تاريخ الإرسال: 25 مايو 2022

تاريخ التحكيم: 29 يوليو 2022

تاريخ القبول: 06 أكتوبر 2022

اللغة والمعنى من منظور نظرية المحاكاة المجسدنة

باعزيز ترمينا

أستاذ التعليم العالي مؤهل، معهد الدراسات والأبحاث للتعريب، جامعة محمد الخامس-المغرب

b.termina@um5s.net.ma

ملخص

يروم هذا المقالُ بسطَ الأدوات الإجرائية التي يتوسل بها الإطار النظري الموسوم بدلالة المحاكاة، الذي يتخذ من المحاكاة المجسدنة مُنطلقًا له؛ لاستكناه كيفية تشكُّل المعنى إدراكيًا وتصوريًا في ذهن مستخدِم اللغة، وهو إطار يندرج ضمن الأنموذج العرفاني المجسدن. لقد انبثقت دلالة المحاكاة كرد فعل تجاه النظريات الرمزية المجردة التي تنص على أن المحتويات القضوية لا تتأثر بالكيفيات الإدراكية والحالات الجسدية والأفعال الموقفية. وتنطلق هذه المقاربة التليدة من مجموعة من الفرضيات القائمة في مجملها على افتراض تقييد السياقات اللغوية والفيزيائية والمتغيرات الموقفية لعملية المحاكاة ومحتواها الدلالي والتصوري، وتقييد المحاكاة لفهم اللغة وإنتاجها، وغيرها من القضايا الشائكة التي باتت تقض مضجع المقاربات الرمزية غير المجسدنة. وانسجاما مع ما سطره المبحث من مبادئ وفرضيات، ظهرت مجموعة من الأبحاث المهتمة بفحص المعنى بوصفه نتاجًا تحصيليًا للمعالجة العصبية الآنية الموزعة، التي تسترجع الحالات الإدراكية والجسدية وتتعداها، متوسلةً في ذلك بالأُطر التصورية والخلفيات المعرفية والأوليات العرفانية من قبيل التخطيط والدمج والتكرار. وتؤكد هذه الأبحاث على أهمية المحاكاة الموقفية في النسق التصوري من حيث تحديد البنيات التصورية الدلالية تحديدًا تضطلع فيه الوحداتُ اللغوية بدورٍ تخطيطيٍ وسائطيٍ موازٍ، بحيث إن الكلمات والتوليفات والقرائن السياقية توجِّه المحاكاة كمًا ونوعًا من خلال تنشيط الأطر التصورية الملائمة لالتقاط التجارب الإدراكية الحسية الحركية أو الوجدانية المراد تمثيلها في مواقف معينة.

الكلمات المفتاحية: المحاكاة، اللغة، المعنى، التجسيد، الحالات الإدراكية، التصور، التنشيط، الموقف

 

للاقتباس: ترمينا، باعزيز. «اللغة والمعنى من منظور نظرية المحاكاة المجسدنة»، مجلة أنساق، المجلد السادس، العدد 2 (2022).

© 2022، ترمينا، الجهة المرخص لها: دار نشر جامعة قطر. تم نشر هذه المقالة البحثية وفقًا لشروط Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0). تسمح هذه الرخصة بالاستخدام غير التجاري، وينبغي نسبة العمل إلى صاحبه، مع بيان أي تعديلات عليه. كما تتيح حرية نسخ، وتوزيع، ونقل العمل بأي شكل من الأشكال، أو بأية وسيلة، ومزجه وتحويله والبناء عليه، طالما يُنسب العمل الأصلي إلى المؤلف.

 


 

Received: 25 May 2022

Reviewed: 29 July 2022

Accepted: 06 October 2022

 

Language and Meaning: The Perspective of Embodied Simulation Theory

Baaziz Termina

Habilitated Professor, Institute of Studies and Research for Arabization, Mohammed V University-Morocco

b.termina@um5s.net.ma

Abstract

This article is aimed at introducing the investigatory Tools of Simulation Semantics, a theoretical framework falling within embodied cognition’ paradigm. This framework, which is premised on embodied simulation, accounts for how meaning is conceptually and perceptually constructed in the user’s mind. It has emerged as a superseding reaction to the amodal abstract theories of language and meaning, which fall short of accounting for the crucial role played by perceptual modalities, bodily sates, and situational actions in language processing. It takes as a starting point the assumption that the conceptual content of simulation is constrained by physical and linguistic contexts and situational variables, and simulation, in turn, constrains language understanding and production. Stipulating the importance of embodiment, this novel framework provides new insights procedural to understanding the cognitive dimensions of meaning, which is taken to be a result of instantaneous distributed neural processing that retrieves and controls perceptual and bodily states, using the mentally available conceptual frames, knowledge backgrounds and cognitive primitives such as schematization and combinatorial recursion. It places heavy importance on the role of situational simulation in the conceptual system in terms of specifying the semantic and conceptual structures and the schematic contribution of linguistic unites in such a specification given that words, phrases, and contextual cues together orient situational simulation.

Keywords: Simulation; Language; Meaning; Embodiment; Perceptual states; Conceptualization; Activation; Situation

 

Cite this article as: Termina, Baaziz. "Language and Meaning: The Perspective of Embodied Simulation Theory", Ansaq, Vol. 6, Issue 2 (2022).

© 2022, Termina, licensee QU Press. This article is published under the terms of the Creative Commons Attribution-NonCommercial 4.0 International (CC BY-NC 4.0), which permits non-commercial use of the material, appropriate credit, and indication if changes in the material were made. You can copy and redistribute the material in any medium or format as well as remix, transform, and build upon the material, provided the original work is properly cited.

 


 

مقدمة

يعنى هذا المقال ببسط الأدوات الإجرائية التي يقوم عليها الإطار النظري الموسوم بدلالة المحاكاة، الذي يتخذ من المحاكاة المجسدنة (embodied simulation) مُنطلقًا له لاستكناه حيثيات تشكُّل المعنى إدراكيًا وتصوريًا في ذهن مستخدِم اللغة، مع إبراز دور الجسد والفعل الموقفي ومتاحات البيئة في نشاط النسق التصوري.

الملاحَظ أن هذه المقاربة، التي برزت لتحل محل الأنساق الرمزية المجردة غير المشروطة بالكيفيات(amodal) المجسدنة، باتت تتخذ منحًى دلاليًا منذ ظهور نظرية الأنساق الرمزية الإدراكية لدى بارسالو Barsalou (1999)، الذي يعود له فضل وضع منطلقاتها الأولى من مدخل علم النفس العرفاني؛ إذ قدم هذا الأخير تحليلًا ميكانيكيًا لتركيب المحاكاة وآليات اشتغالها على مستوى مجموعة من الانساق، بما في ذلك النسق اللغوي والنسق الإدراكي والنسق التصوري؛ ومن هنا كان لنظريته دورٌ إجرائي حاسم في رسم المنعطف الذي اتخذته المقاربة في مجال الدلالة.

لقد أضحى مبحث دلالة المحاكاة المجسدنة منذ ذلك الحين مشروعًا في غاية التنظيم، بحيث تشكلت مجموعة من فرق البحث، التي جارت بارسالو في الكثير من المنطلقات، وانتحت مخرجات فريق اللسانيات المعرفية، وعلماء الذكاء الاصطناعي، وعلماء الأعصاب والفيزيولوجيا، وغيرها من المباحث التي كان لها دور ملهم في بروز طائفة من النماذج الوصفية المبنية على المحاكاة كمفهوم تدور في فلكه باقي المفاهيم؛ في مقدمتها النماذج الحاسوبية القائمة على التجسيد بما فيها النماذج التي تحاكي التنشيط العصبي المتخصص والموزع (Narayanan، Feldman) والنماذج الموقفية والسلوكية المنشأ (Zwaan، Barsalou)، ونماذج الذاكرة (Glenberg Borgi)، فضلا عن نماذج اللسانيات المعرفية (Bergen، Evans)؛ غير أننا نؤكد على أن هؤلاء وجهوا البحثَ حول المحاكاة المجسدة وجهةً دلالية صرفة. وللإشارة، يمكن القول إن دلالة المحاكاة اشتد عودها مع بارسالو، لتبلغ سؤددها مع زوان وبوردجن ... إلخ.

والظاهر أن النماذج سالفة الذكر تأتلف في الكثير من الأبحاث، من حيث الأدوات المنهجية المتوسل بها ومن حيث صرفها الاهتمام إلى فهم اللغة والخطاب وإنتاجهما، والوقوف على وجوه المعنى وتصاريفه بالقياس إلى رصد الوظائف والعمليات الإدراكية المجسدنة الخاضعة للتنشيط العصبي التمثيلي الموزع في المجالات الكيفية المتخصصة المتواجدة في القشرة المخية، حيث تبنى المعاني بناء آنيا؛ ذلك أن أنماط التنشيط تجسد تمثيل الكيانات والسيناريوهات الثاوية في الجمل والصور اللفظية وأحوالها. وعلى هذا النحو، تنظر النماذج المجسدنة إلى الدلالة بوصفها موضوعًا متعدد الوجاهات، وتتحرى المعنى بوصفه نتاجاً تحصيليًا للمعالجة العصبية التي تلعب المحاكة بموجبها دورًا حاسمًا في النسق التصوري، من حيث تحديد البنيات التصورية الدلالية تحديدًا تضطلع فيه الوحدات المعجمية والنحوية بدور تخطيطي وسائطي موازٍ. إن تكامل النماذج – على تنوعها – أكسب هذه المقاربةَ قوةً تفسيرية إجرائية أبانت عن كفايتها المتميزة في وصف المعطيات اللغوية (وفوق-اللغوية) الآنية وصفًا تجريبيًا.

وعمومًا، تنطلق دلالة المحاكاة المجسدنة من مجموعة من الفرضيات المبنية في مجملها على افتراض تقييد السياقات الفيزيائية واللغوية والمتغيرات الموقفية لعملية المحاكاة ومحتواها الدلالي، الإدراكي والتصوري، وتقييد المحاكاة لدرجة فهم اللغة وإنتاجها، وغيرها من القضايا الشائكة التي باتت تؤرق حتى أساطين المقاربة الرمزية غير المجسدنة.

وتتناول هذه الورقة بعض معالم الإطار النظري لدلالة المحاكاة المجسدنة في ثلاثة محاور:

سنخصص المحور الأول للأسباب الإبستمولوجية الموضوعية التي أفضت إلى بروز هذا الإطار النظري الوصفي؛ باعتباره قوة تفسيرية بديلة متميزة في الدلالة المعرفية وفي مبحث علم النفس المعرفي المهتم باللغة. أما في المحور الثاني فسنحاول رصد الخصائص الفارقة التي تسِمُ مفهوم المحاكاة الذي يقترن بمفهوم الحالات الإدراكية الرمزية، بالإضافة إلى رصد البنيات والمبادئ (الإطار والتكرار والدمج ... إلخ) التي تتحكم في المحاكاة لحظة بناء المعاني. وسنتناول في المحور الثالث العلاقة القائمة بين نسق المحاكاة والنسق اللغوي، وتأثير قيود السياق والموقف في تنشيط المادة الخاضعة للمحاكاة.

1. سياقات انبثاق نظرية دلالة المحاكاة

1-1. المقاربات الرمزية المجردة

يقابل وجهة النظر المجسدنة المنظور الرمزي غير المجسدن، ويتعلق الأمر بأنساق التسجيل، ونظرية السمات، والنظرية الترابطية connectionism، والنحو التوليدي، وغيرها من المقاربات الصورية المنتسبة للأنموذج الرمزي الذي يمثل الرعيل الأول في علم المعرفة، وهي مقاربات تأثرت بالبرمجيات، وعلم الإحصاء Barsalou, Perceptual Symbol Systems 558-578))، والرياضيات، كما تأثرت فلسفيًا بنزعة الفصل الديكارتية، وتمثيلية هيوم، والمنطق الصوري الكانطي، والفلسفة التحليلية لدى فريدج كما هو الحال بالنسبة للمقاربة الكلاسيكية (Johnson, The Embodiment of Language 627)، والفلسفة التجريبية لدى بركلي ولوك، وهذا التأثير نجده في المقاربة الترابطية حصريًا (Johnson, Embodied Understanding 2-4).

ولا يخفى أن المقاربات الرمزية غير المجسدنة لم تفتأ تقارب اللغة بوصفها نسقًا من المتواليات الدالَّةِ على محتويات قضوية مجردة يولدها النحو باعتباره بناءً خوارزميًا (Lakoff, Explaining Embodied Cognition Results 775). ويتمثل الطرح العام الذي يؤطرها في افتراضٍ مؤداه أن النسق الرمزي (الحاسوب/الذهن) يضطلع بمعالجة معاني الوحدات اللغوية والجمل باعتبارها عجرًا رمزية مجردة – فارغة – تمثل الكيانات دون أن تحيل إحالة مباشرة على المظاهر الفعلية للعالم الخارجي من قبيل الخصائص والعلاقات، أو ترتبط بالحالات الجسدية الإدراكية amodal (Glenberg, Why mental models must be embodied 82 ; Bergen, Experimental methods 287)؛ لأنها ببساطة لا تتوفر على الخطاطات والأطُر التصورية الدينامية القادرة على التقاط تلك الحالات.

يتوفر النسق الرمزي على عجرة واحدة تصلُحُ لتمثيل الكيان المعني، كالكرسي مثلًا، في كل السياقات والمواقف، وترتبط المفردة الدالة على ذلك الكيان بوحدات أخرى ارتباطًا يتيحه فقط النسقُ اللغوي (Glenberg, Why mental models must be embodied 82)؛ إذ لفهم عبارة معينة، يقوم مستخدم اللغة بإقران الكلمات بالرموز الدلالية التي تمثل معانيها، وهذه المعاني تصطف كما تقتضي الجملة، بحيث إن الرموز، التي تمثل مختلف العلاقات والروابط الدائمة، تضع الأشياء المدرَكة (مادة الرموز) في مواقعها المناسبة داخل الجملة (Bergen, Experimental methods 287).

ومن هذا المنطلق، فإن مادة التجربة الذهنية – بما في ذلك المعنى – لا تتأثر بتاتًا بالقدرات الجسدية مثل: حدود البصر أو مورفولوجيا الجسد، ولا بتفاصيل السياق الاجتماعي-الثقافي، ولا بمتاحات الموضوعات في البيئة؛ ذلك أن معالجة اللغة عملية حاسوبية مركزية مستقلة عن التجربة الإدراكية التي تطال المواقف والخلفيات الثاوية وراء التمفصلات القضوية؛ بحيث إنها لا تحتكم إلى الأنساق الرمزية الإدراكية، وإنما مرجعها إلى المنطق الصوري الخوارزمي (Fodor 3-72) الذي بموجبه تستمد الوحدات اللغوية معناها من داخل النسق اللغوي (في الذهن/الحاسوب)، وعلى هذا النحو تفهم علاقة المبنى بالمعنى.

هكذا، فإن المقاربة الصورية تصرف الاهتمام عن كل ما من شأنه تمكين النسق الرمزي من استشعار المعطياتِ السياقية من قبيل أنماط الكيانات مثل أنواع الكراسي (الكرسي الحديدي، والكرسي البلاستيكي، والكرسي القادر على الدوران ... إلخ)، وخصائصها (مثل اللون، والشكل، والحجم ... إلخ، وهي خصائص تتعدى السمات التقليدية الثابتة المتمثلة في المقعد والظهر والأرجل)، والحالات الحسية-الحركية المرتبطة بها (لمسها، ورؤيتها، وتحريكها)، والحالات العاطفية المتولدة عن الجلوس عليها كالراحة والاسترخاء (Yeh and Barsalou 351-352)، واحتمالات التفاعل معها لتأدية الأفعال كما تقتضي الجمل (الجلوس، أو الرمي ... إلخ) في مواقف معينة نحو المكتب، أو المدرسة، أو غرفة الجلوس (Havas, Glenberg & Rinck 440). هكذا، يتعذر على النسق الرمزي ربط تصاريف اللغة بتصاريف مقتضيات الأحوال؛ بحكم توفر التصورات على معاني ذرية قارة لا تتأثر بالسياق (Zwaan & Madden 227).

كما أن هذه المقاربة تنظر إلى اللغة نظرة قالبية (Fordor 1975)؛ حيث تُعِدها ملَكَةً مثلها مثل باقي ملَكَات الذهن المنفصلة نحو الخيال، والإحساس، والذاكرة، والتفكير ... إلخ (Johnson, Embodied Understanding 2-4). ونلفي هذا الضرب من التفكير الصوري الرمزي والقالبي في نماذج النحو التوليدي عند تشومسكي (1957، 1965 ... إلخ)، وفي أطروحة الأنساق الرمزية الفيزيائية عند نيويل Newell (1958)، فضلا عن النماذج الترابطية لدى روميلهارت وماكليلاند Rumelhart and Mcclelland (1986 ... إلخ).

1-2. أطروحة المحاكاة في علم النفس العرفاني

يتمثل جوهر المشكل الذي بات يطرحه الأنموذج الكلاسيكي في علم النفس العرفاني في اعتبار الذهن حاسوبًا، وبالأحرى نظامًا رمزيًا قالبيًا (modular)، يشتغل احتكامًا إلى مبدأي التسلسل (serial) والحتمية (deterministic)، وهذا معناه أنه لا مكانة لأنساق التماثل (analog systems) بين الإدراك والفعل الممكن إعادة استخدامها في الوظائف العرفانية العالية المستوى نحو فهم اللغة وبناء التصورات conceptualization (Bergen, Embodiment 144). ومن هنا بدأت المقاربات الصورية تصطدم بمشكل تأسيس الرموز (grounding).

وفي هذا السياق الابستيمولوجي، خلُصَ علماء النفس العرفاني إلى فكرة المحاكاة في إطار التصدي لهذا المشكل (Harnad 335-346) من منطلق التالي: إذا كانت ماهية الرموز الذهنية تُعرَفُ فقط من حيث هي رموزٌ ذهنيةٌ أخرى بحكم الترابط الحاصل بين العجر (داخل الشبكة)، فإن هذا معناه "أمرين اثنين: حتمية وجود رموز ذهنية جوهرية فطرية تشتغل كأُسُسٍ يقوم عليها المعنى، أو ضرورة وجود رموز مرتبطة حتمًا بالعالم ارتباطًا معنويًا على نحوٍ معين، وإلا سوف لن تنبني على أية أسس تُذكَرُ (ungrounded) ولا تحمل في طياتها أي معنى" (Bergen, Embodiment 144).

وترتب عن ذلك أن علماء النفس العرفانيين اقترحوا أن ما يدور في أّذهان الناس لحظة بناء التصورات لا يقتضي المعالجة الرمزية المجردة (abstract symbol manipulation)، وإنما يستدعي معالجة التمثيلات المشابهة نوعيًا للفعل والإدراك. وعليه، تَمثَّل المناص الوحيد للخروج من المأزق الرمزي المجرد في السعي إلى التقريب بين الإدراك والفعل من جهة، وصيغة التمثيل التصوري من جهة أخرى (Bergen, Embodiment 144)؛ ووفقًا لهذا الطرح، فإن نماذج علم النفس العرفاني المهتمة باللغة وجهت بؤرة اهتمامها صوب علاقة بناء التصورات بالأسس الإدراكية والفعل الموقفي.

1-3. أطروحة المحاكاة في الدلالة العرفانية

لقد اهتدت طائفة من الأطر النظرية السائدة في مجال الدلالة العرفانية إلى فكرة المحاكاة المجسدنة منذ وقت مبكر؛ يتعلق الأمر بالتحديد بنماذج اللسانيات التحليلية، التي يرجع لها فضل السبق في المنافحة عن المعرفة المجسدنة والتصدي لمقاربات التركيب الحاسوبية المنشأ، والمرتبطة بالطفرة العرفانية مع تشومسكي (1957) بالأساس، وفي مقدمتها نظرية الاستعارة التصورية (Lakoff and Johnson 1980, 1999)؛ حيث يذهب لايكوف ودجونسون إلى أن الناس يمتلكون مجموعة من المعارف حول أجسادهم (كالأكل) وحول المواقف (كالبعد العمودي) وأن التصوراتِ المجردةَ تستند استعاريًا إلى هذه المعرفة (Barsalou, Grounded Cognition 621).

تنزع النماذج النظرية اللسانية إلى نمذجة أدوار الجسد والمواقف والمحاكاة في اللغة من خلال وصف الأنماط اللغوية وتفسيرها تفسيرًا يرجعها إلى المعرفة والتجربة والاستنتاج (construal)، وغيرها من الأمور ذات الصبغة التصورية الفردية (Bergen, Embodiment 142). التي تتمفصل في تصاريفِ الكلام ومناحيه، وذلك في إطارٍ نظريٍ واحدٍ مُوحَّدٍ يتحرى علاقة اللغة بالمعرفة. وقد كان مدار الأمر عند الدلاليين العرفانيين، الذين ذهبوا بمفهوم البنية العميقة كما تصورها تشومسكي بعيدًا، أن المعنى صنو بناء التصور وأنه ظاهرة ذهنية تنطوي على استحضار الفرد للتجربة الموسوعية المؤثرة في إنتاج المقاطع اللغوية وفهمها. وعليه، تقتضي الدلالة على كلمة الظبي، على سبيل التمثيل لا الحصر، تنشيط المعرفة التصورية حيال ما تبدو عليه الظبيات بناءً على التجربة، التي قد تختلف من فرد إلى فرد، وهذا الاختلاف إنما مرجعُه إلى الخلفيات الذاتية والثقافية (Bergen, Embodiment 142).

والمُطَّلِعُ على أدبيات اللسانيات العرفانية، سيستشفُّ أن المحاكاة باتت في مجموعة من الأبحاث الرصينة مفهوما يلازم من حيث الإحالة – إلى حد ما – أطر فيلمور (Fillmore 1985) والاستعارة التصورية والخطاطات كما تصورها لايكوف ودجونسن (Lakoff & Johnson 1980) ومجالات لانغاكر (Langacker 1987) والفضاءات الذهنية والدمج التصوري (Fauconnier 1985 ; Fauconnier & Turner 2002) والنماذج العرفانية ((Dik & Stamenov 1998 ; Lakoff 1987، وكلها بنيات معرفية يفترض أنها تندرج في تأطير عملية المحاكاة أو تحفيزها.

في هذا السياق، برزت نظرية المحاكاة في أحضان اللسانيات العرفانية وعلم النفس العرفاني خاصةً (فضلًا طبعاً عن الذكاء الاصطناعي بما في ذلك علم الروبوتات)؛ لتجاوز مكامن قصور ما تنص عليه المقاربات الرمزية المجردة، من خلال استجلاء ازدواجية المبنى والمعنى في إطار ارتباطهما الحتمي بالأنساق الإدراكية وآليات الاستشعار الجسدية، وكل ما من شأنه أن يؤثر تأثيرًا كيفيًا وكمياً في النسق التصوري المقيد بالنسق العصبي.

2. دلالة المحاكاة بوصفها إطارا بديلا

2-1. مفهوم المحاكاة

يحيل مصطلح المحاكاة، كما وظفه بارسالو في نظريته الموسومة بــالأنساق الرمزية الإدراكية (1999)، على إعادة تنشيط (reactivations) الحالات الحسية-الحركية والعرفانية الذاتية استنادًا إلى التجارب الإدراكية المُخَزَّنَةِ في النَّسق التَّصَوُّرِيِ دون أن تكون متطابقة معها بالضرورة. وبتعبير آخر، إن المحاكاةَ عنصرٌ يرتبط بآلية إعادة التمثيل القائم على الكيفيات المتخصصة (modality-specific re-enactment)؛ بحيث إن مجالاتِ الربط في الدماغ تلتقط حالاتٍ من اختصاص الكيفيات المعنية خلال الإدراك والفعل، وبعدها يتم استدعاؤها في حِينِهَا لتمثيل المعرفة. فعندما يحصل إدراك كيان فيزيائي أو حدثٍ ما، يقوم ذلك الكيان بتنشيط آليات استشعار الخصائص (feature detectors) في مناطق الكيفية المتخصصة الملائمة (بارسالو، المحاكاة والتصور الموقفي 1281). وعليه، فإن المحاكاة هي الصدى الحركي motor resonances (Zwaan, The Immersed Experiencer 35-62أو بالأحرى الشكل التمثيلي الذي يتخذه النسق التصوري (Evans 107).

وعمومًا، تتسم المحاكاة بكونها (Narayanan 10-11):

1-     توظف في الإدراك والفعل، وفي الاستماع والتحدث كليهما.

2-     أحيانًا ما تكون شعورية، بيد أنها غالبًا ما تكون غير واعية.

3-     تتسم بكونها تخيلية، وتقتضي الصور الذهنية mental imagery، البصرية والسمعية منها، فضلًا عن الصور الجسدية.

4-    دائمًا ما ترتكزُ على أسسٍ جسديةٍ (bodily grounding).

5-    دائمًا ما تُنفَذُ في سياق النسق التصوري والنسق الاعتقادي.

6-     ثمة العديد من الاستنتاجات الإضافية المُتوصَلِ إليها بوصفها نتيجة حتمية للمحاكاة، مردُّها تغييرات نموذجية مباشرة (direct model changes) مصدرها المحاكاة، فضلًا عن تداعي هذه التغييرات على امتداد الحالة الذهنية.

7-     يقدم الدخل اللغوي المحدداتِ (parameters) اللازمةَ لقيام المحاكاة الكافية عند الاستماع. وتتوقف الحالة الموالية للمحاكاة على "حالة العالم" الراهنة كما نتعامل معها وعلى الدخل الخاضع للتحليل.

8-     تنبني كل محاكاة، في الفهم، على الدخل اللغوي والحالة التحصيلية (epistemic state) – أي المعرفة السياقية – والأنساق الإدراكية، والمعرفة اللغوية، والمعرفة العامة حول العالم، والحالة الوجدانية، والاعتقادات.

9-     تلعب المحاكاة، إلى جانب اللغة، دورًا مفصليًا في أنماطٍ أخرى من العمليات العرفانية العالية المستوى من قبيل التقطيع المقولي، وبناء المحتويات القضوية، وبلوغ التوقعات، والتكرار والتوليف التصوري (Gibbs 434).

وتُوسَمُ المحاكاةُ بالمجسدنة؛ لأنها ببساطة مقيدة بالتجارب الجسدية في الماضي والحاضر (Gibbs 434)، وهي تجارب تغذي تفكيرنا وتهدي أنشطتنا وتسمح لنا بتوقع المستقبل. أما المحاكاة المجسدنة بوصفها إطارًا نظريًا فتنتسب إلى الأنموذج العرفاني المجسدن (الأنموذج الثاني) المرتكِزِ على ما بات يُعرَفُ بمقاربات 4E المهتمة بخصائص الذهن الآتية: كونه نشطًا (enactive) ومجسدنًا (embodied) وممتدًا (extended)، وفقًا لفرضية الذهن الممتد، ومُدْمجًا (embedded)، وكلها خصائص عرفانية خالصة (Rowlands 51). فوفقًا للمقاربات المتجسدة، لا ينفصل موضوع الدلالة عن الأنساق الأحيائية، والعصبية، والإدراكية، والتصورية، والهندسة العرفانية المتحكمة في الأنساق الثقافية والاجتماعية، وإدراك متاحات البيئة وأنساق اللغة ... إلخ.

2-2. محاكاة الحالات الإدراكية والجسدية

تنطلق أطروحة المحاكاة من فرضيةٍ مفادُها أن الوصول الذهني إلى التصورات يقتضي تنشيطَ الرموز الداخلية التي ترمّز إلى التجارب الإدراكية والحركية والعاطفية – أي التمثيلات التي تختص بها مختلف الكيفيات – وهذا التنشيط هو مظان فهم المعاني وبناء التصورات. مما يعني أن النسيج العصبي الذي يوظفه الأفراد في الإدراك المرتبط بكيفية معينة (modality) أو بمستشعرات (effectors) معينة هو نفسه الذي يستخدمونه لحظةَ بناء التصورات، في غمرة تداول اللغة مثلًا، وليس فقط لحظة تنفيذ الأفعال أو إدراكها (Bergen, Embodiment 142).

ويشمل اهتمام هذا المنظور كلَّ ما له صلة بالدلالة من قبيل الترابطات التصورية والإدراكية، المقيَّدة بنشاط المدارات العصبية، الذي قد يكون تنشيطًا متخصصًا يهم كيفية بعينها، أو موزعًا يطال مختلف الكيفيات المسؤولة في القشرة المخية عن انتصاب مختلف أنماط المحاكاة، بما فيها الكيفيات الوجدانية، والاستبطانية، والحسية الحركية، ويدرس علاقة تلك الترابطات بالمستشعرات المتصلة بها في أعضاء الجسد (مثل اليد، والفم، والرجل)، فضلًا عن تناول مجموعة من القضايا السلوكية ذات الصلة بالتحفيز والاستجابة، ودور هذه الأمور كافة في ظهور المحاكاة (Bergen, Experimental Methods 277-301). وعليه، ينظُر هذا المنظور إلى اللغة بوصفها جهازًا متعدد الكيفيات، يُمَكِّننا من دمج المعلومات حول الأشياء المرصودة في الكيفيات (Weiskopf 295)، دمجًا مقوليًا وتركيبيًا وموقفيًا.

لا غرو في أن بارسالو (1999) كان سبَّاقًا إلى وضع تصورٍ جامعٍ مانعٍ للبنيات والآليات الإدراكية التصورية التي ينطوي عليها مفهوم المحاكاة، الذي شكَّل عصب أطروحته ' نظرية الأنساق الرمزية الإدراكية'(Perceptual Symbol System). بكفاية إجرائية وصفية، وتجريبية منقطعة النظير، سعت النظرية إلى تفسير كيفية التقاط الذهن للحالات الإدراكية والجسدية وتسجيلها على شكل رموزٍ تخطيطيةٍ في الذاكرة، لتصبحَ متاحةً لإعادة التنشيط العصبي المنعكس في المحاكاة.

لقد خلص بارسالو إلى أنه عند مصادَفة عضو من أعضاء المقولة، يتم تنشيط مجموعة من الأنماط العصبية المماثِلةِ في مناطق السمات في الدماغ. ففي حالة المعالَجةِ البصرية لمقولة/إطار السيارة مثلًا، تُقدح (fire) تجمعات عصبونية تخص الحوافَّ والقمم/الرؤوس (vertices) فضلًا عن الأسطح المستوية (planar surfaces)، في حين تُقدح أخرى لتمثيل خصائص الاتجاه واللون والحركة. ويمكن تنشيط مختلف التجمعات العصبونية الكفيلة بدمج المعلومات البصرية حول منظر السيارة مع المعلومات السمعية حول صوتها، والمعلومات الشمَّيةِ حول الرائحة المتعلقة بها، والمعلومات الحركية حول سياقاتها، والمعلومات الحسية الشعورية (somatosensory) حول الشعور المرتبط بقيادتها، والمعلومات العاطفية المرتبطة بالسرعة، والمواقف الخطرة، وهلمَّ معلومات (Barsalou, Abstraction 12). وكلها معلومات يمكن التعبير عنها وفهمها عبر النسق اللغوي.

وعلى هذا النحو، ينشأ هذا النمط التنشيطي التمثيلي الشامل على امتداد نسقٍ مُوَزَّعٍ مُنَظِّمٍ للكيان في البصر؛ إذ يشمل عددًا من الترابطات العصبية والمجالات الكيفية الخاصة؛ حيث تتأسس المعرفة حول السيارات.

والجدير بالملاحظة أن التخصيص والشمولية ينطبقان أيضًا على الأفعال. فمن جهة، تُنشِّط الأفعال المحيلة على اليد (مثل أمسك) منطقة اليد، وتنشط الأفعال المتضمنة للرجل (مثل ركل) منطقة الرجل، في حين أن الأفعال المتضمنة للفم (مضغ) من شأنها تنشيط منطقة الفم، مما ينم عن تنشيط التمثيلات الحركية تنشيطًا مخصوصًا في مناطق القشرة الحركية المسؤولة عن مستشعرات وحركات تلك الأعضاء (Pulvermüller et al 145-161). ومن جهة أخرى، يمكن للأفعال تنشيط آليات استشعار متخصصة متعددة دفعةً واحدةً، حسب المتغيرات السياقية والموقفية.

على سبيل المثال، يمكن لفعل 'أمسك' الدال على اليد أن ينشِّطَ الحالاتِ الإدراكيةِ المتصلةِ بكيفياتٍ متعددة نحو اللمس (الإمساك بشيءٍ رطبٍ أو خشنٍ)، والذوق (حلو، أو مر ... إلخ)، والبصر (ما يبدو عليه الإمساك، وما تبدو عليه الأشياء القابلة للإمساك)، والوزن (خفيف أو ثقيل)، والحركة (من قبيل تمثيل حركة العضلات من قبيل بسط اليد أو تحريكها تجاه شخص أو شيءٍ ما ... إلخ). وهناك كيفياتٌ أخرى من قبيل "المكون الحسي الجسدي (somato-sensory): أي الإحساس المتولَّد عند الإمساك، كأن يُمسَك بك". كما أن معنى كلمة أمسك وسلوكها يتوقفان على السياق –فالمرء يمسك بطرق مختلفة باختلاف الأشياء والمقاصد (Feldman 385& Narayanan)، التي تحتكم إلى سلسلة المقاصد السابقة التي تنظم متواليات هذا الفعل/العمل (غاليم، اللغة بين ملكات الذهن 148). وهذه المكونات تمثل حالاتٍ رمزيةٍ إدراكيةٍ يسترجعها النسق التصوري (بل ويضيف عليها كمًا ونوعًا)، من خلال أنماط محاكاة لامتناهية تولدها الأطرُ التصورية التي تنظم معطياتِ الإمساك:

(1)   أمسك محمد قنينة العطر:

الظاهر أن الجملة (1) من شأنها تنشيط كيفيات البصر واللمس والحركة والشم والوجدان، التي تتقاسم البيئة نفسها (الذهن/الدماغ)، جنبًا إلى جنب ملكة اللغة. فعندما أقرأ أو أسمع هذه الجملة، فإنني من المحتمل أن أتخيل شكلًا معينًا بناءً على التجارب الإدراكية حول أشكال قنينة العطر: دائرية أو مربعة، أو مثلثة بدرجة أقل (أي سلمية البروز المقولي)، كما يمكنني أن أحاكي الحركة التي تصاحب الإمساك بالعطر، وأستحضر رائحة معينة، فضلًا عن متغيراتٍ أخرى مرتبطةً بالعلاقات الفضائية (تموضع العطر وعلاقته باللباس) والاجتماعية (مناسبة معينة، ...)، إلخ. ويُحال على هذا النمط من التفكير النسقي الدينامي في مجموعة من الدراسات العصبية بهندسة التوازي (غاليم، اللغة بين ملكات الذهن؛ غاليم، الأنموذج المعرفي)، بحيث يتكون النظام العصبي المعرفي من أنساقٍ فرعيةٍ، بما فيها أنساق اللغة والأنساق التصورية والإدراكية، التي تشتغل بالتوازي؛ مما يُفضِي إلى تشكل المعالجة الموزعة.

ولا مُشاحة في أن خاصيَّتي التخصيص والتكامل اللتين تنطوي عليهما الهندسة العرفانية البشرية هما ما يُكسِب النسقَ التصوري مرونةَ استرجاع الحالات الرمزية الجسدية المتعددة الكيفيات (multimodal states) وفقًا لمبدأ التنشيط العصبي المادي، الذي يتيح تشكُّل مختلف أنماط المحاكاة المجسدنة باعتبارها حوسبةً هادفةً ينفذها الدماغ أثناء الاسترجاع. وما المعاني التي نستخلصها من الوحدات اللغوية والجمل إلا مخرجات شبكية لهذه الحوسبة التي تحاكي الحالات الإدراكية بوساطة مجموعة من البنيات الإدراكية والتصورية، بما في ذلك الأطُر والخطاطات والنماذج ومجموعة من الآليات البانية مثل التكرار والدمج والتأليف.

2-3. البنيات التصورية ودورها في التكرار والدمج

2-3-1. الخطاطة والإطار والمحاكي

من الدروس المستفادة في الدلالة العرفانية، اعتبار النسق التصوري نظامًا يضم عددًا هائلًا من البنيات التصورية المعنوية المؤسسة على التجارب الجسدية والنفسية والفيزيائية والاجتماعية، والتي تُوسَمُ بالأطر والنماذج والخطاطات ... إلخ، والتي تصف التجارب الإدراكية في الماضي والحاضر والمستقبل، وتنظم عالم المعرفة وفقا لهندسة محكمة تنظيما يكسب الفرد القدرة على التفاعل البناء مع العالم الخارجي ومع الحالات الجسدية المتولدة عن ذلك التفاعل. واللغة وفقا لهذا الافتراض العام لا تعدو أن تكون مجرد نسق من الإشارات أو العجر الدالة، المرشدة إلى ذلك العالم اللامحدود. فهي مجرد وسيلة لبلوغ البنيات التنظيمية التي تلعب المحاكاة بموجبها دورًا مفصليًا في التقطيع المقولي، وبناء المحتويات القضوية (القائمة على الدلائل والنماذج)، وبناء التصورات والاستدلالات والتوقعات، وغيرها من عمليات المستويات العليا، التي تحصل في النسق التصوري؛ ذلك أن البنيات التصورية تؤطر عملية تنشيط التمثيلات الذهنية، ومن ثمة فإنها توجه عملية المحاكاة.

ولما كانت الخطاطات تضطلع بتمثيل التجارب الإدراكية تمثيلًا تخطيطيًا صرفًا في النسق التصوري، فإن الأُطُرَ عبارة عن أنساق تتشكل انطلاقًا من الرموز الإدراكية التخطيطية وتستخدم في بناء أنماط تحاكي المقولاتِ (Barsalou, Perceptual Symbol Systems 577-590). ولما كانت الخطاطات (نحو المسار، والتوازن، والحركة، والتماس، والوعاء ... إلخ) أوليات معرفية عصبية تهم العلاقات الفضائية، فإن الأطر بناءات ثقافية بالأساس (Feldman 135)؛ وإن ترتكز على الخطاطات التصورية.

يتألف الإطار، بوصفه بناءً هيكليًا لنموذج/كيان معين، من الخصائص والقيم، والقيود، والثوابت البنيوية، (Barsalou et al, Concepts and Meaning 11). ويولد كل إطار محاكاة معينة؛ مثلًا، يولد إطار 'السيارة' الرمز الإدراكي الذي يرمز للسيارة، فيما تولد أطر الخصائص مختلفَ سماتِ هذا الإطار؛ إذ يمكن للإطار أن يتضمن أُطُرًا فرعيةً سلميةً، فيما تولد أطر العلاقة أو الشمولية الترابطات الحاصلة بين الخصائص، المتعلقة بتحديد العلاقات الفضائية مثلًا (الأفقية والعمودية) كما هو الحال بالنسبة لإطار الوجه حيث يوجد الأنف فوق الفم.

إن الأطر تنشأ وتتطور في الأنساق الرمزية الإدراكية؛ لتَسَعَ كلَّ أصناف التصورات (Barsalou, Frames and Concepts, 21-74). ويشكل كل إطارٍ – إلى جانب المحاكاة التي يُوَلِّدُهَا – مُحَاكٍ مُعَيَّنٌ لمكون من المكونات الإدراكية؛ إذ يضطلع بوظيفة تنظيم الرموز الإدراكية داخل ما أسماه بارسالو بالمحاكي، بينما تقدم الكلمات المرمّزة المرتبطة بالمُحاكِي سبلًا للتحكم اللغوي في بناء المحاكاة. ويرى بارسالو أن الأطر تدمج ضمن بنيات أكبر فتولد – بحكم طابعها التكراري أنماطًا من المحاكاة اللامتناهية الإمكانات (Barsalou, Perceptual Symbol Systems 590)، وبالتالي فإنها تلعب دورًا حاسمًا في إنتاج التصورات (بوصفها أنساقًا ديناميكية).

2-3-2. التكرار والدمج في نسق المحاكاة

يُعدُّ التكرار والدمج من أسس الهندسة العرفانية؛ بحيث إنهما متفشيان في كل أنساق الذهن الفرعية، بما في ذلك اللغة، والذاكرة، وأنساق الإدراك، والأنساق العصبية المادية المسؤولة عن وظائف هذه الأنساق (غاليم، اللغة بين ملكات الذهن 94-103)، وبالتالي، فإنهما يكمُنان وراء الطابع الإنتاجي للنسق المعرفي التصوري المتصل بهذه الأنساق. إنهما يتيحان للأفراد إنتاج عدد غير محدود من التمثيلات المركبة انطلاقًا من عدد محدود من البنيات اللغوية والتصورية (Barsalou,The Human Conceptual System 243)، بحيث يتم دمج أنماط محاكاة ضمن أخرى؛ لإنتاج تمثيلات تتعدى تلك الخاضعة للتجربة (Barsalou, Perceptual Symbol Systems 592)، وفقًا لمبدأ التنظيم العرفاني-اللغوي الذاتي كما تصفه نظرية الأنساق الدينامية المركبة complex dynamic systems (Shapiro 39). ذلك أن الوحدات اللغوية يمكنها أن تندمج بطرق لا يمكن التكهن بها انطلاقًا من الخصائص الدلالية، ولكن لا بد لهذه الخصائص أن تكون مصحوبة بالمحاكاة الإدراكية لبناء الملفوظات وفهمها.

 وفي هذا المضمار، يسوق بارسالو مثال قطة تشيشاير (Cheshire cat)، بحيث "لا أحد سبق له أن عايش تجربة ما يعرف بـ "قطة تشيشاير"، غير أنه من السهل تخيُّل ووصف قطة يتوارى جسدها ويظهر مرة أخرى بينما تظل ابتسامتها الإنسانية مرتسمة." وقريبًا من هذا المثال، يمكنك الشروع في بناء تصور لشيء معروف ثم تتخيله بأشكال غير معايشة (نحو تصورك لقطة رمادية اللون، ثم تقوم بتصورها كقطة أرجوانية أو أرجوانية بقماش منقط). هكذا، تُحجَب وتضمر الإنتاجية وراء القدرات الإبداعية المرتبطة بدمج الكلمات والتصورات لإحداث بنيات لغوية وتصورية مركبة (Barsalou, The Human Conceptual System 242؛ ترمينا، 23-63)، وهذه الفكرة تعود لفودور وبيليشين (Fodor & Pylyshyn 1988) في الأصل.

ومن خصائص آلية التكرار تداخل البنيات التصورية واللغوية مع البنيات الموجودة سلفًا في غمرة عملية التكرار؛ فعند تصور وجهٍ ما، يستطيع الإنسان بداية تصور الرأس، وبما أن العينين والمقلتين والقزحيتين عناصر تندرج ضمن تصور الرأس، فإن الإنسان يستطيع تصور هذه العناصر تباعًا. وبالقياس إلى ذلك، يمكن للفرد وصف هذه البنية التصورية المدرجة وصفًا لغويًا، عبر المحتويات القضوية، كما هو الحال فيما يتعلق بالمثال أدناه (Barsalou, The Human Conceptual System 242):

(2)   يشتمل الرأس على عينين، تحتويان على مقلتين، تحتويان على قزحيتين،' إلخ

جليٌ إذن أن الدمج والتكرار يسمحان للأفراد بأخذ كلمة (أو تصور) ثم إتباعها بكلمات (أو تصورات) أخرى من خلال علاقة معينة تربطهما، كما هو الشأن في حالة البدء باسم من قبيل "القطة"، إذ يمكن بناء مركبات اسمية بناءً توليفيًا عبر مناوبة كلمات أخرى تجمعها بالقطة علاقة معينة من قبيل علاقة التحوير (modifier relation)؛ فتكون النتيجة إنتاج "قطة رمادية" و"قطة بنفسجية" و"قطة أرجوانية" ... إلخ. والأمر نفسه يصدق على إمكانية تدوير الأسماء عن طريق الأدوار المحورية المرتبطة بفعل معين، كتدوير "الكعكة" و"البيتزا" و"الطعام الميكسيكي" من خلال دور المتقبل (patient role) المخصص لـ "تناول" (تناول الكعكة/البيتزا/الطعام الميكسيكي)؛ كما يمكن تدوير أسماء أخرى مشابهة من خلال أدوار أخرى ل "تناول"، من قبيل "شوكة الطعام" و"الأصابع"، بالنسبة للأداة (Yeh & Barsalou 343؛ ترمينا، 23-63).

وهذه الخصيصة تنطبق على الأفعال. على سبيل المثال، من المفترض أن يولِّدَ فعل 'أمسك' أنماطَ محاكاةٍ متعددة تستحضر مختلف الأعمال المرتبطة بالإمساك وما يتضمنه من وسائل وأهداف: الإمساك بالعطر، والإمساك بالكتاب، والإمساك باللص، والإمساك باليد، والإمساك بمقبض الباب، والإمساك بالسكين لتقطيع الكعكة وتناولها، أو تقطيع الثوب ... إلخ. وعليه أمكن بناء محتوى قضوي يضم عناصر متعددة الأدوار كما يتضح من خلال المثال (3):

(3)   أمسك علي السكين لتقطيع الكعكة قصد تناولها.

إن التكرار والدمج يرتبطان بتوفر ذاكرتنا على مخزون من الخطاطات الأولية المعنوية، من قبيل خطاطة التماس (مع موضوع سطحه أقل من قبضة اليد)، وخطاطة الحركة المتولدة عن ذلك التماس ... إلخ، فضلًا عن مخزون هائل من النماذج الذهنية حول متواليات الإمساك الممكنة وأطر محاكاة الوسائل المحتملة في كل متوالية؛ بحيث يمكن مناوبة مختلف الأدوات القابلة للإمساك عبر انطباقات تكراريةٍ. وكل هذا يتوقف إلى حد كبير على تجاربنا الجسدية حيال تفاعلنا مع العالم، فضلًا عن الآلية الذهنية الحاسوبية الواصلة بين العمل واللغة (أنحاء العمل).

يتبين مما تقدم أن البنيات الإدراكية والتصورية (الخطاطات والأطر)، تُمكِّنُ الذهن من "محاكاة" العالم الخارجي محاكاة متطابقة أو غير متطابقة استنادًا إلى خاصيتي التكرار والدمج (أي دمج الكلمات والأطر التصورية في محتويات قضوية لا يمكن حصر نطاقها)؛ بحيث يقوم النسق التصوري بإدماج مختلف المعلومات الواردة عليه عبر الحواس وعبر الكيفيات الإدراكية المرتبطة بها، فضلًا عن التصرف في تلك المعلومات بناءً على الرموز المخزنة في الذاكرة، ومن ثمة التصرف في دقائق المحاكاة، من خلال بلورة الاستنتاجات الجديدة وتوقع الاحتمالات الممكنة، وغيرها من العمليات العرفانية الشبكية المباشرة.

3. المحاكاة والاعتبارات اللغوية والموقفية

تربط المقاربات العرفانية -المجسدنة، كما أوضحنا آنفًا، بين المستويات العليا والدنيا، من خلال رصد الوِجَاهَات الواصلة بين المدخلات الحسية اللغوية (وغير اللغوية) والحالات الذهنية والجسدية والتصورات. لقد اتضح أن الحالات الإدراكية تظهر – عبر الأطر – في نسق المحاكاة أثناء المعالجة اللغوية والدلالية؛ إلا أن النقطة التي تستوقف العديد من الدراسات في اللسانيات المعرفانية وعلم النفس العرفاني مكمنها طبيعة العلاقة التفاعلية الحاصلة بين النسق اللغوي والمواقف ونسق المحاكاة أثناء المعالجة التصورية.

3-1. المعالجة التصورية بين اللغة والمحاكاة

لقد دأبت المقاربات الرمزية المجردة على عزو التمثيل الدلالي التصوري إلى التواتر اللغوي الإحصائي-المنطقي، أو ما يُسمَّى في الترابطية connectionism بالترابطات الدائمة، من قبيل العلاقة المنطقية القائمة بين العداء والقميص (Glenberg, What memory is for 9, 14, 39)، وسمك السلمون والبحيرة. وعلى النقيض من ذلك، تنص المقاربات المجسدنة على أن العمليات الإحصائية – التكرارية – البسيطة والمحاكاة الإدراكية صنوان أثناء المعالجة التصورية، خاصةً عندما يتعلق الأمر بمعالجة الكلمات التي ترد ضمن المركبات والجمل والمواقف الخطابية.

يضطلع العامل الإحصائي البسيط بوضع القيود على عملية دمج معاني الكلمات عند بناء المحتويات القضوية من خلال توظيف المعرفة التصورية الخلفية التي تعكس العلاقات اللغوية، وبالتالي فإنه يساهم جنبًا إلى جنب المعرفة الخلفية في فرض الترابطات الممكنة بين التمثيلات. وينطبق هذا على دمج معنيي البحيرة والسمك لفهم عبارة "سمك البحيرة" (lake trout)، بحيث يقتضي هذا الدمج تنشيط معرفة متصلة بعلاقة "المكان"، في حين يستدعي دمج معنيي الاهتزاز والغصن تنشيط معرفة مرتبطة بـ 'الحركة' لفهم عبارة 'اهتزاز الغصن' "swinging vine" (Barsalou, The Human Conceptual System 244 بحيث تضطلع الكلمات بإقران الشكل الفونولوجي (أو التخصيص اللغوي) بتخصيصات الصور الذهنية المرتبطة بالكلمات، والتي تُركَّب في بنيات أكبرَ لتوليد محاكاة محتوى العبارة أو الملفوظ (Bergen & Wheeler 232). وهذا معناه أن المحاكاة تتقيد بقرائن السياق اللغوي القائم على التواتر والذي يسمح باستشعار الخصائص الدلالية للعبارة، كما تحتكم إلى السياق الفيزيائي الذي يقدم المعلومات الحسية الإدراكية.

وانطلاقًا مما سبق، يتضح جليًا أن المادة المعجمية تُسهم في بناء خطة المحاكاة (simulation plan) التي تطال بنيات لغوية تنتمي اليها تلك المادة، حيث يحصل تركيب التفاصيل الدقيقة للصور التخيلية انطلاقًا من إدماج القيود التي تمارسها المكونات اللغوية (Bergen & Wheeler 232). مما ينمُّ على أن إمكانات الكلمات الدلالية (semantic potential) تكتسي طابعًا غير لغوي. وقياسًا على هذا، فإن الترابط اللغوي يحدد خصائص إطار السمك (المرتبط بإطار البحيرة). وهذه الخصيصة المتعلقة بعلاقة اللغة بالمحاكاة استدل عليها إيفانس (Evans 114) من مدخل اللسانيات العرفانية، من خلال وصف أمثلة متعددة، اخترنا منها مثالًا ينطوي على تكرار 'الفتح':

(4)             

‌أ-      فتح دجون النافذة.

‌ب-   فتح دجون فمه.

‌ج-    فتح دجون الكتاب.

‌د-     فتح دجون المحفظة.

‌ه-      فتح دجون الستائر.

‌و-     فتح النجار الحائط.

‌ز-     فتح الجراح الجرح.

‌ح-    فتح المهندس السد.

يظهر من الأمثلة أن معنى 'فتح' إنما يركب جزئيًا عبر سياق العبارة التي ورد فيها الفتح، فضلًا عن الحدث الخطابي الذي وردت فيه العبارة. ومن ثمة، فإن الأصداء الحركية (أي المحاكاة) ذات الصلة بـ 'فتح' يفترض أن تتخذ أشكالًا متمايزة بحكم اختلاف طبيعة الفتح والوسائل المستخدمة. فالكلمات المحيطة بـ 'فتح' تحدد سياق الفتح، وبالتالي تحدد معنى 'فتح' عن طريق إثارة المعلومات الإدراكية. وهكذا، يمكن تفعيل المحاكاة بموجب الإدماج الحاصل على مستوى الجملة؛ ذلك أن المحتوى اللغوي في هذه الأمثلة لا يتيح ظهور المحاكاة على نحوٍ مباشرٍ؛ إلا أنه يمكن أن يساهم فيها؛ بحيث تضطلع المعاني والتصورات التي تنبثق من الملفوظات، بوصفها بنيات تتوفر على خصائص دلالية، بدور بنيوي هيكلي يتيح انتصابها. فعندما يقدم المحتوى اللغوي البعد البنيوي أو التخطيطي (schematic) للتمثيل الدلالي، يتم تأويل البنية التصورية. هكذا، يُستفاد من تحليل إيفانس (14، 84، 139) أن المحتوى الذي يتم تمثيله عبر المحددات اللغوية يؤدي دورًا مهمًا في ظهور المحاكاة. وهذا ينمُّ مرة أخرى على أن الفهم عملية تتعدى معالجة الصيغ الإحصائية الصرفة.

وتقدم نظرية الأنساق الرمزية لدى بارسالو والنموذج الموقفي لدى زوان تفسيرًا أكثر عمقًا لما يقع بالتحديد عند قراءة أو سماع الملفوظات. على سبيل المثال، يشير بارسالو إلى أنه لحظة قراءة أو سماع الكلمات/المنبهات يصبح النسقان – أي النسق اللغوي ونسق المحاكاة – نشيطين، غير أن تنشيط رسم الكلمات يبلغ مداه قبل تنشيط المحاكاة، وهذا مسوغه كون البنى اللغوية في الذهن تتميز بكونها أكثر تشابهًا مع الكلمات المعروضة مقارنةً مع محاكاة التجربة الذهنية (Barsalou et al, Language and Simulation 249). بمعنى أن تنشيط التمثيلات الرمزية يسبق تنشيط التمثيلات الحسية الحركية. وبتعبير آخر، فإن النسق اللغوي حين يتعرف على الكلمات المعروضة عليه (من قبيل جسد القطة المتواري، أو سمك السلمون، أو اهتزاز الغصن، أو الفتح)، فإن تلك الكلمات سرعان ما تشرع في تنشيط المحاكاة ذات الصلة من خلال تنشيط البنى اللغوية (linguistic forms) المرتبطة بها؛ إذ يحصل توليد البنى اللغوية كاستنتاجات وموجهات (pointers) صوب المعلومات التصورية الغنية المراد تمثيلها، أي أنها موجهات نحو أطر المحاكاة التي يحتمل أن تكون مفيدة لتمثيل المعاني. إذ ذاك تضطلع المحاكاة بتعيين ما الذي تعنيه المدخلات الحسية اللغوية وكيفية التفاعل معها والاستجابة لها بناءً على مجموعة من المعلومات، التي يتم تجميعها – بدورها – انطلاقًا من الدخل اللغوي (Narayanan 1-10)، والتي يمكن النظر إليها بوصفها محدداتٍ تسم أبعاد حالات العالم الآني المتحكم فيه.

إن توليد الصيغ اللغوية من شأنه دعم مجموعة من العمليات، التي تتيح للمعالجة التنفيذية انتقاءَ استراتيجيةٍ تُركِّزُ على النسق اللغوي كمصدرٍ أولي للمعلومات لبضع ثوانٍ على أقل تقدير، وبعدها مباشرة تقوم العمليات التنفيذية بتحويل الانتباه تُجَاهَ نسق المحاكاة كمصدر بديل للمعلومة، حيث يحتمل أن يحصل تنشيط المحاكاة بالموازاة مع إنتاج النسق التنفيذي للاستجابات انطلاقًا من النسق اللغوي؛عندها يتم توليد الصيغ اللغوية كعملية بسيطة منشؤها ربط المفردات بالقرائن، التي تقدم السياق اللغوي المحيط بالكلمة المعروضة (Barsalou et al, Language and Simulation 250).

وفي حال ورود الكلمات في سياق الخطاب – كما لاحظ زوان ومادن – يتشكل التمثيل الموافق في الذاكرة المشتغلة: أي ذلك الجزء الذي ينشط نموذج الموقف الناشئ جنبًا إلى جنب البنيات اللغوية ذات الصلة. وقد سقنا في هذا السياق المثال (5):

(5)   إن أول من تسلم جائزة نوبل للفيزياء هو العالم الألماني فيلهلم كونراد رونتغن؛ تتويجًا لتمكًنه من تصوير أجزاء يد الإنسان بالأشعة.

فعند معالجة الخطاب، يمكن لتدفق التنشيط بين التمثيلات الرمزية ونظيراتها الحركية الحسية أن يتخذ اتجاهين؛ بحيث يحصل التقييد المتبادل بين طبقتي التمثيل المُفضِي إلى سلاسة الفهم (Zwaan, The Immersed Experiencer 35-62). ولتوضيح هذه العلاقة الثنائية التفاعلية، يوظف زوان استعارة قابض السيارة ذي الاتجاهين؛ إذ بمجرد ما يحدث التحفيز اللغوي، سيتدفق التنشيط الأولي بالضرورة من التمثيلات الرمزية إلى التمثيلات الحسية الحركية، فأما درجة التنشيط فتتوقف على العوامل السياقية والموقفية. وحالما يتراكم السياق الحسي الحركي الكافي، سيتخذ التنشيط حينها طريقين: من النسق الرمزي إلى النسق الحسي الحركي، والعكس صحيح. هكذا، فإن العمليات اللغوية والإدراكية تُقيِّدُ بعضها البعض عند فهم الخطاب أو إنتاجه. مثلًا، يقود التلازم اللغوي إلى توقع البناءات اللغوية اللاحقة وتوقع التمثيلات الإدراكية المتعالقة معها، في حين تفضي المحاكاة الإدراكية إلى توقع المظاهر الإدراكية اللاحقة والبنيات اللغوية المتعالقة (Zwaan, Situation Models 1029).

يتضح جليًا مما تقدم أن نسق المحاكاة والنسق اللغوي يتفاعلان أثناء معالجة الكلمات والمحتويات القضوية، بحيث يتم تنشيط الصور اللغوية وبعدها يتم تنشيط الحالات الإدراكية التي تنشط بدورها التوليفات اللغوية الخاضعة للدمج الهادف إلى بناء التصورات، أي أن التنشيط يتسم بكونه مُتبادَلًا مما يقوِّضُ الأطروحة القائلة بأن بناء المعنى عملية إحصائية.

3-2. دور المواقف في تنشيط المحاكاة

لا شك في أن المواقف – كما سنرى في الفقرات التالية – أساسية للغاية من حيث التأثير في عملية تنشيط المحاكاة الإدراكية وتوجيهها، على المستويين الكمي والكيفي على حدٍ سواء. ويعرف بارسالو الموقف بوصفه مجالًا فضائيًا خاضعًا للتبئير في مدة زمنية معينة، يدركه الفاعل المعني من منظوره الخاص. ويشمل المجال الموقفي طائفةً من الكيانات والأحداث، بالإضافة إلى منظور الذات المدركة إزاءه، كما يمكن أن يشمل الحالات الذهنية أيضًا، وكل ذلك يتم وفقًا لخطة ترميزية مُحكَمةٍ (Yeh & Barsalou 352). إن التفسير القائم على المواقف لا يدع مجالا للشك في أن الترابطات اللغوية الإحصائية لا تكفي لفهم السيناريوهات الموقفية.

يفترض ياو وبارسالو (371) أن الأفراد يخزنون مجموعة من المواقف الخلفية بمعية التصورات والأطر، وأنهم عند الاسترجاع يؤطِّرون المقامات والأحداث من منظورهم الذاتي وفقًا لما خزنوه. ويستدلان على هذا الافتراض باللازمة التالية: "مادامت المحاكاة عبارة عن معالجة تصورية تخص التجربة الإدراكية، فلا بد لهذه المعالجة أن تطال المواقف"؛ لأنها ببساطة تشكل جزءًا من التجربة الإدراكية؛ وعليه، فإن المواقف أساسية في المعرفة المجسدنة. ويفترضان أيضًا أن آليات محاكاة المقامات والأحداث والحالات الذهنية تتعاضد لتمثيل المواقف الخلفية (Yeh & Barsalou 351-352). وفكرة المواقف تنطبق على المقولات والجمل والخطابات على حدٍ سواء.

عندما يبني الأفراد أنماطَ محاكاةٍ معينة لتمثيل مقولة ما، فإنهم ينزعون إلى تصورها في موقف تصوري محدد. على سبيل المثال، إذا ما تصور المرء الجلوس على كرسي يخص غرفة الجلوس وانتابه الشعور بالاسترخاء، فإن آليات محاكاة المقام (غرفة الجلوس)، والفعل (الجلوس)، والحالة الذهنية (الاسترخاء)، كلها من شأنها أن تساهم بآليات المحاكاة في التمثيل الإجمالي للموقف الخلفي للكرسي. وبتغير نموذج المقولة، تتغير أنماط المحاكاة التي تتواشج لتشكيل الموقف الخلفي. وعلى هذا الأساس، إذا ما تصور المرء الجلوس على كرسي يخص الفصل الدراسي، فإن آلياتي محاكاة الفصل والدراسة ستساهمان في الموقف الخلفي، فيما سيساهم محاكي جلس بمحاكاة مختلفة تخص فعل الجلوس (Yeh & Barsalou 351-352). هكذا، فإن محاكاة الكيانات من شأنها أن تطال مواقف معينة حتى في ظل غيابها؛ بحيث إن النسق التصوري دائمًا ما يستحضرها بصحبة الكيانات.

وتتيح لنا المواقف استنتاج معلومات مُضمَرةٍ عبر تنشيط المحاكاة القائمة على تجاربنا الإدراكية. على سبيل المثال، يقودنا سماع أو قراءة الجملة (6) إلى استنتاج جملة من الأدوار المحورية (thematic roles):

(6)    دقت فاطمة مسمارا على الحائط.

يُستنتج من هذا الموقف أن المطرقة جرى استخدامها؛ إذ تتيح لنا عناصر الجملة هذا التوقع. فنحن عندما نقرأ الجملة –أعلاه – التي تحيل إلى كون المسمار موجهًا وجهة أفقية، سنخلص إلى ما تشير إليه الجملة: شيء مدرك لم يُفصَح عنه حرفيًا. ومن هنا، فإن المحاكاة التي يبنيها القارئ قصد توقع مقصود الجملة، ستحمل في طياتها معلوماتٍ إدراكيةٍ مضمرة من قبيل اتجاه المسمار، علمًا أن المعالجة التصورية (المحاكاة) الهادفة إلى تعيين الوضعية الأفقية لهذا الموضوع تكون أكثر احتمالًا مقارنة مع الوضعية العمودية (Situated Conceptualization 1287 Barsalou,) نحو:

(7)    دقت فاطمة المسمار على السقف.

وعلى هذا المنوال، عند سماع الجملة (8) من المرجح استنتاج معلومات تخص الأدوات التي تم استخدامها في الفتح، ووضعيتها الأكثر احتمالًا قبل الإمساك بها لمباشرة الفتح (أفقية) وعند الإمساك بها والشروع في الفتح (عمودية)، علمًا أن الحالة الثانية يُحتمَلُ أن تستغرقَ وقتًا أقصر في المحاكاة؛ إن نحن احتكمنا إلى تفسير بارسالو أعلاه:

(8)   فتح الجرَّاح الجرح.

وشبيه بهذا، أثبتت دراسة تجريبية أن محاكاة موضوع تصفه الجملة في تمفصلٍ معين "configuration" (كالتموضع العمودي للفرشاة)، تستغرق وقتًا أطول لدى شخص اعتاد رؤية فرشاة الأسنان في تموضعٍ أفقي (Wassenburg 1665-1670 & Zwaan). مما يعني أن المواقف والتجارب الإدراكية السابقة (الاعتياد على رؤية الفرشاة في تموضع أفقي) والسياق الفيزيائي المشار إليه في جملة متضمنة لـ'فرشاة الأسنان' (التموضع العمودي)، من شأنهما التأثير في محاكاة الموقف الراهن. وما قيل عن الاتجاه ينطلي أيضًا على الحركة؛ على سبيل المثال، فإن سرعة محاكاة تحريك اليد تجاه شخص معين تختلف مقارنة مع توجيهها تجاه الجسد (Weiskopf 296):

(9)    منحتُ عليًا الكتابَ.

(10)  منحني عليٌ الكتابَ.

وثمة اعتبارات موقفية متصلة بالقدرات العرفانية ومورفولوجيا الجسد وقيود البيئة، وهي عناصر لا شك أنها تشكل تصوراتٍ خلفيةٍ في الذاكرة؛ إذ تسمح للنسق التصوري بتوقع المعلومات المضمرة في الجمل بناءً على تجارب الفرد الجسدية-البيئية. على سبيل المثال، فإن فهم معاني الجمل (11) و(12) المتضمنة لكلمة 'الكرسي" أو "السيارة" يستدعي ضمنيًا تنشيط المتاحات affordances التي تعرضها الأشياء بالنظر إلى مورفولوجيا جسد الفاعل وقدراته الجسدية والمعرفية، ودمجها كما تقتضي الأفعال/الاستخدامات (Glenberg, What Memory is for 15):

(11)  أ- رمى عليٌ الكرسي.

ب- جلس عليٌ على الكرسي.

ج‌-  تخفَّى علي خلف الكرسي.

(12) أ- لعب عليٌ بالسيارة.

ب‌-  ساق عليٌ السيارة.

فبالنظر إلى متاحات كيان الكرسي، يمكن استنتاج معلومات إدراكية مضمرة تخص إطار الكرسي، من قبيل نوعه أو حجمه (الكرسي القابل للرمي)، ومن له القدرة على رميه (الراشد)، وكيفية الرمي (تحريك اليد)، ومن تسمح له مورفولوجيا الجسد بالجلوس عليه (الراشد) أو الاختباء خلفه (الطفل)، وأخرى تخص إطار السيارة (لعبة أم سيارة حقيقة)، ومن يتاح له اللعب بها (الطفل)، ومن له القدرات العرفانية والبدنية على سياقتها (الراشد). وهذا معناه أن فهم الجُمَلِ ينطوي على تنشيط وجوه الاستخدام الذي يتيحه الكيان.

وهذا ما استدل عليه غلينبورغ (1999، 2000، 2007) في معرض بسطه لمفهوم المتاحات (Affordances) الذي يفسِّرُ من خلاله خصيصة ارتباط المعاني الثاوية في المواقف بأفعال الجسد المحتملة تجاه المتاحات (متاحات الكرسي مثلا) لتحقيق الأهداف والمقاصد، أي دمج المعلومات الإدراكية مع الأهداف؛ بحيث إننا نتوفر في ذاكرتنا على إطار الكرسي وخصائصه وعلى نماذج ذهنية حول الأفعال/الأعمال المرتبطة بوجوه استخدامه في مواقف معينة، وهي أفعال مقيدة بمورفولوجيا الجسد وبالقدرات البدنية والعرفانية، فضلًا عن العلاقات الفضائية (علاقة الكرسي بالمطبخ ... إلخ) والتجارب والمقاصد السابقة. والملاحَظ أن الجمل والتراكيب الواصفة للمشاهد المتضمنة للمتاحات مثل (13) تسهُلُ محاكاتها بالنظر إلى التجارب السابقة مقارنةً مع المواقف التي لا تنطوي على الإتاحة مثل (14)؛ بحيث تستدعي عملية محاكاتها وقتًا أطول بحكم صعوبة الدمج التصوري الذي يطال عناصر الجملة:

(13)  اختبأ الطفل خلف الكرسي.

(14)  اختبأ الرجل خلف الكرسي.

فضلًا عمَّا تم رصده من عوامل، يمكن الحديث عن اعتبارات أخرى من قبيل مدى تمكن المخاطب من ناصية اللغة، وحجم معلوماته عن العالم وطبيعتها، وتجاربه الإدراكية الجسدية. وفي هذا المضمار، كشفت دراسة أنجزها زوان عن إمكانية عدم تنشيط التمثيلات الحسية الحركية المفصلة في بعض المواقف، بحكم حيازة القارئ لمعرفة خلفية محدودة حيال موضوع الخطاب مثلًا، أو أنه لا يجيد اللغة المستخدمة (Zwaan, Situation Models 1030) ؛ ففي هذه الحالة يمكن للتمثيل الرمزي الفارغ أن يكفي لبلوغ معلومات عامة عما يجري. ولتوضيح هذه النقطة، ساق زوان وتايلور مثال شخصٍ يخبر شخصًا آخر قائلًا:

(15)  قفز لاعب القفز العالي فوق الحاجز فأصيب بجروح في عنقه.

A high jumper jumped over a bar and injured his neck[1]

فالشخص الذي لا يجيد اللغة الإنجليزية قد لا يهتدي إلى المعنى السياقي الدقيق لكلمة 'الحاجز' (bar) الذي يشير إليه المثال (15)، وقد لا يعرف أيضًا ما معنى 'أصيب بجروح'؛ ومع ذلك، فإن هذا الشخص قد يفهم بأن "فردًا ذكرًا قفز فوق شيء ما، وأن شيئًا ما ألمَّ بعنقه". وهذا المستوى من الفهم قد يكون كافيًا في العديد من الحالات.

أما الشخص الذي يمتلك ناصية اللغة الإنجليزية، ولكن ليست له التجربة أو الدربة في هذا الضرب من الرياضات، فسيفهم أن لاعبًا قفز (قفزة عالية) فوق الحاجز، وأصيب بجروح في عنقه. ومن الواضح أن هذا المستوى من الفهم كاف للإجابة عن سؤال بسيط في الفهم (كيف أُصيب عنقه؟)؛ الجواب: من خلال القفز فوق الحاجز.

في حين أن الشخص الذي سبق له أن عاين أداء القفز على الحواجز سيستنتج – مثلًا، من خلال تنشيط التمثيلات البصرية الدينامية – أن لاعب القفز من المفترض أنه قفز قفزة الفوسبيري (Fosbury flop): تقنية الرجوع إلى الوراء فوق الحاجز) وسقط على عنقه، وبالتالي أصيب بجروح. ومنه، سيستطيع هذا الشخص أن يفهم الترابط السببي العلي (الصائب) بين الوثبة والإصابة، وينفذ إلى مستوى أعمق من الفهم مقارنةً مع الشخص السابق.

وأخيرًا، فإن الشخص المتمرس الذي سبق له أن أدى تقنية الفوزبوري سيتمكن من تنشيط التمثيلات الحركية والحسية الجسدية ذات الصلة، مما يفضي إلى فهم أعمق لفحوى الجملة، يعادل فهم الشخص الأول لها؛ إذ قد يشعر بآلام القافز وما ألم به. والنقطة المراد تبيانها من خلال هذا المثال هو أن هذا المستوى العميق من الفهم ليس ضروريًا لفهم ما يجري في بعض السياقات (Zwaan, Situation Models1034).

انطلاقًا مما سبق، يتضح أن المواقف والملابسات يؤثران في درجة تنشيط المحاكاة؛ بحيث يمكن للأفراد مقاربة مختلف درجات الانتباه للتفاصيل الدلالية باختلاف مقتضَى الحال (Zwaan 1034). وبمعنى آخر، تساهم المواقف، جنبًا إلى جنب المحددات اللغوية، في تحديد مدى غنى المحاكاة الإدراكية. فالظاهر أن الدور الذي تلعبه المحاكاة في بناء المعنى يتوقف – إلى حد كبير – على عوامل موقفية متعددة قوام فهمها التجارب الإدراكية السابقة والآنية، والعلاقات الفضائية (من قبيل اتجاه تموضع الشيء)، والتمثيلات القائمة على مورفولوجيا الجسد وعلى القدرات المعرفية والبدنية، واحتمالات تفاعل الجسد مع البيئة، والأفعال/الأعمال التي تنطوي عليها السيناريوهات، فضلًا عن الكفاية اللغوية.

خاتمة

لقد تطرقنا في هذا المقال إلى مجموعة من الجوانب التي تسم دلالة المحاكاة، وانتهينا إلى أن هذا المبحث الدلالي القائم على علم النفس العرفاني، والمقاربات الذهنية الحاسوبية، والمقاربات اللغوية والموقفية، أضحى مجالًا خصبًا للبحث في قضايا الدلالة، بل اللغة بشكل عام؛ إذ لا شك في أنه يفتح آفاقًا متعددة لرصد المعنى في ارتباطه باستخدام اللغة (في الذهن). وهذه الآفاق – كما تبين – باتت تستهوي الباحثين في اللسانيات الدلالية، وعلم النفس العرفاني؛ حيث حظيت الدلالة القائمة على المحاكاة المجسدنة باهتمام متزايد؛ نظرًا لما تطرحه من قضايا علمية مؤسسة على نتائج الرصد التصويري للدماغ، ونتائج علم النفس السلوكي، فضلًا عما توصل إليه الذكاء الاصطناعي. والملاحَظ أن دلالة المحاكاة المجسدنة تتعمق في قضايا الدلالة بقدر عمق الأسئلة التي تطرحها.

وقد تبين أن هذا المبحث يقدم مقارباتٍ حديثة لها قوة تفسيرية مهمة تنطوي على مطابقة الوصف النظري مع الوصف التجريبي لما يجري من تفاعل آني بين المنبهات اللغوية والحالات الجسدية والإدراكية المتعددة الكيفيات التي تلعب، أثناء المعالجة التصورية، دورًا أساسيًا في نشاط الانساق الرمزية الإدراكية؛ وعلى هذا النحو، يمدنا هذا المجال بأدوات إجرائية قادرة على رصد الوجاهات الواصلة بين الملكة اللغوية وباقي أنساق الذهن العصبية-الإدراكية والتصورية في البيئة العرفانية الشاملة.

واتضح جليًا أن التمفصلات اللغوية مجرد مدخلات حسية يسترجع النسق اللغوي بموجبها حالاتٍ إدراكية مرتبطة بكيفيات متخصصة معينة (من قبيل الحركة، والذوق، واللمس، والشم، والانفعال ... إلخ)، كما يمكنه – بالنظر إلى السياق – استرجاع مجموعة من الكيفيات دفعةً واحدةً عن طريق التنشيط المتوازي الموزع الذي يطال مدارات عصبية متعددة في مناطق مختلفة من القشرة المخية. وهذا التنشيط المتوازي هو ما يفسر إمكانيةَ تعددِ أبعادِ التصورِ العاكسة لخصائص الكيانات والأنشطة (مثل الشكل، واللون، والحجم، والذوق، والرائحة، والإحساس المتولد ... إلخ)، المتفاعلة في المحاكاة بوصفها حوسبةً هادفة تنفذ الرموز الإدراكية الموزعة في الذاكرة وتتحكم فيها من حيث الإضافة أو النقصان.

 فاللغة ينحصر دورها في تقديم التخطيطات والتخصيصات الدلالية الإحصائية، التي تتيح تمثيل الحالات الإدراكية والجسدية في النسق التصوري في غمرة تداول اللغة وفهمها؛ بحيث إن الوحدات اللغوية تقدم القرائن (أي المدارات العصبية) المؤدية إلى تنشيط الأطر التصورية المرتبطة بالخصائص المراد تمثيلها فرادى أو جماعة لتوليد المعاني من خلال تنشيط الأطر التصورية المطابقة. فالإطار بمثابة محاكٍ يولد محاكاة معينة تخص جانبًا ما من التجربة الإدراكية، وثمة أطر تحاكي العلاقات القائمة بين الجوانب المتعددة للكيان المتضمن في الجملة أو العبارة والخاضع للتجربة، ويمكن للأطر أن تحتشد لتوليد أنماط محاكاة غير متناهية انطلاقا من اللغة المرمزة للتجارب الإدراكية.

وهذه القدرة على توليد الأنماط التصورية إنَّما مردها إلى آليات الدمج والتكرار والتأليف التي تلعب دورًا مفصليًا في بناء المحتويات القضوية، وبلوغ الاستنتاجات السببية، وبلورة التوقعات، وبناء التصورات، ودمج التصورات الخلفية، بحيث يمكن دمج الكلمات والأطر وأنماط المحاكاة على نحو لا يمكن التكهن به. هكذا، فإن مبحث دلالة المحاكاة المجسدنة يخوض في الآليات والصيرورات الإدراكية التي يسلكها المتلقي في تعامله مع المحتويات اللغوية والخطابية.

وقد اتضح جليًا أن العامل اللغوي الإحصائي والمحاكاة الإدراكية ينشطان بعضهما البعض؛ إذ ينحصر دور الترابطات الرمزية في فرض الترابطات الممكنة بين تمثيلات المحاكاة؛ ذلك أن تنشيط الصيغ اللغوية في الذهن يقود إلى تنشيط الصدى الحسي الحركي، وهذا التنشيط يتقيد بقيود المواقف الموصوفة عبر اللغة.

والحق أن هذا المبحث يقدم وصفًا تجريبيًا للتفاصيل الموقفية والسياقية الثاوية في تصاريف اللغة، والتي يمكن أن تكون صريحة أو مضمرة، كما يصف التأثير الكيفي والكمي الذي تمارسه المعطيات الموقفية (التصورية) على عملية تنشيط المحاكاة؛ ذلك أن المعلومات الموقفية تعكس المعرفة الموسوعية المجسدنة القائمة على المعلومات الحسية الحركية، التي يتم استدعاؤها تلقائيًا خلال بناء التصورات وفهم اللغة، بمعنى أن المعرفة المؤدية إلى استخلاص المعاني مؤسسة على التجارب الجسدية والإدراكية المنبثقة عن التفاعل البشري مع البيئة والمتاحات. وعليه، فإن بلوغ المعنى عبارة عن عملية بنائية، نشيطة، تراعي مجموعة من الاعتبارات التي تتضافر لتقييد محتوى المحاكاة المفضي إلى توليد المعاني، أي أنها تقيد عملية الوصول إلى معاني الكلمات في النسق التصوري، الذي يحدد الأطر التصورية الملائمة للمحاكاة الإدراكية ويقيد دمجها لبلوغ الاستنتاجات المتجاوزة للكلمات المفردة؛ ذلك أن فهم اللغة يقتضي استنتاج المعارف الخلفية غير المُعَبَّر عنها صراحةً. وهذه الاعتبارات السياقية والموقفية لا يتأتى للمقاربات الرمزية التقليدية وصفها؛ بحكم قصورها المنهجي المتمثل في النأي عن نمذجة اللغة والدلالة في ارتباطها بالقدرات المعرفية الإدراكية والحالات الجسدية والعالم الخارجي.


 

المراجع

أولًا: العربية

ترمينا، باعزيز، نظرية الأنساق الرمزية الإدراكية: فهم اللغة وبناء التصورات. دراسات لسانية عربية في الدلالة والتركيب والاكتساب والترجمة، إعداد غاليم محمد والفاحصي حليمة، دار أبي رقراق للطباعة، 2021، 23-63.

غاليم، محمد. اللغة بين ملكات الذهن: بحث في الهندسة المعرفية. دار الكتاب الجديدة، بيروت، لبنان 2021.

–––. الأنموذج المعرفي إطارًا لاتصال العلوم، بحث في وحدة المنهج وترابط الموضوعات. الدار التونسية للكتاب. 2021.

ثانيًا: الأجنبية

References: 

Barsalou, Lawrence. Frames, concepts, and conceptual fields. In: A. Lehrer & E. F. Kittay (Eds.), Frames, fields, and contrasts: new essays in semantic and lexical organization. Lawrence Erlbaum Associates, Inc. (1992): 21-74.

–––. Perceptual symbol systems. Behavioral and Brain Sciences, 22 (1999): 577–660.

–––. Situated Conceptualization: Theory and Application. Foundations of embodied cognition: Perceptual and emotional embodiment. Routledge/Taylor & Francis Group (2016): 11–37.

–––. Abstraction as Dynamic Interpretation in Perceptual Symbol Systems (2002).

–––. Situated simulation in the human conceptual system. Language and Cognitive Processes, 18 (2003): 513–562.

–––. Grounded cognition. Annual Review of Psychology. 59 (2008): 617–645

–––. “The Human Conceptual System.” The Cambridge Handbook of Psycholinguistics, edited by Michael Spivey et al., Cambridge University Press, Cambridge, (2012): 239–258.

Barsalou, Lawrence & Santos, Ava & Simmons, William & Wilson, Christine. Language and Simulation in Conceptual Processing (2008).

Barsalou, Lawrence & Yeh, Wenchi & Luka, Barbara & Olseth, Karen & Mix, Kelly & Wu, Ling-ling. Concepts and Meaning (1999): 1-41.

Bergen, Benjamin. Embodiment, simulation, and meaning. The Routledge Handbook of Semantics, 142 (2015).

–––. Experimental methods for simulation semantics. Methods in Cognitive Linguistics 18: 277 (2007).

–––. Louder than Words: The New Science of how the Mind Makes Meaning. New York: Basic Books (2012).

Bergen, Benjamin. & Wheeler, Kathryn. Sentence understanding engages motor processes. Proc. Cog. 27 (2005).

Chomsky, Noam. Syntactic structures. The Hague: Mouton. (1957).

Dijk, Teun Adrianus van and Maxim Stamenov. “Cognitive Context Models and Dis course.” (1998).

Evans, Vyvyan. How Words Mean: Lexical Concepts, Cognitive Models, and Meaning Construction. Oxford Linguistics (2009).

Feldman, Jerome, and Srinivas Narayanan. “Embodied meaning in a neural theory of language.” Brain and language vol. 89, 2 (2004): 385-92.

Fillmore, Charles. Frames and the semantics of understanding. Quaderni Di Semantica, 6 (1985): 222– 254.

Fauconnier, Gilles. Mental Spaces. Cambridge, Mass.: MIT Press. (1985).

Fauconnier, Gilles & Turner, Mark. The Way We Think. New York: Basic Books (2002).

Fodor, Jerry. The language of thought. Cambridge, MA: Harvard University Press (1975).

Fodor, Jerry A., and Zenon W. Pylyshyn. “Connectionism and cognitive architecture: A critical analysis.” Cognition 28 (1988): 3-71.

Ghālīm, Muḥammad. al-lughah bayna malikāt aldhhn: baḥth fī al-Handasah al-maʻrifīyah (in Arabic). Dār al-Kitāb al-Jadīdah, Bayrūt, Lubnān 2021.

–––. al-Unmūdhaj al-maʻrifī iṭāran lātṣāl al-ʻUlūm, baḥth fī Waḥdat al-manhaj wtrābṭ al-mawḍūʻāt (in Arabic). al-Dār al-Tūnisīyah lil-Kitāb. 2021.

Gibbs, Raymond. Metaphor Interpretation as Embodied Simulation. Mind & Language 21 (2006): 434-458.

Glenberg, Arthur. What memory is for. Behavioral and Brain Sciences, 20, (1997): 1-19.

–––. Why mental models must be embodied. In Mental Models in Discourse Processing and Reasoning 18 (1999): 77-90.

–––. Language and action: Creating sensible combinations of ideas. In G. Gaskell (Ed.), Oxford handbook of psycholinguistics Oxford, UK: Oxford University Press. M. (2007): 361–370

Harnad, Stevan. The symbol grounding problem. Physica D: Nonlinear Phenomena, 42(1) (1990): 335-346.

Havas, David A; Glenberg, Arthur M; Rinck, Mike. Emotion simulation during language comprehension. Psychonomic Bulletin and Review. 2007; Vol. 14, No. 3. pp. 436-441.

Johnson, Mark. Embodied Understanding. Frontiers in psychology 6 (2015).

–––. 'The Embodiment of Language', in Albert Newen, Leon De Bruin, and Shaun Gallagher (eds), The Oxford Handbook of 4E Cognition, Oxford Library of Psychology (2018).

Lakoff, George. Cognitive models and prototype theory.Concepts and conceptual development: Ecological and intellectual factors in categorization. Cambridge University Press. (1987) : pp. 63-100.

Lakoff, George and Johnson, Mark. Metaphors We Live By. Chicago and London: The University of Chicago Press, 1980. Pp. 242.

–––. Philosophy in the Flesh: The Embodied Mind and its Challenge to Western Thought. New York: Basic Books (1999).

–––. Lakoff, George. Explaining Embodied Cognition Results. Topics in cognitive science. 4 (2012): 773-785.

Madden, Carol. and Zwaan, Rolf. How does verb aspect constrain event representations? Memory & Cognition 31 (2003): 663-672.

Narayanan, Srini. Mind changes: A simulation semantics account of counterfactuals (2010).

Pulvermüller, Friedemann et al. “Walking or Talking? Behavioral and Neurophysiological Correlates of Action Verb Processing.” Brain and Language 78 (2001): 143-168.

Ronald W. Langacker. Foundations of Cognitive Grammar. Volume I. Theoretical Prerequisites. Stanford: Stanford University Press. (1987) : Pp. 516.

Rowlands, Mark. "The mind embedded"The new science of the mind: From extended mind to embodied phenomenology. MIT Press. (2010).

Shapiro, Lawrence, The Routledge Handbook of Embodied Cognition. Routledge.

Termina, Baaziz. Nadariat al-Ansaq Arramzia al-Idrakia : Fahm al-Lougha wa Bina’ a-Ttasaworat. Dirasat Arabia fi Dalala wa Tarkib wa Liktisab Wa a-Tarjam (in Arabic). Iaadad Ghalim Mohamed wa El-Fahisi Halima. Dar Abi Raqraq li Tibaa. (2021) 23-63.

Yeh, Wenchi & Barsalou, Lawrence. The Situated Nature of Concepts. The American journal of psychology. 119 (2006): 349-84.

Wassenburg, Stephanie I.; Zwaan, Rolf A. Readers routinely represent implied object rotation: The role of visual experience. The Quarterly Journal of Experimental Psychology, 63(9), (2010): 1665–1670.

Weiskopf, Daniel A. “Embodied cognition and linguistic comprehension.” Studies in history and philosophy of science vol. 41,3 (2010): 294-304.

Zwaan, Rolf. Embodiment and language comprehension: Reframing the discussion. Trends in Cognitive Sciences, 18 (2014): 229– 234.

–––. Experiential traces and mental simulations in language comprehension. In M. DeVega, A. M. Glenberg, & A. C. Graesser (Eds.), Symbols, embodiment, and meaning (2008): 165– 180. Zwaan, Rolf et al. Constructing multidimensional situation models during reading. Scientific Studies of Reading, 2, (1998): 199–220.

–––. Situation models, mental simulations, and abstract concepts in discourse comprehension. Psychon Bull Rev (2015).

–––. The immersed experiencer: toward an embodied theory of language comprehension. In: B.H. Ross (Ed.), The Psychology of Learning and Motivation, Vol. 44 (2004): 35–62.

Zwaan, Rolf. A., & Madden, Carol. Embodied sentence comprehension. In D. Pecher & R. A. Zwaan (Eds.), Grounding cognition: The role of perception and action in memory, language, and thinking (2005): 224–245

 



[1] المثال الأصلي: Someone telling someone else about a high jumper jumping over a bar and injuring his neck .