تاريخ الاستلام: 24 أغسطس 2022

تاريخ التحكيم: 10 سبتمبر 2022

تاريخ القبول: 24 أكتوبر 2022

اللُّغة والهُويّة في خطاب المذكرات عند إدوارد سعيد

عيسى عودة برهومة

أستاذ اللسانيّات التّطبيقيّة والاجتماعيّة، قسم اللغة العربيّة، كلية الآداب، الجامعة الهاشميّة، الزّرقاء-الأردنّ

ebarhouma@hotmail.com

مُلخَّص

تتناولُ الدراسةُ مسألةَ اللغةِ والهُويَّةِ عند المفكِّر الفلسطينيّ النشأة الأمريكيّ الجنسيّة إدوارد سعيد، للكشف عن حيثيّات هذا التعالُق بترسيمَاتِهِ المختلفة؛ الاجتماعيّة والسياسيّة والنَّفسيّة والجماليّة، وبما أنتجه هذا التعالُق في خطاباتِهِ السِّياسِيّة في المحافل الدوليّة من متانةِ الأسلوب وقوةِ العبارة؛ حيثُ أحدَثَ امتلاكه لِهُويَّتَين متنافرتين ولغتين مختلفتين رَجَحَتْ كفَّةُ إحداهما على الأُخرى في مُفارقةٍ أسهمت في نتائجَ عديدةٍ، وسارت نحو تحقيق وجوديّة الهُويّة العربيّة الفلسطينيّة تحقيقًا مُغايرًا عمَّا هو مُتعارَفٌ عليه في خطاباتِ الحُريَّة والنضال الفكريّ السياسيّ.

سعى البحثُ إلى الكشف عن كيفيّة ارتباط الهُويَّة الأصل بلغة الهُويَّة المُكتَسَبة في خطاب المذكرات عند إدوارد سعيد، وتأمُّلاتِه حول المنفَى، والبحثِ في أسباب ميل إدوارد سعيد لهويّةِ وطنٍ نُفِيَ عنه لمدةٍ طويلةٍ والانتماء إليه بلغة المنفى، ثم تكريسِ حياته العمليّة والفكريّة في النضال من أجل الوطن، وحقيقةِ تمسُّكِه بلغته الأولى أو تخلّيه عنها، وماذا شكَّلَ المنفى بالنسبة إليه والذي مؤدَّاه إعادته إلى هجعةِ النشأة الأولى والتَّحوُّل إلى العمل السِّياسيّ المقاوِم. وغيرها من التساؤلات التي تُوجِبُ على الدِّراسةِ أن تتناولها بالبحثِ وعُمق النَّظَر؛ من أجلِ مباحثةٍ سابرةٍ لتلك التساؤلات.

وتحقيقًا لهذه الغاية جاءت الدراسةُ في عددٍ من المَحاوِر التي تُجيبُ عن تساؤلاتٍ إشكاليّةِ الهُويَّة واللغة، وكيفيّة تعاضُدهما في خطاب السيرة الذاتية عند إدوارد سعيد، ونتائج تحقُّق هذه العمليّة الصعبة التي تَلَت مرحلة طويلة من المخاضِ قبل ولادتها؛ للوقوف على مظاهر ميَّزَت السرد السير ذاتي في جذوره ونتائجه وغيرها من العناوين المُدرجة في مُتونِ هذا البحث.

وانتهت الدراسةُ إلى أنَّ خطابَ الهُويَّة وتعالُقَه مع اللغة عند إدوارد سعيد يمثِّلُ خطابًا جماليًّا فريدًا بشتى جوانبه، ومُكتنزًا ومعبأً بالدّلالات والرَّسَائل الضمنيّة، التي تُسفر عن تجليات الذات، والأنا، والهُويَّة، والنِّضَال والمُقَاومة.

الكلمات المفتاحية: خطاب الهُويَّة، اللغة، المنفى، خارج المكان، إدوارد سعيد، السرد السير ذاتي

 

للاقتباس: برهومة، عيسى عودة. «اللُّغة والهُويّة في خطاب المذكرات عند إدوارد سعيد»، مجلة أنساق، المجلد السادس، العدد 2 (2022).

© 2022، برهومة، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. تم نشر هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.

Received: 24 August 2022

Reviewed: 10 September 2022

Accepted: 24 October 2022

Language and Identity in the Discourse of Edward Said’s Memoirs

Essa Odeh Barhouma

Professor of Applied and Sociolinguistics, Department of Arabic Language, Faculty of Arts, The Hashemite University, Zarqa-Jordan

ebarhouma@hotmail.com

Abstract

The study deals with the issue of language and identity for the Palestinian thinker, the American upbringing of Edward Said, to reveal the reasons for this connection with its various forms. Social, political, psychological, and aesthetic, and what this connection produced in his political speeches in international forums of the strength of style and the strength of the phrase, as his possession of two heterogeneous identities and two different languages ​​favored the realization of the results of the Palestinian identities, which led to the achievement of the Palestinian identities in the direction of one of them. It is well known in the discourses of freedom and intellectual and political struggle.

In a paradox that contributed to many results, and proceeded towards the realization of the existence of the Palestinian Arab identity in a different way from what is known in the discourses of freedom and intellectual and political struggle.

The research sought to reveal how the original identity is related to the language of identity acquired in Edward Said's memoirs discourse, and his reflections on exile, and to search for the reasons for Edward Said's inclination to the identity of a homeland he has been exiled from for a long time and belonging to it through the language of exile and then dedicate his practical and intellectual life to the struggle for the homeland. And the fact that he adhered to his first language or abandoned it, and what constituted exile for him, which led him to return to the slumber of his first upbringing and turn to political resistance. And other questions that the study had to deal with research and depth of view in order to discuss these questions.

To this end, the study came in a number of axes that answer the questions of the problem of identity and language, and how they are intertwined in Edward Said’s biographical discourse, and the results of achieving this difficult process that followed a long stage of labor before its birth, to find out the same aspects that characterized the roots of the narrative walk And its results and other titles included in the text of this research.

The study concluded that the discourse of identity and its relationship with language according to Edward Said represents a unique aesthetic discourse in all its aspects, chunky and filled with connotations and implicit messages, which result in manifestations of self, ego, identity, and struggle.

Keywords: Identity discourse; Language; Exile; Out of place; Edward Said; Autobiographical narrative

 

Cite this article as: Barhouma, Essa Odeh. "Language and Identity in the Discourse of Edward Said’s Memoirs", Ansaq, Vol. 6, Issue 2 (2022).

© 2022, Barhouma, licensee QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited.

 

مُقدّمة

تُعدُّ دراسات الهُويَّة من الدراسات المحوريّة التي تدور حولها رحى العمل البحثيّ فيما يتعلق بالسِّيَر الذاتيّة وطرائق تعبير أصحابها عن ذواتهم، وتصبح أكثر أهميّة إذا ما دُرِسَت ضمن علائقها المُترابطة مع حقول معرِفِيّة أُخرى، كاللغة والدِّين والثقافة ودورها في تشكيل مساراتِ أصحابِها ونشاطاتهم وأهدافهم وأفكارهم في الحياة.

وتُمثّلُ السيرة الذاتيّة أحدَ أركانِ الخطاب الهُويَّاتيّ المنظوم للتعبير عن صاحبه بدقّةٍ ومعرفة شموليّة هدفها الكشف عن الذات ومنعرجاتها وتضافرها مع قضايا النضال والعمل المقاوِم، فالسيرة الذاتية مفهوم حديث العهد يشمل مجموعةً من النصوص لم تتمكن بعد سنةٌ عريقة في القراءة والتفسير من توحيدها أو المجانسة بينها بشكل تام، وهي في أبسط مفهوماتها انعكاس للمذكرات أو ملامح الحياة، وهي سيرة كتبها من كان موضوعا لها، (ماي، 23- 24) وبما أن السيرة الذاتية مرتبطة بالثقافة الغربية، وبما أن مؤرخي السيرة يُجمعون على أن موضوع دراستهم ينتمي إلى الثقافة الغربية، وأن بداياتِ المصطلح ظهرت في 1800م وقبلها بقليل، فإن تَشكُّل هذا المصطلح ارتبط بالوعي الجمعي للمضمون، (انظر: ماي، 32- 36)؛ أي وعي الأفراد بمعنى السيرة وما تتضمنه من ملامحَ فكريةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ، وبنى لوجون قواعدِ السيرة الذاتية على "أربعة عناصر؛ هي شكل الخطاب، ونوع اللغة، وموضوع العمل الفني (حياة شخصية خاصة)، وموقع الكاتب (التماثل بين هوية الكاتب والراوي)، وموقع الراوي (التطابق بين هوية الراوي وهوية الشخصية الرئيسة). وتتحقق العناصر الأربعة من خلال منظورِ استعادة الماضي للقص" (صالح 41 )؛ فتغدو هذه العناصر أساسًا في بناءِ سيرةٍ تعكس الهويةَ التي تشكلت عن اللغة والبيئة، ليأتي السارد ليقدمها عبر أدوات السرد المتنوعة.

والسيرة الذاتية تُجسِّدُ في سردها حالين يقف فيهما المتلقي بين المتحدث عن نفسه وكاتب السيرة؛ "فالأول كلما أمعن في تيار الحديث يثير شكَّنا، والثاني يستخرج الثقة الممنوحة له مِنَّا، خطوةً إثر خطوة؛ لذلك كان الأول شخصًا عاديًا أو أقل من العادي في نفوسنا، أما الثاني فشيءٌ مغايرٌ له تمامًا، لاعتقادنا أنه لم يكتب سيرة لملء الفراغِ فحسب" (عباس 93)؛ بل ليغدوَ أقرب إلينا في كل شيء، وانطلاقًا من مبدأ التعبير عن الذات والأفكار والرغبات، توجه إدوارد سعيد للكتابة في سياق السيرة الذاتية والتعبير عن انعكاسات الثقافة في الذات، ليمثِّل أنموذجًا حيًّا للذات التي تسير عبر الكتابة لِتُوَثِّق هُويّة لها سيرورتها التي تتكشَّفُ للعيان بُغية الإفصاح عن حقائق سياسيَّة وتاريخيّة تنازعيّة مع ثقافات وهويّات أخرى، مُنتصِرًا لنفسه التي ظلَّت حبيسة الهامش حتى انبسطت بقوة مقاومة فكريّة منتمية بكليّتها إلى الهُويَّة الأضعف والأجدر بالبروز إلى العالم من مبدأ ضرورة تحقيق العدالة والحُريّة وتقرير المصير.

ولعلَّ الأداة الأساس في تشكيل ذلك الفكر ونقل تلك القضيّة هي اللُّغة، لا سيما لُغة المستعمِر، اللغة التي تُفصِحُ عن ذاتها وتُسفر عن هُويّة الغربيّ وتنقل أفكارَه، وتغدو لدى إدوارد سعيد محلَّ مقاومة ولغة خادمة لمصلحة المستعمَر هذه المرة على غير المتوقع، فالدور الذي يقوم به إدوارد سعيد باستعمال لُغة الغرب المهيمن والعيش في كنفه لا يعني إثبات وجوده على أنه الفلسطينيّ المنفيّ وحسب، بل يصبو لبلوغ منزلة الهيمنة الفكريّة التي يؤدي فيها المفكرون دورًا أساسيًّا من خلال سلسلة من الأعمال والكتب والمحاضرات التي تهدفُ إلى صَوغ نظريّة جديدة عن حقيقة الغرب أو إزاحة الستار عن حقائق خبيثة وتجريدها من لَبوس المشروعيّة أو الدعوة إلى التّحرُّر وإماطة اللِّثَام عن الأفكار والتصورات التقليديّة التي شكَّلَها المُفكِّرُون والسياسيّون الغربيّون على مدار سنوات، أو إعادة صياغة حقائق العالم المنسيّ وإظهاره، بعدما صيغت بقوالب مُختَرَعة بُغية تحقيق أهداف سياسيّة استعماريَّة واقتصاديّة أو غيرها مما يحقق تمتين قوة الاستحكام والسيطرة، فيعمل من تلقاء نفسه دون تكبُّد مجهود إيصاله، مُشكِّلًا طاقة تنفجرُ كُلّها وتعملُ مدارًا واحدًا ولا تهمد لانعقادها وتوثيقها بلغة المستعمِر آخِذَةً الصُّفوف الأولى في كل مكان حطت فيه.

ومع امتلاك إدوارد سعيد لغةً عذبةً وأسلوبًا فاتنًا يُقوِّي النصَ ويسمو به، فإنَّهُ يضمن لنفسِهِ قَبولًا واسعًا وانتشارًا لا يحدثان عادة في الخطاب الذي يُنقلُ ويُحكى بلغة الوطن. فكأنما يُرسل للعالم ولا سيما المكان الذي اضطر للمكوث فيه والذي سبَّبَ مأساته ومنفاه، أنه سيقاومُ بوفاء مقدِّمًا المباضع اللازمة لتفكيك خطاباته إلى العالم فيضمن تلقِّيًا واسعًا؛ لينجح في هذه العمليّة العسيرة والمعقَّدة نجاحًا كبيرًا سما به إلى أصقاع العالم مُشكِّلًا بذاته أيقونة العمل السياسيِّ المناضل في العالمين العربيّ والغربيّ.

إنَّ أحد أهم أسباب كتابة إدوارد سعيد باللغة الإنجليزيّة وحديثه بها مردُّه ضعف السرديّات العربيّة في الغرب، وإن كان لها حضور فهو تحقّق خافت بالمقارنة مع السرديّات الغربيّة التي يصل صداها عالميًّا إلى كل وجهة.

إن التَّركيزَ على الذَّات الداخليّة في كتابة السِّيرَة الذَّاتيّة يشيرُ إلى بحث عن الهُويَّة الحقيقيّة بعد سلسلة من الأحداث التي تهيمن على الإنسان، لا سيما الأحداث المتناقضة بين هويَّةٍ أصوليَّةٍ وهُويَّةٍ طارئةٍ أوجَدَتْها الظُّروفُ الخارجيَّة، ممَّا يُحدِثُ تحوُّلاتٍ في شخصيَّة الإنسان؛ إذ تُشيرُ إلى الكيفيّة التي ينظرُ بها إلى الذات التي تمرُّ بها نفسه والآخرون، ونتيجة لذلك الالتقاء النهائيّ يصبح الفرد واضح البصيرة صادق المشاعر قويّ التعالُق مع ذاته وينقل ذلك إلى جمهوره.

إن بحث إدوارد عن هويّته لا يُعدُّ شيئًا مألوفًا أو روتينيًّا بقدر ما هو تغذية للروح، وحاجاتٌ روحيّةٌ ونواقصُ يشعر معها بحقيقة ذاته؛ لذا عَمِلَ على الكشف عن تلك الهُويَّة وتقويتها عبر السيرة الذاتية "خارج المكان" لتشمل عالَمين متصارعين فجَسّر الهُوَّة بينهما عبرَ السرد السير ذاتي.

وفي سياق ما تقدَّم فقد جاءت الدراسة في عدد من المحاور، هي: إشكاليّة الهُويّة واللغة (منظور سردي) والنشأة اللغويّة وتعالق الهوية عند إدوارد سعيد، وخطاب السيرة الذاتية في خارج المكان، وجوزيف كونراد ثيمة إنسانية، وإدوارد سعيد بين الهُويَّة العَرَبِيَّة والهُويَّة الغربيّة: تفاضلات إحداهما على الأخرى، تُبِعَ ذلك بخاتمة، وقائمة بالمصادر والمراجع.

1-     إشكاليّة الهُوِيَّة واللُّغَة (منظور سردي)

يُعدُّ موضوع الهُويَّة (Identity) أساسًا يرتكزُ عليه العملُ السرديُّ الذي يرتكنُ في الأساسِ على الأنا الفرديّة وتوصيفها وذِكر حيثيّاتها وتكاتفها مع مجالات الحياة السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والفِكريَّة؛ إذ تُؤدِّي الهُويَّة وظيفةَ إثباتِ الذات التي تتميَّز باعتناقها مجموعة من الصفات التي تتمايز فيها شخصيّةُ عن أخرى، فيُمكن للمرءِ أن يكون عربيًّا وسياسيًّا ومسلمًا ومناهضًا لحقوق المرأة وممارِسًا لهواية عزف البيانو ولاعبًا لكرة السلَّة ويعمل في التجارة، ويعيش بأريحيّة مع هذه السِّمات الهُوَوِّيّةِ الخاصَّة به، التي صاغتها تجاربُه وأعرافُه وأفكارُه ومشاعُره ومبادئه وظروفُ نشأتِه وولادتُه ووجودُه في منطقة تعتنق أفكارًا خاصَّة، فهذه الظروف الداخليّة والخارجيّة هي التي تصوغ هُويّة المرء وترسم ملامحها الخاصة وتُمَيِّزُها. غير أن الذات الفرديّة أقدر على التَّحكُّمِ في صَوغ الهُويَّة الخاصَّة بها من المُسبِّبَات والمؤثِّرات الخارجيَّة، ومؤدَّى الهُويَّة الفرديَّة في خُطوطها العامَّة هو تشكيلُ هُويَّةٍ جماعيّةٍ تتَّسِمُ بها جماعة عن أخرى بحسب المكان والزمان والعِرق والدِّين والانتماء الوطنيّ الذي يوحِّد صفَّ الجماعة ويمايزُها عن غيرها، فالعمليَّة التّأسيسيّة للهُويَّة هي عمليّةُ تأثُّر الفرد والجماعة وتأثيرهما بعضهما في بعض؛ إذ "تبتدئُ الهُويَّةُ الفرديَّةُ في اصطلاح علم النفس بالأنا (الذَّات والشعور) التي تواجه لدى بروزها القوى الاجتماعيّة التي تعمل على نمو الأنا العُليا (اللاشعور) وإنَّ الهُويَّات الجماعيّة تُسهم في تأسيس الأنا والأنا العُليا كلتيهما، بَيدَ أنه يوجد دائمًا لدى الأنا رغبة في تملُّكٍ فذٍّ" (جوزيف 50- 51)، مما يستدعي أن تنشأ الهُويَّةُ من اندماج عدة سمات بعضها في بعض، لتتأتَّى الأشكال النهائيَّة للهُويَّة بعد نضوج هذه السمات الهُوَوِّية؛ لكن هذا النُّضوج ليس نهائيًّا؛ فالهُويَّة تبقى في مرحلة الانبعاث والتشكيل واستقبال التغييرات ما أمكن لها إن تشابهت مع السمات الأساسيَّة فيها؛ حيث "إنّ الهُويَّة ظاهرة متعدِّدة الأوجُه وليست مُجرّد سلعة عصريّة يسعى الناسُ للحُصُولِ عليها أو يعتقدون أن عليهم الحُصُول عليها" (Basaid 26).

 فالهُويَّة ليست شيئًا ثابتًا يُولَد مع المرء ويبقى ملازمًا له بجمودٍ دون تغيير، إنما هي في جوهرها شيءٌ مرنٌ مُطواعٌ ودائمُ التحوُّلِ والتغيُّر، وذلك محكوم بالمكان والزمان والتفاعلات والعلاقات التي يُحدِثُها المرءُ باستمرار خارج إطاره المُعتاد، "والهويّة ليست ما يتمُّ تذكره والمُحافظة عليه والدفاع عنه فكل ذلك مُحقق مُسلَّمٌ به، وإنَّما هي بالأحرى ما ننجزه ونحسن أداءه" (العياشي 22) في الفكر والحياة الاجتماعية والسياسة والاقتصاد والحضور البشري العام مع الفرد والمجموع.

أما الهوية السردية فمفهومٌ ظهر لأول مرةٍ في خاتمة منجز ريكور "الزمن والسرد" في إطار التفكير في العلاقة بين التاريخي والمتخيل، بحثًا عن سياقٍ علميٍ يلتقي فيه الصنفان السرديان؛ إذ تغدو الهوية مقولةً للممارسة، فتحديد هوية الفرد أو المجموعة يتوقف على الإجابة عن سؤال: من فعل ذلك؟ ومن هو الفاعل؟ ولمَّا كانت الهوية تقوم على دلالتين؛ إحداهما شيئية جامدة تتمثل في الهوية العينية، والثانية الهوية الذاتية بدلالتها الحركية المرنة، ليغدو معيارُ الاستمرار في الزمن فيصلًا بينهما؛ (ولد أباه، ص 6) لذا وجب أن نُسلِّط الضوء على الحالات التي تتعارضُ فيها هُويَّتان أو أكثر ذات صِلةٍ بالمرء نفسه؛ إذ يُشكِّلُ هذا التعارض سمة أساسية للهُويّات، والناشئ في مبادئ الجماعة وأهدافها العامة والسلوكيات ولا مجال للتلاقي فيه، ففي هذه الحالة "لا بُدّ أن يتجه التفكير في اختيار الهويّات ذات الصلة إلى تجاوز ما هو ذهنيّ خالص إلى أهميّة اجتماعيّة طارئة مُمكنة، فليس العقل مرتبطًا باختيار الهُويَّة فحسب، ولكنّ التفكير لا بدَّ أن يلاحِظ السِّياق الاجتماعيّ والأهميّة العارِضَة أو المُمكنة لأن يَضَعَ الإنسانُ نفسه في فئةٍ أو أخرى" (صن 42)، بيد أنَّ للهُويَّة اعتباراتٍ لا يُمكِن إغفالها، حينما يتعلَّقُ الأمر بتلقِّيها تهديدًا من جانب هويَّاتٍ أُخرى، مثل التماسك والوحدة والنضال ووجوب الانتماء.

واستظهار الهُويَّة الوطنيَّة وفهمها من ثمَّ تحقُّق الانتماء غير ممكن إلا بوضعها في مُقابل الهُويَّات الأُخرى المُضادَّةِ لها، حيث لا يشعُرُ الإنسانُ بماهيَّتِهِ الذاتيَّة ويُدرك بوعيٍ هُويّتَه الحقيقيَّة إلا حينما يقابلها مع هُويَّة أخرى بعلاقة طِباقيَّة ويُعايشُ كلتا الهُويَّتين، حينها يُدرِكُ أنَّه مُخيَّرٌ بين أن يبقى في بوتقةِ هويَّةٍ واحدةٍ أو أن يسعى لأن يعيشَ في هويَّتين تخدم إحداهما الأخرى مع حالة من التَّماهي والميول الشخصيّ إلى واحدة على الأخرى حسب الظروف، عندها تُشكِّل أفكارُه الخاصة ذلك الميول وليس الأعراف الاجتماعيّة التي ينتمي إليها، ولا الهُوية القوميَّة الأولى التي قد اكتسبها من محيطه الذي وُلد فيه والمكان الذي وُجِدَ عليه، فالعلاقة بين المرء وهويته هي علاقة إدراك أولًا ثم انتماء وليس العكس "وإنَّ الحِفاظ على الهُويَّة يكونُ بتوطيد الانتماء إلى الجماعة والإخلاص لها، ومن ثم التميُّز عن الآخر والاختلاف عنه لأن الانتماء لا يتحدَّد إلا بالآخَر المُختلِف وإن الهُويّة لا يُمكن أن تُفهم بعيدًا عن علاقتها مع الآخَر المختلِف المُغايِر" (العياشي 21).

ولما كان خطاب الهوية يدور في إطار تتبع السردية التاريخية التي تميز السردية الذاتية عن العمل الأدبي؛ إذ يختلف النصان الأدبي والتاريخي في طبيعة العقد القائم بين المؤلف والقارئ؛ ففي العمل الأدبي يقبل القارئ مُسبقًا تصرف المؤلف في تشكيل الواقع المتخيَّل، في حين يتوقع القارئ من المؤرخ سردَ أحداثٍ تمت بالفعل في الماضي، (ولد أباه 10) لتعبِّرَ اللُّغةُ عن الهُويَّة وهي من أهم خصائصها؛ إذ تترابَطُ بها ترابُطًا قويًّا، "ويعودُ ارتباطُ اللغةِ بالهُويّةِ إلى سُلطانِ اللغة في تحديد الطابع الهُويَّاتيّ للأفراد والجماعات، علاوة على التّواؤُم القائم بين الوظيفة التي تُؤدّيها اللغة وكُنه الهُويّة" (برهومه 17)، واللُّغة هي الأصلُ الذي تستقي منه الهُويّةُ الديمومةَ والاستمرارَ، وبانعدامِها تنعدم الهُويَّة، لذا حَرِصَتْ السياسات الاستعماريّة على إذاعةِ لُغاتِها وطمس أو تهميش لُغة المُستَعمَر بانتهاج سياساتٍ منظَّمة في التعليم والمؤسسات الحكوميّة والمعاملات، لإدراكها حقيقة ذلك الارتباط؛ إذ مارست اللغة سلطتها في بناء عمل سردي سيري مثل محكيًا استعاديًا عمدت فيه الذات الساردة إلى إعادةِ بناء ما تناثر من وقائع وتقديمها ضمن قصة تروي تفاصيل حياة تتميز بالتماسك والانسجام، فتغدو السيرة منتظمة عبر برنامج سردي تتم من خلاله إعادة بناء وحدة خاصة بحياة ممتدة في الزمن، وهذا المحكي ينعم بالوعي المتحقق بفعل الفضاء السيري الذي يجسد وقائعَ وأحداثًا عدة عايشها السارد أو كان جزءًا منها، (بنكراد 3) فينقل هذه الخبرة للمتلقي عبر النسج السردي.

والأساسُ الذي يُشكِّلُ الهُويَّة اللُّغويَّة هي اللُّغة الأم التي يولدُ عليها الإنسانُ ويعيها منذ فترةٍ مبكِّرةٍ في حياته ويتواصل بها مع الناس ويقضي معاملاته وأفكاره ويدير شؤون حياته، وهي التي تجعله ينتمي إلى بيئة وموطن وأشخاص معيَّنِين، وتُعيدُه إلى دائرتِها المعهودة بالنسبة إليه كُلَّما ضلَّ الطَّريق، وسرعان ما يشعُرُ بالافتراقِ عنها والوَحشةِ والضَّياع، إذا ما فكّرَ بالانتماء إلى غيرها، فـ "اللغةَ الأمّ أساسية في تشكيل الهُويّة اللغويّة، واللغة الأم -في حدِّ ذاتِها- تأكيدٌ للهُويَّة القوميّة والإثنيَّة والدينيَّة، ويُمكنُ للغات الثانية أن تلعبَ دورًا مهمًّا في هُويَّة المرء، ومع ذلك يبقى للغة الأم دورٌ خاص جدًا مرتبطٌ بالطريقة التي نفكِّرُ فيها...إن لنا ارتباطًا وولاءً للغات التي نفكِّر من خلالها ونصنفها ونتخيَّل ونحلم بها" (جوزيف 236).

2-     النشأة اللغويّة وتعالق الهوية عند إدوارد سعيد

يبين هذا المَطلبُ دور التَّنشِئة اللُّغويَّة عند ادوارد سعيد في تشكيل كل من الهوية ومن ثم بناء التراكمات الحياتية التي شكلت سرد السيرة الذاتية؛ إذ نشأ في عائلة ثُنائيَّة اللُّغة، كانت لُغتها الأُم هي اللُّغة العربيَّة ثم دَرَسَ في مدارسَ كولونيالية تعلَّمَ فيها اللغة الإنجليزيّة فطغت معرفتهُ بها على معرفته باللغة العربيَّة، مما أدى إلى ازدواج لغوي أسهم في تشكيل الهُويَّة التي جسدتها السردية السيرية. فيتجلى التعالُق والجمع بين هُويَّة عربيَّة ولغة أجنبيَّة في الفكر والانتماء والأهداف، ويبين دور اللُّغة في التعريف بالهُويَّة وتشكيلها صورة هذا العمل السياسيّ المناضل.

فاللغة الأم التي اتخذها إدوارد سعيد أداة للتعبير عن منجزه السردي أخلصت في التعبير عما عايشه من أحداث عكست كلًا من التفكير، والذكريات، والمتخيلات، والوقائع التي أسهمت في بناء هذه الهوية في إطارٍ سرديٍ خاص.

مثَّلت مرحلةُ التعليم مفصلًا أساسيًّا في حياة إدوارد سعيد، لا سيما أنَّه كان تعليمًا كولونياليًّا من مناهج وأساتذة وطلبة إنجليز أسهموا في تشكيل جوٍّ من التوتر في حياة الطلبة العرب، وأشعروهم أنَّهم غُرباءٌ في بلادهم، وأجبروهم على ارتداء لباس ليس لهم من لغة ونمط حياة وتفكير، وعاملوهم معاملة الأغراب الهامشيّين؛ مما انبثق عنه جيل لا يعرفُ شيئًا عن أدبه ولا لغته ولا المكان الذي يعيش فيه، يُتاحُ له أن يدرُسَ ما يُجبَرُ عليه وما تقرره الكولونياليّة فحسب، "ولما كان الانتماءُ العربيّ وتكلُّمَ اللغة العربيّة يُعدَّان بمثابة جنحةٍ يعاقب عليها القانون في ڤكتوريا كولدج، فلا عَجَب ألَّا نتلقّى أبدًا التعليم المناسب عن لغتنا وتاريخنا وثقافتنا وجغرافيّة بلادنا... ثُمَّ إني أدركتُ في قلبي أن ڤكتوريا كولدج قَطَعَت نهائيًّا الأواصر التي تشدّني إلى حياتي السابقة، وأن ادّعاء أهلي أنّي مواطن أميركيّ قد تهافت، فقد بِتنا نُدرِكُ جميعنا أننا دونيّون نواجه قوة كولونياليّة جريحة وخطرة بل وقابلةً لأن تؤذينا، ونحن مُجبَرون على تعلُّم لغتها واستيعاب ثقافتها لكونها هي الثقافة السائدة في مصر" (سعيد، خارج المكان 233).

.إن الالتباس بين اللُّغة الأصيلة واللُّغة الثَّانية المُكتَسَبَة كان من أصعب التحديات على طفل ما يزال في طور النمو اللغوي؛ إذ مالت عقليّته للغة على حساب أخرى اعتمادًا على قواعد التعليم المُتاح، فلم يستطيع أن يفصل أو أن يميل هو بذاته وبقرار منه إلى لُغة وإلغاء الثَّانية؛ لكونه مُضطّرًا لاستعمالهما بشكل أو بآخر لأسباب استعماريّة أو سياسات تعليميّة أو سلطة أبويَّة فيقبَعُ تحت شتاتٍ لغويّ ومن ثم تشتُّت للهُويّة يصعُبُ الخلاصُ منه، وحينما يتعلَّق الأمر بلغتين متضادتين من عالمين لا تشابه بينهما فإنَّ "نصفي اللغتين الإنجليزيّة والعربيّة يتسببان في معاناة حاملها الحائر طوال حياته؛ حيث يضطر إلى التأكيد على النصف على حساب الآخر حسب الظروف" (sallam 336).

إنَّ التشتُّت اللُّغوي يُسهم في تشتيت الهُويَّة إسهامًا واضحًا ومباشرًا، وإن كان الميلُ كاملاً للغة المُكتَسَبَة لسهَّل ذلك من الإدراك الذاتيّ وأعان على فهم الهُويَّة، بيد أن التعقيد يحدث حينما يتمسك المرء باللغة الأُولى ولا يستطيع أن يُلغي الثانية، وتجربة سعيد في هذا الشتات هي التي أسلمته إلى مدارات الحيْرة والبحث عن الذات وانقسام الهُويّة طويلاً: "كنتُ تلميذًا شاذًّا ومُزعِجًا طوال سنواتي الأولى: فلسطينيًّا في مدرسة في مصر مع اسم أوَّل إنجليزيّ وجواز سفر أميركيّ، دون أيّةِ هُويَّة محققة مهما تكن، ومما زاد الطين بلَّةً أن العربيّة، لُغتي الأصليّة والإنجليزيّة لغتي المدرسيّة كانتا مختلطتين على نحوٍ يتعذَّر فصله، فلم أعرف أبدًا أيَّهما كانت لُغتي الأولى، ولم أكُن أشعر أنني مُرتاح تمامًا في أيٍّ منهما، على الرَّغم من أنَّني أحلم بكليهما وفي كل مرة أنطق بها بجملة إنجليزية أجدُ نفسي أُردِّدُها بالعربيّة والعكس بالعكس" (سعيد، تأملات حول المنفى ومقالات أخرى 371).

فيظهر أن المشرقي يعيش في عالمين أو أكثر دون الانتماء إلى أيٍّ منهما... مما يعني العجزَ عن الإبداع والاكتفاء بمحاكاة الآخر... ليجد ذاته في حالة ضياع، وتظاهر، وعدم إيمان بشيء ويأس مطلق، (برنن 61) تلك الحالة المُتوتِّرة والشُعُور بالغَرابَة -غرابة الذات- والغُربَة داخل أسوار الوطن وخارجه، كل ذلك أشعَرَ إدوارد سعيد بضرورة الادّعاءَ بأنَّه أجنبيّ ينتمي إلى عالمهم (هُم) لا إلى عالمه العربيّ لعلّ ذلك يُخفِّفُ من صعوبة التَّجربة، ثُمَّ إنَّ الضّغط الذي ولَّدَتهُ تلك السُّلطة بالتزامُن مع السُلطة الأبويَّة وأجواء المنزل التي هيَّأت له تلك الرَّغبة وذلك الادِّعاء في جانبٍ ما، هما ما دفعاه إلى ذلك، لا سيما أنَّ أباه كان يتحدَّثُ الإنجليزيَّة، وكان قد عاشَ فترة شبابه في أمريكا واكتسبَ جنسيَّتها؛ لذا، استفادَ إدوارد فيما بعد من توجيهات أبيه الإيجابيَّة عن الحياة الأمريكيّة والفُرَص التي تُوفِّرُها لِمُواطِنيها بوصفها مركز العالم جارِيًّا وسِياسِيًّا وفِكرِيًّا.

إنَّ الحالة التي وجد إدوارد نفسه قد قُبِعَ فيها دون سابق إنذار كانت تُنذِرُ بانقسامٍ في الهُويَّة وانهدام في الشخصيَّة، أسَّسَت لمجموعة من التناقضات التي أدارته في رحاها لفترة طويلة عَلِقَ فيها ولم يتمكن من الفكاك منها إلا بعدما تقدَّم عمرُه وفِكرُه وتغيَّرَت مبادئ حياته وتشكلت لديه نظرة أعمق عن ماهيَّة نفسه وحقيقة هويّته وانتمائه، وبعدما تعاقبت الأحداث السياسيَّة الفاصلة لكثير من وجهات حياته التي يربطه بها المنشأ، واللُغة الأم، والمَحيا، والانتماء: "وفي المدرسة الأمريكيّة في القاهرة كان الشُّعورُ المُسيطرُ عليَّ آنذاك هو شعوري بامتلاك هُويَّة مُضطرِبة، أنا الأمريكيّ الذي يُبطِنُ هُويَّة عربيّة أُخرى لا أستمدُّ منها أيّة قوة، بل تورثني الخجل والانزعاج... يومًا بعد يوم في المدرسة أخذتُ أشعرُ بالتَّفارق بين حياتي الشخصيّة، أنا إدوارد ذو الهُويَّة المُزدَوَجَة، بل والإيديولوجيّة، وحياتي في البيت" (سعيد، خارج المكان، 125).

ليظهر دور المدارس الكولونيالية في ازدهار الإنكليزية في نفس إدوارد سعيد، مما أدى إلى تعدد الانتماءات في اللغة والجنسيَّة والفِكر والاعتقاد، مما خلق انقسامًا قويًا في الهُويَّة وضياعًا وإتلافًا للذات، ومن ثم هيمنة الآخر على العربي، وهذه الهيمنة حفّزت الفِكر والنقد والإبداع والتغلغل في عالم الآخر، مما أتاح فهمًا عميقًا وتأثيرًا مباشرًا، وهو ما كان يعيشه إدوارد وسط تعدُّدٍ تمكَّنَ من استثماره جيِّدًا فيما تلا مرحلة البحث عن الأنا المفقودة: "كنتُ صبيًا فلسطينيًا، أنجليكانيًّا، أمريكيًّا، أتكلَّمُ الإنجليزيّة والعربيَّة والفرنسيّة في المدرسة وأتكلَّمُ العربيَّة والإنجليزيَّة في البيت وأعيشُ في حميميّةٍ تكاد أن تكونَ خانقةً" (سعيد، تأملات حول المنفى ومقالات أخرى 158).

إنَّ من أصعبِ مساوئ النَّفيِ أنَّهُ نفيٌ للهُويَّة اللُّغويَّة التي نُفكِّرُ ونُعبِّر ونتواصلُ بل ونعيشُ في كنفها؛ إذ تَحيا مَعَنَا مَحْيَا النَّفَس، فالتواصل عبر اللغة الأم يُشعِرُنا بالانسجام والتفاعل المترابط مع أطراف الكلام فلا يبدو جافيًا أو منقطعًا عن الذات، في حين يؤدِّي استعمال لُغة ثانية إلى تجريد الكلام من كل المعاني الوجدانيّة فتصبح جافية خالية من رونقها تخرج لتؤدي وظيفتها فحسب، دون تأديتها ارتباطات معنويّة أخرى على الرَّغم من أنَّ اللُّغة في أصلها مؤسَّسَة تواصُليّة تحوي وشائج فِكريّة وشعورِيّة، علاوة على أنَّها في الأصل تعبيرٌ عن الهُويَّة؛ لكن ذلك يصعُبُ تحقيقه في لُغةٍ أُخرى غير اللُّغة الأُمّ. وقد عاشَ إدوارد هذه التجربة ووَصَفَها في (خارج المكان) باستطراد لأثرها البالغ فيه وفي طريقة تفكيره ونظرته وتعاطيه مع الأمور: "كان يُسَاورني شعورٌ دائمٌ بأنّ ما أفتقده في صحبة مجايليّ الأمريكيّين هو استخدامُ لغاتٍ أخرى، والعربيّة خصوصًا تلك اللغة التي أعيش وأفكر وأحسّ فيها جنبًا إلى جنب مع الإنجليزيّة، ثم إن الأمريكيّين بدوا لي أقلَّ شَغَفًا وحماسًا عند تعبيرهم عن مواقفهم وردود أفعالهم" (سعيد، خارج المكان 289).

إن حياة إدوارد سعيد الطُّفُولِيَّة شكَّلَت حالة من الضَّجيج اللُّغوي ومن ثم أحدثت ضجيجًا صارخًا في الهُويَّة، ومَرَدُّ ذلك أنها لم تكُن كُلُّها باللُّغة العربيَّة ولم تكن كلها بالإنجليزيّة، فالتَّفكير والتواصُل يقعان في خانة المُتاح بالعربيَّة، أما التعلُّم والدراسة بكُلِّ مراحلها وأشكالِها فلا يُمكن تحصيلها إلا بالإنجليزيَّة، وقد دَرَجَ عن ذلك تناقُضاتٍ وانهيارات نفسيَّة وشعورٌ مُلازِمٌ بِعدم الاتِّساق مع نفسِهِ كُلَّما حاوَلَ فهم مشاعره المختلِطة بصفته أمريكيًّا، إنَّها حالةُ التَّشابُكِ التي لا تنتهي وازدحام الرؤيا وانقسامُ الذات إلى حالةٍ من الدوران والصداع المتواصل والضياع في البحث عن الذات والهوية ما بين عربية وأمريكِيَّة، فقد مثَّل إدوارد سعيد صورة للمثقف المؤمن بهويته فيعبر عن قضايا يتبناها بوضوح ليغرسها في ذات المتلقي ليغدو مؤثرًا، (انظر: سعيد، صور المثقف: 28- 29)، فرغم حصوله على الجنسية الأمريكية إلا أنه لم يتأمرك ثقافيًا، لتسهم الحركية الثقافية المشرقية في تسهيل التأقلم مع متطلبات الحياة في البلد الجديد، الذي شجع مثقفيه على الغلو السلبي، (برنن 64) لكنَّ إدراكه المُبكِّر للمُفارَقَات التي اعترت نفسه واستيعابها ساهَمَ في تشكيل عقليَّةٍ واعية، ثمَّ عالج تلك المُفارقات أو تجاوَزَها فيما بعد. وقد أدرَكَ تفاصيلها بنظرةٍ أكثرَ عمقًا وتحليلاً وموضوعيَّة عندما واجَهَ كُل تلك الانزياحات مُجتمِعَةً في مذكَّرات "خارج المكان".

أحدثت حرب 1967 أزمةً كُبرى في حياة إدوارد، وبات سؤال (من أنا)؟ أكثر إلحاحًا في وجدانه من أي وقت مضى، "لقد جعلت حرب 1967 وكيفية استقبالها في أمريكا سعيد يواجه تناقض موقعه، فلم يعد بمقدوره امتلاك هويتين، وبدأت التجربة تنعكس في كُلِّ مكانٍ في أعماله" (أشكروفت، وأهلواليا 12)، فتحوّلت شخصيَّتهِ من أستاذٍ للأدب الأمريكيّ إلى مُناضِلٍ باحِثٍ عن الهُويَّة الحقيقيَّة بعيدًا عن زَيْف الهُويَّات الأُخرى التي تُشكِّلُها ظروف الحياة السياسيّة الاستعماريَّة أو تُشكِّلُها الظروفُ الاجتماعيَّة بالتزامُن مع أحداث سياسيَّة، ولمَّا أدرك إدوارد أنَّهُ لا ينتمي إلى العالم الذي أجبره على التَّحّدُّثِ بلُغته والتجنُّس باسمه، وأنَّ انتماءه الحقيقيّ هو للهُويَّة العربيَّة، لم يتردَّد في أن يُعلن انتماءه وأن يُناضِلَ من أجل الوطن بالسُّبُل التي أتاحتها له اللغة الإنجليزيّة والجنسيَّة الأمريكيّة، فشكَّل مُفارَقَةً وتحديًا لمحيطه المعيشيّ والحيويّ، وقام بتطويع وإعادة صياغة الأفكار الاستشراقيَّة، وتغيير المخيال الراتب للنظرة المعتمة للشرق، وتوضيح حقيقة اليهود الصهاينة وجرائمهم الدامية في فلسطين والتمويل الأمريكيّ لهم، وحقيقة الفشل الذريع لاتفاقيَّات السلام العربيَّة الصهيونيَّة وخفايا الغايات منها، وغير ذلك الكثير مما أحرزه نشاطه الثقافيّ والسياسيّ على مدار عقود خاض فيها غمار حرب هائلة وحده مُتسلِّحًا بالقلم والفكر والثقافة والإيمان بالحق داعمًا للصُّمُود.

ارتكز إدوارد سعيد في مشروعه إلى التَّصالُح مع حقيقة وجود تناقضات في النَّشأَة والهُويَّة من ثَم تَجاوُز هذه الحقيقة وخَلْق نموذج خاصّ للمُقاومة بإعطاء الاعتبار لهذه التناقضات، فكان أن نشأت شخصيّة إدوارد النِّضاليَّة، ولم يمثل إدوارد نفسه بصورة المنفيِّ الذي طُرِد من وطنه وشُرِّد وجُرِّد من هُويّتِهِ فحسب، إنما يُمَثِّلُ كُلّ فلسطينيّ ليكون صوتًا حُرًّا في وجه الاحتلال، ووجَّهَ الدَّاعِمِين له في الولايات المتحدة لدعم قضيّته في مقابل وجود أكبر الممولين والداعمين لليهود في العالم في المكان نفسه الذي ينادي منه لبسط أوجه الحق والمُساواة والعَدالة بحق الفلسطينيّين. وقد شَكَّلَ إدوارد وهو المُرتحِل في الجغرافيا والموغِل في الثقافات شرقها وغربها، حَلَقَةً للوَصل ونموذجًا في الوعي بتعالُق مصائرِ البشرِ والشعوب والقسوة المُشتركة في تجارب المنفيين ومُحاربة أشكال الاضطهاد والعُنف العِرقيّ والمجتمعيّ.

إنَّ النِّظام المُختار في التَّعبير الفكريّ مقرون بدراسة اللغة واستعمالها استعمالًا حاذقًا، فإدوارد سعيد كان قد أدركَ مُبكِّرًا أنَّه يكتب بلغة عالم ذي سلطة مما أدى إلى إصراره ونضاله لنشر أفكاره بفعَّاليَّة ثابتة على خطٍ متوازٍ طوال مسيرة عمله السياسيّ دون انقطاع، فـ "إنَّ المعرفة الجيِّدة للغة الإنجليزيّة ضروريّةٌ اليوم إذا كنَّا نرغبُ بالاتصال مع مجمل الكوكب، وهي بداهة لا جدوى من الاعتراض عليها، ولكنَّ الادّعاء بأن اللغة الإنجليزيّة كافيةٌ ادّعاء لا جدوى منهُ أيضًا، فهي وإن كانت تُلبِّي تمامًا بعض حاجاتنا الحاليّة فهناك حاجات أخرى لا تلبيها وعلى رأسها الحاجة إلى الهُويَّة" (معلوف 121).

إن اكتساب لُغة عالمية لها حضور في الشأن السياسي والعالمي والفكري العام له مميزاته، فإذا كان الاكتساب إضافيًّا للُغَة كانت موجودة أصلاً فمن شأنه أن يفتح الآفاق الرحبة للوجهة التي أراد لها صاحبهُا أن تعينَه، فيتأسس لديه العلم والفكر متعدد المصادر وفي الوقت نفسه يكون متعدد الوجهات فيذيع وينتشر؛ إذ إنَّ "التحدُّث بِلُغة ثانية لا يفتح أبوابًا جديدة فقط، بل له مزايا أُخرى عديدة، سيكتسب المرء رؤية قَيِّمة في ثقافة أُخرى والوصول إلى عالم آخَر" (Hakem 38). ولما كان إدوارد قد أتقن اللغة الإنجليزيّة، وحَرصَ على عدم تخليه عن وطنيته، لم يألُ جهدًا في أن يوظِّفَها في خطابات الهُويّة كي لا يشعر أنَّه منقطعٌ عن جذوره وأن هنالك هُوّة حائلة بينه وبين هويّته، ثم أصبحت له وسيلة قويّة في تعزيز ما هو معزز لديه؛ لكنه مجهول لدى كثيرين ممن يحملون السلاح الأقوى في إدارة الشرق الأوسط من خلال الاستعمار أو بالأحرى يدَّعون الجهل به، "وقد وَجَدَ شريك لإدوارد في السكن في أثناء دراسته في برنستن أنَّهُ عندما يتكلَّمُ في نومه فإنَّه يستخدمُ اللغة العربيَّة، أمَّا في أثناء اليقظة فإنَّه كان يُعدِّلُ اللغة وفقًا للزائر: العربيَّة عندما تُتاحُ الفُرصة، والفرنسيَّة مع من يعرفون اللغة، ونوعين من اللغة الإنجليزيَّة، إحداهما أمريكيَّة والثانية أوكسفورديَّة، منتقلًا فجأةً بسرعة من الواحدة إلى الأخرى إما لإيضاح نقطةٍ ما أو لِمُضاهاة لهجة مُحادِثِهِ" (برنن 91).؛ فاللغة عند إدوارد وسيلة ارتباط عضوي، بالحريّة وإثبات الهويّة الفلسطينيّة التي تتباينُ معها بجلاء، مما يعني أنَّها وسيلة حُرّة ومفيدة في آن واحد، واللغة الإنجليزيّة على طريقته في الصياغة والتركيب وتشكيل الأفكار، أصبحت تُعرف بأنَّها لُغة القوة التي أحاط نفسه بها؛ فجعلت أفكاره مُحصَّنة من محاولات التشويه أو التجاهل أو الطمس.

أضفت اللغة الإنكليزية المشروعيّة على الخطاب السياسيّ وتكفلت بذيوعه مقارنةً باستعمال اللغة العربية، التي واجهت محاولات عديدة للتملص وكانت مستهدفة في أغلب الحركات الاستعماريّة التي أدارها الغرب، علاوة على الأحكام اللا موضوعية التي وُجِّهت للغة العربيَّة دون أن تستند إلى الصحة؛ ما أدَّى إلى إعلاء شأن اللغة الإنجليزيّة في المحافل الدوليّة، فاللغة الإنجليزيّة لغة عالميّة ومحكيّة في أغلب دول العالم الغربيّ ومعتمدة في النقاشات السياسيّة والندوات العالميّة، "واللغة الإنجليزيّة باعتبارها لغة عالميّة، وجه مخيف حينما يتم تصديرها، فهي قادرةٌ على إنتاج أميّة جديدة كما كان بلاكمور يسميها (وهي تفعلُ ذلك)" (فسواناثان 55)، فتغدو هذه اللغة هي القادرة على مدّ جسور بين العوالم التي تعيش في مستويات أنطولوجيّة وعلى بقع طبوغرافيّة مختلفة، على الرغم من أنها ليست أفضل لغة؛ لكنّ ذلك يرجع إلى كونها لم تتعرض إلى الإقصاء والتعدّي الذي تعرضت له اللغة العربيّة، وذلك يرجع إلى نقطة أساس فحواها أن اللغة والهويّة وجها عملة واحدة، وهيمنة إحداهما تعني هيمنة الأخرى، لذا حرصت القوى الاستعماريّة على طمس اللغة العربيّة لإلغاء احتماليّة وجود هويّة عربيّة ومن ثم يسهل امتلاك المكان بعد إنكار الوجود العربيّ من أصله.

إنَّ استعمال لُغة المستعمِر في ظاهره ما يشي بالنُّفور، بيد أنها من السُّبُل القويَّة إن اقترنت بالفكر النّاضج والانتماء الواعي، حيثُ "أصبحت لُغةُ المُستعمِر أداةً فعَّالَةً في يد جبَّارٍ في بحثِها عن الهوية واستعادة الذاكرة الجماعيّة، وبعبارةٍ أُخرى تُستخدم لُغة المستعمر لمحاربته (Matmati 10) فالتَّفكيرَ باستعمالِ لُغة عالميَّة يُحرِّرُ النصَّ من انعزاله ويفرض على المتلقي مُشكلةَ الإحياءِ التاريخيّ للإمكانات والأسباب التي انبثق عنها النص، إنَّها كما قال إدوارد: تُعزِّزُ الشيء المعروف على حساب الشيء المرشَّح للمعرفة، وهنا يكونُ الفضاءُ المناسب الذي يتيح له نشرَ أفكاره وتوثيقها وإضفاءَ الشرعيَّة لها "والأكثر إثارة بالنسبة إليَّ (ككاتب) هو إحساسي بأنّي أحاول دائمًا ترجمة التجارب التي عشتُها لا في بيئة نائية فحسب وإنّما أيضًا في لغة مختلفة؛ ذلك أنّ كُلًا منا يعيش حياته في لغة معينة، ومن هنا فإنّ الكل يختبر تجاربه ويستوعبها ويستعيدها في تلك اللغة بالذات" (سعيد، خارج المكان 22)؛ لذا كتب إدوارد باللغة الإنجليزيّة عَلَّه يُنشئُ حِوارًا ويُجسّرُ الفجوة بين الذات العربيّة والآخر الغربيّ الذي يشكِّلُ الأنا بالنسبة إليه، وقد انتزعه من نفسه انتزاعًا حتى يحكم بموضوعيّة على طرفي النزاع اللذين شكّلا هويّته معًا؛ لذا آثَرَ أن يُنشئ تقاربًا فكريًّا عبر استعمال لغة الآخر، فاللُّغة "هي الوسيلة الرئيسية للتعبير اللفظيّ واستخدامها في البلدان المُستعمِرة يفضح السيطرة الثقافيَّة للمستعمِر" (Al Sudairy 40).

حَمَلَ إدوارد سعيد على عاتقه مسؤوليّة خدمة لغته الأم؛ لإدراكه أنَّ تَخَطِّي اللُّغَة وتجاوُز عدم إتقانِها أمر غير مُمكِن في حالة النِّضال من أجل الهُويَّة المُرتبطة بهذه اللُّغَة فـ "من بين جميع الآداب واللُّغات الكُبرى لا تزال العربيّة إلى الآن أقلّها معرفةً لدى الأوروبيّين والأمريكيّين، وأكثرها تعرُّضًا للنظرة الناقمة المُفعَمَة بالضغينة...وبالطَّبع فإنَّ العربيّة هي لُغة القرآن؛ لذا فهي أساسيّة بالنسبة للإسلام الذي تُستخدم فيه ذلك الاستخدام الدينيّ والتاريخيّ واليوميّ الذي لا يكاد يضاهيه أي استخدام آخر في ثقافات العالم الأخرى، وبسببٍ من هذا الدور وبسببٍ من اقترافها الدائم بمقاومة الغزوات الإمبرياليّة التي وسمت التاريخ العربيّ منذ أواخر القرن الثامن عشر؛ فقد اكتسبت العربيّة أيضًا موقعًا فريدًا من حيث التنازع عليه في الثقافة الحديثة" (سعيد، تأملات حول المنفى ومقالات أخرى 177).

يلمس القارئ الحصيف والمُتَّتبِّع لسيرة إدوارد قدرته الفذَّة على إحياء المشاعر الروحيّة في حياة بلاد منسيَّة تعاني في الخفاء من آلام الاستيطان الصهيونيّ، والواقع أنَّ امتلاك إدوارد سعيد الإنجليزيّة واختيارها في إيصال أفكاره يعني قبل كل شيء امتلاكه مفاتيحَ ذهنيّةٍ تتركّزُ فيها أفكار هائلة تدحضُ الخصمَ بسرعةٍ واستيعاب كبيرين على الرغم من المُقارعة العنيفة لدى صدامه العلنيّ والعنيف بالعدوّ المتربِّص في الغرب حيث محياه ووجوده، فالغرب يظنون أنهم يحبونه؛ لأنه يجيد الإنجليزيّة، فمن لا يجيد الإنجليزيّة ليس من عالمهم ذاته! (فسواناثان 414).

ولقد تحقَّق نجاحُ مشروع المُقاوَمة الفكريَّة عند إدوارد من جرَّاءِ تلك الأحداث السِّياسيَّة والنَّفسيَّة التي عايَشَهَا في طفولته ومُراهقته وصعوبتها؛ إذ كانت حاسِمةً في تأثيرها في جميع الأصعدة، فلقد عَمِلَتْ هذه الأحداث على بلوَرَة توجهه السِّياسيّ وصياغته مُبكِّرًا، ومنها استقى منهجه الفكريّ، وسار فيه على هُدًى وعُمقٍ بصيرةٍ.

3-     خِطاب الهُويَّة في خارج المكان

لعلَّ الدَّافِع الذي أدَّى بإدوارد سعيد إلى كتابة مذكراته في "خارج المَكَان" هو تلك الرَّغبة المُلِحَّة لديه في أن يُسجِّلَ انتماءه؛ إذ لم يكُن الهدفُ من كتابتها أن يُوثِّقَ الأحداث التي عاشها في مراحل حياته الأولى فحسب، بل كان الباعث تلك الحاجة المُلحَّة التي سارت معه في كُلِّ مراحل حياته ورغبته في أن يوثِّقَ هويّته التي عَدّها (حالة) تشوبها مشاعر مُضطربة تحتضِنُها في أبرز أوصافها مشاعر الهزيمة، وأن يوثِّق الشخصيَّة المُقاوِمة التي عاش بها، كان ذلك من أجل نقلِها إلى الآخرين؛ بُغيَة خلق نماذجٍ أخرى من شخصيَّة إدوارد سعيد تتخطَّى محدوديَّة المكان والزَّمان، وخلق الوعي السياسيّ، وكشف مكامن الضياع في الهُويّة ومن ثم إصلاحها.

وقد تسبَّبت تجربة الشَّتات بجُرحٍ نفسيّ لإدوارد سعيد حاوَلَ التّشافيَ منه عبر المقاومة وتأكيد الهُويَّة والانتماء، فجاءت السيرة الذاتية "خارج المكان" حصيلةَ جمعِ شتاتِ تلك الشخصيَّة، فارتكز بناء السيرة على تتبع مرحلتي الطفولة والشباب، فقد ذكر تفاصيل عدة لأماكن من وحي طفولته؛ إذ لم يكن وصفًا سرديًّا للأحداث وحسب، بل كانت رغبَةً دفينةً في تأكيد الانتماء النَّفسي المُتواصل للمكان، فالمكان في هذه السيرة هو المنطلَق الأول في تشكَّيل هُويَّةً حقيقيّة عربيَّة فلسطينيَّة قُدُسِيَّة، أما ذاكرته التي حفظت الأماكن بتفاصيلها على الرَّغم من تقدُّمه في السنّ، فما هي إلا دليل إضافيّ على انتمائه وانشغاله بالفضاء الذي يحيا بداخله رغم الفراق المكانيّ؛ فالمكان واللغة يُعدَّان من أهمِّ عناصر الهُويَّة، والهُويَّة في العموم تتلخَّصُ في الإحساس بالانتماء إلى مكانٍ ما على وجه الأرض يشعر فيه الإنسان بذاته ووجوده وحقيقته، وعندما يفترق عنه يشعر بالضياع والهزيمة والانقسام، إذ لم تعد هوية المثقَّف بالنِّسبة إلى إدوارد سعيد، منحصرةً في الخندق الضَّيق لجماعةٍ بشريةٍ دون غيرها؛ ليقودنا تأمل سيرة حياته الموسومة بتغيير المواقع، واستبدال الأمكنة، والانفتاح على الإمكانات المتعدِّدة للوجود والحياة، إلى التفاعل مع المكان بجميع محتوياته، بدلًا من "سياسات الهوية" التي تفرض على المثقَّف الإيمان المطلق بهويةٍ مغلقةٍ ومسدودةٍ على ذاتها (https://www.mominoun.com)

فقد ذكر إدوارد سعيد في مقدمة خارج المكان: إنَّ الجديدَ في إدوارد سعيد المركّب الذي يظهر في خلال هذه الصّفَحَات، هو عربيٌّ أدّت ثقافته الغربيّة -ويا لسخرية الأمر- إلى توكيد أصوله العربيّة، وإنّ تلك الثقافة -إذ تلقي ظلال الشكّ على الفكرة القائلة بالهُويّة الأُحادِيّة- تفتح الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات، لنجدَ أن النُّضُوجَ الفكريِّ عند إدوارد يَقضي بالانفتاح الهُويَّاتي الذي يتجاوَزُ عَقَبَة الأُحادِيَّة الضَّيِّقَة ويدعو للانفتاح بين الثقافات بدلاً من الانغلاق على النَّفْس، وهو ما يؤدِّي إلى تَجَاوُز مُشكلة الهُويَّة ومعالجتها بتحقيق انتماءاتٍ متعددةٍ مع الحِفاظ على خصوصيَّة الحالة من وقائع وأحداثٍ سياسيَّة واقتصاديَّة وغيرها، مؤكدًا فعالية ذلك الانفتاح عندما قال بأن ثقافته الغربيّة أعادته إلى أُصُولِهِ العربيَّة بفاعليَّة المُقاومة الحقيقية والانتماء المُنتِج[1].

إنَّ في تعريف فيليب لوجون للسِّيرَة الذَّاتِيَّة على أنَّها "قصَّة نثريَّة بأثر رجعي أنتجها شخص حقيقيّ فيما يتعلق بوجوده، مع التركيز على حياته الفرديّة ولا سيما على تنمية شخصيته" (لوجون، السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الأدبي 193) ما ينطبق بهذا الوصف على سيرة إدوارد في خارج المكان؛ إذ ركَّزَ على حياته الشَّخصِيَّة وتنميتها؛ بُغية الوصول إلى النُضوج الكامل لهذه الشخصيَّة (الهزهازة) والمُعَبّأَة بمناطق الخلل والضِّعف والانهزام؛ ليُثبِتَ أن ما كان قد كرَّسَ حياته من أجل تقويم اعوجاجه كُلِّلَ في عمومه بالنجاح ووُّضِّحَ وعُدِّل.

إنَّ نصوص السِّيرة الذاتية تتجاوز كونها وصفًا للحياة التي عاشها صاحبها، فهي كشفٌ عن رغباتٍ أعمقَ من ذلك، لا سيما إن كان السَّاردُ رمزًا يشغلُ حيِّزًا طارئًا ويُشكِّلُ مصدرَ قلقٍ، كَأَنْ يكون ناشطًا سياسيًا ومفكرًا وأديبًا، فإدوارد سعيد الذي يُمثِّلُ كل ذلك كان قد استخدم "مذكَّراته مَخرَجًا لمشاعره المكبوتة وسعيه عن الهُويَّة، ويُوضِّح التعرُّقُ الزمنيّ أخيرًا الهُويَّةَ التي كان يبحثُ عنها طوال حياته: هويَّة فِكرِيَّة وثقافيَّة وسياسيَّة" (Attia 83حيث تجاوَزَ الوصف المُجرَّد إلى رغبة دفينة للإجابة عن تساؤلات الهُويَّة التي شغلت فكره بعدما توصَّلَ إلى مرحلة التَّشافي من الانقباضات في الشخصية، وانهيارات الذات، والتناقض في الهويَّة؛ إذ "تعمل كتابة السيرة الذاتية (كعلاج) نصيّ للمثقفين مما يساعدهم على الخروج من انفصالهم ويوفر تأثيرًا عِلاجيًّا يساعد في تخفيف معضلاتهم الداخليّة" (Fouad 207).

أما انعقاد المشاعر والأهداف الخاصَّة والعامَّة لكتابة السِّيَر الذَّاتِيَّة فمدعاة ليرنوَ الكاتبُ إلى معالجة مواطن الضعف فيها، ولتحقيق المشاركة الفاعلة من المتلقين عبر الإدراك والتصديق لأحداث السيرة واستيعابها تمامًا كما أراد صاحبها، فـ "الكاتب يطلب من قارئه أن يحبه باعتباره إنسانًا وأن يوافقه بناءً على ذلك" (لوجون وآخرون، من أجل السيرة الذاتية 123)، ودوران أحداث السِّيَرة الذَّاتية في فضاء المكان هو جُزءٌ أساس في تدوينها؛ إذ إنَّهُ يُشيرُ إلى الهُويَّة التي في أسمى معانيها تتجَلَّى في المكان، تلك البُقعة من الأرض التي يولدُ عليها الإنسان وينتمي إليها ويعيش حياته جلها أو جزءًا منها في أركانها، ويعتنق فكر الجماعة التي تشاركه بالعيش في حدودها، ويُشكِّل واحدًا من هُويَّة قومية تنسابُ مع تلك الجماعة، ويبقى يُناضِلُ طيلة حياته من أجلها.

يقدم عنوان خارج المكان أبعادًا معنويّة وماديّة، فهذا العمل يجسد المنفَى والبعد الماديّ الملموس والطرد والتَّشَرذُم والفقد والإحساس بالنقص والضياع، إنه خارج عن المكان وداخل في زمن البحث عن الهُويَّة، ومحاولات البحث عن الذات من خلال ظاهرة الاسترجاع أو التداعي مرارًا عبر ذكر الماضي الطفوليّ بكل تفاصيله، والحاضر الذي صاغه ذلك الماضي، وما بينهما من بحثٍ طويل وانقسام. هنا في منطقة الوجود الذاتيّ وبعد الكشف عن الهويّة تتمظهرُ تلك الشخصيَّة الهادئة والهانئة باللقاء بعد بحث طويل، فيوضح أن "الدافع الرئيسيّ لكتابة هذه المذكرات هو طبعًا حاجتي لأن أجسّر المسافة، في الزمان والمكان، بين حياتي اليوم وحياتي بالأمس" (سعيد، خارج المكان 22).

أما الأبعاد الدلاليّة والنفسيّة والسياقيَّة، فتتعاضَدُ كُلّها لتؤكد قيمة هذا المكان، وقيمة الوجود فيه، والتضحيات المُترتِّبة على الافتراق عنه، مع محاولة التعويض عن هذا الافتراق بخلق عالَمٍ موازٍ لهُ، "إن ما يؤسس للبعد الدلاليّ لعنوان (خارج المكان) هو التأكيد الضمنيّ المُلِحّ على أن إدوارد سعيد (داخل المكان) فالخروج عن المكان هنا والبعد عنه ما هو في حقيقة أمره إلا خروجًا أنطُولوجيًّا فيزيقيًّا، أمَّا الحُضُور فهو حُضُورٌ سيكولوجيّ مرسِخٌ لفكرةِ الانتماء رغم الإبعاد" (حصيد ونويرة 13)؛ لتعتمدَ هُويَّة سعيد في وجودها على المُقاوَمَة الفِكرِيَّة والانتماء المادِيّ إلى العالم المقهور، ويظهرُ ذلك في كل خطابات الهُويّة التي أسَّسَ لها طوال حياته النِّضَالِيَّة والفِكرِيَّة المُنتمية، إمَّا في محاولة لإثباتها ومعالجتها، أو البحث عنها والتآلُف مع أركانها لحلِّ قضيِّتها المُستعصِية.

لقد تجاوَزَ إدوارد سعيد هيمَنَة العُزلَةِ الفرديَّةِ وهيمَنَةَ السُّلطةِ التي كبّلَت ساعِدَيه، فتحرَّرَ مِن ذاته -التي التقى بحقيقتِها- ثم سَعَى إلى تحرير وطنه عبر إثبات انتماءه إلى هُويّة عربيَّة تُلزِمه بضرورة النِّضال من أجلها، وقد أعانته مذكَّراته على الالتقاء بالذات ونقلها لتكونَ واضحةَ الأركانِ بدلاً من أن تجُوب مساحات عشوائيَّة غير معروفة، وأسهم ذلك في إراحة عقله من ثقل مسؤوليَّة عدم الإدراك أو الوهم بالانفصال الذي ادَّعاه نُقَّادُه في مرحلة متأخرة من حياته، كان قد علم يقينًا وجهته وهدفه في الحياة.

4-     جوزيف كونراد ثيمة إنسانية

مثَّلَ جوزيف كونراد (Joseph Conrad) ثيمة أساسيّة في أعمال إدوارد سعيد؛ نظرًا للتشابه الكبير في ظروف النَّفيِ والشتات التي عانى منها في وقتٍ مبكِّر ولفترةٍ طويلة، ويظهر تأثُّرُ إدوارد بكونراد عبر تسليطه الضوء على مناطق التقاطع بينهما؛ بدءًا من ظروف المنفى والمعاناة والفراق والتعبير الآسر واللغة المميزة لكليهما، وفي التلاقي الكبير بين إدوارد وجوزيف كونراد في تجربة النَّفي من عمرٍ صغير والكتابة بلغةٍ أخرى ومرارة الفناء، وقد أشار إليه في كتابه (العالم والنص والناقد) (سعيد العالم والنص والناقد 120- 123)، وكان هوسه بكونراد يستندُ في أصله إلى حقيقة أنهما كانا مغتربين اغتراب النَّفي في العالم الإمبرياليّ، وأنَّ كُلًّا منهما يحمل تضادًا داخليًّا.

لقد اختار كونراد المنفى هو بنفسه، أما إدوارد فأُجبِر على النفي والتشرُّد والعيش بين عالمين في النصف بينهما تمامًا طوال حياته، بقي في حالة تنازُع هُويّةٍ وأخرى، وتنازُع لغةٍ وأخرى، وعالمين متضادين، "لم يُعفني هذا النزاعُ منه يومًا واحدًا، ولم أحظَ بلحظة راحة واحدة من ضغط واحدة من هاتين اللغتين على الأُخرى، ولا نعِمْتُ مرةً بشعورٍ من التناغم بين ماهيّتي على صعيد أول وصيرورتي على صعيد آخر، فالكتابة عندي فعل استذكار وهي إلى ذلك فعلُ نسيانٍ، أو هي عمليّةُ استبدال اللغة القديمة باللغة الجديدة" (سعيد، خارج المكان 8).

وقد حقَّق سعيدٌ أهدافَه عندما حوَّل نفسه من أدبيّ إلى سياسيّ، فنَشَأَ عن ذلك فيضٌ واسع من الأفكار المُتجذِّرة في الأساس في نفسِه، لكنها لم تكن قادرةً على إيجاد السبل الملائمة لها لتخرُج علانية، ثم أخذت أفكاره تتوسَّع عالميًّا، وتركت في صميم الغرب الاستعماريّ نفسه تغييرًا وقلبًا، وإعادة صياغة ناجحة لعدد مهول من القناعات الفكريَّة المتجليَّة في حق حكم العالم غير الأوروبيّ والسَّيطرة عليه فكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، وحقّ اليهود في فلسطين وإنكار الوجود الفعليّ للشعب الفلسطينيّ، وغيرها من الأفكار المُتَشَبَّعَة في عُقولهم منذُ عُقود، وحقَّقَ ذلك من خلال سلسلة من الأعمال كان أبرزُها كتاب الاستشراق الذي ابتكَرَ وسائله وأساليب الكشف عن حيثيّاته وأهمّ روّاده ومؤسسيه وأهدافهم لأول مرة على يده، وأَعادَ توجيهها وهدمها ثم صياغتها، وقد كان خبيرًا في وصفه وأدواته مما أتاحَ لأعمالِهِ الذُّيُوعَ وضَمِنَ لها البقاء، علاوة على التماسك المنطقيّ والصِّدق والوضوح.

إنَّ السرديّة الأوروبيّة تظلُّ دائمًا في مرحلة الانبعاث القوميّ، وقد شكّلت إمبراطوريّة يتحقق فيها الاستقلال الذاتيّ الثقافيّ؛ لذا فهي سرديَّة ليست سهلةً والتعاطي معها أو محاولة تفكيك أفكارها التي أسست لها عبر التاريخ أمر جهادي يتطلب حضورًا لذاتٍ واعية مستبصرة للحقائق السياسيّة وتداعياتها عبر التاريخ، وهذا ما انتهجه إدوارد سعيد حين انطلق من ذاتٍ خبيرةٍ في نقد السرديّات الغربيّة عامةً والاستشراقيّة خاصة، قال: "إن كُلَّ من يستطيع استعمال لغة البحث العلميّ الغربيّ، ونشر مفاهيمه، وإجادة تطبيق أساليبه، وحيازة ما يؤهله له، يستطيع أن يتجاوز التعصب والظروف الحاضرة ليصدر أحكامًا علميّة" (سعيد، تغطية الإسلام 287).

          ويبدو أن الهُويَّة العربيّة لو افتقرت إلى اللغة الإنجليزيّة لفقدت أَلَقَها وروحَها، ولأصبحت خطابات إدوارد سعيد ونداءاته منقوصة، ولراحت تزاحم غيرها من الخطابات التقليديّة التي انطوى بعضها على تشخيص هامشيّ في مقاربات تلكم الإشكالات، وهذه الحقيقة ليست انتقاصًا من اللغة العربيّة إنَّما هي توضيحُ لفكرة الإيثار اللغويّ التي رجَّحها إدوارد سعيد في عمله البحثيّ، علاوةً على الكيفيّة التي يكونُ عليها الخطاب عندما يتشكَّلُ بلُغة الآخر المستعمِر، وما يحققه من أثر كونه كُتب بلغة المستعمَر الذي أضحت كُلُّ خطاباته التحرُّريَّة في دائرة اللامبالاة والتجاهل المقصود.

إنَّ معرفة إدوارد سعيد بالشرق معرفة جيّدة إذ تنقَّل في طفولته بين مصر والقدس وبيروت أدَّت إلى إعطاء تحليلات دقيقة للوضع الشرقيّ عند الغرب وكيفيّة التخطيط الغربيّ للسيطرة على الشرق، ثم أوضح ذلك وحلله وشخّصه باستعمال اللغة الإنجليزيّة، فكشف "أنَّ معرفة العلماء الأوروبيّين بالشرق كانت محدودة؛ وذلك بسبب عدم وجود تقاطع ثقافيّ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر... وعلى الرغم من أن التجربة الأمريكيّة في الشرق كانت محدودة إلا أن موقف العداء الثقافيّ استمر في الاستشراق الأمريكيّ -يتم تصوير العربيّ بشكلٍ سلبيٍّ على أنه منحطٌ وساديٌ- وهكذا فإنَّ لُغة الاستشراق تختزل العربيَّ إلى قوالبَ نمطيّةٍ وكليشيهات" (Yahyaoui 57- 58)، تحوله إلى شخصية سلبية بائسة لا قيمة لها، وكان قد وَجَدَ نفسه حائزًا على كنزٍ لُغويٍّ ثمين واستفاد من اللغات التي اكتسبها في شتى المجالات، قال: "سحرتني اللغات بطريقة مغالية وأنا أنتقل تلقائيًّا في ذهني بين احتمالاتٍ ثلاثة...والآن فقط وقد جاوزت الستين من عمري أشعر براحةٍ أكبرَ بالتحدث بتلك اللغات بطلاقة ابن البلد تقريبًا، والآن فقط تغلبتُ على نفوري من العربيّة الذي سببه النظامُ التعليميّ والمنفى وصرت أستمتع بها" (سعيد، خارج المكان 247).

لقد تمكن إدوارد سعيد من هزيمة ذكريات ماضيه المضطرب وقهر أخطارَ حاضرِه الصعب عبر مَدّ جُسُور التَّعاوُن وتطويع اللغة لخدمة الهُويَّة الوطنيّة وتأكيد الانتماء الوطنيّ إلى جذروه، بعدما أحسَّ بإلحاحٍ بوجوب أن يتَّخِذَ موقفًا حازمًا مع عدم القدرة على التأجيل أو إهمال الوضع المتأزِّم في التضارب العرقيّ بين الشرق المهزوم والغرب المسيطر دون أدنى إنصاف.

5-     تفاضُل الهُويَّة العربيَّة في فكر إدوارد سعيد وانتمائه

منذُ تاريخ النزاعات الشرقيّة الغربيّة شكّلَ الغربُ صورةً مخاتلةً عن نفسه، وادّعى حب السلام والرَّغبة في بسطه بين شعوب المعمورة، فعقد المؤتمرات والمُباحثات والاتفاقيّات التي توحي بالرَّغبة في تحقيق ذلك؛ لكن الممارسة أسقطت الزَّيْف عن هذا اللبوس المصطَنَع، فأبان الغربُ عن وجهه الحقيقيّ في الاستقواء والانتصار إلى مصالحِه الخاصة، من خلال مؤسساته وسياسات الدول وممارساتها تجاه الشعوب والدول المستضعفة؛ إذ إن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها تتمثل في تفوق الحضارة الغربية، ولعلَّ هذه الحالة التي شخَّصها إدوارد سعيد بعين البصير والباحث الحصيف قد قَوَّت العزم لتفكيك هذا الخطاب المتدثر دثور الاستكشافِ والفحص العلميّ، فقدم سرديّاتٍ مخالفةٍ لما روّجَ لها الغربُ عن نفسه وعن الشعوب الأخرى، فكان مشروع إدوارد سعيد مضادًا للسرديّات السائدة التي ابتدعت الشرق عبر مفاهيمَ الاستشراقِ المرتكز على التمييز الوجودي والمعرفي بين الشرق والغرب؛ إذ زادت الثقافة الأوروبية من قوتها ودعمت هويتها بوضعها لذاتها مقابل الشرق بعدِّه ذاتًا بديلةً، فالاستشراق في منظوره بعيدٌ عن الشرق ويقع خارج أُطُره،(برهومة 170) ولعل قيمة مشروع إدوارد سعيد تكمن في الوسائل والأدوات التي استقاها من ثقافة الغرب ومنهجيّاته البحثيّة، فأصغى إلى خطابه ومقارباته؛ حيث كان باحثًا عميقًا ومفكِّرًا جمع مواهب ومعارف عديدة، علاوة على أنه مُتقِنٌ للغةِ الآخر ويحمل جنسيّته، فبات إدوارد سعيد -بما يحمل من فكرٍ مقاوِمٍ- كالشوكة في حلوق الغربيّين كما صرّحَ هو بنفسه.

وعلى الرغم من أن العالم الأوروبيّ -ولا سيما "أمريكا"- يتشح بتاريخٍ استعماريّ إقصائيّ فإنَّ إدوارد سعيد استقرأ هذا الركام الغربيّ/الاستعماريّ المتْخَم بالاستحواذ وتسخير الشعوب المستعمرَة لخدمة مصالحه، بعدما أصابته خيبة عميقة بحقيقة المكان الذي ينتمي إليه ويعيش في فلكه ويتحدث بلغته، تكمن في العداء المُضمر والصريح لهويّته العربيّة، يروم في ذلك طمسَ تلك الهويّة وبسط سيطرته على ما أسماه بالعالم الأدنى؛ إذ "إن الشرق الذي يظهر في الاستشراق ليس سوى منظومة من التمثيلات التي تؤطرها مجموعة من القوى التي وضعت الشرق في نطاق المعرفة الغربية والوعي الغربي، ثم في نطاق الهيمنة الإمبريالية الغربية فيما بعد" (سعيد، الاستشراق 352)؛ فكان هذا الإقصاء قد أحدَثَ تغييراتٍ دعت إلى موازنة السرد الذي عبَّر عن الهويّتين لترجح كفة الشرق عنده وتنهار كفة الغرب.

تكمن المفارقة العجيبة في أنّ إدوارد سعيد قد صاغ مبادئه واستقى نمطَ فكرِه المتجدد والعميق من الغرب، ليجدَ ازدواجيّة المعايير وحالة الصدام العجيبة التي تمسّك بها الغرب على مدى قرون، بالتزامن مع مناداته لمبادئ العدالة والحريّة والمساواة التي تختفي ما إن يُذكَر اسم فلسطين أو الشرق العربيّ، هذه المفارقة وضعته على طريق الصواب، وعلى الرغم من قسوتها فإنّ إحساسه بالخيانة تجاه انتمائه وقوميّته العربيّة، جَعَلَ الأمر يصعب تجاهله أو التعامل معه بحياديّة والعيش بسلام؛ فلا يُمكن لمنفيٍّ أن يعيشَ من غير سؤالٍ يؤرقه باستمرار ويُعيده إلى المكان الأول، حيثُ ينتمي وحيث يجدر به أن يعيش فـ "قلق الانتماء يعدّ دليلًا على عدم الرضا عن الذات، مثلما يعدّ دليلًا على الإحساس بالقهر وخيبة الأمل" (حمود 89).

ويجسِّدُ إدوارد سعيد الفلسطينيّ المنفيّ، نموذجَ الإنسان الممتلئ بذاكرة جمعيّة تعيده باستمرار إلى المكان الأوّل في سيرته الذاتية، فتُلقي في فكرِهِ شعلةً لتُحَوِّل الذاكرة المعطلة المُثقلة بالذكريات إلى أفكارٍ تعمل لتكون سلاحًا موجَّهًا يُحوِّلُ حالةَ العجز إلى قوةٍ لا يمكنُ إيقافها، وهي قوة القلم والفكر والشعور، فهو يرى أن الذين خرجوا للتو من دائرتي التهميش والاضطهاد بأمسِّ الحاجة لتمُثَّلهم الهوية المؤجلة والمحرومة لفترة طويلة في العلن لتأخذ مكانها بين الهويات البشريّة الأخرى (Said, On the University 32)

وفي ظلّ التنقُّل الهويّاتيّ المرتبط بالمصلحة أو الفائدة التي يُحصِّلُها الفرد وبناءً عليها ينتمي لروح هويّة معينة، مثَّلَ إدوارد حالةً نادرة الوجود، متمسكًا بالهويّة العربيّة التي شعر بميله وانتمائه الوجدانيّ والعقلانيّ نحوها، فقد حاول بث روح الهويّة الفلسطينيّة فكريًّا وعمليًّا من خلال المقاومة بالقلم الحرّ وتكريس الوقت والجهد في الأصعدة كافة سياسيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا، فكانت جهودُه كفيلةً في استمراريّة الترابط الروحيّ بينه وبين هويّته العربيّة.

إنَّ إدوارد خلق أزمة وعي، وأسهم في ازدياد عدد الأمريكيّين الذين أصبحوا يدركون حقيقة الغرب الاستعماريّ وأنّه من العبث محاولة فرض السلطة على الشرق الأوسط، لتظهر محاولات تزييف حقيقة الآخر المختلف، فـ "حين يطغى إحساس الأنا بظلم الآخر وهيمنته، تبادر إلى الدفاع عن نفسها خشية الذوبان، فتقوِّي انتماءها إلى الجماعة وتتماهى بها؛ من أجل الحُصول على الاعتراف ومواجهة الإقصاء أو المسخ الذي هو الموت لذلك تبحث عن الهُويَّة التي تتميَّزُ بها عن الآخر المُختلف وتجمعها بمن يأتلفُ معها؛ كي يزداد إحساسُها بكينونتها" (حمود 21).

بعد التشكيل الطويل لهويّته الثنائيّة التي لم يستطع أن يتحكم بها ولا أن يوجِّهَ مسارها أدرك إدوارد سعيد أنه لا يستطيع الفكاك من هويّةٍ فكاكًا كليًّا؛ لذا انتصر لهويّةٍ على حساب أخرى من غير الانفكاك من كلتا الهويّتين، فيوضح ذلك في تأملاته فيقول: "مثل كثيرين غيري، أنا أنتمي إلى أكثر من عالم واحد، وهذا ما يوفِّرُ لي منظورًا مزدوجًا نافرًا كي لا أقول غريبًا، وعلاوة على ذلك فإنني أكاديميّ بالطَّبع، وما من هويَّة من هذه الهُويَّات مَسيكة ومانِعة فكُلّ منها تؤثِّرُ على الأخرى وتتلاعب بها...والولايات المتَّحِدة هي الراعي الأساسيّ لإسرائيل، تلك الدولة التي أصفُها كفلسطينيّ بأنّها دمَّرَت المجتمع والعالم اللذين وُلِدتُ فيهما...وهذا ما يقتضي منِّي أن أفاوضَ تلك الضروب المتنوِّعة من التَّوتُّرِ والتناقض التي تشتمل عليها سيرتي...وينبغي أن يكونَ واضحًا أنَّهُ ليس بمقدوري أن أتماهى مع انتصاريّةٍ هُويّةٍ واحدةٍ؛ لأنَّ ضياع وحرمان الهُويَّات الأخرى أشد إلحاحًا عليَّ بكثير" (سعيد، تأملات المنفى ومقالات أخرى 239) ليشكَّلَ إدوارد جبهة حصينة في مجابهة الغرب انطلاقًا من أفكارهم أنفسهم، تلك مفارقة حقيقيّة أشعلت جامَّ الغضب في نفوسهم، فأدركوا الوعي المتزايد للأصلانيّين واستحالة انعدامهم أو إزالتهم جميعًا؛ فساروا خُطوةً للوراء بدلًا من الاستمرار في التقدُّم نحو مشروعهم الاستعماريّ، "فأن يكون المرءُ فخورًا بهويته هو قوّة يُمكن أن تنتقل إلى الآخرين. معرفة الأصل والأيام المجيدة السابقة ترفع كبرياء الهُويّة" (390 Hakem).

وقد أوضح إدوارد سعيد أن مقاومة الحرب الفكريّة والكولونياليّة بشتَّى صُوَرِها تكون عبر النشاط النقديّ، وتزداد قوة هذا النشاط عندما يكون في مركز معيشة هذه الأفكار، وهو في ردٍ على سؤالٍ وُجِّهَ إليه أوضح ذلك بعمقٍ، إذ قال: "لا يمكنك ضمنيًّا أن تقوم بنشاط من قبيل العمل النقديّ إلا في مكان مثل نيويورك؛ حيث تولد هذه الصور وتعيش وتتمركز، لا أرى أيَّ طريقٍ آخر" (فسواناثان 68)، فهو مضطرٌ إلى الدخول في وكر الأسد كي يصارعًه، لا أن يكتفي بالتلويح إليه من بعيد. وقد أدرك إدوارد سعيد أن التسلُّحَ بأدوات القتال التي يستخدمها العدو ترفع من دونيّة الطرف الأضعف، فتجعلهما سواءً في المعركة القتاليّة، وهذا ما فعله إدوارد سعيد باستعماله للغة الإنجليزيّة ووجوده في أرض الولايات المتحدة، مؤكدًا انتماءه لقضيّته وهويّته الأولى.

إن إدوارد سعيد صاحب الهوية المتحركة زمانيًا ومكانيًا، يُفهَم دوره بالانشغال الطويل من أجل تحقيق الأسباب لوعي الفلسطينيين بقضيَّتهم من ثم الوقوف في وجه الظالم أيًّا كانت قوته، وإنَّ "علينا أن نضعَ مكانَ إدوارد سعيد الشعبَ الفلسطيني بكامله؛ لكي يستطيعَ الواحدُ منا فهم هذه العاطفة الأسطوريَّة التي تحرك البرنامج الاستردادي للعديد من الوطنيين الفلسطينيين" (صالح 60).

خاتمة

بعد أن بسطنا القول في تجليات اللغة والهوية في خطاب المذكرات عند إدوارد سعيد وجدنا تلازمًا بين أقنومي الهم الوجودي في رحلته، فتداخلت اللغة بالهوية؛ لأنهما رمزان عن الكيان والوجود لمفكر عانى تغييبًا لهويته ولغته، فانثالت الإشارات في ثنيات ما كتب سعيد، وحري بنا بعد هذا التطواف أن نُجمل بعض ما انتهت إليه الدراسة:

-      أدت نشأة المفكر العالمي إدوارد سعيد في تركيبة متناقضة لهويّته من عدة جوانب عائلية وجغرافية ودينية واجتماعية إلى خلق نزاعاتٍ عدة، وبناءِ هويةٍ متناقضةٍ، وتجلَّى هذا في مذكَّراته التي تتمظهرُ في محاولة حقيقيّة للبحث عن الهُويَّة وتقويمها.

-      بنى إدوارد سعيد عالمًا تعالقت فيه الهوية العربية ولادةً ونشأةً ًمع اللغة الإنكليزية؛ لغة الجنسيّة المكتسبة في جانب من جوانب هويّته التي أبغضَها ولم ينتم إليها برغبة ومحبة لها طوال فترة حياته، لينجحَ في ردم الهُوَّة بين عالمين ما كان لهما أن يتَّصِلا في الفكر، ولكنهما اتَّصَلا عبر قدرة إدوارد وإخلاصه وصدق انتمائه.

-       قدم إدوارد سعيد نموذجًا للفلسطيني المقاوم، من خلال المقاومة الفكرية للاستعمار وكشف زيفه وخداعه للعرب.

-      مثَّلت هزيمة 1967 نقطةَ تحولٍ في فكر إدوارد سعيد؛ إذ قاوم بأفكاره وخاض معارك عدة على الساحة السياسيّة باقتدار وبرغبة ينتابُها الغضب والحزن ليقاوم الاحتلال الإسرائيلي بالفكر والقلم.

-       غير إدوارد سعيد مسار العديد من المعارك وخفف من حدة الصراع الأيديولوجيّ حتى سطع نجمُه في وجدان السياسيّين والمقموعين والمقهورين في فلسطينَ والعالمِ.

-      قدَّم إدوارد خدمةً كبيرةً للشرق في توضيح حيثيّات التعارك التاريخيّ بين الشرق والغرب، وأحدث وعيًا ما كان ليؤتِيَ ثمارَه لولا فكره وعمله السياسيّ المنتمي والمخلص حتى التفاني.

-      ارتقى إدوارد سعيد بالقضيّة الفلسطينيّة إلى العالم، وجعلها تتحدث عن نفسها خارج الإقليم المكانيّ المحدد الذي وُضعت فيه، متخطِّيًا عُنصريِّ الزمان ومحدوديَّة الجغرافيا.

المراجع

أولًا: العربية

أشكروفت، بيل، أهلواليا، بال. إدوارد سعيد مفارقة الهُويَّة. ت: سهيل نجم. دار الكتاب العربيّ، دمشق - القاهرة.

إدراوي، العيَّاشي. "أبعاد العلاقة بين اللغة العربيّة والهوية الحضاريّة مقاربة لسانية اجتماعيَّة". مجلة لسانيات العربية وآدابها، مج1، ع2، 2020.

بْرِنَن، تِمُثي. إدوارد سعيد أماكن الفكر. ت: محمد عصفور. عالم المعرفة، الكويت، ط1، 2022.

برهومه، عيسى عودة. الثقافة والهُويّة والقِيَم. كنوز المعرفة، ط1، 2021.

–––. مرايا المتخيل في العلاقة بين الشرق والغرب. دار كنوز المعرفة، عمان، ط2، .2021

بنكراد، سعيد. "السيرة الذاتية: حقائق التاريخ وممكنات الهوية السردية". مجلة علامات، ع 38، 2012.

جوزيف، جون. الهُويّة واللغة. ت: عبد النور خراقي. عالم المعرفة، 2007.

حصيد، فيصل، نويرة، عبد القادر. "ارتياب الكتابة بين حتميَّة المنفى وسرديَّة الانتماء: إدوارد سعيد في خارج المكان". مجلَّة كلية الآداب واللغات، جامعة بسكرة، ع17، 2015.

حمود، ماجدة. إشكاليّة الأنا والآخر. عالم المعرفة، 2013.

سعيد، إدوارد. الاستشراق. ترجمة محمد عصفور. تقديم: محمد شاهين. دار الآداب، بيروت، ط1، 2022.

–––. تأمُّلات حول المنفى ومقالات أخرى1. ت: ثائر ديب. دار الآداب، بيروت، 2004.

–––. تغطية الإسلام. ت: محمد عناني. دار رؤية للنشر، ط1، 2005.

–––. خارج المكان. ت: فوَّاز طرابلسيّ. دار الآداب، بيروت، ط1، 2000.

–––. صور المثقف. ترجمة غسان غصن، مراجعة منى أنيس. دار النهار للنشر، بيروت، ط1، 1996

–––. العالم والنص والناقد. ت: عبد السلام محفوظ. اتِّحاد الكُتَّاب العرب، 2000.

صن، أمارتيا. الهُويَّة والعُنف (وهم المصير الحتميّ). ت: سحر توفيق. عالم المعرفة، 2008.

صالح، فخري. دفاعًا عن إدوارد سعيد، خطوط وظلال، الأردن-عمان، ط3، 2021.

صالح، رشا السيد جودت. "الذات والهوية في رواية الإنسان الأول لألبير كامو وسيرة رضوى عاشور الذاتية أثقل من رضوى والصرخةسرديات، الجمعية المصرية للدراسات السردية، ع30، 2018.

إحسان عباس. فن السيرة. دار الشروق، عمّان، ط1، 1996.

فسواناثان، غاوري. إدوارد سعيد السلطة والسياسة والثقافة. ت: نائلة قلقيلي حجازي. دار الآداب، بيروت-لبنان، ط1، 2008.

لوجون، فيليب. السيرة الذاتيّة، الميثاق والتاريخ الأدبي. ت: عمر حلي. المركز الثقافي العربيّ، ط1، 1994.

لوجون، فيليب، وآخرون. "من أجل السيرة الذاتيّة، حوار مع فيليب لوجون". دولون، ميشيل (محاور)، الغروسي، المبارك (مترجم). نوافذ، النادي الأدبي الثقافي بجدة، ع 25، 2003.

مانفريد، يان. علم السرد: مدخل إلى نظرية السرد. ت: أماني أبو رحمة. دار نينوى، دمشق، ط1، 2011

ماي، جورج. السيرة الذاتية. ت: محمد القاضي، وعبد الله صولة. دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2017.

معلوف، أمين. الهُويَّات القاتلة (طرائق في الانتماء والعولمة). ت: نبيل محسن. دار الحصاد، سورية-دمشق، ط1، 1999.

ثانيًا: الأجنبية:

References:

ʻAbbās, Iḥsān. Fann al-sīrah. (in Arabic), Dār al-Shurūq, ʻAmmān, 1st ed., 1996.

Al Sudairy, Hend T. Language and Identity, Ain Shams University, No 24, 2009.

Aškrūft, Bīl. Ahlwālīā, Bāl: idwārd sʿīd mfārqẗ al-huwywaẗ (in Arabic), t: nǧm, shīl, dār al-ktāb al-ʿrbīw, dmšq - al-qāhrẗ.

Attia, Mona Fouad: A Quest for Identity: A Cognitive Stylistic Approach to Said's Out of Place; A memory, philology: Series in Literary and Linguistic Studies, Ain Shams University, No 54, 2010

Basaid, Miral. A Critical Look at the Importance of Teaching National Identity in Algerian EFL Classrooms: Perceptions of Public Middle and Secondary School Teachers, Fold6, No4, 2021.

Bingarād, Saʻīd, "al-sīrah al-dhātīyah: ḥaqāʼiq al-tārīkh wa-mumkināt al-huwīyah al-sardīyah," (in Arabic), ʻAlāmāt, ʻAdad 38,

Brhūmh, ʿīsi. al-ṯhaqāfẗ wālhuwywẗ wālqīam (in Arabic), knūz al-mʿrfẗ, 1st ed., 2021.

Burinan, Timuṯī. idwārd sʿīd amākn al-fkr (in Arabic), t: ʿṣfūr, mḥmd, ʿālm al-mʿrfẗ, al-kwyt, 1st ed., 2022.

Fswānāṯān, ġāūrī. idwārd sʿīd al-slṭẗ wālsīāsẗ wālṯqāfẗ (in Arabic), t: ḥǧāzī, nāʾilẗ qlqīlī, dār al-ʾādāb, bīrūt-lbnān, 1st ed., 2008.

Ǧūzīf, Ǧūn. al-huwywẗ wāllġẗ (in Arabic), t: ʿbd al-nūr ẖrāqī, ʿālm al-mʿrfẗ, 2007.

Hakem, Hadia. Arabic: A Language Worth a Worldwide Language, Fold 13, No2, 2022.

Ḥmūd, Māǧdẗ. iškālīwẗ al-ʾanā wālʾāẖr (in Arabic), ʿālm al-mʿrfẗ, 2013.

Ḥṣīd, Fīṣl, Nwyrẗ, ʿbd Al-Qādr. "artīāb al-ktābẗ bīn ḥtmīwaẗ al-mnfi ūsrdīwaẗ al-āntmāʾ: idwārd sʿīd fī ẖārǧ al-mkān" (in Arabic), mǧlwaẗ klīẗ al-ʾādāb wāllġāt, ǧāmʿẗ bskrẗ, ʿ17, 2015.

Idrāwy, Al-ʿīwāšī. "abʿād al-ʿlāqẗ bīn al-lġẗ al-ʿrbīwẗ wālhwyẗ al-ḥḍārīwẗ mqārbẗ lsānīẗ aǧtmāʿīwaẗ" (in Arabic), mǧlẗ lsānīāt al-ʿrbīẗ ūʾādābhā, Vol.1, ʿadad 2, 2020.

Lūǧūn, Fīlīb, ūʾāẖrūn. "mn aǧl al-sīrẗ al-ḏātīwẗ, ḥwār mʿ fīlīb lūǧūn" (in Arabic),  al-nādī al-ʾadbī al-ṯqāfī bǧdẗ, ʿadad 25, 2003.

Lūǧūn, Fīlīb. al-sīrẗ al-ḏātīwẗ, al-mīṯāq wāltārīẖ al-ʾadbī (in Arabic), t: ḥlī, ʿmr, al-mrkz al-ṯqāfī al-ʿrbīw, 1st ed., 1994.

Mānfrīd, Yān. ʻilm al-sard: madkhal ilá Naẓarīyat al-sard (in Arabic), tarjamat Amānī Abū Raḥmah, Dār Nīnawá, Dimashq, 1st ed., 2011

Matmati, Louisa. Unveiling the Self Through Auto Biography and Language in Assia Djebares I. Amour La Fantasia, fold 23, 2009.

Māy, Jūrj. al-sīrah al-dhātīyah, tarjamat U. D. Muḥammad al-Qāḍī, wa-A. D. ʻAbd Allāh Ṣūlah (in Arabic), Dār ruʼyah lil-Nashr wa-al-Tawzīʻ, al-Qāhirah, 1st ed., 2017.

Mʿlūf, Amīn. al-huwywāt al-qātlẗ (ṭrāʾiq fī al-āntmāʾ wālʿūlmẗ) (in Arabic), t: mḥsn, nbīl, dār al-ḥṣād, sūrīẗ-dmšq, 1st ed., 1999.

Said, Edward. On the University, Journal of Comparative Poetics, No 25, 2005.

Ṣālḥ, fẖrī. dfāʿ ā ʿn adwārd sʿīd, ẖṭūṭ ūẓlāl (in Arabic), al-ʾardn-ʿmān, 3rd ed., 2021.

Ṣāliḥ, Rashā, "al-dhāt wa-al-huwīyah fī "riwāyah al-insān" al-Awwal lʼlbyr Kāmū, wa-sīrat Raḍwá ʻĀshūr al-dhātīyah "Athqal M Raḍwá" wa "al-Ṣarkhah", Sardīyāt, ʻadad 30.

Sʿīd, Idwārd. Al-ʿālm wālnṣ wālnāqd. (in Arabic) t: ʿbd al-slām mḥfūẓ, atwiḥād al-kutwāb al-ʿrb.

–––. Khārij al-makān. (in Arabic), t: Fwwāz Ṭrāblsīw, dār al-ʾādāb, bīrūt – lbnān, 1st ed., 2000.

–––. Ṣuwar al-muthaqqaf. (in Arabic), tarjamat Ghassān Ghuṣn, murājaʻat Muná Anīs, Dār al-Nahār lil-Nashr, Bayrūt, 1st ed., 1996

–––. Tʾammulāt ḥūl al-mnfi ūmqālāt aẖri1. (in Arabic), t: Ṯāʾir Dīb, dār al-ʾādāb, bīrūt, 2004.

–––.Taghṭīah al-islām. (in Arabic), t: Mḥmd ʿnānī, dār ruʾīẗ llnšr, 1st ed., 2005.

Sallam, Maha Mohammad. Texts of the self: Edward Said's Out of place and on Late Style, fold 71, 2011.

Ṣn, amārtīā. al-huwywaẗ wālʿunf (ūhm al-mṣīr al-ḥtmīw), (in Arabic), t: tūfīq, sḥr, d.ṭ, ʿālm al-mʿrfẗ, 2008.

Yahyaoui, Hanane. Review of Edward Said's: Orientalism, New York, No26, 2019.



[1] يُقصَدُ بالانتماء المُنتِج: الانتماء الذي يتجاوَزُ مُجرَّد الحديث بحُبِّ الوطن والارتباط به، إلى العمل من أجل نصرته والتَّفاني الحقيقي لأجلِه. (يتجاوز ما هو مُجرَّد إلى ما هو مادِّي).