تاريخ الاستلام: 31 أغسطس 2022

تاريخ التحكيم: 8 سبتمبر 2022

تاريخ القبول: 9 أكتوبر 2022

الرواية البيئية في السرد القطري - مقاربة في النقد البيئي لرواية دنيانا ... مهرجان الأيام والليالي لدلال خليفة

عبد الحق بلعابد

أستاذ قضايا الأدب ومناهج الدراسات النقدية والمقارنة المشارك، قسم اللغة العربية، كلية الآداب والعلوم، جامعة قطر

abelabed@qu.edu.qa

ملخص

يهدف هذا البحث إلى تطبيق الدراسات البينية في مجال جديد من المناهج النقدية المعاصرة، التي تعرف انتشارًا كبيرًا في الجامعات الغربية، ولا نجد لها حضورًا في الدراسات النقدية العربية، وخاصة النقد البيئي الذي أصبح من المناهج النقدية المعاصرة التي تساعد الباحثين في فهم علاقة الأدب بالطبيعة؛ لهذا اخترنا لمقاربة ذلك رواية قطرية تحاول التأسيس لوعي بيئي داخل الرواية، في وقت لم تلتفت الرواية العربية كثيرا لمثل هذه الموضوعات السردية. فالكتابة في الرواية البيئية ما تزال حديثة غير أننا وجدنا السرد القطري في بداياته يجعل البيئة موضوعه الأساس، وهذا ما وجدناه في كتابات الروائية القطرية دلال خليفة، ولا سيما في روايتها المدروسة (دنيانا ... مهرجان الأيام والليالي)؛ إذ سنقاربها من خلال نقاط بحثية مهمة، بقصد الإجابة عن سؤال منهجي طرحته الرواية، وهو: كيف وعى الروائي القطري مشكلات البيئة؟ ومدى تمكنه من التجريب الروائي في فهم هذه القضايا الجديدة داخل عمله السردي؟، وهنا تكمن أهمية البحث، ونتائجه المحققة.

الكلمات المفتاحية: السرد القطري، الرواية، البيئة، النقد البيئي، مقاربة

 

للاقتباس: بلعابد، عبد الحق. «الرواية البيئية في السرد القطري - مقاربة في النقد البيئي لرواية دنيانا ... مهرجان الأيام والليالي لدلال خليفة»، مجلة أنساق، المجلد السابع، العدد 1 (2023)، عدد خاص عن "الأدب القطري"

© 2023، بلعابد، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. تم نشر هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه؛ طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.

 


 

Received: 31 August 2022

Reviewed: 08 September 2022

Accepted: 09 October 2022

The environmental novel in Qatari narration - An ecocritical approach to the novel: Our World... The Feast of Days and Nights by Dalal Khalifa

Abdelhak Belabed

Associate Professor of Literature, Critical and Comparative Studies, Department of Arabic Language, College of Arts and Sciences, Qatar University

abelabed@qu.edu.qa

Abstract

This research aims to apply interdisciplinary studies in a new field of contemporary critical approaches, which are widely spread in Western universities, and we do not find them present in Arab critical studies, especially environmental criticism, which has become one of the contemporary critical approaches that help researchers understand the relationship of literature to nature. Accordingly, we chose to reveal this approach by studying a Qatari novel that attempts to establish an environmental awareness within the novel, at a time when the Arab novel did not pay much attention to such narrative topics. The writing in the environmental novel is still recent, but we found the Qatari narrative in its infancy making the environment its main theme, and this is what we found in the writings of the Qatari novelist Dalal Khalifa, especially in her studied novel (Duniana... Festival of Days and Nights), as we will approach it through important research points. , with the intention of answering a systematic question raised by the novel, which is: How did the Qatari novelist become aware of environmental problems? In addition, the extent to which he was able, through novelist experimentation, to understand these new issues within his narrative work? Here lies the importance of the research and its achieved results.

Keywords: Qatari narration; Novel; Environmental novel; Ecocriticism; Approach

 

Cite this article as: Belabed, Abdelhak. "The environmental novel in Qatari narration - An ecocritical approach to the novel: Our World... The Feast of Days and Nights by Dalal Khalifa," Ansaq, Vol. 7, Issue 1 (2023), Special Issue on “Qatari Literature”

© 2023, Belabed, licensee QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited.

 


 

مقدمة

يعد النقد البيئي (Glotfelty and Harold 1996) منظورا جديدا للنقد الأدبي، لكنه ليس مجرد فرع منه. فقد أصبح هذا المنهج في تحليل النصوص الأدبية ممكنًا من خلال وجود الأدب "الأخضر"؛ لأهميته المتزايدة باعتباره الدواء الشافي للكوارث التي تعرفها البيئة في ظل هذه العولمة السائلة. لهذا تلح الدراسات البينية الحديثة خاصة الإيكولوجية منها، على خلق الوعي بضرورة وجود نمط مستدام بيئيًا للعيش من خلال النصوص الأدبية (رواية، شعر، مسرح، ِفلم..)، يشارك فيها النقد البيئي بالكشف عن العلاقة الموجودة بين الأدب والبيئة، وتحليل تلك العلاقة (Garrad 2014).

لهذا كان النقد البيئي اتجاهًا حديثًا في النقد الأدبي في القرن العشرين، يعمل على تقييم النصوص الأدبية باستخدام المقاربة البيئية، إنه إعادة النظر في العلاقة التي يضرب بها المثل بين الطبيعة والأدب التي مرت بتحول كبير في القرنين العشرين والحادي والعشرين؛ إذ أصبحت العلاقة بين الإنسان والطبيعة علاقة معقدة، ومن ثم فإن تصوير هذه العلاقة في النصوص الأدبية يتضمن النماذج الثقافية والسياسية للمجتمع البشري الحالي. فهو تحليل لكيفية تصوير الطبيعة والثقافة البشرية والخطة السياسية في النصوص الأدبية التي يمكن دراستها لإيجاد حل مناسب للكارثة البيئية الناشئة. هذا الشكل من النقد الأدبي متعدد التخصصات بطبيعته، يستخدم مبادئ من مختلف التخصصات، مثل: التاريخ، وعلم النفس، والفلسفة والأخلاق، والبيئة؛ لفهم العلاقة بين الطبيعة والأدب، هذه الثقافة الناشئة ذات الاهتمام البيئي التي تركز على الأدب والبيئة هي مجال متطور للنقد البيئي.

وقد صاغ ويليام روكرت مصطلح "النقد البيئي" في عام 1978 لمعالجة القضايا المتعلقة بالمناظر الطبيعية والبيئة، والتي لم تكن أبدًا من اهتمامات النقاد الأدبيين في وقت سابق. يقتبس جرج جرارد، في كتابه "النقد البيئوي" (جرارد 15-16)، تعريف شيريل غلوتفيلتي لهذا المصطلح الجديد، والذي ظهر في مقدمة (دليل القارئ للنقد البيئي):

"... دراسة العلاقة بين الأدب والبيئة المادية. مثلما يفحص النقد النسوي اللغة والأدب من منظور واعٍ بالجنوسة، ويضيف النقد الماركسي وعيًا لأنماط الإنتاج والطبقة الاقتصادية لقراءتها للنصوص، يتخذ النقد البيئي نهجًا محوره الأرض في الدراسات الأدبية" (Glotfelty and Harold XVIII- XIX لهذا جعلنا من النقد البيئي منهجا نتبعه في هذا البحث؛ إذ لم نجد دراسات نقدية عربية حللت الرواية القطرية من منظور بيئي؛ لذلك عولنا كثيرا على الدراسات البيئية الأصلية في مرجعياتها الغربية كما ذكر سابقا، مع مراعاة خصوصية النص الإبداعي العربي عامة، والقطري على وجه التحديد في وضع الآليات المنهجية للنقد البيئي.

وعليه، سنحاول من خلال قراءتنا للرواية القطرية، الكشف عن العلاقة بين الأدب المتمثل في الرواية والطبيعة (البيئة)، وحضور الوعي البيئي لدى الروائي القطري، ليجدد من أساليبه موضوعاته في الكتابة السردية، لهذا اخترنا إحدى الروايات التأسيسية في السرد القطري والذي عرفت وعيا بيئيا مبكرًا لا نجده في الكثير من النصوص الروائية العربية زمن كتابتها، وهي رواية (دنيانا... مهرجان الأيام والليالي) لدلال خليفة الكاتبة والروائية القطرية (الكواري 79-80)؛ إذ تعد مؤسسة للرواية القطرية مع أختها شعاع خليفة في روايتها (أسطورة الإنسان والبحيرة 1993)، وقد تنوعت كتاباتها بين كتابة إبداعية لرواية، والمجموعات القصصية، والمسرحيات، وترجمت معظمها إلى لغات أجنبية منها: الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، وكتابة صحفية في مجلات عربية وخليجية (خليفة).

وبالرجوع إلى رواية (دنيانا... مهرجان الأيام والليالي)، نجدها تسرد لنا معنى الحب في أسمى معانيه الإنسانية وهو يصارع الكلمات والأشياء؛ بين حب ضائع في مهرجان الأيام والأزمات، وحب مستعاد في هرج الليالي الحالكات، وهذا ما تصارعه وتقاومه الشخصيتان المركزيتان في الرواية (هند وماجد)؛ فهند الحائرة بين حبها لعائلتها وطاعتها للعادات والتقاليد، وبين فقدانها لحبها (ماجد) الذي تربى معها منذ زمن الولادة في المستشفى، إلى زمن الحب الأخضر (للطبيعة ومشاكلها)، محاولة اختراق السلطة الذكورية المجتمعية (الأب) لما سعى في طلاقها من ماجد قبل أسبوع من زفافها، وهذا ما أحدث صدمة للشاب المتعلم الخلوق ماجد الذي يحمل معه مشروعا إنسانيا لحماية البيئة وحل مشاكلها داخل العمل وفي المجتمع، إلا أنه لم يستطع حل مشكلته وإتمام زواجه من فتاة أحلامه التي تشبه حلمه الأخضر، وزهرة البراري المفقودة، ليقاوم جدار الصراعات العائلية الماضية التي تحول دون تحقيق حبه والزواج من هند، وحلمه وحمايته للبيئة؛ إلا أنه في النهاية كل الروايات التي تقاوم – بالكتابة - من أجل القضايا الإنسانية العادلة، ستنتصر على قهر المجتمع، لتخضر الطبيعة مرة أخرى، لما تجد البيئة (الإنسانية والطبيعية) من يخدمها.

1. شعرية الرواية الخضراء (من النص البيئي إلى المناص البيئي)

إن الشعريات قد تطورت بتطور موضوعاتها المدروسة، خاصة وهي تقارب موضوع البيئة، تؤسس لرواية خضراء تؤمن بالعدالة البيئية، وتشيّد جمالية مستدامة للنصوص الإبداعية، لهذا أصبح النص البيئي موضوعها، والباني لشعريتها، غير أن الدراسات في هذا الحقل المتعدد التخصصات ما تزال تعرف حراكًا بحثيًا (Jimenez 2019).

ولكن باستعانتنا بشعريات جينيت (Genette 1987)، وهو يبحث عن موضوع لها في النص ومصاحباته، سنتمكن من تطوير هذه الشعرية لتبحث عن الاخضرار في عتباتها النصية، أو ما يعرف بالمناص البيئي المصاحب (للنص الروائي البيئي) لدلال خليفة (دنياينا...مهرجان الأيام والليالي)، والتي تحاور الطبيعة من عتباتها النصية:

1-1.   العنوان وسمة الاخضرار

يعد العنوان أهم عتبة نصية، يمكن خلالها الولوج إلى فهم وظيفة تسمية الرواية من أولها (Hoek 1981)، يوحي لنا عنوان رواية (دنيانا) - نحن البشر - خطابات الانتصار والبهجة والسعادة في هذه الدنيا، كما يحمل لنا خطابات الانكسار والعزلة والكآبة؛ فهي بحق مهرجان يشكل لنا فسيفساء من الأشياء والكلمات، يتعالق فيه الدنيوي بالأخروي، والواقعي بالخرافي، والإنساني بالطبيعي، يحمل في ذاكرته سمات الكرنفال الباختيني متعدد الأصوات والشخصيات، المتصارعة في هذه الدنيا، والمتصالحة مع هذه الحياة.

فإذا كان العنوان يكثف الرواية، فإن العناوين الداخلية تعمل بوظيفتها الشارحة على التصريح في فصولها بما لم تقله نقاط الحذف في عنوانها الرئيسي (دنيانا...)، لتضفي عليها اخضرارًا ووعيًا بيئيًا من أولها؛ فدنيانا مثل المهرجان بأبعاده الصاخبة في هذه الطبيعة:

"... كل هذا في دنيانا الواسعة هذه، التي تموج بكل شيء لأنها مليئة بحمم بركان دائم الغليان...الحياة المتأججة تجعل الدنيا خصما هائلا متلاطم الأمواج من الناس والأشياء والأحداث..." (7)، كما أن هذا المهرجان البيئي تأوي إليه الغزلان النادرة التي يخشى عليها من الانقراض: "... مرت أيام وأشهر وهذه الفتاة تجري في الغابات الخضراء، وفي المروج بين الغزلان النادرة والتي يخشى عليها من الانقراض..." (23).

وتسعى أيام المهرجان ولياليه، لكف يد الإنسان عن التعدي على الغابات المطيرة، بقطع أشجارها وتحويلها إلى ورق:

"... مليون نسخة من هذا الكتاب! تعرف كم شجرة لازم تقطع عشان تنتج كمية الورق اللي بيستخدمونها ... الغابات المطيرة! ... هذه الغابات تتقلص وتقل، والله حرام، ما يدرون الناس إن الإسراف يؤذي الكون ويؤذينا كلنا؟" (60).

هذه العناوين الداخلية تشرح وتفسر عنوانها الرئيسي من خلال فصولها كما رأينا، حاملة معها سؤالها البيئي الذي يناضل من أجله كل من الشخصية الروائية (ماجد)، والروائية التي وظفت له معجما بيئيا يخاطب به باقي الشخصيات في مفاصل الرواية، وبداية من عنوانها.

1-2.    المقدمة في الرواية البيئية

تعد المقدمة من بين العتبات النصية المهمة، التي تجمع إليها الإعلان عن غرض الرواية وأهم القضايا المطروحة فيها( Leroy 2003)؛ إذ تعمل كاستراتيجية قرائية لتوجيه القارئ، لهذا أولتها دلال خليفة أهمية في بداية روايتها؛ إذ كتبت مقدمة ذاتية طرحت فيها قضية سردية تعرف عند المشتغلين بـ"ميتاسرد" (ثامر 7)، حين تحكي الرواية في مقدمتها عن كيفية تكوينها وعملية تأليفها، وخصت قضية (لغة الحوار في الرواية) بين استخدام اللغة الفصحى واستخدام اللهجة العامية (خليفة 4)، وهي من القضايا السردية المهمة التي عالجها النقاد واختلفوا فيها بين مؤيد ومعارض (شرف ومكاوي)، وهي من القضايا التي تعالج داخل البيئة اللغوية، وما تقتضيه البيئة السردية أيضا، وهذا ما أرادت الإشارة إليه الروائية؛ إذ إنها ترى في لغة الحوار خصوصية تحملها الشخصيات التي تضطرها إلى استخدام اللهجة العامية:

"أجبرتني بعض شخصيات الرواية مثل: نَيْلة، وراشد، ومريم على استخدام اللهجة العامية هذه المرة، لأن العربية الفصحى لم تناسبهما كثيرا، لذلك - ولأول مرة منذ بدأت الكتابة - ارتأيت أن أجرب استخدام العامية الخليجية في الحوار..." (4)؛ فاستخدام العامية في الحوار بالنسبة للكاتبة سمة تجريبية للكتابة الجديدة، التي تؤمن بمبدأ تعددية الأصوات في الرواية وحوارية اللغات بحسب باختين (71)، مراعية في ذاك بيئات الكلام والحوار، فهذه : "... تجربة لأسلوب جديد في كتابة العامية الخليجية لا أعرف إن كان هناك من سبقني إليه، والهدف منه إضفاء المذاق الخليجي دون تشويه لهجته بإخراجها من أصلها العربي" (5)، وهذا وعيٌ منها بأن اللهجات الخليجية ترجع في أصولها للبيئة العربية، فالمعجم الفصيح أو العامي ذو مرجعية بيئية تدل على كلماتها وأشيائها: "...بالمناسبة، فاسم نَيْلة يكتبه البعض نجلاء والبعض الآخر نائلة وفق تفسيرهم الخاص لمعناه وأصله العربي، ولكني أكتبه هنا نَيْلة كما يلفظ في الخليج تماما لأني وجدت له أساسا في العربية الفصحى؛ إذ يعكس المكسب الذي يناله الإنسان..." (5)، وقد حركت الكاتبة هنا الوظيفة البحثية والتوثيقية للمقدمة للحفر في ذاكرة اللهجات الخليجية، قصد ضمان القراءة الجيدة لروايتها، وتحقيق وظيفتها الجمالية والبيئية أيضًا.

1-3.    الصفحة الرابعة للغلاف ونشر الوعي البيئي

وهذا دليل آخر على أن رواية (دنيانا) رواية بيئية، للوعي البيئي الذي تحمله الكاتبة ليس داخل عملها الإبداعي فقط، ولكن حتى خارجه، فقد استدعت هذا الوعي البيئي في أحد الأماكن الاستراتيجية لعتبات الكتاب/الرواية، وهي ما نسميه تقنيًا (بالصفحة الرابعة للغلاف) (Genette 10)، والتي عادة ما تخصص لكلمة الناشر أو التعريف بالمؤلف وكتابه وأهم منشوراته، غير أنه على غير العادة حركت الكاتبة الطاقة الإعلانية والوظيفة الإشهارية لهذا العتبة النصية؛ لإعلان صوت مناضلة بيئية، تدعو المؤسسات والهيئات المهتمة بالبيئة في الدولة إلى الالتفات إلى القضية البيئية التي طرحتها في روايتها من خلال شخصيتها (ماجد): "كنت آمل أن تلفت دنيانا نظر المؤسسات المهتمة بالبيئة؛ لتحاول إعادة زهرة البراري الأليفة - كما أسميتها على لسان بطلي ماجد - إلى التراب القطري بعد أن اختفت منه، ولكنها لم تفعل في طبعتها الأولى، فهل تفعل الآن..." (الصفحة الرابعة للغلاف).

فالكاتبة تتحسر في ندائها لعدم وجود وعي بيئي مجتمعي، كما نقلته الشخصية البيئية الرئيسية في روايتها (ماجد)، وهو يبحث عن زهرة البراري الأليفة المفقودة (في فصل أين أنت؟)؛ فلما أيقنت الكاتبة أن نداءها البيئي في المناص السابق (الرواية في طبعتها الأولى) لم يسمع، ها هي تضطر في مناصها اللاحق (الرواية في طبعتها الثانية)، أن تعيد النداء البيئي بإغاثة زهرة البراري وحمايتها، في هذه العتبة التي يراها الجميع ويقرؤها الجميع: "... هل من يد خضراء تتمتع بشيء من الصلاحية إلى التراب القطري؛ لتعيد (زهرة البراري الأليفة) التي عملت فيها، بعد أنها ما تزال تغطي مساحات شاسعة في النمسا وربما غيرها من الدول الأوروبية وبلاد الشام... فهل يتاح لذاكرة الأجيال القادمة أن تختزن شذا هذه الزهرة الآسر كما اختزنته ذاكرتي" (الصفحة الرابعة للغلاف)، فقد خرجت الكاتبة من الوعي البيئي السردي إلى الوعي البيئي الواقعي لتحقيق العدالة البيئية وجعل الرواية تدافع عن القضايا الإنسانية عامة، والبيئية خاصة، وهذا هدف الرواية البيئية أو الرواية الخضراء سواء من خلال نصها أو مناصها (عتباتها).

2. النسوية البيئية والعلاقة بين الآخر والطبيعة

تعد النسوية الإيكولوجية أو البيئية (Warren 1997) إحدى أهم النظريات النقدية الجديدة؛ لاعتمادها على منهج بيني، تمكن من الجمع بين البيئي والنسوي، فإذا كان النقد البيئي يبحث في العلاقة بين الأدب والبيئية، فإن النسوي أصبح يبحث في موضوعات المرأة من حيث هي تماثل الاضطهاد الممارس على الطبيعة، ومحاولة قهرها وسلب حريتها، فهي تقاومه من أجل تفكيك مركزيته الذكورية.

ولقد كثرت الكتابة في النسوية البيئية لتعدد التيارات في هذه الحركة، لهذا بدأت النسوية البيئية بالبحث عن الحلول عن الهيمنة الذكورية على الطبيعة والمرأة؛ فتدمير الإنسان للطبيعة، شبيه بتدمير الرجل لحرية المرأة، لهذا يؤكد الباحثون أن هذه النسوية البيئية استجابت للحركات السياسية التي كانت في عقدي الستينيات والسبعينيات، وهي حركة الحقوق المدنية والنسوية، عن طريق الممارسات المستخدمة والإشهارية، وفهم العرق والجندر والطبقة (لغلر 31).

وهكذا اقترحت النظم النسوية البيئية أربعة مفاهيم رئيسة لشرح هيمنة الرجال على الطبيعة والنساء هي:

1-   المحاسبة، وهذا بالنسبة إلى السلطة الذكورية والهيمنة المجتمعية.

2-   الرجال أكثر ارتباطا بالثقافة والنساء أكثر ارتباطا بالبيئة؛ فالمرأة والبيئة يهيمن عليهما الرجال الذين يُعتبَرون المسيطرین على الموارد البيئية. وبما أن المرأة مرتبطة بالبيئة، فحصّة المرأة والبيئة من المكانة الاجتماعية أقل بكثير مما هي للرجل.

3-   يحدث اضطهاد المرأة والطبيعة في وقت واحد؛ فالمرأة هي المسؤولة عن إنهاء مركزية الهيمنة الذكورية على كل من المرأة والطبيعة.

4-   تسعى النسوية البيئية إلى الجمع بين النسوية والتفكير البيئي؛ لأنهما موجّهان نحو بنية ترفض التسلسل الهرمي وتقوم على المساواة (رهنما 26).

وعليه، تسعى النسويات البيئية إلى مكافحة التقسيم الطبقي الاجتماعي، والطبقية، والاستغلال، والهيمنة، والسلطة، والتمييز الجنسي ضد الطبيعة والمرأة. وتعتقد أنه لا ينبغي تهميش المرأة واعتبارها سلعة تباع للرجل؛ بل يجب أن يكون لها دورٌ أساس في المجتمع.

2-1.   صراع المرأة بين سلطة الأب والحب الأخضر

لقد تمثلت الكاتبة النسوية البيئية في روايتها من خلال الصراع العام القائم بين المرأة والطبيعة مع الآخر، المتمثل في الرجل الذي يمارس هيمنته الذكورية على جسد المرأة والطبيعة، ويحاول تدمير أحلامها، فهذه هند الشخصية الرئيسة في رواية دنيانا، ذات القلب الأخضر والمحبوبة من الجميع؛ لما استيقظ فيها حب صاحب السيارة الخضراء(ماجد) توازنت بيئتها النفسية والاجتماعية، لما كانت ترسمه في أحلامها الخضراء عن ملامح فارس أحلامها في بيئة غريبة غير مألوفة لها:

"كانت تلك الألفة غريبة جدا مع أنها رأت ذلك الإنسان من قبل. ومن أجل حديث العيون ذاك تغيرت الصورة القديمة التي تحتل ذهنها عن رجلها المستقبلي، أو بالأحرى تطورت...أصبح لها وجه محدد!" (31)، غير أن هذا التوازن الكوني للذات الذي أحدثته كيمياء البيئة منذ ولادة (هند وماجد) في المستشفى نفسه، إلى لقائهما العابر في رحلة الطالبات، وإلى غاية خطوبتهما... سيتغير بين عشية وضحاها، حين تحدث الصدمة، فذلك الأب (راشد) المهتم بابنته وزواجها من صهره الخلوق، لم يعد كذلك، بل أصبح يسعى جاهدا لفسخ الخطبة وطلب طلاقها من ماجد بأي ثمن: "لكم أحب راشد صهره، لقد عشقه وأصبح يفرح بمرآه ويدعوه إلى بيته المرة تلو المرة...وتسعد به مريم وابنتها..." (148)، كل هذا لم يشفع لماجد نصير البيئة والحب الأخضر، لأنه أصبح السبب في اختلال التوازن البيئي والاجتماعي والنفسي في عائلة راشد، بعدما عُرف اسم والد ماجد وعائلته:

"... وفي إحدى السهرات تدخل هند لتقديم الشاي لأبيها وزوجها وهما يتحدثان في مستقر الأب

أبوي اسمه علي... علي بن مبارك الحمدان...

علي بن مبارك راعي المجمعات التجارية ووكالة الـ...؟

انتفض الأب من الداخل لدى اكتشافه لهذه المعلومة..." (151).

وهنا تبدأ ماكينة القمع الذكوري في الاشتغال ويطفو الصراع بين هند ووالدها، هل تطيع والدها وتنفصل عن ماجد أم تصغي لحبها الأخضر وتبقى معه؟ هنا يأتيها الرد بلهجة صارمة:

" هذا الرجال ما يصلح لك.

؟؟؟

ما يصلح لي؟ ألحين؟

إي، لحد الحين ما صار شيء... الزواج ما تم، والحين لازم يطلقك" (153).

يأتي خبر الطلاق كالصاعقة على هند، وكأنها زهرة البراري اقتلعت من بيئتها الخضراء، فبدأت تذبل، وتصارع المجهول رغم كل توسلاتها بصوتها المقهور بأن يعود الوالد عن رأيه، بل تمادى في سلطته وكأنه يحجب إرادتها باختيار زوج آخر لها، وهنا في لحظة لا وعي من هند مسلوبة الإرادة خوفا على حبها الأخضر الرافض لطلاقها من جهة، وطاعة لوالدها لكيلا يزيد مرضه مرضا من جهة أخرى، لتخضع هند في النهاية لمصيرها المحتوم، كما خضعت الطبيعة لقهر الإنسان الأول: "ما أقدر أطلقك يا هند ما أقدر... أنا مستحيل أقهر أبوي، أفضل أعيش سنين على أمل أنه بيرضى في يوم من الأيام، ولا أسوي شيء ممكن يرفع ضغطه ويقتله... أنت طالق وأنا متأكدة أن كل شيء بيتصلح في المستقبل ما دام احنا متمسكين ببعض كل شيء يتصلح..." (169).

وعند بداية تساقط أوراق الخريف يستنجد ماجد وهند بالطبيعة المسالمة ليقاوما بحبهما الأخضر قمع بني البشر، فحتى العقل لا يستوعب هذا الظلم: "عقل ماجد لا يستوعب الطلاق بتاتا ولا يتخيل الحياة القادمة بدون هند. كيف وقد وصل معها إلى مرحلة الانحياز الأكبر، المرحلة التي لا تراجع في الحب بعدها؟ ألم تعجبه لقربها من الطبيعة ثم تعجبه بأظافرها المطلية البعيدة عن الطبيعة؟ أليس متأكدا من أنها ستظل تعجبه، حتى لو صبغت شعرها باللون القرمزي وأظافرها بالأسود...أليس هذا هو الانحياز الأكبر؟" (157-158)، وهذا إعلان بأن الطبيعة الإنسانية الصافية دائما تنتصر وتقهر تسلط أعداء البيئة، وأن الحب الأخضر لا يكف عن التغريد بأنشودة الحياة السعيدة، بعد عودة التوازن البيئي للعائلة، واكتشاف أن طلاق ماجد لهند كان مزيفا بعد رجوع الوالد عن رأيه الذي يخالف الطبيعة ومنطق الحياة، ليرجع المحبان إلى حضن الطبيعة مرة أخرة وتتحقق العدالة البيئية، فينشد الحب الأخضر شعرا بيئيا مستعرضا مكونات الطبيعة والحياة والأمل:

"هكذا عدت إليّ

.......

عدت تأخذ بيدي

عبر بحر من أنين

وإلى غابات سحر

من حقول الياسمين

من ورود وزهر

وطيور هائمين

......" (206-207).

3. الشخصية السردية والتفكير البيئي (بين التلوث اللغوي والتلوث البيئي)

نجد الشخصيتين المحوريتين في الرواية (هند وماجد) تحملان حب الطبيعة والهاجس البيئي، ما كوّن لهما وعيا بيئيا متعدد الأوجه؛ لأن التفكير البيئي يأتي من الوعي بالقضية والنضال من أجلها على الرغم من كافة الصعاب التي واجهتها الشخصيتان في الرواية، إلا أننا سنقف عند ظاهرة بيئية مهمة اختلفت مرجعياتها عند الشخصيتين، وائتلفت غاياتها؛ وهي ظاهرة التلوث الذي يعد من الأخطار الكبيرة اللاحقة بالبيئة، إلا أننا سنحلله من جهتين، جهة التلوث اللغوي الذي يلحق دمارا بطبيعة اللسان كما تمثلته هند، وتلوث بيئي يلحق دمارا بالطبيعة من الإنسان كما مثله ماجد في الرواية.

3-1.   التلوث اللغوي في الرواية

اللغة التي نستخدمها، مثل الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والطعام الذي نأكله؛ يتزايد تلوثه، كلما تلوث ما حوله، لهذا عد التلوث اللغوي من بين جميع أشكال التلوث الناتجة عن النشاط البشري، أحد أكثر أشكال التلوث تدميراً هو تلوث اللغة (GROSS 188-200)، خاصة إذا جاء جراء الحروب اللغوية، وما تفرزه وسائل الإعلام الجديدة من هيمنة لغوية، تعمل على محو الهوية اللغوية لشعوب العالم الثالث والأقليات اللغوية، لهذا وجب حماية اللغات والحفاظ عليها للأجيال القادمة.

لقد وعت الشخصية الروائية (هند) خطورة التلوث اللغوي على المنظومة التعليمية عامة، وطالبات اللغة العربية على وجه الخصوص، من موقعها معلمة لمادة اللغة العربية أرادت أن تواجه هذا التلوث بما امتلكته من خبرة وطرق تدريسية جديدة ابتكرتها، ولكن دائما ما تزعجها الأخطاء المتكررة في دفاتر طالباتها عند التصحيح، وكثيرا ما تدخل في نقاش لحد التذمر مع أمها حول ما آلت إليه اللغة العربية عند أبنائها الذين لا يفقهون أبسط قواعدها:

"... حذفت هند الدفتر الثالث على الأرض... وعندئذ دخلت عليها والدتها، وأخذت تلتقط الدفاتر من الأرض ومن ثم وضعتها على المكتب ثانية.

ما توبين عن هالجنون؟ ليش تسوين هالمشكل؟

باسوي هالشكل لحد ما يتعلمون يفرقون بين التاء المربوطة والمفتوحة.

العوذ بالله من الشيطان الرجيم.

يمه هذي مب سحر، هذي شي لازم يتعلمونه!" (14-15).

فنرى مدى حرص هند على التعليم في بيئة سليمة تحافظ على قواعد اللغة وسلامتها، فهي مناضلة شرسة من أجل حماية اللغة العربية من التلوث؛ وكثيرا ما كانت تنفذ طرقا وأساليب تدريسية جديدة لتعليمها، كأحد الحلول للتقليل من التلوث اللغوي لدى الطالبات، وعدم مواكبة المناهج لهذه الحلول: "... ثم تشتكي من أن مناهج اللغة العربية لا تلقى الاهتمام الكبير الذي تلقاه بعض المواد الأخرى رغم أن مشاكل تعليم اللغة العربية واضحة وضوح الشمس..." (35)، فهي يوميا تناضل من أجلها خاصة مع زحف اللغات الأجنبية والإعلام الجديد على اللغة العربية وحب الطالبات لهذه اللغات مما أفسد عليهن لسانهن، فهي تقدم مثالا على ذلك، حينما طلبت من طالبة كتابة كلمة (تظهر)، لترد عليها الطالبة: "الظا أم شخطة ونقطة وإلا أم نقطة بس؟

وعندما رفعت المدرسة الجديدة حاجبيها دهشة ولما تستوعب الموقف، عادت الطالبة إلى السبورة وأكملت الكلمة فكانت (تضهر)، عندئذ اختبرت هند بقية الطالبات وصدمت؛ لأن السواد الأعظم منهن لا يميز بين الحرفين ولا ينطق إلا حرفا واحدا هو حرف الظاء" (35).

وحتى هذا التلوث اللغوي لحق بهند من بيئة المدرسة، إلى بيئتها الأسرية، مع الأخطاء اللغوية المتكررة لأخيها سعد وهو يضع لها ملصقات مكتوبة بحاجاته على باب غرفتها: "... تستيقظ هند من النوم عصرًا... فتتفاجأ برسالة ملصقة على بابها...حتى أنت يا السعد لا يريد أن يتعلم، تماما كبعض طالباتها! تنزع الورقة وتكتب له أخرى:

يجب أن تتعلم ألا تكرر أخطاءك، وكان الاتفاق بيننا أنني لا أنفذ طلباتك المكتوبة إلا إذا كتبت بلغة صحيحة، قد سامحتك مرتين قبلها ولن أسامحك هذه المرة..." (37)، هذه هي هند الشخصية السردية التي رسمتها الكاتبة، تناصر قضايا البيئة في إصلاح ما أفسده الإنسان في طبيعة اللسان.

3-2.   التلوث البيئي في الرواية

تعد الشخصية السردية لماجد، شخصية بيئية، استطاعت الكاتبة أن تقترب بها من الشخصية المفهومية عند (جيل دولوز) (دولوز وغتاري 77)، لما تحمله من أفكار مبدعة تجاه قضايا البيئة، للبحث بها عن حلول وتجسدها على أرض مجتمع الرواية، فشخصية ماجد في الرواية لا تبحث عن هويتها السردية فقط، بقدر ما تبحث عن هويتها البيئية وانتمائها للطبيعة وهذه الأرض، فهي واعية بقضيتها المصيرية (البيئة)، فمؤهلاته العلمية وسلوكاته الإنسانية، وعاطفته الوجدانية (مع هند) وتطلعاتها المستقبلية كلها مُسخّرة لمشاكل البيئة.

فمؤهلات ماجد كما ذكرتها أخته منيرة أو كما جاءت في مقابلته للعمل مع فيصل أنه مختص في:

"... كومبيوتر صح؟

إي، وعلوم بيئة بعد، تخرج من سنتين ثلاث من لندن، ودور على وظيفة مناسبة لكي ما حصل مجال في أماكن تناسب طموحه" (47).

فماجد ليس ككل الشباب لا يريد وظيفة لا يبدع فيها، ولا يكون هناك قضية يدافع عنها، فشهاداته العليا في علوم البيئة، علمته النضال فأصبح سلوكا يوميا له (54)، حتى سيارته الخضراء صديقة البيئة لازمته طيلة الرواية لم يفارقها (خليفة 11)، إلا عند اكتمال حبه الأخضر وزواجه بهند، عندها فقط غيرها بسيارة صديقة للبيئة أيضا بلون أزرق زرقة السماء كما تحبه هند، وأصوات السيارات تزفه لعروسه بأبواق طبيعية تحاكي صوت الديك (208)، ليس بصوت صاخب كبداية الرواية؛ ولكن بصوت من الطبيعة ومحب للبيئة، وهذا ما يدل على الوعي البيئي للشخصية السردية الخضراء.

وهذا كله أدخله في نضال مستمر ومستدام مع أصدقائه في العمل وخارجه حماية للبيئة، حتى سبّب له إحراجا وضجرا في محيطه العائلي والمهني، لأنه لا يريد أن يعمل من أجل العمل، وألا يكون آلة في يد الآخرين؛ ولكن أن يعمل من أجل قضية ما، هدف أسمى (الحفاظ على البيئة)، وهذا ما لاحظه عليه مديره فيصل أخو هند بعد أسبوع من توظيفه لما دخل مكتبه:

"... وجد أن تلك الغرفة التي كانت مخزنا أصبح لها منظر آخر، كان في الواجهة صورة كبيرة وظريفة لدب البندا، وعلى جانبيها صورتان أصغر حجمًا لنوع من الطيور ونوع من الضفادع، وخلف مكتبه يظهر أعلى رأسه ملصق كبير لغابة خضراء ساحرة الجمال..." (55-56)، وهنا دخل فيصل في حوار مع ماجد المناضل البيئي بعد مشاهدته كل هذا الاخضرار في مكتبه:

" مبين عليك فنان يا مايد، المكان ذي كان مخزن كئيب قبل ما تجي.

......

مب فنان، لكن مثل ما تعرف مهتم بالبيئة

صح بس ما يمنع أن اللوحات حلزة.

......

بس أنا ما علقتها عشان جمالها... الهدف منها أكبر، وهو إنها تذكرني دايما بقضيتي الكبيرة، وتلفت نظر الناس لمشاكل البيئة عشان يفكرون فيها..." (56)، ودخل بعدها مع مديره في جدال كبير حول كيفية حماية الغابات المطيرة، وعدم قطع الأشجار واستغلالها في صنع الورق، والطريقة الكفيلة بتحسيس الموظفين بإعادة تدوير الأوراق في مكتبهم، إلا أن كل جهوده باءت بالفشل، لهذا رد على مديره لما سأله عن إمكانية تبني الناس لأفكاره البيئية:

"يمكن ما يتبنونها، لكن يمكن يحسون بوجودها على الأقل.." (56-60-65)، وهذه دعوة من ماجد إلى الإحساس بالبيئة قبل زيادة وعي الأفراد بها، لأنه مهموم: "...بمصير الغابات المطيرة وما يحدث لخشبها،...وبأهمية الحفاظ على طبقة الأوزون، وضرورة حماية ضفدع السم والأفعى ذات الجرس..." (60-65)، أمام هذا الوعي الكبير بمشاكل البيئة، قرر ماجد كتابة مقالات بيئية توعوية في إحدى الصحف المحلية بتشجيع من مديره فيصل، فعلى الرغم من الصعاب التي واجهها في البداية؛ إذ رفضت كل مقالاته التي لا تخدم توجه الصحف، غير أنه قاوم رفضهم بالكتابة عن البيئة، لينتصر في النهاية ويدخل مرحلة ممارسة الكتابة البيئية، فكان أول مقاله في صحيفة الراية، هو البحث عن زهرة البراري الأليفة التي فقدت في قطر، فكان عنوان مقاله: (زهرة البراري الأليفة أين أنت؟) (37، 74-75).

لتتوالى مقالاته البيئية التوعوية بمواضيعها المختلفة (80-82):

-      المحافظة على الحياة البرية في قطر.

-      إصدار قانون يحمي الأرانب البرية في الشمال ومنع الصيد غير المشروع (بالكلاب).

-      فلنكرم أجمل ضيوفنا (عن مصير الطيور المهاجرة التي تأتي من دول أخرى لتقضي المواسم الباردة في قطر).

إلا أن زهرة البراري الأليفة بقيت قضيته البيئية المستمرة، والتي عبرت عنها الكاتبة أيضا من خلاله، إلا أن ماجد صاحب الشخصية المفهومية مبتكرة المفاهيم والأفكار، ينظر كثيرا إلى مستقبل البيئة، وما سيتركه للأجيال القادمة (وهذا أيضا دعت إليه الكاتبة كما حللناه)، وكيفية تدريبهم على حب الطبيعة والحفاظ على البيئة المحيطة بهم.

لهذا انطلقت فكرته البيئية الجديدة من حكايات الجدات والأمهات عن (الحيّة)، ذلك التقليد الشعبي الذي يقام عند اقتراب شهر ذي القعدة، وقرب الناس من ليلة عيد الأضحى:

"... يبذر شعير أو رشاد في سلة من الخوص... وتعلق في أحد أركان البيت وتسقى كل يوم...في ليلة العيد يخرج الصغار جميعا إلى الشاطئ ليرموا للبحر بهذه السلال التي يكون قد نما فيها الزرع..." (178)، وهذا يظهر حبا للبيئة وتصالحا مع الطبيعة، والأطفال في بهجة يغنون لعودة الحجاج سالمين غانمين، ويستبشر أهاليهم بأن يكون العام عام خير وبركة؛ فقد ألهمت هذه الفكرة القديمة لماجد فكرا بيئا جديدا، ولهذا كتب مقالا من وجهة نظر بيئية، وكيفية إحياء هذا التقليد مع الأطفال من الجيل الجديد، فجمع أطفال العائلة والأصدقاء، ليدربهم ويحفزهم على غرس (الحيّة)؛ ولكن بدلا من أن يلقوها في البحر، سيغرسونها في بيت العمة لتستمر البيئة في الاخضرار:

"ليلة العيد كانت ليلة مشهودة...غنى ثلاثون طفلا للحية على شاطئ البحر، ثم بدلا من أن يلقوا بها في البحر غرسوها في حديقة منزل العمة، في المساحة الفارغة التي كان ماجد يراها ناقصة. وغنوا لها ثانية وهم يغرسونها في الحديقة الواسعة تحت ضوء القمر..." (179)؛ لتحقق بذلك الشخصية السردية وعيها البيئي من خلال تحقيق هويتها البيئية والمفهومية، وإبداعها لمفاهيم وطرق جديدة للحفاظ على التراث البيئي القطري في البحث عن (زهرة البراري الأليفة)، وإحياء تقليد (الحيّة) لدى الأجيال القادمة.

الخاتمة

بعد طول تأمل في هذا البحث الذي حاولنا أن نبحث عن حضور الرواية الخضراء في السرد القطري، وإمكانية تطبيق أحد المناهج البينية الجديدة على الرواية القطرية، وهو النقد البيئي الذي ما يزال يعرف حراكًا بحثيًا في الجامعات الغربية وعند المتخصصين، وبعض الاجتهادات التطبيقية القليلة في الجامعات العربية.

إلا أننا توصلنا بعد التحليل أن الرواية القطرية في بداياتها كانت تعتمد في موضوعاتها السردية على المكون البيئي؛ إذ نجد أنها عالجت البيئة الصحراوية (زمن البدو)، والبيئة البحرية (زمن الغوص)، والبيئة الحضرية (زمن النفط)؛ فهذا ما أوجد لها وعيًا سرديًا تجريبيًا من جهة، ووعيًا بيئيًا من جهة ثانية، كما تجسد ذلك في كتابات العديد من الكتاب القطرين (أحمد عبد الملك، شمة الكواري، جمال فايز، شعاع خليفة...)، وتجسد - سرديًا - في معظم الكتابات السردية لدلال خليفة خاصة في روايتها المدروسة (دنيانا...مهرجان الأيام والليالي)، ومن أهم النتائج التي وصلنا إليها:

-      قابلية السرد القطري للتحليل من منظور النقد البيئي والدراسات البينية.

-      وعي الروائي القطري بمشاكل البيئة، ومحاولته معالجتها سرديًا.

-      النضج السردي المبكر للرواية القطرية، وطرحها لمشاكل البيئية المحلية والعالمية.

-      الرواية القطرية - وهي تحاول رصد التحول الاجتماعي الذي مرت به دولة قطر- استطاعت ممارسة التجريب الروائي لفهمه.


 

المراجع

أولا: العربية

باختين، ميخائيل. الخطاب الروائي. ترجمة محمد برادة، دار الفكر لدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1987.

ثامر، فاضل. المبنى الميتا سردي في الرواية. دار المدى، بيروت، ط1، 2013.

جرارد، جرج. النقد البيئوي. ترجمة عزيز صبحي جابر، ط1، أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، ط1، 2009.

حسين شرف، سحر. مكاوي، عزت. "لغة السرد في الرواية العربية، الصراع بين العامية والفصحى". مجلة مركز الخدمة للاستشارات البحثية. كلية الآداب، جامعة المنوفية، مصر. ع49، 2014.

خليفة. دلال. الموقع الإلكتروني للكاتبة. الرابط: http://www.delalkhalifa.com /

–––. دنيانا مهرجان...الأيام والليالي. دار الثقافة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط2، 2011.

دولوز، جيل وغتاري، فليكس. ما هي الفلسفة. ترجمة مطاع الصفدي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1997.

الكواري، محمد حسن. دليل المؤلفين القطريين. وزارة الثقافة والفنون والتراث، دولة قطر، ط1، 2012.

لغلر، غرتش ب. "مقدمة في النقد البيئي النسوي". النقد البيئي مقدمات، مقاربات، تطبيقات، إعداد وترجمة نجاح الجبيلي، دار شهريار للنشر، العراق، ط1، 2021.

ثانيا: الأجنبية

References

Al-Kawwārī, Muammad asan. Dalīl al-muʼallifīn al-Qaarīyīn. (in Arabic), Wizārat al-Thaqāfah wa-al-Funūn wa-al-Turāth, Dawlat Qaar, 1, 2012.

Bākhtīn, Mīkhāʼīl. Al-khiṭāb al-riwāʼī. (in Arabic) tarjamat Muammad Barādah, Dār al-Fikr li-Dirāsāt wa-al-Nashr wa-al-Tawzīʻ, al-Qāhirah, 1st ed., 1987.

Dūlūz, jīl. Filīks ghtāry, Filīks. mā hiya al-falsafah, tarjamat Muṭāʻ al-afadī, (in Arabic) al- Markaz al-Thaqāfī al-ʻArabī, Bayrūt, 1st ed., 1997.

Garrad, Greg. The Oxford Handbook of Ecocriticism. Oxford UP, Oxford, 2014.

Genette, G. seuils, ed. Du seuils, Paris, 1987.

Glotfelty, Cheryll and Harold, Fromm, eds. The Ecocriticl Reader: Landmarks in Literary Ecology. The U of Georgia P, Athens, 1996.

Gross, Ronald. On Language Pollution, ETC: A Review of General Semantics, Institute of General Semantics, June 1969, vol. 26, no. 2,June 1969, pp. 188-200.

Hoek, Loe. la marque de titre, dispositive Sémiotique d'une pratique texteuelle, ed. La Haye Mouton, Paris, 1981.

usayn Sharaf, Saar. Makkāwī, ʻIzzat. "Lughat al-sard fī al-riwāyah al-ʻArabīyah, al-irāʻ bayna al-ʻāmmīyah wa-al-fuṣḥá". (in Arabic) Majallat Markaz al-khidmah lil-Istishārāt al-bathīyah, Kullīyat al-Ādāb, Jāmiʻat al-Minūfīyah, Mir. ʻ49, 2014.

Jimenez, David Barreiro. La construction d'un imaginaire environnemental dans les trios romans hispano-américains: La Voragine (1924) Los pasos perdidos (1953), La casa verde (1965). Une étude écopoétique. De l'Université Paris Nantes, 2019

Jrārd, jrj. al-naqd albyʼwy. tarjamat ʻAzīz ubḥī Jābir, (in Arabic) 1st ed., Abū aby lil-Thaqāfah wa-al-Turāth (Kalimah), 1st ed., 2009.

Khalīfah, Dalāl. dnyānā Mihrajān ... al-Ayyām wa-al-layālī, (in Arabic) Dār al-Thaqāfah lil-ibāʻah wa-al-Nashr, Bayrūt, Lubnān, 2nd ed., 2011.

Khalīfah. Dalāl website, http://www.delalkhalifa.com

Leroy, Maxime. La preface de roman comme system communicationnel: autour de Walter Scott, Henry Jemes et Joseph Conrad, Thèse de doctorat (Nouveau Doctorat), Soutenue à lUniversité dAngers le 6 Décembre 2003.

Lighlar, ghrtsh b. "muqaddimah fī al-naqd al-bīʼī al-niswī". (in Arabic) al-naqd al-bīʼī muqaddimāt, muqārabāt, tabīqāt, iʻdād wa-tarjamat Najāḥ al-Jubaylī, Dār Shahrayār lil-Nashr, al-ʻIrāq, 1st ed., 2021.

Thāmir, Fāḍil. al-mabná almytā Sardī fī al-riwāyah.(in Arabic) Dār al-Madá, Bayrūt, 1st ed., 2013.

Warren, Karen J. Ecofeminism, Culture, Women, Nature. Indiana University Press, 1997.