بن الملوّح، الذي هام في حبه ليلى على وجهه واستأنس الوحش وعاش وحيدًا، وعلى ذلك فعنترة غدا رمزًا للشاعر الفارس العاشق، وغدا المجنون رمزًا للمحب العذري العفيف. "فشخصية كشخصية عنترة من الممكن اعتبارها شخصية أدبية، أو شخصية تاريخية، أو شخصية فولكلورية، بحسب ما يستعير الشاعر من ملامحها" (عشري 186)، وهذا ينطبق على على الشاعر مجنون ليلى، وغيره؛ ذلك أن بعض الشخصيات التراثية يمكن النظر إليها من أكثر من زاوية؛ إذ يتداخل فيها التاريخي بالديني والأدبي والشعبي أو غير ذلك.
يتضح مما تقدم أن شعر الموال الزهيري في قطر يتّسم بالغنى والتنوع بين سائر أنواع الشعر الشعبي، بل إنه يعدّ في الصدارة منها، على الرغم من انحساره نسبيًّا من الواقع المعيش بحكم ارتباطه بحياة البحر ومهنة صيد اللؤلؤ، التي لم تعد كما كانت، ولارتباطه بالغناء المصاحب لها، ولصعوبة نظمه مقارنة بالألوان الشعرية الشعبية الأخرى، مثل الأهازيج والزجل والأغاني الشعبية، وغيرها. وعلى الرغم من ذلك الانحسار فإن أصداءه ما زالت تتردد في المواسم الاجتماعية وفي جوانب الحياة الثقافية والعلمية، وما زال هناك من يروي الموّال ويحفظه وينظمه.
لقد تبين من خلال هذه الدراسة ما اتّسم به فنّ الموال الزهيري من ثراء فني، وغنىً معرفيّ يتناسب والثقافة الشعبية الجماعية، ومكوناتها المتجددة، من خلال ثلاثة محاور تمّت معالجتها، وهي استلهام القيم ورموزها المختلفة، متمثلة بالتراث الديني والتراث القيمي والتراث القصصي الشعبي. على أن التراث الديني الإسلامي بمفاهيمه وقيَمه ورموزه كان يشكل المورد الأكبر للثقافة الشعبية، التي تجلّت معظم عناصرها في نصوص فنّ الموّال خاصة، إذ حرص كثير من شعراء الموّال في قطر على امتياح ينابيع التراث، ووصل تجارب الإنسان المعاصر بتجارب شخصيات تراثية، بنقلها والحديث عنها، وباستخلاص العِبر والنتائج الرشيدة منها، وبالتعبير بها عن تجارب معاصرة بعد تأويلها تأويلًا منسجمًا مع معطيات الحياة الواقعية.
ومما اتضح أيضًا أن فن شعر الموّال ما زال بحاجة إلى جهود حثيثة لجمع ما لم يجمع منه، مما يمهّد لإعداد دراسات رصينة (أسلوبية وجمالية وثقافية ... وغيرها) تعتمد المناهج النقدية الحديثة؛ فالمكتبة العربية ما زالت تفتقر إلى مثل تلك الدراسات.
كما أن الحاجة ماسة إلى توثيق نصوص الموّال التي تمّ جمعها في كتب، أو التي تنظم حديثًا من الشعراء الكهول والشباب توثيقًا صوتيًّا ([15])؛ ذلك أن لغة الموّال في قطر وفي الخليج والبلدان الأخرى تعتمد النطق وليس الكتابة، وقد يكون النطق الصحيح متعذّرًا على كثيرين، ولكي يسجّل ويوثّق وينشر كما هو من غير تحريف أو تزييف أو أيٍّ من الأخطاء.
أولًا: العربية
ابن خلدون، عبد الرحمن. مقدمة ابن خلدون. ضبط المتن ووضع الحواشي والفهارس خليل شحادة، مراجعة سهيل ذكار، دار الفكر، لبنان، 2001.
ابن ربيعة، فهد. زهيريّات ابن ربيعة. جمع وشرح مبارك بن عبد الله الربيعة المالكي. [د.ن]، ط1، 2011.
الحِلِّي، صفيّ الدين. العاطل الحالي والمرخص الغالي. تحقيق حسين نصار، دار الكتب والوثائق القومية، مركز تحقيق التراث، القاهرة، ط1، 2003.
الحموي، تقي الدين أبو بكر بن حجة. بلوغ الأمل في فن الزجل. تحقيق رضا محسن القريشي، تصدير عبد العزيز الأهواني، وزارة الثقافة، دمشق، 1974.
حنفي، حسن. التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط4، 1992.
ديلاهونتي، أندرو ورفيقاه. قاموس الإحالات الضمنية. ترجمة أيمن حلمي وعاطف عثمان وأحمد الروبي، العدد 2128، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2014.
زايد، علي عشري. استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر. دار الفكر العربي، القاهرة، 1997.
السامرائي، عامر رشيد. مباحث في الأدب الشعبي. وزارة الثقافة والإرشاد في الجمهورية العراقية، بغداد، 1964.
شهاب الدين الحجازي المصري، محمد بن إسماعيل. سفينة الملك ونفيسة الفلك. تحقيق محمود كحيل. وزارة الثقافة والفنون والتراث، قطر، ط1، 2010.
عباس، إحسان. اتجاهات الشعر العربي المعاصر. دار الشرق، ط3، 2001.
الفياض، علي عبد الله، والمناعي، علي شبيب. محمد بن عبد الوهاب الفيحاني (1907- 1939م) حياته – شعره - ديوانه. وزارة الثقافة والرياضة، ط3، 2017.
قلعجي، عبد الفتاح. دراسات ونصوص في الشعر الشعبي الغنائي. وزارة الثقافة، دمشق، 2009.
القلماوي، سهير. ألف ليلة وليلة. دار المعارف، القاهرة، 1959.
كتاب ألف ليلة وليلة. مكتبة الجمهورية العربية، مصر [د. ت].
المالكي، يوسف. مواويل يوسف عبد الله المالكي. قسم الدراسات والبحوث، إدارة الثقافة والفنون، وزارة الإعلام، قطر [د. ت].
محمود، رضا محسن. المواليا. الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط2، 1999.
المناعي، علي شبيب. شعراء الموال (الزهيري) في قطر. وزارة الثقافة والرياضة، ط1، 2016.
–––. الموّال في قطر: بحث في سيرة الموال وأربابه. الدوحة، 1991.
––– (جمع وتحقيق). مواويل من الخليج، الجزء الأول: رواية حارب راشد الحارب. مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية، ط1، 1984.
المناعي، علي شبيب، والكواري، محمد علي (تحقيق وشرح). مواويل من الخليج، الجزء الثاني، مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية، ط1، 1988.
النجار، محمد رجب. "الموال الزهيري في الكويت". مجلة العربي الكويتية، العدد 466، سبتمبر 1997.
نصار، حسين. الشعر الشعبي العربي. منشورات اقرأ، بيروت، ط2، 1980.
الهاشمي، أحمد. ميزان الذهب في صناعة شعر العرب. ضبط وتعليق علاء الدين عطية، مطبعة دار البيروتي، لبنان، ط3، 2006.
ثانيًا: الأجنبية
References:
ʻAbbās, Iḥsān. Ittijāhāt al-shiʻr al-ʻArabī al-muʻāṣir. (in Arabic), Dār al-Sharq, 3rd ed., 2001.
al-Fayyāḍ, ʻAlī ʻAbd Allāh, wa al-Mannāʻī, ʻAlī Shabīb. Muḥammad ibn ʻAbd al-Wahhāb al-Fayḥānī (1907-1939AD) Ḥayātuhu – Shʻruh - Dīwānuh. (in Arabic), Wizārat al-Thaqāfah wa-al-Riyāḍah, 3rd ed., 2017.
al-Ḥamawī, Taqī al-Dīn Abū Bakr ibn Ḥujjat. Bulūgh al-Amal fī Fann al-zajal. (in Arabic), taḥqīq Riḍā Muḥsin al-Qurayshī, taṣdīr ʻAbd al-ʻAzīz al-Ahwānī, Wizārat al-Thaqāfah, Dimashq, 1974.
al-Hāshimī, Aḥmad. Mīzān al-dhahab fī ṣināʻat shiʻr al-ʻArab. (in Arabic), ḍabṭ wa-taʻlīq ʻAlāʼ al-Dīn ʻAṭīyah, Maṭbaʻat Dār al-Bayrūtī, Libnān, 3rd ed., 2006.
Alḥillī, ṣfī al-Dīn. al-ʻāṭil al-ḥālī wālmurakhṣ al-Ghālī. (in Arabic), taḥqīq Ḥusayn Naṣṣār, Dār al-Kutub wa-al-Wathāʼiq al-Qawmīyah, Markaz taḥqīq al-Turāth, al-Qāhirah, 1st ed., 2003.
al-Mālkī, Yūsuf. Mawāwīl Yūsuf ʻAbd Allāh al-Mālikī. (in Arabic), Idārat al-Thaqāfah wa-al-Funūn, Wizārat al-Iʻlām, Qaṭar.
al-Mannāʻī, ʻAlī Shabīb. Shuʻarāʼ al-mawwāl (al-Zuhayrī) fī Qaṭar. (in Arabic), Wizārat al-Thaqāfah wa-al-Riyāḍah, 1st ed., 2016.
–––. almawwāl fī Qaṭar: baḥth fī sīrat al-mawwāl wa-arbābih. (in Arabic), al-Dawḥah, 1991.
–––. (jamʻ wa-taḥqīq). Mawāwīl min al-Khalīj, al-juzʼ al-Awwal: Riwāyah Ḥārib Rāshid al-hārib. (in Arabic), Markaz al-Turāth al-shaʻbī li-Duwal al-Khalīj al-ʻArabīyah, 1st ed., 1984.
al-Mannāʻī, ʻAlī Shabīb, wa al-kawāry, Muḥammad ʻAlī (taḥqīq wa-sharḥ). Mawāwīl min al-Khalīj, al-juzʼ al-Thānī. (in Arabic), Markaz al-Turāth al-shaʻbī li-Duwal al-Khalīj al-ʻArabīyah, 1st ed., 1988al-Qalamāwī, Suhayr. alf laylah wa-laylah. Dār al-Maʻārif, al-Qāhirah, 1959.
al-Najjār, Muḥammad Rajab. "al-mawwāl al-Zuhayrī fī al-Kuwayt". (in Arabic), Majallat al-ʻArabī al-Kuwaytīyah, al-ʻadad 466, Sibtambir 1997.
Alsāmirrāʼy, ʻĀmir Rashīd. Mabāḥith fī al-adab al-shaʻbī. (in Arabic), Wizārat al-Thaqāfah wa-al-Irshād fī al-Jumhūrīyah al-ʻIrāqīyah, Baghdād, 1964.
Dylāhūnty, andrū wa rafyqāh. Qāmūs alʼḥālāt alḍimnyah. (in Arabic), tarjamat Ayman Ḥilmī wʻāṭf ʻUthmān wa-Aḥmad al-Rūbī, al-ʻadad 2128, al-Markaz al-Qawmī lil-Tarjamah, al-Qāhirah, 1st ed., 2014.
Ḥanafī, Ḥasan. al-Turāth wa-al-tajdīd: Mawqifunā min al-Turāth al-qadīm. (in Arabic), al-Muʼassasah al-Jāmiʻīyah lil-Dirāsāt wa-al-Nashr wa-al-Tawzīʻ, Bayrūt, 4th ed., 1992.
Ḥusayn, Kamāl al-Dīn. Dirāsāt fī al-adab al-shaʻbī. (in Arabic), Jāmiʻat al-Qāhirah.
Ibn Khaldūn, ʻAbd al-Raḥmān. Muqaddimah Ibn Khaldūn. (in Arabic), ḍabṭ al-matn wa-waḍaʻa al-ḥawāshī wa-al-fahāris Khalīl Shiḥādah, murājaʻat Suhayl Dhakār, Dār al-Fikr, Bayrūt, 2001.
Ibn Rabīʻah, Fahd. Zuhayrīyāt Ibn Rabīʻah. (in Arabic), jamʻ wa-sharḥ Mubārak ibn ʻAbd Allāh al-Rabīʻah al-Mālikī. 1st ed., 2011.
Kitāb alf laylah wa-laylah. (in Arabic), Maktabat al-Jumhūrīyah al-ʻArabīyah, Miṣr.
Maḥmūd, Riḍā Muḥsin. Almawālyā. (in Arabic), al-Hayʼah al-ʻĀmmah li-Quṣūr al-Thaqāfah, al-Qāhirah, 2nd ed., 1999.
Naṣṣār, Ḥusayn. Al-shiʻr al-shaʻbī al-ʻArabī. (in Arabic), Manshūrāt Iqraʼ, Bayrūt, 2nd ed., 1980.
Qalʻajī, ʻAbd al-Fattāḥ. Dirāsāt wa-nuṣūṣ fī al-shiʻr al-shaʻbī al-ghināʼī. (in Arabic), Wizārat al-Thaqāfah, Dimashq, 2009.
Shihāb al-Dīn al-Ḥijāzī al-Miṣrī, Muḥammad ibn Ismāʻīl. Safīnat almulk wa-nafīsat alfulk. (in Arabic), taḥqīq Maḥmūd Kuḥayl. Wizārat al-Thaqāfah wa-al-Funūn wa-al-Turāth, Qaṭar, 1st ed., 2010.
Zāyid, ʻAlī ʻAshrī. Istidʻāʼ al-shakhṣīyāt al-turāthīyah fī al-shiʻr al-ʻArabī al-muʻāṣir. (in Arabic), Dār al-Fikr al-ʻArabī, al-Qāhirah, 1997.
[1] فيما يتصل بفنّ المواليا أو المُوَالَى أو المَوَالِي: جمع مَوَّال، انظر: العاطل الحالي والمرخص الغالي، صفي الدين الحلي، ص105 وما بعدها؛ ميزان الذهب في صناعة شعر العرب، أحمد الهاشمي، ص147؛ المفصّل في العروض والقافية وفنون الشعر، عدنان حقي، ص137، 138؛ المعجم الأدبي، جبور عبد النور، ص270؛ المواليا، رضا محسن محمود، ص37 وما بعدها؛ الأدب العامي في مصر في العصر المملوكي، أحمد صادق الجمّال، ص133 وما بعدها؛ سفينة الملك ونفيسة الفلك، شهاب الدين، 2/105وما بعدها.
[2] لاراد حملك يضع: يخفف عنك إذا أراد. يضع: يتعب ويرهق. يضع: يستطيع شيئًا.
[3] رافع سبع وباسط سبع: السماوات والأراضون السبع. باسماك: بأسمائك الحسنى. المثاني السبع: آيات سورة الفاتحة. داحي: باسط. أيوب ويونس من أنبياء الله عليهم السلام. الكاف والنون: "كُنْ" من قوله تعالى: ﴿كُن فَيَكُونُ﴾، وقد وردت في ثمانية مواضع في القرآن الكريم.
[4] حطيت: وضعت. بلد: البلد هو حجر في رأسه حبل يقاس به عمق البحر. نايلة: هي خريطة لمعرفة الدروب البحرية ومغاصات اللؤلؤ. النايلة: العطاء الجزيل. الغريجك الغرق. تسالك: تتوسلك. ترتجي: ترجو. بيس: بئس. نصيب وفرج: اسما شخصين. عوض: هو عوض اليامي من أهالي مدينة الخور بقطر. راعي الطايلة: صاحب الخصال الحميدة.
[5] لى صك: إذا أغلق الزمان دروبه. بري: برئ وشفي. طاح: وقع. ولد الحمايل: الأصيل.
[6] بلبّ احشاك: وسط أحشائك. يوسف: اسم الشاعر المخاطَب. الخود: النساء الحِسان. سميّك: مماثلك في الاسم. يوسف: نبيّ الله يوسف بن يعقوب عليهما السلام. زليخة: امرأة عزيز مصر.
[7] تهتوي: تهوى وتحب. لفى: وصل. المقصود بالمعاني معاني كلمات الموال ودلالاتها البعيدة، وكذلك الأحاجي والألغاز.
[8] راعني: اعتنِ بي، باهون: بأمر أسهل. اهون: أصبح هينًا. أهون: أسهل. محترم: محروم. ياولد: يقصد نفسه. دست الوعر: ركبت الصعب. عيناك: أنت عينُك، وليس غيرك. قلت الموت أهون: أسهل من الصبر.
[9] سابع قلبي زماني: أي زماني يخيف قلبي ويروعه كما الذي يذعره السّبُع ويروعه. سبع: مصدر سابع بمعنى مخيف ومروّع. سابع قلبي سبعًا، أي يخيفه خوفًا. مصايد سبع: أي مثل صيد السبع كأشد ما يكون إحكامًا وقوة. المهل: أي مهلًا. خل الجدال السبع: دع كثرة الجدال معي منازعة ومغالبة. غَلت: أصبحت غالية. غلت: من الغليان. أو غلت: توغلت أي ازدادت وتعمقت. ماجَت: لم تجئ ولم تأت. سمان: سمينة، عقب: بعد، عجاف: ضعيفة هزيلة لاخير فيها، سبع: سبع سنوات. والمعنى أن الليالي لم تؤته ما كان يتمناه ويحلم به، على الرغم من صبره على الحرمان زمنًا طويلًا.
[10] في قصة النبي يوسف عليه السلام جوانب كثيرة، من عناصر قصصية، ومن أحداث ومن شخصيات. انظر قصة النبي يوسف مع صاحبيه في السجن، ومع عزيز مصر وتأويل رؤيا الملك: ﴿يَٰصَٰحِبَيِ ٱلسِّجۡنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسۡقِي رَبَّهُۥ خَمۡرٗاۖ وَأَمَّا ٱلۡأٓخَرُ فَيُصۡلَبُ فَتَأۡكُلُ ٱلطَّيۡرُ مِن رَّأۡسِهِۦۚ... الآيات﴾ [سورة يوسف: 35 وما بعدها]. وانظر: (ديلاهونتي ورفيقيه 512).
[11] المجانسة هنا تعني أن ينظم شاعر موالًا جديدًا من جنس موّال آخر أعجبه أو للردّ عليه، ويكون باستعمال ألفاظ الجناس نفسها المستخدمة في الموال الأول، وفي الموضوع نفسه أو موضوع آخر ذي علاقة به، وهذا ما يمكن تشبيهه من حيث الشكل بالنقائض في الشعر الفصيح، من جهة، وبالمعارضات من جهة ثانية.
[12] ياللخو: يا أخي. عقب السبع أسبوع: سبعة بعد سبعة. العجاف: الهزلى التي لا لحم فيها ولا شحم.
[13] حسن: اسم الشخصية الرئيسية في قصة "حسن الصائغ البصري" من قصص ألف ليلة وليلة، ومن عناصرها القضيب والطاقية السحريّان. جزاير واق: مجموعة جزر جنوب إفريقيا، ورد ذكرها في قصة حسن البصري. تيّه: ضيّع. غرقان: غريق. شرقان: شَرِق بالماء، أي مختنق. تتهلك: صادف أمورًا مهلكة. ينظر: المصدر السابق وديوان يوسف المالكي 64.
[14] صاليها: لهيبها. الوقوت: جمع وقت. أصاليها: أكابدها. الهشّال: الضيوف. مِقعد: القادر على التأثير. صغا: الفعل غير المقبول. عال: اعتدى.
[15] تجدر الإشارة هنا إلى أن عددًا من المواويل وثقت بصوت الراوي أحمد بن بدر بن ماجد البدر كما جاء على لسان الباحث علي بن عبد الله الفياض في برنامج: ذاكرة قطر، من إذاعة قطر، في 15/1/2023.