تاريخ الاستلام: 27 سبتمبر 2022

تاريخ التحكيم: 13 أكتوبر 2022

تاريخ القبول: 7 نوفمبر 2022

السميائيات التأويلية: بحث في مستويات الإدراك والتأويل

عبد السلام إسماعيلي علوي

أستاذ، قسم اللغة العربية، كلية الآداب والعلوم، جامعة قطر

ismaili1203@gmail.com

عبد الرحيم دودي

باحث بمختبر السميولسانيات التطبيقية، جامعة مولاي إسماعيل، المغرب

abderrahim151615@gmail.com

ملخص

لقد استطاعَ الإنسانُ بالعلامات ومن خلالهَا أن يعبُر من العالم الطبيعي المادي إلى العالم الثقافي الرمزي، لقد استطاع أن يُنتِج فكره الخاص، وأن يبني ذاكرته الجماعية الوضعية، تارك وراءهُ كلَّ الكائنات بلا فكرٍ ولا مرجع ولا ذاكرة، تعيش وفق مسارٍ طبيعي لا يتغير، أي وفق مسار نمطي يتكرر؛ ولكنه لا يتطور. إِنَّ العلامةَ هيَّ الوسيلة التي من خلالها تأنسن الإنسان، وخلَّص نفسه من إكراهات الطبيعة، إلى رحابة الثقافةِ التي منحتهُ أدواتٍ رمزية أودعَ فيها قيَمهُ وآمالَهُ وأحلامَه، وضمّنها عاداته وتقاليده. لقد مكنت العلامات الإنسانَ من إعادةِ صياغةِ الوجودِ خارج إكراهات التجسيد والحضورِ الماديّ للأشياء، لقد يسرتْ له مَفْهَمَة الكون وسَمْيَأَتَهُ، يسرت له تقطيعه وتصنيفه داخل عوالم تجريدية رمزية مخصوصة. وبذلك تمكَّن من امتلاك هذا الكون ذهنيًا والإمساك بدلالاته معرفيًا، حتى غدا متحكمًا فيه بتجريداته الذهنية واستبدالاته الرمزية.

تلكم هي الدعوى أو الفرضية الأساس التي يُحاجج لأجلها كل سميائي. وهي نفسها الدعوة التي نسوق لأجلها هذا البحث، على هدي خلفيةٍ معرفية نظرية، منطلقها السميائيات التأويلية، وموضوعها العلامة وسيرورة التدليل اللامتناهية. يهدف هذا البحث إذن، إلى رصد مكونات العلامات وآليات اشتغالها من منظور سميولساني، وذلك من خلال ثلاثة محاور: خُصِّص المحور الأول لبيان الخلفية المعرفية التي استندت إليها السميائيات التأويلية في بلورة التصور العام للعلامة. وخُصِّص المحوران الثاني والثالث للوقوف عند تفاصيل هذا التصور.

الكلمات المفتاحية: السميائيات، العلامة، الإدراك، التأويل، السميوزيس

 

للاقتباس: إسماعيلي علوي، عبد السلام، دودي، عبد الرحيم. «السميائيات التأويلية: بحث في مستويات الإدراك والتأويل»، مجلة أنساق، المجلد السادس، العدد 2 (2022).

© 2022، إسماعيلي علوي، ودودي، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. تم نشر هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.

Received: 27 September 2022

Reviewed: 13 October 2022

Accepted: 07 November 2022

 

Interpretive Semiotics: Research in the levels of perception and interpretation

Abdeslam Ismaili Alaoui

Professor, Department of Arabic Language, College of Arts and Sciences, Qatar University

ismaili1203@gmail.com

Abderrahim Doudi

Researcher, Applied Semiotics Laboratory, Moulay Ismail University, Morocco

abderrahim151615@gmail.com

Abstract

Through the signs, Man was able to pass from the physical, natural world to the symbolic cultural world. He was able to produce his own thought and build his positive collective memory, leaving behind all beings without thought, reference or memory, living according to a natural path that does not change, i.e., according to a path which is always repeated, but does not evolve. The sign is the means by which man becomes human, and frees himself from the constraints of nature, to the spaciousness of the culture that gave him symbolic tools in which he deposited his values, hopes and dreams, and included his customs and traditions. Signs have enabled man to reformulate existence outside the constraints of embodiment and the physical presence of things. Thus, he was able to possess this universe mentally and grasp its semantics epistemologically, until he became in control of it with his mental abstractions and symbolic substitutions.

That is the basic claim or hypothesis for my research. It is, also, the same call for which we are driving this research, on the guidance of a theoretical knowledge background, its starting point is interpretive semiotics, and its theme is the sign and the endless process of evidence. This research aims, then, to monitor the components of signs and the mechanisms of their functioning from a semiotic perspective, through three axes. The first axis was devoted to explaining the cognitive background on which interpretative semiotics were based in crystallizing the general perception of the sign. The second and third axis were devoted to examining the details of this perception.

Keywords: Semiotics; Sign; Perception; Interpretation; Semiosis

 

Cite this article as: Ismaili-Alaoui, A., Doudi, A. "Interpretive Semiotics: Research in the levels of perception and interpretation," Ansaq, Vol. 6, Issue 2 (2022).

© 2022, Ismaili-Alaoui & Doudi, licensee QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited.

 

 

مقدمة

لقد حوَّلت الثقافة الإنسانَ من مجردِ كائنٍ بيولوجي يحيا ويفنى إلى كائنٍ رمزي يفكِّر ويعبّر، كائن يستطيع انتزاعَ العالمِ الخارجي من ماديته الصلبة، لِيُودِعَهُ في "أشكال رمزية" بالغة التنوع والتعقيد. وَبهذا الاعتبار، امتلك الإنسانُ العوالم الخارجية المحيطة به ذهنيًا، فاستغنى بالرموز والعلامات للتعبير عن الأشياء في غيابها وعن الوقائع والأحداث دون إحضارها.

لقد استطاعَ الإنسان بالعلامات ومن خلالهَا، أن يعبُر من العالم الطبيعي المادي إلى العالم الثقافي الرمزي، لقد استطاع أن ينتج فكره الخاص، وأن يبني ذاكرته الجماعية الوضعية، تاركًا وراءهُ كلَّ الكائنات بلا فكر ولا مرجع ولا ذاكرة، تعيش وفق مسارٍ طبيعي لا يتغير، أي وفق مسار نمطي يتكرر؛ ولكنه لا يتطور. إِنَّ العلامةَ هي الوسيلة التي من خلالها تأنسن الإنسان، وخلَّص نفسه من إكراه الطبيعة، إلى رحابة الثقافةِ التي منحتهُ أدواتٍ رمزية أودعَ فيها قيَمه وآمالَهُ وأحلامَه، (إيكو، العلامة 9). وضمّنها عاداته وتقاليده. لقد مكنت العلامات الإنسانَ من إعادةِ صياغةِ الوجودِ خارج إكراهات التجسيد والحضورِ الماديّ للأشياء؛ لقد هوَّنت عليه مَفْهَمَة الكون وسَمْيَأَتَهُ، هونت عليه تقطيعه وتصنيفه داخل عوالمٍ تجريدية رمزية مخصوصة؛ وبذلك تمكَّن من امتلاك الكون ذهنيًا والإمساك بدلالاته معرفيًا، حتى غدا متحكمًا في هذا الكون بتجريداته الذهنية واستبدالاته الرمزية.

تلكم هي الدعوى أو الفرضية الأساس التي يحاجج لأجلها كل سميائي، وهي نفسها الدعوة التي نسوق لأجلها هذا البحث، على هدي خلفية معرفية نظرية، مُنطلَقها السميائيات التأويلية، وموضوعها العلامة وسيرورة التدليل اللا متناهية.

يهدف هذا البحثُ إذن، إلى رصد مكونات العلامات وآليات اشتغالها من منظور سميولساني، وذلك من خلال ثلاثة محاور. يُخصَّص المحور الأول لبيان الخلفية المعرفية التي استندت إليها السميائيات التأويلية في بلورة التصور العام للعلامة، ويُخصَّص المحوران الثاني والثالث للوقوف على تفاصيل هذا التصور.

1. من الفلسفة إلى السميائيات: جهات الوجود ومستويات الإدراك

لقَدْ شكَّلت المقولاتُ الفلسفية الفينومينولوجيّة، الأساسَ المعرفي الذي قامت عليه تَصوراتُ "ش. س. بورس" للعلامة، فَالعلامةُ من هذا المنطلق ليست سوى تجسيد لرؤيةٍ إدراكيّةٍ، تَرَى أن الموجودات بشتى أنواعها وأصنافها، تمثل كياناتٍ منظمة مِن خلال مقولاتٍ كبرى. إِنَّ هذه المقولات الفلسفية تُمَثِّلُ مقترحات إجرائيّة تَسمحُ لَنَا بفهم سبل انتقال العالم الخارجي مِنْ عالمٍ طبيعي عيني، إلى عالم ذهني تجريدي يُمثِّل البعد الرمزي في الكونِ الإنساني. إن الأمر يتعلق بإجابات عن أسئلة من قبيل: كيف ينتقل العالم الخارجي من طبيعته الماديّة الملموسة إلى أشكالٍ تجريدية وبدائلَ رمزيّةٍ تُيسِّرُ للإنسان امتداده في محيطه الخارجي؟ ماهي الحدود الفينومينولوجية لهذا الامتداد الرمزي؟ كيف يتحول الكون إلى علامات؟ وكيف تشتغل العلامات في سياق هذا التحول المعقد؟

لَيسَ الوجودُ الإنســانيُّ – كمَا حدَّدهُ "بورس" – إلا حصيلةَ سيرورةٍ إِدرَاكِيَّةٍ، تَرى في الوجودِ كيانًا مُحدّدًا من خلالِ مقولاتٍ فلسفية ثلاث، تضبطُ وحداتِه وتحدد معالمه وحدوده. إن "ما يجربه الإنسان وما ينتجه ينبغي أن يُفهَم باعتباره حصيلة تفاعل دقيـق بين ثلاثة مستويـات؛ الأولـية والثـانوية والثـالثية" (حنون 52). إن الكون الإنســانيّ، يتمُّ استيعابهُ عَبْرَ مصفاةٍ ثلاثية التركيب، تَعْمَلُ على تجريده في المستوى الأول، وشَكْلَنَتِهِ في المستوى الثاني، ثم نَمْذَجَتِهِ في المستوى الثالث. يتم نقله من عوالم الإمكان إلى حيِّز التحققِ الفعليِّ عبر قانونِ الفكرِ الذي يعمل على تأبيد الإحــالةِ وضمانِ استمرارهَا وتداولهَا.

وَمِنْ هُنا، فإن موجودات العالمِ الخارجيِّ تتسربُ إلى الذهـنِ، لا باعتبارِ وجُودهَا المادي؛ بل باعتبارها نتاجَ عملياتٍ تجريدية بالغة الكثافة والتعقـيد. إنَّ ما يتداولهُ الإنسانُ من معارفَ، يُجَسِّدُ تَمَثُّلاتهِ عن الأشياءِ، لا الأشياء ذاتها. وهذِه التمثلات، ليست سوى صيغٍ رمزيّة، تستوطنُ الذهن، وتُمكِّنُ الإنسان من الاستغناء ببدائله الرمزية عن الأشياء المادية، تمكنه من الاستغناء بعالمه الذهني عن العوالم الخارجية.

إِنَّ فكرة الامتلاك الرمزي للكون، قد دفعت "بورس" إلى وضع تصور للكيفية التي يتجاوز بها الإنســانِ معطياتِ الوجود الخارجي بطبيعته المادية، إلى بدائلَ رمزيةٍ وتقطيعات مفهومية ذات طبيعة تجريدية. إن صياغتـهُ لحدودِ البروتُوكول الرياضـي مكنته من تأطير إواليات الإدراكِ الإنسانيِّ، في عوالمَ مخصوصةٍ: عالم الإمكان، وعالم الواقع، وعالم الفكر؛ ذلك أن سيرورة الإدراك عنده تنطلق من الإمكان النوعي، لتحيل على الواقعة الفعلية عبر القانون والفكر.

إن تحقيق الإمكانِ المعرفيِّ عند الإنسان في سياق محدد، مرتبط بالتقطيع المقولي الثلاثي، فالواقعُ يمثلُ أمامنَا في مرحلةٍ أولى بصفته نوعيات وأحاسيس محتملة التحقق، بعد ذلك يتحيَّنُ في مرحلة ثانية داخل وقائع مخصوصة، بيد أن هذا الانتقال من النوعي إلى الواقعي، لا يتمُّ إلا بموجب الفكر كقانون أو وسيط إلزامي يخول للواقعةِ دلالتها، ويضمن للانتقال قوته وثباته. وَبِصيغةٍ أُخرى، فإنَّ العالم الخارجي – باعتباره كُلًّا متصلًا من الأشياء والوقائع والأحداث – لا يَمثُلُ في الذهن بما هو عليه من تجسيد، بل بما يصير عليه بفعل التجريد الرمزي؛ ذلك أنَّ "علاقتنا بهذا العالم [...] ليست علاقة مباشرة، ولا يمكن أن تكون مجرد رابط آلي يجمع ذاتًا بموضوع، فما يفصل الإنسان عن عالمه ليس حواجز مادية تتشكل من الأشياء والموضوعات، بل هو الطريقة التي تتم بها صياغة الواقع صياغة ثقافية تنزع عنه أبعاده المادية لتكسوه بطبقة من الرموز" (بنكَراد، مسالك المعنى 161).

إن "البروتوكول الرياضي" أو ما أطلق عليه "بورس" نظرية المقولات عبارة عن تكثيف لمقولات فلسفيّةٍ ثلاث، لمستويات إدراكية ثلاثة، يرتبط كل حدٍّ من هذا التثليث بنمط وجودي خاص. فالأولانية هيَّ مقولة الإمكان والاحتمال، أما الثانيانية فهيَّ مقولةُ الهُنا والآن، في حين أن الثالثانية هي مقولة الفكر والالتزام. إِنَّهَا مقولة التوسط الإلزامي الذي يجعل الأولانية تحيل على الثانيانية وفق قانونٍ مسبق.

إلَّا أَنَّهُ ينبغي أن نشير إلى أنَّ هذه المقولات ليست كياناتٍ مستقلةً بوجودها وأدوارها عن بعضها. إِنَّهَا تشتغـلُ باعتبارها كلًا أو وحدةً غير قابلة للعزل أو التقطيع، وما التعاملُ معها باعتبارها وحدات منفصلة، إلا إجراء منهجي تقتضيه طبيعة التحليل العلمي. فمن المستحيل أن نفْصِلَ بين الإمكان المفترض (الأولانية) والتحقق الفعلي (الثانيانية) والقانون المنظم (الثالثانية). إن التداخلُ بين هذِه المقولات "هو ما يحدد – في نهاية المطاف – الاشتغال النهائي لميكانيزمات الإدراك الإنســاني" (بنكَراد، السميائيات: النشأة والموضوع 32). إن العالم ينفذ إلينا إذن، عبر ثلاثة مستويات متضافرة للإدراك: مستوى الإمكان ومستوى التحقق ومستوى التجريد.

1-1. الإدراك في حدود الإمكان

ترتبط هذه المقولة بالبدايات المُفترَضة التي تنتمي إلى عوالم الإمكان والاحتمال، ترتبط بالوجود البدئي المنفلت، الصافي والعاري من كلّ تحديد، مناطها الدهشة، ومفادها تجربة التعرف الأولية. إِنَّ كلَّ الكيانات الوجوديَّة – سواء كانت واقعيّة أو متخيّلة – قبل أن تتجسَّد في واقع مُدْرَكٍ، ما هيَّ إلا موجودات هُلاميّـة صافية. إنّـها، موجـوداتٌ "كامنة"، "مجردة"، و"متصلة"، وسبيلها الوحيد لكي تظهر إلى الوجود، هو أن تُحدَّد داخل وقائع فعلية، تَمْنَحُهَا، تقطيعًا أو شكلًا أو صيغةً في الوجودِ الواقعي أو التحقق الفعلي.

إِنَّ الأولانية تعني الوجود بالقوة، أي الوجود الذي تسبحُ فيه الموجوداتُ بلا شكلٍ ولا جسدٍ ولا هيئةٍ. فكلُّ الموجودات في هذا الوجود، ليست إلا أحاسيس وكيفياتٍ كامنة. والإحساس كما وضحه بورس "هو صنف من الوعي لا يستلزم أي تحليل أو مقارنة ولا أي سيرورة، كما أنَّهُ لا يتماثلُ كلًّا أو جزءًا مع فعل يميّز إحساسًا عن آخر (بورس 80).

إن الأولانية "قطاع وجوديّ يتحدّد في كون شيء، هو كما هو، إيجابًا دون التوجه إلى شيء آخر. وهذا الشيء ليس إلا احتمالًا" (بورس 70). وعليه، إن المعطيات التي تصدق عليها هذه المقولةِ، تمثل معطيـات غير موصـوفة، تتأرجح بين احتمالين: إما أن تَتَحَيَّنَ في واقع مُدْرَكٍ، وبالتالي يصير اللا موصوف موصوفًا، وإما أن تظلَّ احتمالًا أبديًا في عوالمِ التحسّب، فتنفلت بذلك من سلطة الضبط والمراقبة، وتغرق داخل المخيال الإنساني الشاسع. إن الأولانية هي مقولةُ المتصل العائم في كونٍ سديميٍّ صاف، أو اللا شكل الهارب من قيود التحديد والوصف.

إنَّ كُلَّ الأحاسيس والنوعيات والكيفيات التي تُغطِي الكون الإنسانيَّ، قبل أن تتجسّد في "الهُنا" و"الآن"، ما هيَّ إلا كياناتٍ جوفاء عارية. وإلا ماذا يعني اللون الأسود خارج فعل الإبصار المُدْرِكِ له؟ وماذا يعني الحزن قبل أن يشعر الإنســان به؟ إن هذه ومثلها مجرد كيانات تحتمل التحقق، وهذا كل ما في الأمر.

وَمِن ثمةَ، فإِنَّ الوجودَ الأولاني، وجودٌ يتسم بالهشاشة والضعف. إِنَّهُ وجود معرض للانتفاء في كلِّ لحظة وحين، فمادام قابعًا في الصفاء اللا موصوف واللامحدود، فوجوده كعدمه؛ لذلك فإنه ينسلُّ من مضاجع "الوعي النائم"، مُهرولًا نحو الواقعية الفعليّة (الثانيانية) ليغطي عريه، ويتجلى بمظهر يضمن له الاستمرار في الوجود ولو مؤقتًا، فما الثانيانية إذًا؟ وما حدودهَا وسماتُهَا؟ وكيف ينتقلُ الوجودُ من حالةِ النوعـي المجرد إلى حالة التحقق الفعلي في وقائع الثانيانية؟

1-2. الإدراك في مستوى التحقق الفعلي

تمثل الـثانيانية مقولة للوجود بالفعل. إنّها التحققُ الفعليُّ للأحاسيس والنوعيات في وقائع فعلية، فما كان في الأولانية مجردًا لا موصوفًا ولا عينيًا، يتحيَّز ويتحيَّن ويتجسد في الثـانيانية؛ ليتخذ لنفسه موقعًا داخل الإدراك الإنساني. إِنِّ الانتقال إلى الوجود الفعلي "معناه دخول الفضاء ودخول الزمان، ومعناه أيضًا الانتقال من المتصل إلى اللَّا متصل. فمن الغموض واللَّبس والإبهام ننتقل إلى الوجود الفعلي، أي ننتقل إلى وجود تكون فيه الأحاسيس والنوعيات مجسدة في وقائعَ محددةٍ [...] فالأشياءُ لا تُدرَك إلا متحيزة في المكان ومتعاقبة في الزمان" (بنكَراد، السميائيات والتأويل 62 -63).

وَهَكَذَا، فإذا كانت معطيات الأولانية، كامنة في الداخل المجرد، فإن الثانيــانية تفرغها في وقائع عينية خارجية، إلا أنها تبقيها خارج حدود التصنيفات والتحيزات الثقافيـة، والدينية، والاجتماعية وغيرها. بمعنى أنها، تجسدُ الوجودَ الصافـي البريء والعاري من كل التهــم. وكأن الأمر متعلق بـ "الطبيعـة خارج إكـراهات الثقافة، والتعيــين خارج إكــراهات الفــهم والتجــريد" (بنكَراد، السميائيات: النشأة والموضوع 32).

استنادًا إلى ذلك، فالثانيانية تعمل على نقل الكيفيات والنوعيات، من حالتها المتصلة والمنفلتة لتضعها في خانات الوجودِ الواقعيِّ. إِنَّها تعمل على تحيين الأحاسيس والنوعيات في وقائعَ وعينيات، بموجب التقطيع والمفصلة والحصر والتقييد والوصف والتحديد في حالات فردية قابلة للتجريب. تمامًا كما في التحقق الفعلـي للَّون الأسـود في "الهُنا" و"الآن" دون اعتبار لأي مضـاف ثقافي لهذا اللون، أي دون استدعاءاته الثقافية كالحداد والحزن والظلام وغيره مما في الذاكرة الثقافية للَّون الأسود.

وَإِذَا ظلّت الوقائع معزولة ومستقلة في هذا النمط من الوجود، دون الدخول في علاقة مع عنصر ثالث، فإنَّها مُهدَّدةٌ بالانتفاء أو النسيان. وبعبـارة أُخرى، فَإِنَّ الجوهر القابل للتعميـم سيتلاشى، ولن نحتفظ من الوقائع سوى بصور استهامية غامضة وعرضيّة، ستزول بزوال الوقائع الفعلية. والسبيل الكفيل لضمان تواصل تفاعلي، ومنح العلاقة بين الأول والثاني أبعادًا فكرية قانونية، هو وجود الثالثـانية.

1-3. الإدراك عبر الوسيط: وساطة الفكر بين الإمكان والتحقق

إن السيرورة الإدراكية عند بورس، فعلٌ مركب يتضمن ثلاث مستويات وجوديّة، أولانية (الإمكان النوعي الموضوعي) تحيل على ثانيانية (الوقائع الفعلية) عبر ثالثانية (القانون والفكر). إن الوجود يَمثُلُ أمامنا في مرحلة أولى بوصفه نوعيات وكيفيات، ثم يمثل في مرحلة ثانية بصفته وقائع صافية، ليمثل أمامنا في مرحلة ثالثة باعتباره نماذج مُصنَّفة ثقافيًا ومُؤطَّرة نسقيًا. إن الثالثانية تشتغلُ كقاعدة أو وسيط نسقي يحدد العلاقة بين الأول والثاني، ويضمن الانتقال منهُ إليهِ.

تُمثِّل الثالثانية مقولة "التوسط الإلزامي"، الذي يحول العالم المادي والطبيعي، إلى عالم ثقافي بقيم رمزية ودلالية. إنها تُجسِّد سعي الإنسان إلى فهم الكون وامتلاكه ذهنيًا وثقافيًا، وتُمثِّل جسرَه للعبور من الطبيعة إلى الثقافة. إن الثـالثـانية هي الوسيط الذي تخلَّص به الإنسان "من التجـربة الفردية وإسقـاط السُنـَن كتكثيف لمجموع التجـارب الفـردية؛ ذلك أن الإمسـاك بالأول والثـاني لا يتمُّ إلا من خلال الثـالث. إننـا نعيش الأحاسيس ونعيش الوجود من خلال هذه المقولة" (بنكَراد، السميائيات والتأويل 68).

وَعَلَى هذا الأساسِ، فمقولةُ الثالثانية، هي التي مكنت الإنسان من مَفْهَمَةِ الكون وسَمْيَأته، أي مكنته من تقطيعه وتصنيفه داخل عوالم رمزية مفهومية. لقد منحته القدرة على تغليف الطبيعة بالثقافة والفكر، والقدرة على تجريد النماذج من الحالات، والقوانين من التجارب. إنَّ الثالثانية تُمثِّلُ "وسيطًا جمعيًا لتحويل الطبيعي إلى ثقافي؛ ليندرجَ في صيغة سُننية قابلـة للتعمـيم والتجريـد – أي القـانون – وتغدو الواقعـة أو ما كان يُسمَّى سابقًا انطبـاعًا أوليًا، علامة قابلة للحياة والاستمرار والتداول، وبصيغة شبه نهائية، فإن الثالثانية هي مقولة الفكر والمفهمة والتدجين والسيرورة التدليلية" (عودة 7).

بموجب الثالثـانية نستطيع تجاوز محدودية التجربة الفردية والحالة الأحادية بنموذجٍ عام نعمل على تجريده ثم تعميمه. ويشكل هذا النموذج التجريدي العام تكثيفًا لعدد من الحالات وعدد من التجارب السابقة، ويمثل الخلفية المعرفية أو الإطار القانوني الذي تُؤتَى في ضوئه الحالات والتجارب اللاحقة. إن استيعاب العالم الواقعي كتصوراتٍ فكريّة، لا يتأتَّى إلا من خـلال "خطـاطات ثقـافية" معقدة تحضر في الذهـن، وتشكل "أسننا للتعـرف" على العالـم الخارجي بكـل عناصره وتأليفاته. وهـذا يعني، أن الإنسـان لا ينظرُ إلى الواقع في حرفيته، بل إِنَّــهُ ينظر إليه وبالضرورة، انطلاقـًا من وسائط الذاكرة الثقـافية. فالعيـن التي تنظـر مثلًا، ليست عينًا مشدودةً إلى وظيفتـها البيولوجيّة البسيطة. بل إِنَّهَا عينٌ ذات خلفيةٍ معرفية وذاكرةٍ ثقافية، فهيَّ لا تنظر إلى الأشيـاء باعتبار وجودها الموضـوعي، وإنما تنظر إليها انطلاقًا من منافذ الانفعال والتفاعل.

وهكذا، فَإِنَّ حضور الثالثـانية داخل السيرورة الإدراكية يعني القبض على الوجود المنفلت. يعني نوعًا من التثبيت والتنميط والنمذجة؛ لأن أية محـاولة لتحـديد الإدراك من خلال ما توفره الأولانية والثانيانية فقط، لن تقود إلا إلى العبث، أي إلى تصور كائن بشري بلا ذاكرة ولا ماض ولا مستقبل، كائنٍ لحظـي ساذج، أفعاله وانفعالاته مجرد استجابات لمثيـرات لحظـية بسيطة مؤقتة وآنية. على هذا قامت الحاجة إلى الثالثانية؛ لتغطي الماضي والحاضر والمستقبل؛ ولتستوعبَ الممكن فضلًا عن الواقع. ولعل هذا سيكون مستحيلًا من غير إعمالٍ للذاكرة بما فيها من القانون والفكر. وبهذا سيتحول اللون الأسود والحزن والحرب والموت مثلًا، إلى وحدات رمزية في مستودع ثقافي ما، داخل حقل دلالي واحد، يتم تحيينها وتستدعي بعضها بهذا الاعتبار.

المقولة

المستوى

طبيعة الوجود

طبيعة المدركات

السياق

الأولانية

الممكن

الوجود بالقوة

أحاسيس ونوعيات

خارج الزمن والمكان

الثانيانية

الواقع

الوجود بالفعل

الأشياء والأشخاص والوقائع والأحداث وكل الموجودات العينية

داخل الزمن والمكان

الثالثانية

الفكر

الوجود في الذهن

الأفكار والمفاهيم والقوانين

فوق الزمن والمكان

الشكل رقم: (1)

المقولة

مثال (َ1)

مثال (2)

الأولانية

إمكانية الفعل

أسمع عن شيء لا أعرفه

الثانيانية

أنا أفعل

هو ذا أمامي الآن

الثالثانية

كيف فعلت؟ وكيف ستفعل؟

أنا أعرفه في غيابه

الشكل رقم: (2)

2. العلامَةِ السميائية: الإحالة والتوسط الإلزامي

تشكلُ نظريَّة المقولات الفينومينولوجية، الأساس الذي ستقوم عليه تصوراتُ بورس للعلامة، فالحدُودُ التي رسمها لها، لا تشكِّلُ – في حقيقةِ الأمر – سوى تجسيدٍ لمقولاتٍ تستوعبُ الوجود عبر ثلاثة مستويات للإدراك. إن التعريف الذي يقدمه بورس للعلامة لا يُشكِّل "سوى الوجه المرئي الإجرائي لرؤية فلسفية، ترى في التجربة الإنسانية كلها كيانًا مُنظَّمًا من خلال المقولات الثلاث، التي تشير إلى سيرورة إدراكية غير مرئية، وهي مقولات تُعدُّ أصل ومنطلق إدراك الكون وإدراك الذات وإنتاج المعرفة وتداولها" (بنكَراد، السميائيات: مفاهيمها وتطبيقاتها 59).

إن العلامة عند بورس عبارة عن سيرورة تدليلية، تنطلقُ من أوَّلَ إلى ثانٍ عبر ثالثٍ، وهذه السيرورة السميائية هي ما يُطلق عليه "سميوزيس"، والسميوزيس هو السيرورة التي يشتغل من خلالها شيءٌ ما كعلامة. فلكي تصبح واقعةٌ ما أو شيءٌ ما علامةً منتجة لدلالات معينة، ينبغي توفر ثلاثة عناصر أساسية: (ماثول يحيل على موضوع بتوسط مؤول). إن العلامة هنا كيان ثلاثي الأبعاد. وإذا كانت العلامة عند سوسير عبارة عن كيان ثنائي قوامه الدالّ والمدلول؛ فإن عملية التدليل عند بورس، لا تستقيم إلا من خلال سيرورة تدليلية ثلاثية، قوامها الإحالة والتوسط، تقود إلى إنتاج الدلالات وتداولها بعـيدًا عن الربط المباشر أو الإحالة المباشرة. إن العلامة بالفهم السميائي عبارة عن شيءٍ ما بالنسبة لشخص ما، تَحلُّ محل شيء ما في إطار علاقة ما، أو في إطار قانون ما، إنها تُوجَّه إلى الشخص وتخلق في ذهنه علامة معادلة أو ربما جد مبسطة وتسمى مؤوِّلا داخل العلامة الأولى. وهي تحل محل شيءٍ ما – أي محل موضوعها – إنها تحل محل هذا الموضوع لا حسب كل العلاقات، بل بالإحالة على نوع من الأفكار التي يمكن أن تمثل عماد التمثيل. (علوي، السميولسانيات 228)

إن الكون الإنساني – بشتى مكوناته وجزئياته – لا يتجلَّى إلا عبر هذه السيرورة التدليلية، ولا يمكن إدراكه إلا من خلالها؛ ذلك أنه "لا شيء يوجد خارج العلامات أو بدونها، ولا شيء يمكن أن يدل اعتمادًا على نفسه دون الاستناد إلى ما توفره العلامات كقوة للتمثيل." (بنكراد، السمائيات والتأويل 72). إننا في كل لحظة وعي أو إدراك نجد أنفسنا مُحاصَرين بوابل من العلامات، في كل الأماكن والأوقات، ومن كل المنافذ والجهات. حتى إننا "صرنا سجناء الكون العلامي، بل صرنا – من دون أن ندري – علامات وسط علامات أخرى" (إيكو، السميائيات وفلسفة اللغة 13).

لا وجود إذن، للأشياء خارج العلامات. لكن ليست هناك علامة أصلية إلا في إطار البعد الثلاثي للتدليل، أي في إطار السميوزيس أو السيرورة السميائية (دولودال، تنبيه لقراء بورس 113). وقد قدم بورس تصورًا دقيقًا، لتفسير طريقة اشتغال هذه العلامة، فهي ماثول (ما يقوم بالتمثيل) يحيل على موضوع (الشيء الممثل) عبر مؤول (التوسط الإلزامي). ولكي يتحقق الإمكان المعرفي عند الإنسان، ينبغي أن تتضافر هذه العناصر الثلاثة؛ لأن تضافرها هو السبيل الوحيد لإنتاج المعرفة واستهلاكها وهو السبيل أيضا لتخزينها وتذكرها.

ينبغي أن نشـير إلى أن بنية العـلامة الثلاثية مثلها مثل المقـولات الفينومينولوجية، تشتغل باعتبارها كُلًا أو حدةً لا تتجزأ، وليس الفصل بين عناصرها إلا فصلًا إجرائيًا، يستقيم في التنظير ولا يستقيم في الممارسة.

2-1. منطلق الإحالة

يشكل الماثول مُنطلقًا للسيرورة التدليلية. إنه أداة التمثيل بالأساس، ودوره لا يقتصر إلا على التمثيل؛ فهو لا يعين شيئًا ولا يعرِّف شيئًا ولا يساعد على تعميق المعرفة بشيء. (دولودال، 1979، 81). إن الماثول هو "الأداة التي نستعملها للتمثيـل لشـيءٍ آخر، أو هو شيء يحل محل شيء آخر" (إيكو، التأويل بين السميائيات والتفكيكية 140). يشتغل كمنطلق مُفترَض أو "كحاجز عرضي ننتقل من خلاله إلى شيء آخر استنادًا إلى قــاعدة عامة سابقة. (بنكراد، السميائيات: النشأة والموضوع 36). وَقَدْ حدّده بورس بقوله: "العلامة أو الماثول هو شيء يحل محل شيء آخر، بالنسبة لشخص ما بأي صفة وبأي طريقة. إنه يوّلد عنده علامة مواكبة أو علامة أكثر نموًا. إن هذه العلامة التي يولدها أسميها مُؤوِّلا للعلامة الأولى، وهذه العلامة تحل محل شيء ما هو موضوعها" (داسميث 120). وبهذا الاعتبار، فإن الماثول هو ما يطابق البداية المفترضة أو الحد الأولاني في نظرية المقولات، فهو لن يتحقق إطلاقًا إلا من خلال تحييّن طاقاته التمثيلية داخل موضوع معين.

هذا، ونشير إلى أن الماثول يمكن أن يشتغل داخل عوالم التمثيل على اتساعها وتنوع أنساقها، إنه لا يقتصر على الوقائع اللسانية فحسب، كما هي الحال مع الدالّ السوسيري. بل، إنّه يغطي كل مجالات الوجود الإنساني وكل أنواع التمثيل الثقافي بما فيها من أنساق لسانية وغير لسانية. كما ينبغي أن نشير إلى أن الماثول ليس رديفًا نظريًا مطابقًا للدالّ عند سوسير. يمكن أن نستحضر الدالّ في سياق الحديث عن الماثول على سبيل المقارنة فقط؛ ولكن إذا تعلق الأمر بالحد الدقيق، فأكيد أن الماثول يباين الدالّ لاعتبارات متعددة، ومنها أن إحالة الماثول على موضوعه "لا تلغي إمكان استمراره في الحياة ككيان مستقل باعتباره قابلًا للتجزيء وفق مبدأ المقولات العامة نفسه: أولانية الماثول وثانيانية الماثول وثالثانية الماثول" (بنكَراد، السميائيات والتأويـل 80). بمعنى أنه يمكن أن ننظر إليه باعتباره علامة قائمة بذاتها، بعدما كان مجرد عنصر داخل علامة.

2-2. موضوع الإحالة

يتعلق الأمر هنا بموضوع الإحالة في سياق تواصلي معين. فالموضوع هو موطن تحيّين الطاقات التمثيلية للماثول في "الهُنا" و"الآن". إنه وبشكلٍ أوضح "ما يقوم الماثول بتمثيله، سواء كان هذا الشيء المُمثَّل واقعيًا أو مُتخيلًا أو قابلًا للتخيل، أو لا يمكن تخيله على الإطلاق" (بنكَراد، السميائيات: مفاهيمها وتطبيقاتها 65).

ثم إن إحالة الماثول على الموضوع لا تتم من غير ناظم، بل تتم بموجب فكرة مسبقة يُطلِق عليها بورس العماد أو أساس التمثيل. والعماد "هو الزاوية التي يتم من خلالها انتقاء موضوع العلامة، فالتمثيل الواحد لا يمكن أن يستوعب مجمل معطيات الموضوع من خلال إحالة واحدة" (بنكَراد، السميائيات النشأة والموضوع 35). وهكذا، فإن العماد عبارة عن "انتقاء خاص يتم وفق وجهة نظر معينة. [...] إن العماد على هذا الأساس، يحدد من جهة (أولى) ما هو متحقق داخل العلامة؛ وذلك بطريقة مباشرة، كانتقاء خاص يترك بالضرورة سلسلة أخرى من المعارف جانبًا. ويحدد من جهة ثانية، بطريقة غير مباشرة هذه المرة، ما هو مُفترَض وقابل للتحقق ضمن سياق محدد..." (بنكَراد، السميائيات والتـأويل 84).

فَإِذَا مَا مثل أحدهم بماثولٍ ما، فهو لا يحيل على ما يريد تمثيله فقط، بل إنَّه مع عملية التمثيل هذه، تتسرب معطيات تتجاوز حدود التمثيل المباشر؛ عن قصد أو من غير قصد، ويظل التمثيل مُحتمِلًا وجـودها على كل حال. وبالتالي فهذه الأشياء الكامنة في التمثيل تشكل قيمًا دلاليةً إضافيةً ومواكبةً تتجاوز حدود التمثيل البسيط إلى مستوياته الكثيفة والمعقدة.

ينطوي الموضوع إذن، على معرفتين مختلفتين: أولهما معرفة داخليّة، وهي معرفة تُحِيل بشكلٍ مباشرٍ إلى ما تختزنه العلامة، دونما استحضار للتجربة الإنسانية. إنها معرفة لا تتجاوز حدود المشترك الموضوعي في العلامة. وثانيهما، معرفة خارجيّة، وهي معرفة مُفترضَة، ترتبط بما يسميه بورس بالتجربة الضمنيّة. وبعبارة أخرى، يمكن التمييز في الموضوع بين موضوعين: موضوع مباشر وهو ما يُشكِّل المُعطَى المباشرة في العلامة، وهو حاصل التمثيل البسيط، وموضوع ديناميكي يُمثِّل كل المعطيات الضمنية الكامنة في العلامة والمُواكِبة للتمثيل. وإذا أخذنا المتوالية الصوتية "البحر" مثلًا، فإننا سنكون أمام موضوعين مختلفين: الأول مُعطَى من خلال ما تقوله العلامة بشكل مباشر: البحر باعتباره امتدادًا جغرافيًا ًا مُقعَّرًا ًا، يغمره الماء المالح، ويضم في أغواره شتى أنواع الأسماك والكائنات. أما الثاني، فهو بحثٌ في الذاكرة الإنسانية عما يعنيه البحر: إِنَّهُ الجمال والحب والصفاء والعزلة، والموت، والخوف والغواية.

وعليه، فإن الموضوع باعتباره ثاني ثلاثية التدليل، كيان يتسم بالكثافة وبالغنى، ولا يمكن لفعل التمثيل في حركيته المباشرة نحو الموضوع أن يستوعب كل عناصر هذا الموضوع. إن عملية التمثيل تظل محدودة إذا بقيت في المستوى المباشر. فالماثول في طريق إحالته على الموضوع يُفوِّتُ الكثير. إن التمييز بين الموضوع المباشر والموضوع الديناميكي يمثل دليلًا واضحًا على أن "الواقع يتجاوز العلامة، وأن العلامة من خلال إمكاناتها الذاتية غير قادرة على إعطاء تمثيل كُلِّي وتامٍّ للعالم الخارجي. فعملية التمثيل بحكم هذا القصور، لا يمكن أن تكون إلا جزئية. إنها تترك جانبًا سلسلة من المظاهر لا تستقيم داخل هذا التمثيل؛ ذلك أن هذا التمثيل يتم داخل سياق خاص" (بنكَراد، السميائيات والتأويل 86).

2-3. المؤوِّل أو الوسيط الإلزامي

يشكلُ المؤولُ العنصر الثالث في نسيج السميوزيس أو العلامة؛ حيث يُحيل الماثول على الموضوع عبر المؤول، وهذا يعنى أن المؤول عنصر توسطي، يقوم بالربط بين الماثول والموضوع. إن عملية التدليل لن تتأتَّى أبدًا إلا بوجود المؤول كوسيط يضمن الربط بين الأول والثاني، ويعمل على تنظيم الإحالة بينهما؛ ليرسي الدعائم الأولية التي سيقوم عليها التدليل والاستدلال.

ينبغي أن نؤكد أن المؤول هنا ليس هو الذات المؤولة، إنما هو التأشيرة أو الوسيلة التي ستضع التدليل على مسار اللاتوقف واللاتناهي؛ حيث تتوالى الإحالات وتتراكم العلامات؛ وحيث لا يكون المؤول شيئًا آخر غير كونه ماثولًا جديدًا، يكون له بدوره مؤوله الجديد. (علوي، حدود الفهم 33) إِنَّ المؤول إذن ليس ذاتًا فاعلةً؛ إنما هو الوسيط المؤدي إلى التأويـل، والوسيلة التي تتيح للسيرورة التدليلية انطلاقها واستمرارها.

وهكذا، فإن السيرورة التدليلية، ليست حركية ثنائية مباشرة من أول إلى ثان. إنها سيرورة غير مباشرة، من أول إلى ثان عبر ثالث ضروري. وَإِذَا افترضنا، أن عملية التدليل عملية ثنائية التكوين، فإننا سنكون بإزاء معارف سطحية بسيطة وساذجة. إن حضور المؤول كعنصر ثالث داخل السميوزيس، معناه القبض على ذاكرة الأشياء والوقائع، بموجب ما يحدث في الفكر من تقليص وتجريد وتعميم؛ لتغدو رصيدًا ثقافيًا ورمزيًّا قابلًا للاستحضار والتذكر، وطاقةً فكريةً قادرةً على الاستمرار في الوجود.

وهكذا، فإن المؤول يشكل انفلاتًا ًا من صرامة وضيق الوجود العيني، إِنَّهُ يقوم بتحرير الواقع من قيوده المادية؛ ليعيدَ بناءه رمزيًّا، عن طريق تقطيعه وتخزينه في أشكالٍ رمزيةٍ، تمثل بدائله الثقافية. ذلك؛ لأنَّهُ "لا يوجد سوى عالَمٍ واحدٍ والإنسان جزء منه ولا يتميز عنه إلا بالتجريد..." (دولودال، تنيبه لقراء بورس 112).

إِلا أَنَّهُ ينبغي أَن نُشير أيضا إلى أَنَّ المؤول لا يمكن أن يستوعبَ كلَّ معطيات الموضوع في حركة واحدة؛ ذاك أن الكائن الإنساني متعدد الأبعاد، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، أن نضعه في خانة بعينها. وهو ما يعني انفتاح الإنسان على إمكانات دلالية تدليلية لا حصر لها، فالإنســان في كثير من الأحيان يمكن أن يكسر أنساقه، ويمكن أن يتجاوز مواضعاته، كأن يعرض ما لا يقصد، أو يعني خلاف ما يقول. وهو – بالإضافة إلى ذلك – كائن تأويل وآفاقه في ذلك شاسعة ولا متناهية.

وعليه، ليس هناك من فعلٍ تأويلي قادر على احتواء كل معطيات الموضوع دفعة واحدة ومن غير إقصاء. إنَّ تدخُّلَ المؤول كعنصر وسيط في الإحالة، يسمح من جهة، بإحالة الماثول على موضوعه، ولكنه من جهة ثانية، يعمل على "إبراز الهوة الدائمة الفاصلة بين الماثول وموضوعه" (بنكَراد، السميائيات والتـأويل 93-94). ولعل هذا ما دفع بورس إلى التمييز بين ثلاثة أنواع من المؤولات: المؤول المباشر، والمؤول الديناميكي، والمؤول النهائي؛ ولكن هذا لا يعني أن هذه المؤولات تشتغـل في استقلال عن بعضهـا، إنها مستويات ثلاثة في سيرورة واحدة، يُنظَر إليها باعتبارها كلًا لا يتحدد إلا في كليته.

2-3-1. المستوى المباشر

يتعلق الأمر هنا بالمؤول المباشر كعنصر تعرضه العلامة في ظاهرها، إنه ما يوجد في العلامة بشكل تقريري، دونما البحث في ذاكرة العلامة. وبعبارة أخرى، إن المؤول المباشر لا يتجاوز حدود المشترك الموضوعي أو المُعطَى الظاهر من فعل التمثيل، إنه "يعين المستوى المعنوي الذي تقترحه العلامة نفسها، وهو ما نسميه عادةً بمعنى العلامة [المباشر]. (بنكَراد، السميائيات: مفاهيمها وتطبيقاتها 69).

وَتَكْمُنُ وظيفة هذا المؤول إذن، في إرساء نقطة الارتكاز التي ستستند إليها السيرورة؛ من أجل الانطلاق إلى عوالم التأويل المتعدد واللامتناهي. وَلنفترض أننا أمام الجملة التالية: "الزمن مُوحِشٌ" فإن المؤوِّل المباشر لن يتخطى حدود الإقرار بأنه قد تم إسناد الصفة "موحش" إلى "الزمن"، إن هذا المؤول لن يسعف في البحث عمَّا يُضمِرُه هذا الملفوظ أو يوجد خارجه، بل سيوقفنا فقط عند طبقاته الدلالية السطحية دون الغوص في التفاصيل المُضمَرة.

2-3-2. المستوى الدِينَامِيكي

إِنَّ السيرورةَ التدليليّة لا تكتفي بما هو موجودٌ داخل العلامة بشكلٍ تقريريٍّ. إِنَّهَا قابلةٌ للامتداد إلى آفاقٍ وعوالمَ دلاليّةٍ بالغة التعقيد والكثافة. إن رغبة الإنسان في المعرفة والمزيد من المعرفة تُحفِّزه للسعي وراء ما يكمن أو يضمر في العلامات. وسيعمل من أجل ذلك على تسخير ذاكرته الثقافية، أي سيعمل على تسخير سابق المعرفة من أجل جديد المعرفة. فعوض أن تقف عند معنى واحد ونهائي، نجدها تمتد إلى غيره من ممكنات التدليل ودون توقف.

إِنَّ العلامةَ بمجرد ما تُعرَض للتداول، تُلقَى في عوالمَ دلاليةٍ بالغة الغنى والكثافة والتعقيد. إنها تتجاوز حدودها الداخلية ومعطياتها النسقية والوضعية، تتجاوز ذلك إلى ملابسات التداول وسياقات التفاعل الثقافي، بما فيها من الاجتماعي والديني، والسياسي، والأخلاقي وغيره. إن العلامة على مستوى المؤول الديناميكي تتجاوز المعطيات المباشرة المشتركة والثابتة، إلى ما يكمن وراءها من التعدد والاختلاف واللامتناهي.

وبهذا الاعتبار، فإنه لا يمكنُ تصور علامة مكتفية بذاتها، "فموضوع العلامة لا يمكن أن يكون إلا علامة أخرى. والسبب في ذلك أن العلامـة لا يمكـن أن تكون موضوعًـا لنفسها، إنها علامة لموضوعها من خلال بعض مظاهره" (بنكراد، مسالك المعنى، 179-180). وهكذا، فإن العلامة تنمو وتتطور بشكل لولبي، ولا يمكن أن تتوقف، نظريًا، عند حد بعينه. ولعل في هذا تفسيرًا لسعي الإنسان المحموم وراء الحقيقة، وتعقبه آثارها من علامة إلى علامة أخرى ومن حدٍ إلى حدٍ آخرَ، بدل الاستقرار على دلالة بعينها لا تُغني، إلَّا إلى حين.

إن فعل التأويل كحركية دائبة أهم من الفهم كنتيجة ثابتة. إن الذي يهمنا ليس المعنى كمُعطَى سابقٍ يتحقق في ذاته، ولا المعنى كحاصلٍ لاحق يتحقق في سياقه. إن الذي يهمنا هنا هو السعي وراء المعنى، أو الإجراء المؤدي إليه، أوصل أم لم يوصل. إن التأويل هو الأهم، أما المعنى فإنه سيظل هاربًا وسيظل مُطارَدًا.

إن المؤول الديناميكي، يفتح باب التـأويل على مصراعيه، ويستوجب البحث في الذاكرة الثقافية، يستدعي الكامن والمُضمَر في العلامة، يستحضر عوالم دلالية ممكنة شاسعة. إنّه يفجر العلامة لتغطي مساحات دلالية أوسع وتصل إلى حدود تأويلية أبعد. فمادام "العالم الذي تشير إليه العلامات يتكون ويتفسخ داخل تضـاعيف السميـوزيس"(فيرون 71)، فإن منطـق الإحالة قابل للاتساع حدَّ اللانهائي، واللانهائي بتعبير إيكو "هو الذي لا يملك حدودًا، إنه ينزاح عن القاعدة" (إيكو، التأويل بين السميائيات والتفكيكية 28). وبدل أن ننظر إلى هذه اللانهائية بوصفها غوصًا في متاهات الفهم، أو هروبًا من رقابة التدليل. ينبغي النظر إليها باعتبارها دليلًا على غنى الفعل التأويلي. ومن ثمة، دليلًا ًا صارخًا ًا على أصالة المنهج السميائي، الذي لا يقبل التثبيت ولا التنميط إلَّا على سبيل المواضعة.

2-3-3. المستوى النهائي

يُشَكلُ المؤول النهائي نقطة مهمة في حركية السميوزيس اللا نهائية؛ فإذا كان المؤول الديناميكي يفتح السيرورة على آفاق تأويلية ممتدة وشاسعة، فإن المؤول النهائي يعمل على إيقاف السيرورة، ويحد من امتدادها الجامح؛ وذلك بتقليصِ الكمِّ الدلالي الهائل، وحصره في سياقٍ تواصلي مخصوصٍ، لغايات تواصلية مخصوصة.

إن "السميوزيس لا متناهية في المطلق، إلا أن غاياتنا المعرفية تقوم بتأطير وتنظيم وتكثيف هذه السلسلة غير المُحدَّدة من الإمكانات. فمع السيرورة السميوزيسية ينصبُّ اهتمامنا على معرفة ما هو أساس داخلَ كونٍ خطـابيٍ محـدد" (إيكو، التأويل بين السميائيات والتفكيكية 121). إن الحاجة الى الاستقرار والأمان تدفع الإنســان إلى البحث عن ثوابت يمكن الاطمئنان إليها، ولو إلى حين. إن حاجته تلك تدفعه إلى البحث عن سبل للتفاهم. ومادام التأويل في بعده الديناميكي لا يبعث إلا على الاختلاف والتدافع؛ فإنه ينبغي البحث عن حل لتدبير هذا الاختلاف وهذا التدافع، ينبغي أن نتدخل لإيقاف سيرورة التأويل اللامتناهية. وأكيد أن هذا لا يتسنى إلى بعامل خارجي عن السيرورة ذاتها، وعليه يقوم المؤول النهائي؛ ذلك لأن إيقاف السيرورة لا يكون إلا من خارجها. إننا نوقف التأويل لأجل غاياتٍ تواصلية من أجل فهمٍ ما، وهذه غاية ذاتية سياقية وإسقاطية. (علوي، السميولسانيات 223)

إِلا أَنَّهُ ينبغي أن نشير، إلى أَنَّ المؤول النهائي هنا، لا يعني النهائية المطلقة، أو التوقف التام، إنما هو نهاية أو توقف إلى حين. وكأن السيرورة على طريق سريع، بدايته مفترضة، ولكن ليس من نقطة بعينها، ونهايته محتملة؛ ولكن ليست إلى نقطة محددة، ورغم ذلك تجد على طوله محطات استراحة للتوقف إلى حين. ولعلنا بهذا نشبه وقوف المؤول بوقوف المستريح لا وقوف المُنتهِي.

إن المعاني تتعدّد باختلاف السياقاتِ التأويليّة، وكل سياقٍ يضفي قيمًا ًا دلاليّةً خاصة، فما يُؤوَّل في سياقٍ ما بطريقةٍ ما، لا يُؤوَّل بالطريقة نفسها في سياقات أخرى؛ فلكل سياقٍ دلالاته ومعانيه. إن ما يُعتبر نهائيًا عند أحدهم، قد لا يكون كذلك عند الجميع. وما يُعتبر نهائيًا الآن، قد لا يكون كذلك في كل حال. إن المؤول النهائي يتدخل في كل سياق بإيقاف السيرورة عند فهمٍ بعينه. إن "السميوزيس في هربها من علامة إلى علامة أخرى، ومن توسط إلى توسط آخر، تتوقف في اللحظة التي تنحلُّ فيها العادة داخلَ علامةٍ ما. لحظتها تبدأ الحياة ويبدأ الفعل." (إيكو، العلامة 272). وبتعبير آخر، إن "العادة تجمد مؤقتًا الإحالة اللامتناهية من علامة إلى علامة أخرى؛ لكي يتسنى للمتكلمين الاتفاق على واقع سياق إبلاغي مُعيَّن، إن العادة تشلُّ السيرورة السميائية" (بنكَراد، السميائيات والتأويل 153)

يبقى أن نشير، إلى أن إيقاف السيرورة التأويلية ليست إلا أمرًا طارئًا تستوجبه الحاجة التواصلية والتفاعل الإنساني، تستوجبه رغبة الإنســانِ في الفهم والتفاهم؛ من أجل تنميطات وأنساق تضمن انتماءه وأمنه واستقراره، ولو إلى حين. وبشكلٍ أدق، إن الإقرار بإمكانية إيقاف السيرورة التأويلية عند حدٍ بعينه، لا ينفي التعدد والاختلاف مُطلَقًا، وإنما يُمثِّل دعوةً صريحةً لتدبير التعدد والاختلاف.


الشكل رقم: (3)

3. امتداد العلامة: سيرورة التعدد واللَّاتناهي

تَتَشَكلُ العلامةُ السميائية من ثلاثةِ عناصرَ أساسيّةٍ، ماثول وموضوع ومؤول. ولا يُمْكِنُ للعلامةِ أن تكونَ كذلِكَ، إلا من خِلالِ تضافرِ هذِه العناصر الثلاثة. إلا أن السيرورة التدليلية – فضلًا عن ذلك – لا تكتفِي بالإحالةِ إلى كونٍ دلاليٍّ أُحادي البعد. بل إِنّهَا تمتد لتَسقُط خارج إسقاطاتها البسيطة؛ لتتيح إمكاناتٍ دلاليّة إضافية. يمكنُ لكل عنصر من عناصر العلامة الثلاثية أن يشتغل هو نفسه كعلامة ثلاثية، ويكون له أوله وثانيه وثالثه. (علوي، حدود الفهم 32) وبعبارةٍ أُخرى، يمكنُ أن ننظرَ إلى الماثول والموضوع والمؤول، انطلاقًا ًا من الحدُودِ الفينومينولوجية الثلاثة التي تُؤَطِّرُ عملياتِ الإدراكِ، وبالتالي سنكونُ عندئذٍ أَمَامَ ثلاث زوايا للنظر من جديد: "زاوية المعطيات النوعية الشعورية (الأولانية) وزاوية التحقق المفرد (الثانيانية) وزاوية القانون العام (الثالثانية)" (بنكَراد، السميائيات والتأويل 108). وهكذا، سيكون لكل ماثول ماثوله وموضوعه ومؤوله، وكذلك لكل موضوع وكل مؤول.

إِنَّ النظرَ إلى العلامة يَتِمُّ عَبْرَ ثلاثةِ مستويات: المستوى الأول يتمثلُ في علاقة العلامة بذاتهَا، والمستوى الثاني يتحدّد في علاقة العلامة بموضوعها، أما المستوى الثالث فيتحدد في علاقتها بمؤولها. وإن كل مستوى من هذه المستويات، يَخْضَعُ لتوزيعٍ ثلاثي آخر، تتحدّد على إثره، أقسامهُ الفرعيّة الثلاثة التي يتألفُ منها، ففي علاقة العلامة بذاتها، يمكن أن نميّز بين: عَلامَة نوعيّة (أولانية الأولانية)، وعَلامَة عينية (ثانيانية الأولانية)، وعَلامَة معياريّة (ثالثانية الأولانية). وفي علاقة العلامة بموضوعها، فيمكن أن نميز بين ثلاثي آخر: الأيقون (أولانية الثانيانية)، والأمارة (ثانيانية الثانيانية) والرمز (ثالثانية الثانيانية)، أما في علاقة العلامة بمؤولها فنميز بين: الدعوى (أولانية الثالثانية)، التصديق (ثانيانية الثالثانية)، والحجة (ثالثانية الثالثانية). إِلا أَنَّهُ من الضروري أن نؤكد أن هذه العلامات ليست منفصلةً عن بعضها تمامًا، إِنَّهَا قد تتداخل فيما بينها لتخلق أنماطًا ًا جديدة من العلامات.

3-1. الثلاثية الأولى

يتعلق الأمر هنا بثلاث علاماتٍ فرعيةٍ هي: العَلامَة النوعيّة، والعلامة العينية، والعلامة المعيارية.

أما العلامة النوعيّة فهي عبارةٌ عن "نوعية تشتغل كعلامة،" (إيكو، العلامة 89). من خلال النظر إليّها مِنْ زاويةِ أولانيتها. إنها تشتغلُ لا باعتبار وُجُودِهَا الفعلي المتحققِ، بل تشتغلُ ضمن حــدود أولانيتها، خارج السياق وقبل التحقق. مثال ذلك: الألم الذي يمكن أن نشعر به لأول مرة، دون أن نعرف له سببًا أو نجد له تفسيرًا. إن العلامَةُ لا تكون نوعية إلا في حُدُودِ اشتغالها ضمن نطاق أولانيتها المفترضة فقط. إنها ترتبط بالأحاسيس الأولية العامة والمجردة، وتشتغل خَارِجَ إكراهات الحضور والتحقق الفعلي وقبل كلِّ جديدٍ سياقي أو نسقي.

وعليه، كي يشتغلَ شيءٌ ما كعلامة نوعيّة، لا ينبغي أبدًا أن يتحيّز دَاخِلَ حدود مرئيّة عينية؛ لسبب بسيط، هو أنَّ العلامةَ النوعيّة تتشكل داخل الوجودِ الأولاني الغامض والمجرد. ثم إن "الإحساس الغامض الذي يستحوذ علينا ولا نستطيع تحديد مصدره يُشكِّل في عُرف بورس علامة نوعية. فمثلًا ذلك الأعمى قد أدرك جيدًا بريق اللون القرمزي عندما شبَّهَهُ بصوت البوق، فخلق تداخلًا بين أشياء لا تنتمي إلى نفس النوع، ويتعلق الأمر بجوهر عام موغل في التجريد قد لا نتوصل أبدًا إلى تحديد كنهه. إن هذا الخلط هو الذي يولد العلامات النوعية"(بنكَراد، السميائيات والتأويل 111).

يتعلق الامر هنا بعلَامة تشتغلُ كإمكانٍ محتملٍ أو مفترضٍ، بعيدًا ًا عن إرغامات التحديد والوصف والتقييد. فهي علامة تختزنُ داخلها القدرة على الإحالة، بيد أنَّ إحالتهَا تظل غامضة، وجوهرها يظل مستعصيًا، كلما اقتربنا منه ابتعد، ليظل الإمساك به مُؤجلًا؛ ذلك حال البدايات المفترضة يمكن تمثلها ويستحيل الإمساك بها أو عيشها؛ ذلك فقط لأنها مفترضة. تلكم العلامة النوعية، ولعل توصيف السميائيين لها بـ"أولانية الأولانية"، ينطوي على قدرٍ كبير من الحكمة والنباهة.

أما العلامةُ العينية فإنها تَختلف عن العَلامَةِ النوعيّة اختلافًا ًا كُليًّا ًا، فالأُولى إِمْكَانٌ محتملٌ، بيّنما الثانية تحققٌ فعليٌّ، إِنَّ الأُولى تتميّز بطابعٍ عامٍ ومجرد، في حين تتميز الثـانية بطـابعٍ خـاص ومُجسَّدٍ. ومن ثَمَّة، فالعلامةُ العينية، علامةٌ تحقق فعلي سياقي، عكس العلامة النوعية. إن العـلامة العينية هي "شيءٌ أو حدث يتمتع بوجود حقيـقي، ويشتغـل كعـلامة." إنها نسخة داخل نموذج مجرد [...] إن الأمر يتعلق بتحقق ملموس" (إيكو، العلامة 89). إن هذه العلامة تقومُ باستدعاءِ النوعيّات العامة والنماذج المجردة لتصبَّها دَاخِلَ أوعيّةٍ تمنحها وجودًا ًا فعليًا ًا مُتحقِّقًا ًا في نسخ مفردة أو حالات عينية خاصة. إِنَّها تحديد للواقعة في "الهُنا والآن"، ورسمٌ لخارطةٍ تتجسّد فيها العلاماتُ داخلَ كونٍ فعليٍّ مخصوصٍ.

وَعَلَى عَكْسِ العلامةِ النوعيّة المنفلتة مِنَ الضبطِ والتحديدِ السياقي، فالعلامةُ العينية ليست كذلك إِلا فِي حُدُودِ سياقٍ يُتيح حضورها ويضمن عينيتها، وتستمدُّ منه وُجُودَها وفَاعليّتها. فَمَا معنى أن يَفُوهَ القاضي بحكمٍ ما خارج قاعةِ المحكمةِ؟ وَمَا معنى أن يُدافع محامٍ ما عن متهمٍ ما في المقهَى؟ إِنَّ حُكم القاضي ودفاع المحامي لا يستمدّان شرعيّتهما إلا من خلالِ سياقٍ مخصوصٍ وداخلهُ. إِنَّ هَذَا السياقَ هُوَّ مَا يمنحُ العلامةَ القدرةَ على أن "تشتغل كماثول لا من خلال العلامات النوعية، بل من خلال الفردنة الخاصة والملموسة التي تُمنح لهذه العلامات" (بنكَراد، السميائيات والتأويل 114).

وأما العلامة المعيارية فإنها تختلفُ عن العلامتين السابقتين، بكونها ذات طبيعةٍ قانونيّةٍ. إِنَّهَا تتجاوز النوعيّة والكيفية كما تتجاوز التحققِ الفعليِّ. إِنَّهَا تَضَعُنَا أَمَامَ القانونِ أو النموذج العام الذي يصدق أو ينسحب على كلَّ النسخِ. إِنَّ "سند العلامة المعيارية هو القانون والقاعدة لا الشعور والنوعية، ولا النسخة العينية. إن العلامة المعيارية هي قانون يشتغل كعلامة. وهذا القانون هو في الأصل نتاج الإنسان [...]. إن العلامة المعيارية ليست موضوعًا خاصًا؛ ولكنها نوعٌ عام، نوع يدل من خلال ما تم التعارف عليه، وكل علامة معيارية تدل من خلال تجسدها في حالة خاصة أطلق عليها نسخة" (بنكَراد، السميائيات والتأويل 115).

إن كل ما ينطوي عليه الفكر أو الكون الثقافي بأنساقه وقواعده الوضعية المودعة في الذاكرة الجماعية، يمكن أن يشتغل كعلاماتٍ معياريّة. وعليه، فإِنَّ العلامةَ المعياريَّة تتميّز بطابع عامٍ ومجرد، إلا أنَّ هذَا الطابعَ العَام والمجرد ليس من طبيعةٍ شعورية احتماليّة، كما هي الحال في العلامة النوعيّة. إنَّ التجريد والتعميم هنا يحصلان عن تجربة مقصودة وموجهة من أجل بناء النماذج والأنساق، من أجل بناء الفكر والقانون. إن التعميم والتجريد هنا ليس على حدِّ الافتراض والاحتمال والإمكان، وإنما على حدِّ التثبيت والتقنين والالتزام.

وعليه، فإن العَلامَة العينية لا يُمْكِنُ أن تَكْتَسِبَ قيمتَهَا ودلالتها، بأيِّ حالٍ من الأحوالِ، إلا من خلالِ نسقٍ وضعي يثمنها ويمنحها قيمًا دلاليّـةً، هيّ – في الغالب الأعم – قيمٌ عُرفيّةٌ واعتباطيّةٌ. فالورقةُ البنكيّة، كما وَضَّحَ ذلك "أمبرتو إيكو"، علامةٌ عينية وتنطوي على علامة معياريّة. بمعنى، "أن الورقة البنكية لا قيمة لها إلا من خلال علامةٍ معيارية اعتباطية" (إيكو، العلامة 90)، تتخذُ من قَاعِدَةِ الذهب في الصرف معيارًا ًا عُرفيًا ًا لَهَا.

3-2. الثلاثية الثانية: الأيقون والأمارة والرمز

العلامة الأيقونية: يرتبط الماثول بالموضوع في العلامة الأيقونية بموجب ما بينهما من تشابه؛ ذلك أن الأيقون "علامة تُحيل على موضوعها وفق تشابه يستند إلى تطابق خصائصها مع بعض خصائص هذا الموضوع. (إيكو، العلامة 91) إن العلامة تمتلك خاصيتها الأيقونية بفعل التشابه الممكِّن بين ماثولها وموضوعها. ومثال ذلك الصور الفوتوغرافية والرسوم البيانية وكذا الخطاطات التوضيحية. هذا، ويمكن أن نميز في التشابه الأيقوني بين ثلاثة مستويات: تشابه التطابق وتشابه التناظر المحسوس وتشابه التناظر المجرد؛ لنميزَ بذلك بين ثلاث علامات أيقونية: الأيقون الفوتوغرافي، والأيقون التشكيلي، ثم الأيقون الاستعاري.

ولكن، إذا أخذنا العلامة الأيقونية بهذه البساطة، فربما هذا يوقعنا في نوع من التناقض المنهجي. فإذا كانت السميائيات تُقِرُّ وتؤكد اعتباطية كل الأنساق الوضعية، وترى أن الربط بين طرفي العلامة ربط اعتباطي غيرُ مُبرَّرٍ. فكيف يصدق هذا التصور مع العلامة الأيقونية؟!

يبدو أنَّ العلاقة بين ماثول الأيقون وموضوعه مجرد علاقة مباشرة يتم الانتقال منه إليه بحكم ما بينهما من تشابه فقط، كأن ترتبط صورة فتوغرافية لشخصٍ بالشخص ذاته، دون وسيط معرفي سابق ودون مؤثرات تدليلية أو تأويلية. هذا ما يبدو في ظاهر الأمر، لكن الصورةَ لا تحملُ معناها في ذاتها بعيدًا عن ًا ملابسات التدليل. إن صورةً شخصيةً لأحدهم على جدار لا تدل عليه لأنها تشبهه فحسب. إنها لا تبقينا في حدود التعرف عليه فقط، أو بالأحرى، إنها لا تدل عليه كما هو، خارج تصنيفاتنا وأحكامنا وإسقاطاتنا. إن وجهة التدليل في الصورة ليست بينها وبين الشخص كذات عينية، بل بينها وبين الشخص كتصورٍ ذهني. وما تصوراتنا إلا تجريدات متغيرة باستمرار، مُختلَف حولها باطراد. إن مبدأ التشابه الذي يحكم العلامة الأيقونيّة، لَيس إلا مبدأً ظاهريًا ًا. فقد نكون أمام الصورة نفسها، وقد تستدعي عندنا ما لا تستدعيه عند غيرنا، وقد تستدعي عند بعضنا ما لا تستدعيه عند كلنا، وقد تستدعي الآن مالا تستدعيه في كل آن. فأين موقع كل هذه الاستدعاءات من محدودية الدلالة المحكومة بالتشابه؟ (علوي، حدود الفهم 32-33).

لا يُمْكِنُ بأي حال من الأحوال، القولُ بأن العلامة الأيقونيّة من خلِالِ إحالتها القائمة على التشابُهِ، تُقَدِمُ الواقعَ باعتباره وجودًا ًا مَوضوعيًّا ًا ومُحايدًا ًا ومُستقِلًّا ًا. إِنَّ رغبةَ الإنسان في المعرفة والاستزادة منها، جعلته يمتد في محيطه بسابق المعرفة من أجل جديد المعرفة. وبالتالي فإن الكون بأشيائه ووقائعه لا يتسربُ إلى الذِّهنِ باعتبار حرفيته المباشرة، بل باعتبار ما يحدثه فعل التجريد من تعديل. وهذا معناه، أَنَّ العين لا تنظرُ إلى الصورة مثلًا باعتبارها كيانًا واقعيًا ومستقلًا عن أي مُضافٍ ثقافيٍّ. بل إِنَّ العين "تروض وتضفي طابع الألفة على كل ما يحيط بها. إنها تلتقط كيانًا في خصوصيته وتحوله إلى خطاطة، استنادًا إليها تتعرف استقبالًا إلى نسخه." (غوتيي 11).

إِنَّ الولوج إلى عَوَالِمِ العلامة الأيقونية، والقبض على منافذ التدليل داخلها، لا يتمُّ فقط استنادًا ًا إلى مبدأ التشابه. فالإنسانُ لا يدركُ ما يمثل أمامهُ بشكل مباشر، بل إِنَّ "أسنن التعرف" أو المعارف السابقة، تمثل خطاطاتٍ ثقافية، يطلُّ الإنسان من خلالها على العالم الأيقوني. وبالتالي فالمعنى في الأيقون ليس وليد التشابه، بقدر ما هو وليد "تسنين ثقافي سابق" ومعرفة قبليّة تعملُ على إخراج الأيقون من مَاديَّتهِ الساذجة؛ لتضفي عليه قيمًا ًا دلاليةً ورمزيةً نابعةً من الكونِ الثقافي الذي يتسرب دون توقف إلى كلِّ مظاهرِ الوجودِ الإنسانيِّ.

الأمارة: إذا كانت الإحالة الأيقونية تبدو مستندة ظاهريًا إلى ما بين الماثول والموضوع من تشابه، فإنها في الأمارة تبدو مستندةً إلى علاقة أخرى هي علاقة التجاور. إن الأمارة "علامة لها رابط فيزيقي مع الموضوع الذي تحيل عليه، وهي حالة الأصبع الذي يشير إلى موضوعٍ ما، وحالة دوارة الهواء المُحدِّدة لاتجاه الريح، أو الدخان كدليل على وجود النار" (إيكو، العلامة 91). وبصيغةٍ أُخرى، فالماثول في الأمارة يرتبط ارتباطًا ًا وجوديًا بموضوعه، فالدخان المتصاعد في الهواء، ليس إلا علامة فيزيقية على وجود نار في مكان ما.

إِنَّ "المعرفة التي تأتينا عبر الأمارة تستند إلى إجراء استدلالي يتخذ من التجاور مُنطَلقًا له" (بنكَراد، مسالك المعنى 163). وعليه، فالإحالة في الأمارة عبارة عن إحالة مرجعيّة، ترتكزُ على علاقة التجاور الوجودي بين الماثول والموضوع. فالدُخان علامةٌ على النار؛ لا بحكم التشابه مع النار، وإنما بحكم علاقة الوجودية أو علاقة التجاور التي تربطه بالنار. ينبغي أن نشيرَ هنا أيضًا إلى أن العلامة لا تشتغلُ باعتبارها أمارة، إلا في حُدُودِ غيابِ الموضوع الذي تحيل عليه. فـ"الدخان لا يمكن أن يكون علامة إلا إذا كانت النار غير مرئية [إذا كانت النار أمامنا فلسنا في حاجةٍ إلى استنتاج وجودها انطلاقًا من الدخان]، وحينها فإن "الدخان/علامة" لا وجود له إلا في غياب النار." (إيكو، العلامة 92). ويمكنُ أن نسحب هذه القاعدة على باقي الأمارات؛ فهي لا تشتغل كعلامات إلا في غيابِ مَوضُوعِهَا.

يبقى فقط أن نستبعد ما قد يبدو من تناقض منهجي بخصوص الربط المُبرَّر بعلاقة التجاور، بالطريقة نفسها التي استبعدناه بها بخصوص الربط المبرر بعلاقة التشابه. فمهما يبدو من تشابه أو تجاور بين الماثول والموضوع، فإن مرتكز التدليل دائمًا هو أسنن التعرف أو البنيات الإدراكية المعرفية السابقة.

الرمز: يُحِيلُ الماثول الرمزي على موضوعه استنادًا ًا إلى قاعدة عرفيّة. إِنَّهُ يَسْتَنِدُ في الإحالة إلى ما تضفيه الذاكرةُ الإنسانيّة على الأشياء والوقائع. فرغبة الإنسان في الامتداد إلى العالم الخارجي جعلته يُودِعُفي أشياء هذا العالم بعضَ أفكاره وهمومه ومعتقداته؛ فصارت الأشياء في العالم الخارجي مُستودَعًا ًا هائلًا ًا من الرموز، يُضمِّنُه الإنسان هواجسَه ومخاوفه، ومآسيه، وأحلامه وقيمه. "فاليأس والأمل والحب والتشاؤم والشجاعة والنُّبْل كلها مفاهيـم انتقلت من مواقعـها المجـردة لكي تسكـن أشياءً وأشكالًا ًا وألوانًا وسلوكاتٍ" (بنكَراد، مسالك المعنى 161). فأصبح اللون الأبيض رمزًا للسلام، وغدت الوردة رمزًا للحب، والبومة رمزًا للشؤم.

لقد استطاعً الإنسانُ بالرموز ومن خلالها، أن يُمَفْهِمَ موجودات العالم العيني ويُضمِّنُها تجريداته وتصوراته بعد تعطيل إحالاتها المباشرة، أو تأجيل هذه الإحالات لأجل الإحالة الرمزية. يتعلق الأمر هنا بالإحالة المضاعفة، إحالة مباشرة معطَّلة أو مؤجَّلة، وإحالة رمزية مفعَّلة. وبهذه الطريقة استطاع الإنسان "أن ينظم تجربته في انفصال عن العالم المادي، وهذا ما جنَّبَهُ التيهَ في اللحظة، وحماه من الانغماس في مباشرية لـ "الهُنا" و"الآن" داخل عالمٍ بلا أفق ولا ماض ولا مستقبل" (بنكَراد، مسالك المعنى 162). وَمن هُنَا، فَإِنَّ الرمزَ يشكلُ الأداة التي من خلالها تنتشر التجربة الإنسانية لتصبح كونيةً لا تحدُّها حدودٌ ولا تحصرها ضفافٌ ولا فواصلٌ.

تتشكل العلامة الرمزية بتعطيل إحالة وتفعيل أخرى، بموجب علاقة عرفية، إِنّهُا نتاجُ لتداخل التجَربة الإنسانيّة مع العالم الخارجي، نتاج لانصهار الأشياء في العلامات، إلى الحد الذي صار يلتبس فيه الشيءٌ كشيءٍ بالشيء ٍكعلامةٍ.

3-3. الثلاثية الثالثة: الدعوى والتصديق والحجة

الدعوى أو الخبر: يُمكن تعريف الدعوى بأنها "علامة تشكل في علاقتها بموضوعها علامة لإمكانٍ نوعي، إننا ندركها باعتبارها تمثل هذا الشيء الممكن أو ذاك فقط. وبإمكان الدعوى أن توفر معلومات؛ ولكنها لا تؤول باعتبارها توفر معلومات" (بنكَراد، السميائيات والتأويل 123). إنَّ الدعوى علامةٌ لا تتجاوزُ حُدُودَ ما هوَّ مُعطى داخل سياقٍ تواصلي مخصوصٍ، بل تكتفي بما هو معروض داخلها للتداول، دون الولوج في عوالـم التأويل والاستدلال.

وَلنَفْتَرِض أن أحدهم نَطَقَ بكلمة "حصان" أمام شخصٍ يجهل ما قيل، فإن حدود الدعوى لن تتجاوز ربط الشكل الصوتي للمتوالية "حصان" بالصـورة "حصان". إن الدعوى أو العلامة الخبرية لا تتجاوزُ ربط هذا بذاك، في حدود التعيين دون الحاجة إلى البحث في حيثيات كلمة "حصان". ولعل "هذا ما دفع دولودال إلى اعتبار المدلول السوسيري حدًا مطابقًـا للمؤول الخبري. فالمدلول كما صاغه سوسير لا يتجاوز حدود تعيين مفهوم ذهني عام مرتبط أشد الارتباط بما تدل عليه الكلمة استنادًا إلى إمكاناتها الذاتية الأولى" (بنكَراد، السميائيات والتأويل 124).

التصديق: يختلفُ الأَمْرُ هنا عن الدعوى، فالتصديق "علامة تشكل في علاقتها بمؤولها علامة لوجود فعلي [...] إنها تستدعي بالضرورة دعوى أو خبرًا كجزءٍ منها لتُؤوَّل باعتبارها تشير إلى شيءٍ ما" (بنكَراد، السميائيات والتأويل 124). وعليه، فإِنَّ العلامةَ التصديقيّة معناهَا تحيين الطاقات التمثيلية للماثول في وُجُودٍ فعلي، أي إفراغ العناصر الإخباريّة دَاخِلَ سياقٍ تواصلي محدد.

وعليه، وعِوضَ أن نقومَ برسم "الحصان" قصد توضيح كلمة "حصان" لشخصٍ يجهل ما نقول، سنقوم بالإمساك بيده، ونَأَخُذَهُ إلى مكانٍ يوجد فيه "الحصان" وجودًا عينيًا، ونقول له، إِنَّ كلمة "حصان"، تحيل على هذا الحيوانِ الماثلِ أمامنا.

الحجة: بِخِلافِ الدعوى والتصديق، فإن الحجة علامة تشكل في علاقتها بمؤولها علامة قانونية. وبعبارة أخرى، فإن الدعوى علامة تُدرَك باعتبارها تمثيلًا لموضوعها من خلال طابعه النوعي المباشر، والتصديق هو علامة تدرك كتمثيل للموضوع من خلال وجوده العيني، والحجة علامة تدرك كتمثيل للموضوع من خلال طابعه القانوني أو الفكري. إن الحجة هي ذلك الفعل الذهني الذي يحاول من خلاله الشخص الذي يحكم أن يقتنع بصحة قضيةٍ ما.

وهكذا، فإن الحجَّةُ لا تكتفي بحدود التعيين، ولا تكتفي كذلك بصب الطاقات التمثيلية في وجودٍ عيني. إِنَّهَا، تمتد إلى تحريك النمـوذج التجريدي، الذي ينطوي في ثنـاياه على النسخ، للوصول إلى البنيّة المجردة والذهنيّة التي نمتلكها عن كل عنصر من عناصر العالم الخارجي. فمادامت المعرفة بناءً رمزيًا؛ فإننا لا نمتلكُ الواقعَ في أذهاننا باعتباره وجودًا ًا فيزيقيًا ًا، بل ما نمتلكه هو نماذج مجردة وعامة عن أشياء العالم الخارجي، وليس أشياء العالم الخارجي عينها.

وبناءً عليه، فعوض أن نربط كلمة "حصان" بصورتها، أو نربطها بالماصدق (المرجع الخارجي بتعبير سوسير)، فإننا سنقوم بالبحثِ في الذاكرة عن التصور المجرّد الذي نمتلكه عن كلمة "حصان"، ونحاول إيصاله إلى الشخص الذي يجهل لغتنا بلغته التي يَفْهَمُهَا.

تلكم كانت حدود العلامة الثلاثية بتفريعاتها الثلاثية، ويمكن أن نُجمِلَ تفاصيل ما عرضناه في شأنها في الخطاطات الآتية:

 

الأولانية

أولانية الأولانية

علامة نوعية

ماثول الماثول

ماثول

ثانيانية الأولانية

علامة عينية

موضوع الماثول

ثالثانية الأولانية

علامة معيارية

مؤول الماثول

الشكل رقم: (4)

الثانيانية

أولانية الثانيانية

أيقون

ماثول الموضوع

موضوع

ثانيانية الثانيانية

أمارة

موضوع الموضوع

ثالثانية الثانيانية

رمز

مؤول الموضوع

الشكل رقم: (5)

الثالثانية

أولانية الثالثانية

دعوى

ماثول المؤول

مؤول

ثانيانية الثالثانية

حجة

موضوع المؤول

ثالثانية الثالثانية

تصديق

مؤول المؤول

الشكل رقم: (6)

خاتمة

ختامًا، يمكن أن نثبت الدعوى التي انطلقنا منها، و\التي مفادها أن العلامة شرطٌ إنساني. فاستنادًا إلى ما تم عرضه في فقرات هذا البحث، نستطيع أن نجزم في سياقنا هذا على الأقل، بأن الإنسان علامةٌ تحيا بالعلامة وداخل العلامة. ففي العالم الإنساني ليس هناك إلا العلامات، وإن العلامات هي كل ما هنالك. فالكون كله علامة، وكل ما فيه علامات، يُحيل بعضها على بعضها بتوسط بعضها. إن الكون أو العالم الوحيد الذي يمكن أن نعيش فيه بوعي، هو العالم الثقافي، بما هو بديل رمزي لكل العوالم، بما فيها الواقعية والممكنة وحتى المُتخيَّلة. إن الكون الذي نعيه أو ندركه حقًا لا يتجاوز حدودنا الإدراكية، ولا يصير مُدرَكًا أصلًا إلا إذا استحال علاماتٍ. حينها وحينها فقط، يمكن أن نتحدث عنه كمُدرَك أو كحاصلٍ إدراكي.

لا يتحقق الإدراك إذن إلا بالعلامات؛ فالعلامات وحدها سبيلنا إلى المعرفة ودليلنا إلى المزيد من المعرفة. تمثل العلامات مُنطَلقًا للإدراك من جهة، وتمثل حاصلًا للإدراك من جهة ثانية، ليس هذا فحسب، بل تمثل – فضلًا عن ذلك – وسيطًا يضمن العبور من ذلك المُنطلَقِ إلى ذلك الحاصل. وبتعبيرٍ آخر، إن السبيل الوحيد من أجل جديد المعرفة هو ما سبق من المعرفة. يتم تسخير هذه المعرفة السابقة مرة كمعطيات أو مقدمات، ومرة كوسائط أو حدود وُسطَى، إنْ على سبيل العرض والتدليل أو على سبيل الاستدلال والتأويل.

هذا عن التصور أو الحكم الذي وصلنا إليه، أما العلم المعتمد لتثبيته، والكفيل بذلك حقًا، فإنه العلم الذي يهتم بدراسة الظاهرة الإنسانية، لا على أساس شبهها أو مطابقتها للظاهرة الطبيعة؛ بل على أساس اشتباهها بها، رغم مفارقتها لها. العلم الذي يعالج الظاهرة الإنسانية باعتبارها ظاهرة ثقافية، مُنطلَقه إليها سؤال في الكيف لا سؤال في الماهية. العلم الذي يدرس السلوك الثقافي بما هو سلوك دالّ يتجاوز السلوك الطبيعي ويختلف عنه. العلم الذي تستحيل معه الطبيعةُ ثقافةً والأشياء على اختلافها علامات تسكنها المواقف والخلفيات والإيديولوجيات، وتغيب عنها السطحية والبساطة والبراءة. ذلكم العلم هو السميائيات أو الصيغة الجديدة للمنطق.


 

المراجع

أولًا: العربية

إيكو، أمبرتو. التأويل بين السميائيات والتفكيكية. ترجمة بنگراد سعيد، المركز الثقافي العربي، 2000.

––. السميائية وفلسفة اللغة. ترجمة أحمد الصمعي، المنظمة العربية للترجمة، 2005.

––. العلامة، تحليل المفهوم وتاريخه. ترجمة سعيد بنكَراد. المركز الثقافي العربي، 2007.

بنگراد، سعيد. السميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها. منشورات الزمن، الرباط، 2003.

––. السميائيات والتأويل، مدخل لسميائيات ش. س. بورس. منشورات المركز الثقافي العربي، 2005.

––. "السميائيات: النشأة والموضوع". مجلة عالم الفكر، مج35، ع3 (2007). 7-46.

––. مسالك المعنى، دراسة في بعض أنساق الثقافة العربية. دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية، ط1، 2006.

حنون، مبارك. دروس في السيميائيات. دار توبقال للنشر، المغرب، ط1، 1987.

دولودال، جيرار. "تنبيه لقراء بورس". ترجمة عبد العلي اليزمي. مجلة علامات، ع8 (1997). 111-114.

علوي، عبد السلام إسماعيلي. حدود الفهم، دراسات سميولسانية في تدبير الاختلاف، الدار التونسية للكتاب، تونس، 2018.

––. السميولسانيات وفلسفة اللغة بحث في تداوليات المعنى والتجاوز الدلالي. دار كنوز المعرفة، الأردن، 2017.

عودة، أمين يوسف. "فلسفة العلامة وتأويلها." مجلة علامات ع 30 (2008): 5-27

غوتيي، غي. الصورة المكونات والتأويل. ترجمة سعيد بنكَراد. المركز الثقافي العربي، بيروت، 2012.

ثانيًا: الأجنبية

References

Alaoui, Abdeslām Ismaili. Al-simyulisāniyāt wa falsafatu al-lurhah. (in Arabic). Dār kunūz Jordan, 2017.

–––. Hudūd al-fahm. (in Arabic). Al-dār tūnusiya, Tunisie, 2018.

Bengrad, Said. "Al-simyā’iyāt alnashʼah wa al-tatawwur". (in Arabic). Majallah ālamu al-fikr, 2007, 3-35.

–––. Al-simyā’iyāt mafāhīmuha wa taţbīqatyha. (in Arabic). Al-zaman, 2003.

–––. Al-simyā’iyāt wa al-t’wīl. (in Arabic). Al-mrkaz al-thqāfi al-ʻArabī, 2005.

–––. Masāliku al-ma,nā. (in Arabic). Dār al-hiwār, 2006.

De Saussure, Ferdinand. Cours de linguistique générale, Préparée par Tullio de Mauro. Éd Payot, Paris 1978.

De Saussure, Ferdinand, and Wade Baskin. Course in General Linguistics: Translated by Wade Baskin. Edited by Perry Meisel and Haun Saussy. Edited by Perry Meisel and Haun Saussy, Columbia University Press, 2011.

Deledalle, Gerard. Tanbīh li qurraʼ Peirce. (in Arabic). tarjamah Abde Ali El-Yazami, majallatu, alāmāt, 8, 1997.

–––. Théorie et Pratique des signes, Introduction à La Sémiotique de Charles Sandres Peirce. Éd Payot, Paris, 1979.

Eco, Umberto. Al-’alāmah, tahlīlu al-mafhūm wa tārīkhuh. (in Arabic). Tarjamah Bengrad, Said. Al-mrkaz al-thqāfi al-ʻArabī, 2007.

–––. Al-simyā’iyāt wa falsafatu al-lurhah. (in Arabic). tarjamah Ahmed Samai, almunaᶎamah al-,arabiyah lal- tqrjamah, 2005.

–––. Al-t’wīl bayna al-simyā’iyāt wa al-tafkīkiah. (in Arabic). Tarjamah Bengrad, Said. Al-mrkaz al-thqāfi al-ʻArabī, 2000.

–––. Semiotics and Philosophy of Language. Indiana University Press, Blomington, 1986.

–––. Sémiotique et philosophie du langage. Traduit par M. Bozaher, Presses universitaires de France, Paris, 2ème éd, 1993.

Everaert Desmedt, Nicole. Le processus interprétatif, introduction à la sémiotique de Charles Sanders Peirce. Pierre Mardaga, Liège, 1990.

Gauthier, Guy. Al sūrah almukawwinātu wa al-tʼwīl. (in Arabic). Tarjamah Said Benkard, al-mrkaz al-thqāfi al-ʻArabī, Beyrouth, 2012.

Hanūn, Mubārak. Durūs fī al-simyā’iyāt. (in Arabic). Dār tubqāl, 1987.

Peirce, Charles S. Ecrits sur le signe, Rassemblés, traduit et commentés par Deledalle Gerard. Seuil, Paris, 1978.

Veron, Eliseo. "La Sémiosis et son monde". in Langages, N°58, Larousse, Paris, 1980.